إننا نعيش في عالم تسوده الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة وأشكال أخرى من خطاب الإقصاء والإلغاء حوامله متعددة المشارب، متباينة التوجهات، بدءاً من وسائل الإعلام مروراً بما يسمى تجاوزاً بالخطاب العلمي وانتهاءً أخيراً وليس آخراً بالحقل الأدبي، خاصة إذا كان طرفا الخطاب هما العالم العربي الإسلامي والعالم الغربي أو ما اصطلح على تسميته بثنائية الشرق والغرب.
مما لا شك فيه أننا نعيش اليوم أسرى عالم تتلبس فيه الصورة الثقافية مسوح الحقيقة المطلقة، حيث تساهم بكل الأشكال في تعميق الهوة الفاصلة بين ضفتي العالم العربي الإسلامي والغرب، هذا على الرغم مما حققته على المستوى التقني من تقريب المسافة بين هاتين الضفتين. حقيقة لا يمكن أن ننكر ما تجلّيه مثل هذه الصورة الثقافية من أبعاد واقعية لإنسان حقيقي تجمعنا به الخاصية الإنسانية وتفرقنا عنه المشارب الثقافية المختلفة، إلا أن ذلك يجب أن لا ينسينا أن هناك أبعاداً أخرى تتجلى من خلال هذه الصورة، أبعاداً لإنسان هي في الحقيقة من اختلاق أوهامنا ولا تربطها بالواقع صلة إلا بالقدر الذي تستجيب فيه لرغبتنا في تحقيق الأنا عبر هدمنا للآخر.
تلك هي بعض ملابسات الصورة الثقافية وما تخفيه من تعقيدات قد تتجاوز طبيعة بحثنا ومقامه إلا أن ذلك لن يثنينا عن ولوج معترك هذه الصورة إذ سنحاول في هذا الفصل أن نفكك إحدى هذه الصور الثقافية التي تشكلت ملامحها في ثنايا عمل روائي، ثم نعيد تركيبها من خلال وقفة متأنية على أهم مرتكزاتها الأسطورية والأيديولوجية، مع حرص على وضعها في سياقها الاجتماعي والثقافي الذي منه انبثقت، ابتغاء المساهمة، من ميدان اختصاصنا، في تضييق الخناق على مساحة سوء التفاهم التي ما تفتأ تتسع بين هذين العالمين، وفي تعزيز المجهودات التي تبذل من هنا ومن هناك من أجل تأسيس معرفة بالثقافات والشعوب قائمة على التفهم المتبادل لضرورة الاختلاف، وعلى رفض حازم لكل الإسقاطات التي من شأنها أن تختصر الآخر في مجموعة من الأوهام لا هم لها سوى إرضاء تضخم الأنا الجمعي.
طبعاً مهمة كهذه، قد تبدو لأول وهلة حلماً طوباوياً، هو أبعد ما يكون عن الالتزام بالمنهج العلمي وما يقتضيه من موضوعية، إلا أننا نعتبرذلك أهم مسؤولية قد يضطلع بها الدارس الجامعي في ميدان العلوم الإنسانية. وعليه فإن إعادة التفكير في المناهل الأيديولوجية والأسطورية التي تستند عليها الثقافات في تبرير سياسة الانطواء على الذات يغلب عليها شعور غامر بعقدة التفوق، أو في تمرير سياسة الارتماء في أحضان الآخر يأسرها شعور بالدونية، إن هذا التفكير من شأنه أن يساعد هؤلاء وهؤلاء على تجاوز هذه العقد، من أجل إرساء ثقافة الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية.
نأمل أن يصب عملنا في مجموع الجهود التي تبذل من أجل التبشير بثقافة الحوار والنقد اللذين من شأنهما أن ينزعا الهالة الأسطورية التي تلف الأنا والآخر في ذات الوقت. ونبدأ عملنا هذا برصد أهم التحولات التي طرأت على البطل الشرقي الذي لم يشأ الروائي اللبناني سهيل إدريس أن يحدد له اسماً في روايته «الحي اللاتيني» الصادرة في بيروت عام1954م (1) وذلك من خلال علاقته بالمرأة الغربية أو بالأحرى بصورة المرأة الغربية وما نجم عنه من مواجهة مع صورة امرأة أخرى ألا وهي المرأة الشرقية ممثلة في أم البطل.
* «الحي اللاتيني» في مرآة النقد:
لقد تعرض النقاد لهذه الراوية منذ صدورها بالنقد والتحليل واختلفت وجهات نظرهم باختلاف المنطلقات التي اعتمدوها في تقييم الرواية، ويمكننا حصرها في:
1ـ المنطلق الأخلاقي: إن العمل النقدي الذي انبثق من هذا المنطلق تناول الرواية تناولاًَ أخلاقياً يبحث في ثناياه عن مثل عليا في الأخلاق والشرف، يؤاخذ الروائي لأن بطله إنسان عادي يعيش في دوامة تتقاذفه في حناياها، ولأن هذا البطل مركز لصراع يتعرض له بحكم كونه إنساناً وبحكم كونه شرقياً، بل يذهب به الأمر إلى أن يؤاخذ الروائي الذي دفعه إلى تسميته بالبطل وهو في نظره الأخلاقي لا يستحق هذه التسمية.(4)
من بين من تبنى هذه الوجهة النقدية، عيسى الناعوري ونجيب سرور. في محاولة منه لتلخيص الرواية، يلاحظ الناعوري أن إدريس «قد أراد أن يعرض [في روايته] تجارب حقيقية في حياته كطالب عربي في مدينة الأنوار» (5) ويعتب عليه أو على بطله «شعوره المقيت اتجاه الطلبة العرب» (6)، وينكر عليه تخليه عن ناهدة، المرأة المثالية، دون أدنى سبب (7).
أما دراسة سرور، فعلى الرغم من جديتها وعمقها إلا أن صاحبها بين الحين والآخر يسقط في أحكام ذاتية، كأن يقول: «أنا مثلاً لن أتردد عن شنق بطل [الحي اللاتيني] على أقرب شجرة .»
(8) عقاباً له على جرمه في حق جانين التي تخلى عنها في أحلك الظروف بعد أن جعلت منه مبرر وجودها.
وحتى دراسة جورج طرابيشي التي تتميز بالجدة والنظرة الشمولية، لم تنج من مثل هذه المطبات، فهاهو طرابيشي يعلق على موقف البطل الرافض تحمل مسؤوليته إزاء حمل جانين قائلاً: «وهذا الحل الثالث، اللامتوقع، الذي هو آية في النذالة، هو ما يختاره. وفي رسالته الجوابية إليها [جانين]، يسطر آية من آيات النذالة، ويسل نفسه من المسؤولية المفروض أنها عزيزة على قلبه ووجدانه كما تسل الشعرة من العجين.» (9)
2ـ المنطلق الأيديولوجي: والذي اختصره رجاء النقاش في رده على أحمد كمال زكي الذي يؤمن بأن «الحي اللاتيني» تتحرك كلها في ظل عقدة أوديب، حين كتب: «على أنني أرفض هذا التفسير لعلاقة البطل بأمه، فالمسألة في رأيي تفسرها طبقة بطل القصة» (10). وتبعه في ذلك محمد كامل الخطيب في كتابه (المغامرة المعقدة) (11)، على الرغم من ثراء وتنوع النماذج المختارة من الروايات والقصص التي تعالج موضوع الشرق والغرب، إلا أن الاقتصارعلى الخلفية الواقعية التي اعتمدها في تحليله قد أودت به إلى اختزال شخصيات المجموعة المختارة من الروايات إلى (عقلانيين، طلائعيين، تقدميين) من جهة، وإلى (رجعيين، برجوازيين، إقطاعيين) من جهة أخرى، وهذا دون أن يأخذ بعين الاعتبارالطابع التعقيدي الذي تتميز به علاقات الشرق بالغرب التي تشكل الخلفية الفكرية لمجموع الأعمال المنتقاة.
وطبعاً لن يكون تحليله لرواية «الحي اللاتيني» استثناء، فالكاتب يلجأ إلى نفس التقسيم الاختزالي، بحيث لايجد حرجاً في أن يضم البطل إلى الطبقة البرجوازية فقط لأنه تمسك بقيمة الشرف ولأن الوضعية المادية والاجتماعية لعائلته قد أتاحت لإخوة البطل الدخول عالم التجارة مما مكّن العائلة من قضاء العطلة في المصيف الجبلي، وإذا افترضنا جدلاًهذه المقدمة صحيحة، فإن ما يستخلصه الناقد من نتيجة تبدو غير مطابقة تماماً للمقدمة، إذ يعتبر أن الرواية في ضوء كل ذلك هي رواية برجوازية (12)، وبالتالي فكل مواقف البطل من القضايا الحساسة كوضعية المرأة في المجتمع وتحرير الوطن من الهيمنة (الإمبريالية) وغيرها لن تكون سوى مواقف رجعية. وإن هذه النظرة الضيقة لرواية تعددت فيها مستويات القراءة لا يمكنه أن يتقدم بالنقد الأدبي العربي خطوة نحو تأصيل منهجي للممارسة النقدية. تبقى المقاربة النفسية التي اعتمدها جورج طرابيشي أهم مساهمة نقدية سبرت أغوار الرواية وذلك إذا صرفنا النظر عن بعض الآراء التي بها شطط.
3ـ المنطلق النفسي: وقوامه دراسة جورج طرابيشي المعنونة [شرق غرب، رجولة وأنوثة] ، والذي خصص جزءاً منها لتحليل رواية «الحي اللاتيني». وسنعرض أهم فكرة دار حولها هذا النقد والمتمثلة في مصير جانين. ولتفسير تحول شخصية جانين في نهاية الرواية إلى مومس، يبلور طرابيشي نظرية (الانتقام الجنسي) من الغرب الاستعماري اعتماداً على الظاهرة البسيكوـ اجتماعية، ألا وهي ظاهرة العجز، وقد كان متأثراً في ذلك بفرانز فانون الذي أولى في كتابه «جلد أسود وأقنعة بيض» اهتماماً خاصاً لجدل العنف الجنسي المتبادل بين المستعمِر والمستعمَر؛ فالرجل الأبيض، باغتصابه المرأة السوداء، يشعر الزنجي بأنه رجل مخصي، والزنجي، بإقامته علاقات جنسية طوعية أو غصبية مع المرأة البيضاء، ينتقم من المستعمِر ويثبت له أنه رجل مثله (13). ولقد رصد طرابيشي ظاهرة العجز في الرواية وصنفها إلى عجز ثقافي وآخر جنسي. فالعجز الثقافي عانى منه البطل في أول لقاء له مع ليليان. إذ عندما استيقظ في صبيحة اليوم التالي اكتشف أولاً أن حافظة نقوده قد اختفت باختفاء ليليان، واكتشف ثانياً أن قصيدتها المزعومة هي قصيدة مشهورة عنوانها «فطور الصباح» من ديوان مشهور عنوانه «كلمات» لشاعر مشهور اسمه Jacques Prévert . لأول مرة يشعر البطل بعجزه الثقافي حين طعن في كبريائه الفكرية. ولقد كانت تجربته مع مارغريت المرأة الثانية قد كشفت له عن عنته الفعلية. ولا يجد طرابيشي حرجاً في أن يجمع بين التجربتين حيث يرى تآزراً بين العنة الفعلية والعنة الثقافية، يستوجب رداً من البطل والذي ينحصر في مشروع الانتقام من المرأة الغربية ممثلة في جانين. تلك الفتاة التي كانت «تعيش في غمرة سعادة مطلقة وفي غمرة ثقة مطلقة بنفسها وبحبيبها العربي وبالمستقبل، لا يخامرها ظل من شك في ما يدبر لها في الخفاء، ولا يدور لها في خلد من قريب أو من بعيد أن المصير الذي ينتظرها هو مصير (فتاة ضائعة»)(14) «Fille perdue». هذا باختصار تأويل طرابيشي لسقوط جانين في وهدة العهر.
وإننا نعترف بدءاً بمدى تأثرنا في أول الأمر بهذا التحليل إلى درجة أننا لم نجد حرجاًً من أن نقرأ الرواية من خلال هذا المنظار ضاربين حصاراً على كل القراءات الممكنة للنص، مجبرين إياها على أن تصب في خانة نظرية «الانتقام الجنسي من الغرب الاستعماري»، إلا أن انفتاحنا على بعض المناهج النقدية الشكلانية أتاح لنا أن نرى في «الحي اللاتيني» بنية متكاملة ذات وجود دلالي مستقل يستمد كينونته من وحداته الداخلية وهو ما يجعلها تنأى بطبيعتها عن القراءات القسرية والتحليلات المبسطة. الأمر الذي دفعنا إلى إعادة قراءة الرواية قراءة متأنية في ضوء فهم شامل لبنية الرواية، الأمر الذي مكننا من تسجيل مجموعة ملاحظات تتعلق بنظرية طرابيشي في تفسير موقف البطل من المرأة الغربية:
اـ إن قراءة بسيطة وتسلسلية لأحداث الرواية تكشف لنا أن البطل قد أعلن لجانين، وعلى فترات متقطعة، عزمه على وضع حد للعلاقة التي تربطهما حال عودته إلى لبنان، وقد حدث هذا قبل أن تحمل جانين بالجنين. وعليه فإن هذه الأخيرة على يقين من أن علاقتها بالبطل علاقة عابرة لا يمكن بأي حال أن تفضي إلى زواج. وبالتالي فإن فرضية إعداد البطل لمشروع الانتقام بتخليه عن جانين وهي في قمة ثقتها بمستقبل هذه العلاقة، تفقد كل مصداقية، إذ إنها لا تتماشى مع التسلسل الحدثي للرواية.
ب- يرى طرابيشي أن طرح سؤال عن الدافع الذي أدى بجانين لأن تختم مشوارها في الرواية بأن تصبح مومساً، طرح فيه مغالطة. على رأيه، بما أن الرواية هي من نوع السيرة الذاتية المروية، فالأحرى أن نتساءل عما دفع البطل الكاتب إلى اختياره هذا المصير المشؤوم لجانين؟ فكيف نوفق بين جانين التي لم تتردد في قطع صلتها بهنري وخنق حبها له بالرغم من ندمه واستغفاره إياها مراراً، بينما بالمقابل لا تعامل «الحبيب العربي» المعاملة ذاتها، مع أن جرمه بحقها أعظم بما لا يقاس بجرم هنري، بل والأدهى من ذلك أنها تفقد توازنها النفسي فتسقط في الرذيلة؟ (15) وإذا كان هذا التساؤل مشروعاً، فإن الإجابة عنه تبدو واهية حين يحصرها في رغبة جارفة للبطل الكاتب من الانتقام من المرأة الغربية، بحيث لو لم يسلك البطل الكاتب بجانين هذا المسلك لما أمكنه ذلك من إشباع هذه الرغبة. ونحن بدورنا نتساءل، هل من الضروري أن تكون جانين قد وجدت فعلاً حتى يمحور البطل الكاتب روايته حول مشروع الانتقام؟ الحق أنه ليس من المهم أن تكون جانين قد وجدت فعلاً أم لم توجد في الواقع. فكما انه من الممكن أن تكون الشخصية الروائية صادقة فنياً من دون أن تكون صادقة واقعياً، كذلك فإن الواقع نفسه قد لا يكون مشاكلاً للواقع من وجهة النظر الفنية. وعليه إذا كان لنا أن نبحث عن تفسير لنهاية جانين المؤلمة، فإننا مدعوون إلى استخلاصها من البنية الداخلية للرواية بعد استيعاب للمنطق المتحكم في أحداثها وتطور شخصياتها لا من النية التي دفعت المؤلف إلى اختيار هذه النهاية. فمصير جانين يمكن أن نبحث عن حيثياته في نمطية شخصيتها المتميزة بالتفاني في المعشوق والتي تصفها Simone de Beauvoir في كتبها (الجنس الثاني): «إذا سألناها [أي هذا النمط من الشخصية] كيف كنت تعيشين من قبل؟ لا تسعفها ذاكرتها في استعادة ذلك الماضي الذي كان عالمها فتخلت عنه ليتحول إلى رماد، فتعتنق بعده وطناً سرعان ما طردت منه شر طردة. قبل ذلك، تنكرت لكل القيم التي كانت تؤمن بها، وقطعت أواصر كل صداقاتها. لقد أضحت بلا سقف يحميها وقد أحاطت بها الفلاة. كيف يمكنها أن تعيد تشكيل حياتها وهي لا ترى من غير حبيبها حياة؟ ليس لها إلا أن تحتمي بهذيانها، وإذا كانت أكثر تعقلاً، فإنه لن يبقى لها سوى أن تموت بشكل سريع أو موتاً بطيئاً رويداً رويداًً» (16)، فهاهي جانين تعترف بأنها أضحت فاقدة لإرادتها في حضرة حبيبها وفاقدة لرغبتها في تقرير مصيرها في غيابه:
«لقد طبعتني بطابعك، وسأظل أبداً أسيرة قيودك. إن مصيري تقرر منذ رأيتك.
لم تبق لي إرادة، وسأجري مع الزمن كما سيتقاذفني الزمن.» ص.198
ولقد كانت هذا الاستعداد للاستقالة من الحياة في غياب الحبيب هو بداية الموت الذي تجسد في السقوط في عالم الرذيلة بعد خروجها من المستشفى وانتهى بها إلى أن تبحث عن زبائن المتعة في كهوف (سان جارمان دي بري). وعليه لم تكن دعارة جانين سوى أحد تمظهرات هذا الموت الذي يعادل فراق البطل. ولا علاقة له بنية الكاتب المسبقة على الانتقام من جانين عن سبق إصرار وترصد. وهو ما يدفعنا إلى أن نرى في مثل هذا التأويل الطرابيشي للرواية والتفسير الوحيد لمثل هذا التأويل هو قراءة طرابيشي للرواية قراءة تعتمد تصوراً مسبقاً لتحليلها ينسجم والتفسيرالعام لمجمل الأعمال المقدمة في الكتاب والمختصر في نظرية «الانتقام من الغرب الاستعماري». ولقد اعترف طرابيشي في غير ما موضع من الكتاب أنه ظلم «الحي اللاتيني» لأنه حاكمه بموجب لاوعيه أكثر مما حاكمه بموجب وعيه, متعاملاً مع ما لا تقول أكثر مما يتعامل مع منطوقه.(17)
الأمر الذي دعانا إلى إعادة النظر في كل الرواية انطلاقاً من تساؤل بسيط وهو: (لماذا سافر البطل إلى الغرب؟) للإجابة عن هذا التساؤل، عمدنا إلى عقد مقارنة بين رحيل البطل في «الحي اللاتيني» ورحيل البطل في مجموعة الحكايات الشعبية العجيبة الروسية والتي اهتم Vladimir Propp بدراستها. (18) وعزاؤنا في اختيار هذه الدراسة هو أنها مثلت خطوة حاسمة في وضع منهجية جديدة لتحليل النصوص القصصية. إذ تعتمد هذه الدراسة أساساً النظرة الهيكلية الوصفية، فالحكاية هيكل، بنية مركبة، معقدة، يمكن تفكيكها واستنباط العلاقات التي تربط بين مختلف وظائفها في مسار قصصي معين.(19) نود توضيح نقطة مهمة تتعلق بالتعامل مع التحليل الوظيفي للرواية، إن اعتمادنا منهج بروب الذي استنبطه من الحكايات الشعبية جاء كخيار إجرائي يعيننا على قراءة الرواية ليس إلا، بعيداً عن كل التهويمات التنظيرية ودون رغبة منا في إثبات صلاحية هذا المنهج للتعامل مع كل إبداع انطلاقاً من تجنب التصنيف المسبق للأنماط الأدبية، حتى لا نسقط في أدلجة هذا المنهج، خاصة إذا علمنا أن دراسة بروب لم تتجاوز الخصوصية الروسية الحكاية الشعبية، فضلاً عن أنها اقتصرت على نمط الحكاية ولم تتعداه إلى الرواية.
ولنبدأ بالتذكير بأن «الحي اللاتيني» هي في الأصل حكاية رحيل، نقطة انطلاقه هي الشرق ممثلاً في بيروت، ونقطة تحوله هي الغرب مجسدأً في باريس، وأخيراً نقطة عودته هي الشرق مختزلاً في بيروت. وإذا اعتبر إلياس خوري الرحيل إلى الغرب بنية دائرية، على اعتبار الشرق هو نقطة الانطلاق ونقطة العودة في ذات الوقت (20)، فإننا نرى في رحيل بطل «الحي اللاتيني» إلى الغرب هو رحلة بحث عن هوية ضائعة، وبالتالي فإن وجهة نظر إلياس خوري قد تصدق فقط على المستوى المكاني، أما على مستوى التحولات النفسية والذهنية التي طرأت على البطل أثناء رحلته، فإنه لا يمكننا إلا نلحظ الفارق الشاسع بين البطل قبل باريس وبعد باريس. فقبلها، وعلى المستوى السطحي لسيرورة الأحداث، فإن خروج البطل من بيروت يبرره طلبه لفضاء أكثر رحابة يوفر له الأجواء المناسبة للتملص من ضغط منظومة قيم مهيمنة على كل مناحي الحياة. أما على المستوى العميق، فإن المبرر لهذا الرحيل هو التحرر من هيمنة الأم التي باسم هذه القيم تفرض عليه سيطرة شبه كلية شلت حركته واغتالت فيه روح المبادرة وهو ما سنعود إليه بالتفصيل في حينه. أما العودة إلى بيروت فتترافق بقناعة أيديولوجية كانت حصيلة للتجارب التي خاضها البطل في باريس والتي من خلالها يحدد علاقة جديدة بالغرب والشرق على السواء.
على غرار النموذج البروبي، فإن انتقال البطل من بيروت إلى باريس يمكن أن يعادل قطيعة مع الفضاء الأول (أو ما يمكن تسميته بفضاء الأنس Espace familier) والتحاماً بالفضاء الثاني (أو ما يمكن أن نطلق عليه بالفضاء الأجنبي Espace étranger). (21)
نظرياً، وتماشياً دائماً مع نظرية بروب، فإن مفهوم خاصية (الأنس) المتعلقة بالفضاء الأول مرتبط بتوافق مبدئي بين البطل ومنظومة القيم السائدة، الأمر هنا يتعلق بالقيم الشرقية، أما مفهوم خاصية (الأجنبي) الملازمة للفضاء الثاني فمنبثق أصلاً من طبيعة الحدث الذي يحتضنه هذا الفضاء والذي أقل ما يقال عنه أنه مغامرة . ولقد اعتمد بروب هذا التقسيم للفضاء انطلاقاً من دراسته للقصة الشعبية العجيبة في روسيا والتي يظهر البطل في معظمها إنساناً اجتماعياً منسجماً كلية مع نمط القيم المتعارف عليها. على عكس بطل «الحي اللاتيني» الذي لم يكتف فقط بالرفض الذهني لمجموع القيم السائدة والممثلة في المفهوم المزدوج (الشرق/الماضي)، بل تجاوزها إلى رغبة في القطيعة مع هذا المفهوم المزدوج، أو ما يمكن ترجمته بمشروع التحرر من ربقة (الشرق/الماضي). فإذا كان بإمكاننا اعتماد تعريف بروب للفضاء الأجنبي لتحديد ماهية الفضاء الغربي (باريس)، فإن كشفنا لطبيعة مشروع البطل التحرري يفقد مفهوم بروب لفضاء الأنس دلالته، وبذلك نجد أنفسنا في حيرة من أمرنا في تحديد طبيعة العلاقة بين البطل وهذا الفضاء. فـ(بيروت)، هذا الفضاء الذي من المفروض، نظرياً على الأقل، أن يكون فضاء أنس، هاهو يتبدى لنا في «الحي اللاتيني» كفضاء معاد، فضاء للمواجهة بين البطل ومنظومة القيم والتي أدت في كثير من الأحيان إلى هزيمة البطل. الأمر الذي دعاه إلى البحث عن فضاء أكثر رحابة يمارس فيه تحرره من دون أدنى مراقبة أو ضغط من المجتمع الشرقي ممثل هذه المنظومة.
«وإلا لمَ لم تبق هناك؟ أنت على يقين من أن هذه السنوات الأخيرة كانت في/ حياتك إخفاقاً ذريعاً» ص.13
وحتى نتمكن من رفع اللبس الذي يلف فضاء الأنس، سنعمد إلى تحديد العلاقة بين البطل ومنظومة القيم الشرقية من خلال مقارنتها بعلاقة البطل في الحكايات الشعبية العجيبة الروسية بمنظومة القيم التي ينتمي إليها. ولنبدأ باستخلاص أهم الثوابت التي تشترك فيها الحكايات الشعبية في وضعها الابتدائي لمقارنتها بخصائص ذات الوضع في «الحي اللاتيني»:
1ـ تؤكد الحكايات الشعبية على وجود نظام اجتماعي مؤسس على إجماع بوجود سلطة يجب الخضوع لها.
2ـ يحدث عصيان لهذا النظام بعد أن يتم خرق إحدى محظوراته أو رفض بعض أوامره من طرف شخصيات أخرى غير البطل.
3ـ يتحدد من خلالها دورالبطل المتمثل في تكليف النظام له بمهمة إعادة التوازن للنظام الذي اختل بعد الخرق.(22)
على خلاف هذا المسار الابتدائي للحكايات الشعبية، تنفرد «الحي اللاتيني» بما يلي:
ا- كما هو جار في الحكايات الشعبية، ترسم لنا «الحي اللاتيني» ملامح نظام اجتماعي منبثق من اعتراف جماعي لوجود سلطة اجتماعية ودينية. وهو ما أسميناه بـ»منظومة القيم الشرقية».
ب- لن يتم خرق هذا النظام من طرف شخصيات أخرى، بل من البطل ذاته الذي يعلن القطيعة مع مجموع القيم السائدة في المجتمع الشرقي. هذه القطيعة التي يمكن أن تترجمها حالة الفراغ التي يعانيها البطل كلما حاول أن يحدد هويته بعد أن ألقى (الشرق/الماضي) وراء ظهره، وهو على ظهر السفينة التي ستقله إلى مدينة مرسيليا.
«كان يستيقظ أحياناً على نفسه ويعي هويته.. كان يتمثله شيئاً فارغاً يعوزه/ الامتلاء والكثافة.. شيء لا قيمة له، بل لا شيء.»ص.6
وإذا أنعمنا النظر في طبيعة هذا الفراغ، ألفيناه افتقاراً يحتاج إلى امتلاء، واختلالاً يتطلب إعادة التوازن، افتقاراً لا يعاني منه النظام الاجتماعي بقدر ما يعاني منه البطل، واختلالاً لا يربك توازن السلطة الاجتماعية بقدر ما يربك البطل ذاته. ولذا فإن بطل «الحي اللاتيني» لم يغادر فضاءه رغبة في إعادة النظام الاجتماعي إلى حالته الطبيعية المتعارف عليها، وإنما إلحاحاً منه على البحث عن منظومة قيم جديدة. وهاهو على ظهر نفس السفينة يعلن عن إرادة في أن يولد من جديد.
«وللمرة الأولى منذ بدأ يعي، شعر بقوة هذه الإرادة التي تعصف بوجوده، في أن يولد من جديد […] إن قصارى ما يشعر به هو أنه يود أن يتنفس هواءً جديداً،أن تمتلئ الصدفة بمعنى من معاني الحياة»ص.6ـ7
إلا أن هذه الإرادة تعوزها القدرة على إنجاز هذا المشروع وإحداث القطيعة مع الماضي الذي ما زال يعاني من إساره:
«ذلك يعجزني. إنني لا أستطيع. إن أغلالاً تربطني به، ذلك الماضي، تلك الأجواء.»ص.12
إن تحصيل هذه القدرة لن يتأتى للبطل إلا بعد أن يتمكن من تحديد مفهوم التحرر الذي يبغي تحقيقه، وهو ما لم يتوفر له في بداية رحلته إلى باريس. ولسوف يتبلور مفهوم التحرر شيئاً فشيئاً تبعاً لطبيعة التجارب التي سيخوضها البطل في باريس. صحيح أن البطل قدم إلى باريس طلباً من حيث المبدأ للدراسة الجامعية العليا. بيد أن هذه تعلة ظاهرية ليس إلا. فالبطل لم يأت إلى باريس بصفتها «عاصمة النور» ليغرف من زادها العلمي، بل بصفتها عاصمة المرأة. يقول مخاطباً نفسه:
«تبحث عنها… عن المرأة… تلك هي الحقيقة التي تنساها، بل تتجاهلها. لقد أتيت إلى باريس من أجلها.»ص.26
فأول مفهوم للتحرر إذن هو إرادة في الانفلات من كل الضوابط والمحرمات التي تتبناها منظومة القيم الشرقية في تحديد العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة. وقبل أن نواصل حديثنا عن هذا التحرر، بودنا أن نضع إطاراً معرفياً نحدد من خلاله مفهوم منظومة القيم الشرقية والذي يمكن أن نقول عنها أنها بنية تشمل كل القيم والمواضعات الأخلاقية التي تخزنها الذاكرة الجماعية وكل التقاليد والعادات والخرافات كما تشتمل على مفاهيم عن الإسلام وليدة ترسبات ثقافية وتاريخية اكتسبت طابع القداسة مع مرور الزمن.
ولو تأملنا ظاهرة الزنا في كل من الإسلام كدين رباني جاء لتنظيم المجتمع من خلال خلافة الإنسان لله على الأرض وفي المنظومة الشرقية كما أسلفنا تعريفها لأدركنا أننا أمام موقفين يختلفان في منطلقاتهما وإفرازاتهما الاجتماعية. فإذا كان الإسلام يرفض الزنا كممارسة لحاجة طبيعية في إطار غير شرعي، فإن المواضعات الشرقية ترفض الزنا لأنه معادل للاخلال بقيمة اجتماعية مقدسة ألا وهي الشرف المرتبط عادة بصورة الأنا في مخيال الآخر. وإذا كان الإسلام يرفض الزنا لأنه يخل ببنية المجتمع من خلال تقويضه لأهم ركائزه ألا وهي الأسرة، فإن المنظومة الشرقية تستنكر الزنا لأنه يضع صورة هذه الأسرة موضع الإهانة والازدراء الذي قد يصل إلى حد الإقصاء من الجماعة. وإذا كان الإسلام قد حد لجريمة الزنا عقوبة الجلد حفاظاً على توازن المجتمع، فإن القيم الشرقية قد اتفقت على غسل عار الزنا بالقتل أو الإقصاء والتهميش. وإذا تشدد الإسلام في إثبات جريمة الزنا والذي لا يتم إلا بشهادة أربعة شهود وذلك رحمة بالإنسان الذي أذنب وأراد العودة إلى الله، لأن الأصل في إدانة الزنا لايرجع إلى كونه إشباعاً لحاجة غريزية طبيعية ولكن للإطار الذي تم فيه هذا الإشباع والذي يخرج عن الزواج الشرعي، فإن المواضعات الشرقية تتستر على الزنا حفاظاً على صورة الأنا (الأسرة) في مخيلة المجتمع. وهوما يفسرارتباط شرف العائلة بمدى محافظة البنت على صورة شرفها أي على بكارتها قبل الزواج. ولذلك نجد المجتمع الشرقي قد جعل من ليلة الزفاف امتحان شرف للبنت وعائلتها. فمن بين الأسباب التي تدان من أجلها الفتاة في الشرق بسبب الزنا هو ظهور آثار هذه الخطيئة على الفتاة وغيابها عن الفتى، ولذلك لا يجد المجتمع الشرقي حرجاً في أن يتساهل مع الرجل في مغامراته فهو رجل قبل كل شيء بينما لا يتوانى عن معاقبة الفتاة أشد العقوبة إذا أدينت بنفس الجريمة. ولذلك فحديثنا عن التحرر من الضوابط الاجتماعية سيكون من خلال وجهة نظر منظومة القيم الشرقية التي يجاهرها البطل العداء. فإذا استعضنا من Greimas الشكل الذي عرض من خلاله بنية أي منظومة تعتمد المحرم والمباح وأسقطناه على منظومة القيم في الشرق التي تحدد العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة (23) لحصلنا على التالي :
من خلال المربع، نخلص إلى أن العلاقات المباحة في النظام الاجتماعي الشرقي تشمل العلاقات الزوجية وعلاقات الرجل خارج الإطار الزوجي، أما العلاقات المحرمة فتشمل الشذوذ الجنسي بكل أنواعه وعلاقات المحارم وغيرها. وإذا استخلصنا المرأة كطرف في هذه العلاقات أدركنا أنها لن تتمكن من إقامة علاقات جنسية إلا في إطار الزواج، وليس خارجه. وهو ما يفسر حضور المرأة الوجداني في حياة البطل وغيابها الجسدي إلا من خلال بعض مغامراته مع المومسات اللاتي عرفهن في بيروت.
«لا، لا تحاول أن تحتج أو تنكر. أجل شرقك ذلك، لم يغرك بالهرب منه سوى / خيال المرأة الغربية، سوى اختفاء المرأة الشرقية في حياتك.» ص.28
وخلاصة الأمر، أن البطل يريد أن يفر الشرق لسببين:
* المرأة الشرقية شخصية لا يمكن أن يعتمد عليها في تحقيق مشروعه في التحرر، لأنها عاجزة عن اختراق محرمات القيم الشرقية.
* المرأة الغربية مؤهلة لتحقيق رغباته لأنها امرأة (متحررة).
هنا يجب أن نلاحظ أن تحرر المرأة الغربية قد حصره البطل في التحرر الجنسي فقط، والأهم من ذلك أن المرأة الغربية المتحررة إنما هي صورة اختلقها البطل في مخيلته. فما حقيقة هذه الصورة يا ترى؟
* صورة المرأة الغربية:
بدءاً لنذكر أن رحلة البطل إلى باريس إنما كان من أجل البحث عن المرأة الغائبة عنه في الشرق، والتي اتخذت في الغرب أسماء متعددة، فهي: زينة، مارغريت، ليليان، جانين، فتاة السينما…الخ. فالبطل لم يعرف المرأة الغربية قبل هذه الرحلة، وإنما هي صورة رسمها لها في مخيلته. تتبدى لنا هذه الصورة في أجلى أشكالها حين يدلف البطل وبعض رفاقه إلى حانة Dupont المشهورة بأنها ملتقى المتحررين من الشبان والفتيات في أول سهرة لهم في باريس.
«ودلفوا، أول ما دلفوا إلى مقهى (ديبون) […] ، هذا الذي سمعوا عنه/ الكثير من رفاق لهم مكثوا في باريس ردحاً من الزمن: ملتقى المتحررين أبعد/ حدود التحرر من فتيان الحي اللاتيني وفتياته.» ص.15
في نظر البطل، تحرر هؤلاء الفتيات يعادل رفضهن الانحناء لكل المواضعات الاجتماعية التي من شأنها أن تقيد حريتهن الجنسية وهو ما يعتبره البطل موقفاً إيجابياً. إلا أن هذه النظرة للمرأة الغربية إنما هي جزء من الصورة وليست الصورة بأكملها، فلن تكتمل الصورة إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار النظرة الأخرى التي يحاكم من خلالها البطل فتيات الحانة باعتبارهن فتيات طائشات. وهذا التناقض الذي قد يصدم القارئ نجد له تفسيراً في التقاطع الحتمي بين المخيلتين الجمعيتين الشرقية والغربية. فقراءاته المتنوعة للأدب الغربي الذي يبرز المرأة ككائن بمنأى عن كل ما يمت إلى المحافظة بصلة، واستماعه إلى ما رواه بعض أصدقائه من مغامرات مع فتيات فرنسيات في باريس ولد في ذهنه الشق الأول من الصورة.
«أجل شرقك ذلك، لم يغرك الهرب منه سوى خيال المرأة الغربية […] وقد/ أمسك هذا الخيال بذهنك، فقاده إلى البعيد البعيد الذي خلقت إطاره في وجدانك/ فصول من الكتب، أو من مغامرات صديق.»ص.28ـ29
أما الشق الآخر من الصورة فيستمد قوته من تجذرالقيم الشرقية في ذهن البطل والتي ترى في مثل هذا السلوك لوناً من ألوان الفسق والفجور.
«وهل هن جديرات بالاحترام، كل أولئك الفتيات اللواتي يسقن هذه الحياة/ العابثة الغابرة»ص.42
فالمزاوجة بين هذين الشقين أنتج لنا صورة غائمة للمرأة الغربية خلاصتها ما قاله البطل:
«يخيل للناظر أنهن يعشن ليعطين ما يطلب منهن.»ص.16
ثم سرعان ما غلب الشق السلبي لهذه الصورة بعد أن اصطدم البطل بواقع المرأة الغربية ممثلة بفتاة الحانة التي رفضت أن تستجيب لإغواءات أصدقائه، في زينة التي وافقت على مراقصته ثم تخلت عنه لتلتحق بصديقها، في فتاة السينما التي وعدته باللقاء ثم أخلفت وعدها، في ليليان التي سلبته حافظة نقوده وهزأت بكبريائه الثقافية حين نسبت لنفسها شعراً من إبداع Prévert، وأخيراً في مارغريت التي أشعرته بانحطاطه الحيواني. فعلى الرغم من الحرية الجنسية التي مارسها البطل من خلال هذه المغامرات، وهو ما يمكن أن يعادل تحقيقه لمفهوم التحرر في بعده الجنسي، إلا أنه ظل يشتكي افتقاراً وجدانياً لم تستطع ولا واحدة منهن توفيره له. هذه الإخفاقات زعزعت ثقة البطل في نفسه وفي المرأة الغربية التي كان قد أوكل إليها مهمة مساندته في تحقيق مشروعه التحرري. وفي محاولة لاسترداد ثقته بنفسه، يلجأ البطل إلى إدانة المرأة الغربية معتمداً في ذلك على منظومة القيم الشرقية التي كان يبغي التحرر من ربقتها.
«فيذكر ليليان، ويذكر مارغريت، وإن كان في وده أن يستبعد مارغريت. ومع/ ذلك أليست هذه منهن، أولئك اللواتي تحذره منهن أمه؟ ما القول في امرأة/ تستسلم منذ اللقاء الأول؟ أتراها من هاتيك الفتيات الشريفات؟»ص.78
وهكذا يبدو بعض ما اعتبره البطل مساوئ شرقية نعماً يجابه بها المرأة الغربية (24)، ليهدم صورتها يستعيد بذلك كثيراً من توازنه المفقود، لكنه توازن هش بحاجة إلى أن تنضجه تجارب أخرى أو ما يمكن تسميته بالاختبارات الترشيحية التي وإن تنوعت أجواؤها إلا أنها تستقطبها غاية واحدة هي إكساب البطل الكفاءة التي يفتقر إليها لتهيئته لاجتياز الاختبار الرئيس من أجل تحقيق مشروعه في التحرر من منظومة القيم الشرقية. فهل حقيقة استطاع البطل أن يكتسب القدرة على المواجهة؟ على المستوى البراغماتي يمكن أن نعتبر أن هناك إنجازاً ما، فالبطل استطاع أن يخرق محظوراً أخلاقياً ويستجيب للرغبة التي كانت تتأكل جسده وهو في الشرق، فيشبع حاجة ويملأ خواءًً كان يعانيه. لكن على المستوى الوجداني، هل استطاع البطل أن يحقق امتلاءً عاطفياً؟ في هذا المضمار، فإن محظوراً ثانياً يقف عائقاً أمام البطل، الأمر يتعلق هذه المرة بالمحظور الوجداني. ويبقى السؤال: لماذا الإصرار على هذا التمرد عن القيم الشرقية عبر بوابة الجنس أو بالأحرى المرأة؟ نستطيع أن نقدم فرضية قد تقترب من هذا التساؤل في إطار الرواية التي نحن بصدد تحليلها لكننا لا يمكن أن نغامر فنعممها على مجمل الروايات التي اتخذت موضوعاً لها المواجهة الحضارية عبر علاقات شرقي بغربية، ومفاد فرضيتنا أن الأمر يتعلق برغبة البطل في أن ينفلت من السطوة الوجدانية والذهنية التي تمارسها عليه أمه منذ أن كان صغيراً ولا يتسنى له ذلك إلا إذا تحرر من هذه السطوة على المستويين الوجداني والذهني وهذا لاسبيل إلى تحقيقه إلا بوجود ند لهذه الأم ممثلاً في المرأة الغربية. ولذا فيبدو أن رغبته في التحرر من القيم الشرقية لم تكن سوى رغبة في التحرر من سيطرة الأم التي باسم هذه القيم الطهرانية تستخلص الابن لذاتها وتبقيه تحت سيطرتها خشية أن تسرقه منها امرأة لم تخترها هي بنفسها، فما بالك إذا تعلق الأمر بامرأة غربية. وهذا هو المعنى الثاني للتحرر. ولكن من ستكون هذه المرأة التي سيستعين بها البطل لتوفير هذه العاطفة المفقودة؟ إنها جانين مونترو وقد اختارها البطل ليس لصفاتها المادية فحسب، ليس لأنها في جمالها «باهرة ساحرة» فحسب، ليس لأن لها حسب الطراز الذي اعتمده معظم من كتب في هذا المجال «وجها ً أبيض وشعراً أشقر، ثم عينين زرقاوين صافيتين»(25)، ليس كل ذلك فحسب، وإنما أيضاً وفي المقام الأول لصفاتها الروحية. يقر البطل بنفسه أن أول ما جذبه إليها وأشعره أنه مقبل معها على عهد جديد في حياته هو «صفاء نفسها ونقاء سريرتها». وليس من العسير أن نحدس بالأثر الذي أحدثه وجودها في وجوده. فبمعيتها، استطاع البطل أن يحقق غايتين معاً وفي آن واحد: ملء الافتقارين الحسي والوجداني الذين عانى من عدم تحقيقهما معاً في المشرق، فها هو يقول:
«هذا الحب الذي لم يعرف إلا أحد شطريه: فإما النشوة الروحية وحدها، إما/ اللذة الجسدية وحدها […]، ولم يكن يتصور أن بوسع إنسان أن يدرك إلى/ جانب أنثى اللذتين كلتيهما كما أدركهما هو إلى جانب جانين.»ص.151
ففي قمة العطاء الذي استغرق البطل، هاهي جانين تواجهه بالسؤال عن مصير علاقتهما عبر الرسالة التي أرسلتها له وهو في بيروت تطلب منه أن يشير عليها في أمر الجنين الذي هو ثمرة هذه العلاقة. ويمكننا اعتبار هذا التساؤل بداية الاختبار الرئيس الذي لم تكن التجارب السابقة سوى تمهيد له، والذي من شأنه تقويم الافتقار الذي يكابده البطل. إن قراءة أولى لعلاقة البطل بشخصية جديدة ذات تأثير فعال على حياته مستقبلاً قد تقدم لنا تعليلاً لما آلت إليه علاقته بجانين. فبمن يتعلق الأمر يا ترى؟ إنه فؤاد تلك الشخصية التي كانت لها أكبر الأثر في تغيير أفكار البطل وسلوكاته. وقبل دراسة هذه التغيرات، فلنبدأ بالتعريف بفؤاد؛ إنه شاب سوري ملتزم بالأيديولوجية القومية، طالب في معهد اللغات الشرقية. قدم إلى باريس ثلاث سنوات قبل البطل. معطيات النص لا تزيد عن هذه المعلومات في الكشف عن حقيقة هذه الشخصية سوى أنها بقدراتها النقدية والثقافية فتحت أمام البطل المجال لتذوق الأعمال الأدبية المختلفة ولتكوين فكرة عن الشبيبة العربية، النضال السياسي، الإصلاحات الاجتماعية، المرأة العربية والزواج المختلط.
لقد ساعد فؤاد البطل على إدراك طبيعة الأزمة الوجودية التي يعانيها، ففتح عينيه على أن ما يكابده ليس هماً ذاتياً يخصه هو، بل هو هم جماعي يطال معظم الشبيبة العربية في بلاد الغربة، ولا يتسنى لهم تجاوزه إلا إذا تمكنوا من العثور على رابطة تجمعهم، طبعاً المقصود بهذه الرابطة القومية العربية. فهاهو يلومه على التقزز والاشمئزاز من بعض الطلبة العرب الذين يتصرفون تصرفات رعناء.
«لا يا عزيزي، فأنا أحسب أنك على خطأ. إنهم لا يوحون بالنفور. وأنت لن/ تنفر منهم إذا أدركت أنهم شبان قلقون، يبحثون عن أنفسهم. إننا جميعاً، نحن الشبان العرب، ضائعون يفتشون عن ذواتهم. ولا بد أن نرتكب كثيراً من الحماقات قبل أن نجد أنفسنا.»ص.87
وحتى يعثروا على هذه الذات الجماعية، فلم يتردد فؤاد من الإفصاح عن طبيعتها في أكثر من مناسبة، ولقد تحول «العادلون» لألبير كامو في رأي فؤاد والذين شاهدهم هو والبطل على خشبة المسرح إلى نماذج ثورية تحتذى.
«أرأيتهم هؤلاء المواطنين الذين يجتمعون على فنجان قهوة في (الكابولاد)؟/ هؤلاء الذين تريد أن تتجنبهم؟ إن فيهم نماذج كثيرة من هؤلاء العادلين الذين/ شاهدناهم الآن […] كل ما في الأمر أن الخيوط بينهم مقطوعة، وأن الرابطة/ مفقودة. وإنهم لواجدون أنفسهم، متى وجدوا هذه الرابطة.»ص.88
* الالتزام الأيديولوجي والجنس:
أن دعوة فؤاد البطل لتبني الأيديولوجية القومية والالتزام بها كمنهج للتغيير السياسي والاجتماعي بقي مشروطاً بتمكن هذا البطل من إشباع حاجته الجنسية والوجدانية، الأمر الذي يتيح له التفرغ للنضال والعطاء. وبذلك تتحول المرأة إلى هم ثانوي بعد أن كانت الهم الأول الذي قدم البطل إلى باريس من أجله.
«ألا تعتقد أن الشباب العربي، هنا وفي الوطن العربي، محرومون من استغلال أسمى إمكانياتهم لأن حاجتهم في الحب والجنس غير مكفية؟» ص.132ـ133
ولقد تحقق هذا الأمر عندما اختلفت وجهة نظر فؤاد مع وجهة نظر صديقته الفرنسية فرانسواز حول موضوع المستعمرات الفرنسية في المغرب العربي، فكانت القطيعة التي وضعت حداً لعلاقة دامت سنوات عدة. ولذا فإن الزواج من امرأة أجنبية يعد من وجهة نظر فؤاد عقبة كأداء تعيق المناضل عن أداء واجبه القومي.
«إننا مدعوون في المستقبل يا عزيزي إلى مواجهة كثير من قضايانا القومية/ التي لا تعني أحداً سوانا. وأنا لا أعتقد أن زوجة أجنبية تستطيع أن تعين/ زوجها في معاناة مثل هذه القضايا، إنني أريد أن تكون زوجتي رفيقة حياتي/ حقاً، بكل ما في الرفقة من معنى، ولئن أنا تزوجت يوماً، فلن أتزوج إلا فتاة/ عربية، وإن فرانسواز تعرف ذلك.»ص.158
إن فؤاد أراد أن يبلغ رسالة إلى البطل فحواها أن زواجه من جانين مآله الفشل، فشل المناضل في التزامه بالعقد الأيديولوجي الذي أبرمه مع القضية القومية، ممثلة في شخص فؤاد. فما حقيقة الدوافع التي كانت وراء تخلي البطل عن جانين؟ ألها علاقة بمقتضى ما ألزم به نفسه من انخراط في القضية القومية؟ يبدو أن الأمر أكثر تعقيداً من مجرد استجابة البطل لنداء أيديولوجي. ولذلك نود أن نقف وقفة مستفيضة لتجلية حقيقة ما آلت إليه علاقة البطل بجانين. إن الزواج من جانين قد راود البطل أكثر من مرة، إلا أنه في كل مرة تعترضه صورة أمه الرافضة لمثل هذه العلاقة:
«يتزوجها؟ أية كلمة مخيفة هي! وسرعان ما طفرت إلى ذهنه صورة أمه. وأحس بضيق شديد يأخذ بخناقه. ينبغي أن ينحيها، الآن على الأقل، هذه الفكرة الكابوس. ينبغي ألا يبقى وحده، مع أمه.»ص.183
وحتى ندرك المهمة الموكلة للأم كشخصية محورية في العملية السردية ومناهضة لتحقيق برنامج البطل، نعود إلى بنية الحكاية الشعبية في علاقات شخصياتها. فكما في الحكايات الشعبية العجيبة تدخل شخصية جديدة نستطيع أن نسميها المعتدي على البطل أو الشرير قد يكون (غولاً) أو ماردا أو ساحرة ودوره هو منع البطل من إعادة السلام للعائلة المنكودة بعد أن تكون قد ألحقت بها أضراراً(26)، فإنه في حالة «الحي اللاتيني» يتبدى هذا الشرير للبطل في وجه أمه التي تعارض أيما علاقة يمكن أن تربطه بامرأة أخرى غير التي اختارتها له (ناهدة)، فما بالك بامرأة أجنبية بكل ما تعنيه هذه الكلمة. وتبدأ مرحلة الاختبار الأخير يوم أن بدرت إلى ذهن البطل فكرة الزواج من جانين، إلا أنه رفضها ليس لأنه كان مقتنعاً بموقف فؤاد، وإنما رفضها لأنه يخاف أمه. ففكرة الزواج قد اقترنت في ذهن البطل بصورة أمه الرامزة للقيم الشرقية الرافضة لكل ما يمكنه أن يمس بالطهارة والشرف. خاصة إذا تعلق الأمر بالاقتران بامرأة غربية. وقد استطاع البطل تأجيل البت في هذه القضية عدة مرات، أما وقد أبلغته جانين أنها حامل منه وتنتظر رده فقد وضعته أمام موقف لا يمكن أن يؤجل معه مصير علاقته بها أكثر مما مضى، إذ لابد أن يتخذ قراراً، ولقد جاء رده في رسالة هذا فحواها:
«صديقتي جانين: تلقيت رسالتك التي تبلغينني فيها أنك تنتظرين مولوداً، على/ ما قال لك الطبيب. وقد دهشت حقاً حين فهمت أنك لم تعلني هذا النبأ السعيد/ لجميع أصدقائك، وهم ليسوا قليلين، هؤلاء الأصدقاء الذين أعرف أنه كان لك/ مع بعضهم علاقات غير طاهرة. أما علاقتنا نحن الاثنين، فأحسبك لا تشكين/ بأنها كانت بريئة. ولهذا أجدني، وتجدينني كذلك، غير متأثر البتة بهذا النبأ./ وليس لي أن أقدم لك نصيحة أو إشارة. تحياتي الصادقة لك.» ص.233
قد يبدو هذا الموقف لأول وهلة غير قابل للفهم، خاصة وأن البطل قد اعترف في أكثر من موضع بمدى تعلقه بجانين التي أحس أن حضورها كان يوتر أحاسيسه كلها، وقد كانت أشبه بالأرض بالموات، ويبث الروح في عروق نفسه فاستكملت أبعادها جميعاً (27)، لكن وقفة متأملة للسياق الذي تشكل خلاله هذا الموقف يلقي بعض الأضواء على حيثيات الرسالة. وهذا يقتضي أن نتناول بالتحليل الحوار الذي دار بين البطل وأمه.
* صورة الأم رمز الشرق في مواجهة
صورة جانين رمز الغرب:
في حالة المواجهة التي جمعت البطل بأمه، انمحى الحوار الخارجي ليحل محله حوار داخلي من نوع خاص، بحيث إن الأم كطرف حقيقي وواقعي قد أخلت مكانها لصورة جسّدها صوت داخلي يحاور ضمير البطل «أنا». فالكاتب أراد من إدراج هذا الحوار الداخلي تأكيد مدى تردد صدى صوت الأم في أعماق البطل. وبذلك سلبت شخصيته وانمحت ذاته لتحل محلها شخصيتها هي.
«والتفت فجأة إلى أمه، لا، لم تكن هي التي تتكلم، فإن شفتيها مطبقتان.. بل إنها/ هي التي كانت تتكلم، ولكنها صمتت الآن، هي التي تكلمت أم هو، أم شخص/ آخرلا يعرفانه.. إنه لا يدري. لقد سمع كلاماً، ولا يدري أسمعه بأذنيه أم/ بأعماقه؟»ص.223
وحتى يتمكن الصوت الداخلي الذي أضحى لسان مقال الأم من إقناع الأنا بالعدول عن تبني الجنين، يلجأ إلى الانتقاص من قيمة جانين كرمز للغرب من خلال نفس السلاح الذي استخدمه البطل حين تراكمت عليه الخيبات، ألا وهو منظومة القيم الطهرانية الشرقية. فصورة المرأة الغربية ممثلة في جانين قد اختصرها الصوت الداخلي في ما يلي:
# امرأة غير شريفة لأنها فقدت عذريتها بحكم نمط العلاقة التي تربطها بالرجل والتي لاتقيم وزناً لهذه القيمة.
# امرأة متشردة لأنها ارتضت أن تسكن فندقاً وحيدة من غير أهل.
# امرأة فاسقة لأنها قبلت أن تشتغل في مصنع.
# امرأة مسيحية سيكون اقترانه بها عاراً عليه وعلى عائلته.
وانطلاقاً من ملامح هذه الصورة، يعمد الصوت الداخلي إلى دعوة الأنا إلى رفض مسؤوليته حيال حمل جانين بحجة أن كل امرأة غربية لا يمكن إلا أن تكون خائنة. وفي المقابل فإن الأم كانت قد عرضت على البطل فكرة الزواج من امرأة شرقية لتكن ناهدة التي اختارتها له، فإن لم يرض:
«فهناك نعمت وثريا وهدباء، ابنة خالتك. هناك كثيرات. عد يا بني لأخطب لك/ أجمل فتاة هنا وأشرفها وأطهرها.»ص.176
إن تميز صورة المرأة الشرقية بخاصيتي الطهارة والشرف من شأنه أن يسلب نفس الخاصيتين من المرأة الغربية باعتبارها غريمة للأولى. وهكذا نجد أ ن الصوت الداخلي بين خيارين:
1ـ إما أن يتزوج جانين ويتحمل وصمة العار التي ستلحقه وعائلته، فتجعلهم في قائمة المنبوذين من المجتمع.
2ـ وإما أن يرفض الاقتران بجانين ويتزوج امرأة شرقية، وبالتالي يتخلى عن حبه لجانين، بل ويتنصل من مسؤولية كان أحد طرفيها. والحقيقة أن الأنا لم يكن أمام خيارين بل إنه فقد كل حريته في التصرف، فهاهو يقيم رد فعله بعد كتابة الرسالة التي أنكر فيها مسؤوليته :
«إنه لا يدري ما كان موقفه، لو تُرك له أن يبت فيه. ولكن ما يطعنه هو أنه قد/ حُرم هذا الحظ بالذات، حظ الاختيار.»ص.237
* صورة الابن البطل على المحك:
ولو تأملنا لحظة إخراجه رسالة جانين أمام أمه، لأدركنا مدى شعوره بما هو مقدم عليه من أمر جلل قد ينعكس سلباً على الصورة التي رسمها لنفسه قبل سفره إلى باريس والتي أصبحت عرضة لتشوه قد تودي بصاحبها إلى الإقصاء والتهميش الكلي. وظاهر هذه الصورة الذي يعكس طفلاً طاهراً محافظاً متمسكاً بالقيم الموروثة من شأنه أن يتشوه إذا ما انكشفت حقيقة علاقته بجانين وما أثمرته من حمل يعد في الأعراف الشرقية قمة العار.
«لم يخف عليه أن أمه قد رأت ارتجاف كفه وهي تخرج الرسالة من مغلفها،/ فسارع يقرأ هذه العبارات القليلة ليحجب اضطرابه […] لم يرفع بصره إلى/ أمه، وقد أيقن أنه غير مستطيع ذلك إن حاوله.»ص.230ـ231
وإن هيمنة حالة الخطر على نفسية البطل بعثت الذعر في ذاته فلم يستطع أن ينظر إلى أمه إلا بعد أن استجمع شجاعته لكن الذي يراه الآن ليس وجه أمه بل وجه شخص آخر كبير في السن هو في أشد الحاجة إلى حمايته.
«حسب أن مخلوقاً جديداً يتكلم. مخلوق أنضجته السنون، وحنكته التجارب./ مخلوق هو أشد ما يكون في حاجة إليه في تلك اللحظة.»ص.230
ولقد أفرزت حالة الذعر هذه عند البطل عزلة عن العالم الخارجي، فلم يبق في مواجهته إلا أمه.
«شعر بأنه معزول عن كل شيء، خارج عن كل شيء.»ص.231
وسرعان ما تحول الوجود الذي انحصر في هذين الشخصيتين إلى حالة من التوحد بينهما بحيث أصبح الصوت الداخلي يجسد الأم فتتردد أصداؤه على شفتيها. ولنا أن نتساءل عن طبيعة هذا التحول الذي طرأ على نفسية البطل باختزاله للعالم الخارجي في شخص أمه ثم بغياب كل ما هو حسي ليكتفي البطل بصورة أمه المتخيلة فقط. وللإجابة عن هذا التساؤل لجأنا إلى الدراسة القيمة التي قام بها Jacques Fontanille لنص «مديح الظل» لصاحبه الياباني تانيزاكي(28) والتي تحلل آليات الانتقال من الإدراك الحسي للعالم الخارجي إلى الإدراك المتخيل لعالم الأشياء. ومن بين التعريفات المعتمدة لظاهرة الذعر في هذه الدراسة هو ذلك الخوف الشديد الذي يوقع صاحبه في حالة من الاضطراب الذي يعطل حاسة البصرعن أداء وظيفتها في إدراك العالم الخارجي. وهي ذات الحالة التي انتابت البطل فموهت عليه هوية الشفتين اللتين ينبعث منهما الكلام. الأمر الذي يدعونا إلى افتراض وجود شخصية وهمية هي من صميم اختلاق البطل تزاحم شخصية الأم الحقيقية شيئاً فشيئاً. فيخيم على ذهن البطل ظل من ريب في حقيقة من يحدثه. فيتشكك في قدراته البصرية التي اضطربت بفعل الذعر، ويصل به الأمر إلى فقدان الثقة بنفسه وفي ما يرى ويدرك من العالم الخارجي. وهكذا يدخل البطل عالماً متخيلاً أين تحتل صورة الأم كل الفضاء ممثلة في شفتيها.
«إنه صوت ينبع من أعماق نفسه، ولكنه يصدر عن هاتين الشفتين. أو أن هاتين/ الشفتين تنطقان به، فتردده أعماقه.»ص.231
باقتحام عالم الوهم، يتحول المشهد من وجهة نظر البطل إلى حقيقة لا يدانيها شك. فالشفتان حقيقة قائمة تتداخل مع ذات البطل إلى درجة أن التبس عليه مصدر الكلام. أهو الشفتان؟ أم ذاته؟ أم كلاهما؟ ليس مهماً، المهم هو أن صورة الأم استولت على أنا البطل فسبلته كامل حريته في تحديد موقفه من رسالة جانين. في مثل حالة الغيبوبة هاته، توجه البطل إلى غرفته وحرر رسالته التي يتنصل فيها من مسؤوليته في حمل جانين.
«لكن الذي يدريه أنه نهض بعد لحظات، فدخل غرفته، وأغلق خلفه الباب، / وجلس إلى طاولته. وحين أمسك القلم ليكتب، شعر بأن وجه أمه يقف فوق/ رأسه.»ص.233
* علاقة البطل بأمه:
ولنا أن نتساءل الآن عن طبيعة علاقة البطل بأمه، هذه العلاقة التي ظهرت في أشد تجلياتها كثافة حين تجرد البطل من ذاته ولتحل محلها صورة أمه. إن العلاقة التي تحكم البطل بأمه هي علاقة خشية قبل أن تكون علاقة حب، ولم يتسنى له إدراك ذلك إلا بعد تلك المواجهة.
«إعترف بأنك لم ترمض قواك إلا لتخرج هذا الذي يشدك الآن إلى أمك، ليس/ هو الحب وإنما الخشية.»ص.236
لأول وهلة قد تبدو هذه الخشية خوفاً من عقاب طفل اقترف ذنباً، لكن السياق الذي ورد فيه هذا الاعتراف يظهر خشية من نوع آخر، إنها خشية الابن مما قد يحدثه تمرده على ما تربى عليه من خيبة وألم نفسي عند أمه. أو بالأحرى إنها خشيته من تلويث الصورة التي رسمها عن شخصه أمام ناظري أمه، صورة الابن المطيع الممتثل للمواضعات الأخلاقية التي لقنتها إياه أمه من الصغر. وحقيقة هذا الامتثال ليس التزاماً مبدئياً من طرف البطل وإنما هو شعور بديِْن يرده لأمه في شكل إرضاء لمخيلتها.
«الخشية من أن تشعر هي بأنك تسيء إليها إذا سلكت هذا المسلك، أو تصرفت/ ذلك التصرف. إنها الرغبة في أن ترضيها، في أن ترد لها الجميل الذي أنت مدين لها به، أياً كان الثمن الذي تدفعه.»ص.236
بعيداً عن أن يكون هذا الديْن ذا طبيعة مادية، فإنه في حالة العلاقة التي تربط البطل بأمه تأخذ طابعاً وجدانياً، بحيث إن البطل لا يكتفي بالاعتراف بحبه لأمه، بل هو مدعو إلى أن يعلن خضوعه لأمه عبر امتثاله لمنظومة القيم التي تتبناها هذه الأم. وقد تمثل البطل هذا الخضوع في الصورة التي شكلها عن ذاته منذ أن كان في بيروت، وتكرار هذه الصورة أمام أمه ولد لديها ثقة بأنها استطاعت أن تشكل من البطل شخصاً اختصر حياته في طاعة الأم ومن خلالها القيم الاجتماعية. قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال عن علاقة الأم بالقيم الاجتماعية وما أهمية أن يظهر البطل انصياعه لهذه القيم أمام أمه حتى وإن كان يسلك مسلكاً آخر في غيابها؟ الحقيقة أننا قد أشرنا إلى هذه المسألة بشكل مختصر في معرض حديثنا عن البنية الدائرية للرواية، وها إننا نعود إليها بشيء من التفصيل ملاحظين مبدئياً أن ارتباط الأم بالقيم الاجتماعية له تاريخ تكاد تشترك فيه معظم الأمهات العربيات، وقصة ذلك كما أوردها محمد بوحديبة في كتابه (الجنس في الإسلام)(29) أن الأم كأي أنثى في مجتمع بترياركي لا تستمد قيمتها الاجتماعية إلا من خصوبة رحمها، هذه الرحم التي توفر لها الأمان وتبعد عنها شبح الطلاق الذي يطارد كل أم عقيم، ويؤمن لها مستقبلاً تكون لها فيه كلمة من خلال الحضور القوي لأولادها وحتى يتسنى لها ذلك فإنها مدعوة إلى إحاطتهم بالرعاية والحنان الفائقين الذين تغدقهما عليهم دون حساب. وإن هذا الإفراط في الحب والعطف كثيراً ما يتحول إلى رغبة جامحة في التملك يتحول من خلالها الأطفال إلى ما يشبه الدمى بحيث تختصر حياتهم إلى الامتثال والطاعة لهذه الأم التي ضحت من أجلهم وتحملت كل أنواع العنت والقهر التي يمارسها عليها كل من الأب والمجتمع. والغريب أن هذه الأم التي تعلن أحياناً سخطها على النظام الاجتماعي الأبوي الذي يسلبها أبسط حقوقها ككائن حي سرعان ما تتحول إلى محام يدافع عن تثبيت أركانه في نفوس أبنائها، ليس حباً فيه وإنما لأن جانباً منه يمنحها كأم كل حقوق الطاعة والولاء التي يفرضها على الأولاد. وفي مقابل ذلك فإن هذه الأم مدعوة إلى أن ترضع أبناءها كل القيم النظام الاجتماعي حتى تؤمن لنفسها حق الطاعة، دون تفريط في أي منها لأن ذلك كل لا يتجزأ. وإن هذا التواطؤ بين الأم والنظام الاجتماعي هو ما عزا بالبطل لأن يظل محافظاً على صورة الابن المطيع بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالة، سواء تعلق الأمر بأمه أم بالقيم الاجتماعية. وهي الصورة ذاتها التي يعمل البطل جهده من أجل المحافظة عليها وهو يكتب رسالته إلى جانين واصفاً علاقتها بها بالبراءة والطهارة، وهو ما يتماشى والوهم الذي اشترك هو وأمه في صناعته. ولكن ما إن أنهى كتابة الرسالة حتى أدرك أن مشروع تحرره من ربقة أمه غدا مستحيلاً، بعد أن استشعر هول الحصار الذي تضربه حوله أمه والذي تتوج بسلبه حريته في اتخاذ المواقف التي يراها مناسبة.
«إن أمه لم تدع له أن يفكر في أمره، وينفذ منه إلى الحل الذي يراه هو. إنها / بذلك محت شخصيته، حطمت ذاته، وفرضت عليه شخصها هي، وذاتها هي، أي عبد كنت لها، أي ذليل.»ص.236ـ237
ولقد ولدت هذه المواجهة رغبة عند البطل في أن يسبر عمق المشاعر التي يكنها لأمه في ظل وعيه بعلاقة العبودية التي تربطها به. ولقد أوصلته تأملاته إلى أن ما يخفيه لأمه هو شعور بالكره وليس الحب.
«كأنما يخافها، أو لايدري، ربما لم يكن الخوف، ربما كان هو.. لا،إنه لا يجرؤ / على التفكير، بله النطق بهذه الكلمة. ولكن يسعه الآن أن يفكر بما يقابلها، أن يفكر بحبه لأمه.»ص.235
وهكذا يتحول هذا الحب إلى كراهية، أو بالأحرى ينكشف هذا الحب عن كراهية أخذت تنمو بنمو وعي البطل لحالة العبودية التي تبطن علاقته بأمه. إلى أن تسلم رسالة من جانين تقول له فيها:
شكرأً. سأواجه مصيري بشجاعة. جانين.»ص.240
أثناء قراءة الرسالة، لم يكن هم البطل الكشف عن محتواها على قصره بقدر ما كان همه التخلص من الحضور الخانق لأمه. وسرعان ما تحولت هذه الحالة النفسية إلى غضب انفجر على إثره البطل في وجه أمه قائلاً:
«أرجوك.. إمتنعي عن التدخل. أعتقد أني لست بحاجة إلى إرشادك […] كفي/ عن الاهتمام بأموري الخاصة، إن كنت تحتفظي باحترامي.. أقصد بحبي.»ص.241
وهكذا استطاع البطل أن يفلت من قبضة أمه وينطلق في تحقيق ذاته بعيداً عن تأثيرها، إذ لم يعد يستسلم لمناوراتها التي أصبحت مكشوفة، فلا دموعها ولا حزنها المفتعل كانا لهما ذات السحر الذي كانا تميزان به في الماضي.
» وحين تناهى إلى سمعه صوت نشيجها في غرفتها، بعد دقائق، نهض فارتدى
ثيابه على عجل وغادر البيت وهو يغلق الباب خلفه بخفقة شديدة.» ص.241
إن مشروع البطل في التحرر قد تحقق أحد شقيه، فما مصير الشق الثاني؟ وهل يستطيع البطل أن يتحرر من منظومة القيم الشرقية؟ لقد ذكرنا في غير ما موضع أن مشروع البطل لن يستوفي مداه إلا إذا تحقق شقاه: التحرر من سيطرة الأم والتحرر من سيطرة المنظومة الشرقية، وهذا لن يتأتى له إلا إذا استطاع أن يشكل منظومة قيم وتصورات بديلة عن المنظومة الممجوجة. ولقد علمنا أن البطل قد عثر على البديل ممثلاً في القومية العربية وذلك بتأثير من فؤاد. والسؤال المطروح: هل استطاع البطل فعلاً أن يحقق الشق الثاني من مشروعه ويتحرر من الماضي؟ والجواب عن هذا السؤال يتطلب تتبعاً لأهم التغيرات الطارئة على تصورات البطل وموقفه من مجموعة مفاهيم كالتحرر والزندقة وموقفه من المرأة. ولقد تبادر نفس السؤال على البطل أثناء عودته إلى باريس بعد العطلة:
«ووقف يقلب التذكرة بين يديه. وذكر عودته الأولى، منذ عام، ما أطوله من/ عام، وما أرهقه، وما عساه أن يكون قد أصبح، ذلكم الشاب الذي كأنه منذ عام؟»ص.262
ولنبدأ بـ:
ا) موقفه من لعب الورق:
و يتجلى ذلك عبر موقفه الرافض لنمط حياة صديقه نصري الذي اختصر أسباب وجوده في لعب الورق:
«ولكنه عاد يسأله:
أتقوم معي إلى (البيت اللبناني)؟ إن الإخوان ينتظرونني.. ما رأيك في أن/ نتسلى؟ ومضى نصري مسرعاً، حين اعتذر هو بأنه ينتظر أحد أصدقائه ثم/ رآه من خلف الزجاج […] وأحس أن عينيه تتبعانه بنظرة احتقار.» ص.263
وإن مثل هذا الموقف يسترعي الانتباه إذا ما قارناه بموقف البطل من نفس المشهد منذ عام مضى. إذ في غياب جانين التي سافرت إلى Haute Savoie ، ولم يجد البطل ما يملأ به ذلك الفراغ الوجداني إلا أن يزجي وقته في لعب الورق مع نصري وشلته. وهاهو نصري يقول له:
«إننا نلعب (البوكر) ونخشى أن يباغتنا مدبر (البيت). فإن كانت اللعبة / تروق لك، أو كنت تحسنها، فلا تتأخر عن مشاركتنا فيها.»ص.137
ب) موقفه من المرأة:
ويتجلى ذلك من خلال إجابته عن سؤال طرحه صديقه صبحي:
«أتراك حقاً زهدت بالمرأة إلى هذا الحد؟/ فابتسم ولم يجب، وذكر أنه لم يسقط المرأة تماماً من حسابه […] وكان يخيل/ إليه كل مرة أنه يسمع صوت فؤاد على سؤاله فيقول: لقد أصبحت المرأة أحد/ همومي، ولكنها ليست همي الرئيسي.»ص.261
إن الفعل (أضحى) الذي استعمله البطل ليحدد موقفه من المرأة يدل على تغير طرأ على ذلك الموقف؛ لقد كان هم البطل الأوحد حين وصوله أول مرة إلى باريس هو البحث عن المرأة لإشباع غريزته الجنسية، أياً كانت هذه المرأة وأياً كان اسمها: مارجريت، أو ليليان، أو حتى بلا اسم كفتاة السينما. وسرعان ما اختفت هذه النزعة بحلول جانين في حياة البطل لتحتل بؤرة أحاسيسه، ولكن همه الوجودي ظل يؤرقه إلى أن التقى بفؤاد الذي استطاع أن يملأ ذلك الفراغ الذي كان يعانيه البطل وهكذا تحولت بؤرة اهتمامه من البحث عن المرأة في بعديها الجنسي والوجداني إلى رغبة في النضال من أجل تحقيق وحدة عربية.
ج) صديق غير مسؤول:
مرة أخرى، يعبر البطل عن التزامه بالقضية الجديدة التي تتطلب منه روحاً مسؤولة، وذلك حين يرسم لنا لوحة صديق له يقارب من العمر أربعين سنة، متزوج ورب عائلة، وقد مر أمامه صحبة فتاة (مستهترة). فبدل أن يتفرغ هذا الـ(دون جوان) لإتمام دراسته وحصوله على شهادة جامعية في التاريخ، هاهي سنتان تضيع منه وهو لا همّ له سوى إشباع رغباته الجنسية.
«ولم يلبث طويلاً حتى رأى رجلاً يعرفه، ,إلى جانبه فتاة يبدو عليها الاستهتار. إنه متعلم متزوج في حوالي الأربعين خلّف امرأة وأولاده الأربعة في الوطن ليعد شهادة في التاريخ. وهاهما عامان يقضيهما في باريس دون أن يظفر بالشهادة.»ص.263ـ264
وإذا تأملنا موقف البطل من هذا الصديق لأدركنا أنه مؤسس على قيمة جديدة لقنه إياها فؤاد، ألا وهي المسؤولية، ففي نظره أن هذا الرجل غير مسؤول تجاه عائلته على اعتباره أباً، وغير مسؤول تجاه أبناء وطنه على اعتباره معلماً، وغير مسؤول تجاه ذاته على الرغم من أنه بلغ الأربعين من العمر وهو سن الرشد والحكمة في الثقافة الإسلامية.
«وتابعته عيناه، وعن يمينه الفتاة تضحك وتتخلع في مشيتها، وخيل إليه أنه ما/ زال ينظر إلى نصري.»ص.264
وإن القارئ المدقق يمكنه ملاحظة عودة ظهور دلالات معجمية تبطن بعض القيم الشرقية الأخلاقية في خطاب البطل والتي على أساسها أصدر أحكامه حيال المرأة الغربية، أقصد تلك الفتاة التي كانت برفقة صديقه المعلم والتي وصفها بالاستهتار والخلاعة، وهي مواصفات نجد لها جذوراً في البعد الطهراني في منظومة القيم الشرقية، وهي ذات المواصفات التي استعملها البطل حين خروجه لقضاء أول سهرة له في باريس للحكم على فتيات الحانة واللآتي وصفهن في ذات الوقت بالمتحررات. فهل حقيقة استطاعت الصورة السلبية للمرأة الغربية (الاستهتار) أن تستحوذ على خيال البطل لتنفي منه صورة المرأة المتحررة؟ وما دور الأيديولوجية الجديدة (القومية) في تشكيل هذه الصورة وهل قيمة (المسؤولية) المنبثقة من القومية وحدها كفيلة بتفسير موقف البطل من المرأة الغربية؟ أم أن لمنظومة القيم الشرقية علاقة بذلك؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل هناك تقاطع في الأسس الأيديولوجية لكل من القومية والقيم الشرقية، أو بعبارة أخرى هل يعني إيجاد بديل أيديولوجي متمثل في القومية العربية هو نفي قطعاً للقيم الشرقية؟ أو بالأحرى ما علاقة القومية العربية كأيديولوجية بديلة بمنظومة القيم الشرقية كأيديولوجية؟
* أية علاقة تربط القومية العربية بمنظومة القيم الشرقية؟:
للإجابة عن هذا التساؤلات لا مناص لنا من أن نتناول تحليل العلاقة من وجهة نظر مؤسسة على فكرة الهوية التي يمكن اعتبارها امتلاء ذات البطل بعد فراغ عانى منه طيلة مكوثه في باريس. امتلاء يأخذ أبعاده الحقيقية في الصورة التي يشكلها البطل عن ذاته الجديدة، صورة الإنسان الملتزم بقضية الوحدة العربية واستعادة الهوية العربية. وهنا يمكن لنا أن نطرح السؤال: عن أية هوية يتحدث البطل؟ وما علاقتها بمنظومة القيم الشرقية؟ وللإجابة عن هذا التساؤل، سنبحث في طبيعة المنظومة الجديدة، القومية، ولنبدأ بتقديم فرضية ألا وهي أن التعارض بين المنظومة القديمة (الشرق/ الماضي) والمنظومة الجديدة (القومية العربية) لايعدو أن يكون ظاهرياً فقط على اعتبار الذات العربية في مجملها لا يمكنها أن تثبت وجودها الجمعي بتنصلها من القيم التي شكلتها الذات الجماعية عبر التاريخ. وحتى نتأكد من صحة هذه الفرضية، لابد أن نضع أيدينا على التناقض الضارب لدى تعريف مفهوم القومية الذي أرّق كثيراً منظري هذه الأيديولوجية، ألا وهو انطواء القومية المحكومة في تعريفها بمحدودية جغرافيتها وخصوصية تاريخيتها على مفهوم العالمية (30) إذ أن لكل أمة قومية. الأمر الذي يجعل تعريف القومية مطاطاً جداً إلى درجة أن كل شعب يعطي لهذا المفهوم الثقافي الاجتماعي تعريفاً خاصاً به. إذا ما أسقطنا هذا التعريف على تاريخية القومية العربية، أدركنا موقع استعادة الهوية في مشروع النهضة العربية الإسلامية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار السياق الاستعماري الذي ظهرت فيه القومية العربية، أمكننا القول إن نضال الأمة العربية السياسي من أجل استعادة السيادة وتحرير الوطن من الاستعمار يندرج في إطار نضال من أجل تشكيل هوية تتميز عن هوية المهيمن. وعلى غرار أية نزعة قومية، إتجهت القومية العربية إلى تشكيل صورة ذاتية جماعية تتيح لها تحقيق المفاصلة واستعادة الكرامة. ومنطلق هذا التشكيل للصورة يبدأ بنفي وإلغاء الآخر المستعمر والمغتصب للأرض وكل ما يفرزه من شعور بالرفض والغضب والكراهية (31). طبعاً هذا الآخر لن يكون سوى الغرب. وإن مراجعة تاريخية لعلاقة الشرق والغرب تبين جدلية هذه العلاقة، وقد أبان عبد الله العروي أن تاريخ (الشرق / الغرب) عادة ما يروى على شكل سلسلة ثنائيات متضادة: يونان ضد الفرس، رومان ضد القرطاجنيين، بيزنطيون ضد العرب، وأخيراً أوربيون ضد العرب المتطلعين للاستقلال. (32)
وإذن فتبني القومية العربية كإرادة جماعية لتحقيق الاستقلال عن الهيمنة الغربية يتضمن حتماً إرادة الانتماء إلى ثقافة شرقية تقليدية تكونت حيثياتها عبر القرون من خلال تمازج بين معطيات ثقافية ثابتة نسبياً وأحداث تاريخية طارئة فرضت خيارات ثقافية لا يمكن التراجع عنها (33) ثقافة تشكل خصوصيتها من خلال العلاقة الجدلية التي تربطها بالثقافة الغربية وهذا على جميع مستويات التمظهر الاجتماعي. وهكذا فإنه لا يبدو غريباً على بطل يرنو ومجموعة من الشباب إلى إثبات ذات جماعية تبغي التحرر من ذات جماعية أخرى قد هيمنت عليها منذ ردح من الزمن أن يلجأ إلى الرصيد القيمي التراثي لتشكيل الأنا الجمعي ولتحطيم الآخر في ذات الوقت، ساعتها لايهم الصورة التي يتخذها هذا الآخر إن تمثلت في تلك المستهترة أو في غيرها من الفتيات. ولا غرو أن تغدو تلك الفتاة «المستهترة» التجسيد الحي الذي استمد ملامحه وبشكل عكسي تماماً من ملامح صورة أخرى، إنها صورة الفتاة الشرقية «العفيفة». إنها جدلية العلاقة بين الكليات الصغرى المتمثلة في صورة المرأة الغربية والكلية الوجودية الكبرى التي تنطوي على رؤية جديدة للعالم قوامها العصبية القومية. وما يزكي هذا الانطباع موقف البطل البراغماتي من المرأة الغربية بعد يأسه من العثور على جانين، فهي لم تعد إلا وسيلة إشباع لحاجته الجنسية مع تغييب تام للبعد الوجداني لهذه العلاقة. لقد هوت المرأة من القمة السامقة التي وضعها على هامتها البطل أثناء بحثه عن ذاته إلى الحضيض المدنس بقذارة الجنس، بحيث تحولت من محرك للعملية السردية إلى مجرد عامل يساعد البطل على توجيه كامل طاقته نحو تحقيق حلمه في أن يكون جندياً في خدمة القضية العربية. ولذا لايجد البطل ضيراً في أن يدنس الفعل الجنسي لدى المرأة الغربية من جهة ويلجأ إليها حين تطغى عليه حاجته الجنسية من جهة أخرى، إذ لم يتردد أثناء انشغاله بتحضير رسالة الدكتورة وبعد القطيعة مع جانين في ان يدخل في مغامرات عابرة مع فتيات ساقته الصدفة إلى معرفتهن.
قد يبدو البطل حقق نجاحاً على مستوى التحرر من القيم الشرقية وذلك بإيجاده لبديل أيديولوجي يعوضه الفراغ الذي عاناه بعد أن استكمل قطيعته مع الماضي، إلا أن موقفه من المرأة عموماً والمرأة الغربية خصوصاً يدفعنا إلى الاعتقاد أن محاولة التحرر لم تتحقق، إذ إن رؤيته للمرأة ظلت أسيرة ترسبات منظومة القيم التي حاول التبرؤ منها. إن فشل البطل في التحرر من هذه القيم لا نعزوه إلى عجزه في ذلك بل إلى انتفاء المبرر إلى ذلك بعد أن تمكن من تمزيق الشرنقة التي لفته فيها أمه منذ أن أعطت له أسباب الحياة، وإذا كانت عداوته للماضي/الشرق بدت في بداية الرواية قائمة على رفضه المطلق للانصياع للضوابط الاجتماعية والسلوكية التي كبتت رغبته في ممارسة ما يراه تحرراً، فإن هذه العداوة، بعد اكتشافنا الطبيعة الاستحواذية للأم التي ترمي إلى المحافظة على الابن/الدمية، لم يعد ما يبررها خاصة وأن منظومة القيم الشرقية لم تكن سوى القيد الذي تضعه الأم على إرادة ابنها والسلاح الذي تلجأ إليه لرد هذا الابن «الضال» إلى حماها، إيماناً منها بقدسية هذه القيم يبطنه إيمان بجدواها في إخضاع البطل لسطوتها. إن المواجهة الحقيقية إذن كانت بين البطل والأم، وإذا ما عبر البطل في غير ما موضع عن رغبته في الانفلات من الشرق/الماضي، فإنما ذلك لم يكن سوى رغبة دفينة في كسر القيد الذي وضعته أمه. وإذا ما كان للمنظومة الشرقية دور في تحول البطل من ذات ممكنة إلى ذات محققة(34)، فإنما باعتبارها عائقاً مكّن البطل من اكتساب القدرة على المواجهة الفاصلة مع أمه، بعد أن أتم اختباراته الترشيحية بنجاح. وحتى نقترب أكثر من العلاقة التي تربط الأم بمنظومة القيم الشرقية، رأينا من المفيد أن نعيد رسم برنامج الأم في الرواية من خلال محوري الرغبة والصراع، مستعينين في ذلك بتصور(35)Greimas:
انطلاقاً من نزوع حكاية «الحي اللاتيني» إلى الاعتماد على الترسيمة البروبية المبنية على تكرار التجارب وتوالي الاختبارات، فإن هذا يفترض توفر نوع من المواجهة بين البطل والأم، مما يجعل البنية السردية للرواية تتكون من مسارين؛ مسار البطل الذي يبغي التحرر ومسار الأم التي تبغي السيطرة، وتتجلى بؤرة الرواية في تقاطع هذين المسارين في صورة مواجهة أو صراع يفضي إلى تحول في حركة البطل والأم وصيرورتهما الحكائية. ولذلك لا يمكن أن نستبين صيرورة البطل من خلال مساره الفردي فقط ، ولا يمكننا أن نستوعب صيرورة الأم من خلال مسارها الفردي مجرداً، وإنما نفهم ذلك من خلال الجمع بين المسارين، وهكذا تضحي الرواية وكأنها مكونة من قصتين؛ قصة البطل وقصة الأم. وإذا ما حاولنا أن نرسم برنامج البطل في كل الرواية فإننا سنحصل على ما يلي (36):
إن قراءة الشكل التلخيصي لمسار البطل تكشف لنا أن هذا الأخير قد اقترن في نهاية المطاف ببغيته، ولم يبق سوى الاختبار التمجيدي، كما ينص عليه النموذج البروبي، وإذا تولى هذا الاختبار في الحكايات الشعبية الهيئة التي دفعت البطل إلى الخروج من المدينة بحثاً عما من شأنه أن يعيد التوازن المختل، فإن الذي تولاه في «الحي اللاتيني» إنما هو البطل نفسه، ولا عجب فالتحريض على الفعل الابتدائي إنما كان ذاتياً، إذ تولى البطل نفسه قرار فراره من بيروت بحثاً عن توازن افتقده فيها. وها هو السارد يصف لنا حالة البطل وهو على ظهر باخرة العودة:
«وتقترب الوجوه منه رويداً رويداً، ثم ينبثق منها فجأة وجه فتى، في ملامحه قسوة وقلق ويظل هذا الوجه الحبيب يكبر وينمو […] حتى يحتل الشاطئ ثم يملأ الأفق كله فلا ترى عيناه من دونه شيئاً.»ص.202
إن الأمر يتعلق هنا بصديقه فؤاد الذي استطاع أن يملأ الفراغ الوجودي الذي عاناه البطل في بيروت والذي دفعه إلى السفر، لقد أضحى فؤاد رمز القيم الجديدة هو الأثير على نفس البطل وأول من يشتاق إلى رؤياه، ولايمكننا أن ندرك الميناء، وعلى سطحها ذات البطل: ما في هذا الموقف من إشارة إلى انتهاء الصراع لصالح البطل ليبدأ بعده صراع آخر من أجل قضية أخرى، إلا إذا قارناه بموقفه أثناء عودته الأولى من باريس، فها هي ذات الباخرة تقترب من ذات
«وتقترب الوجوه منه رويداً رويداً، ثم ينبثق منها فجأة وجه أمه الصغير العذب […] ويظل هذا الوجه الحبيب يكبر وينمو، ملامح هزيلة شاحبة، حتى يحتل الشاطئ ثم يملأ الأفق كله فلا ترى عيناه من دونه شيئاً.»ص.283
وبمقابلة المقطعين، نتلمس تغير الذات المحرضة على الفعل، فبعد أن كانت الأم هي التي تتولى مهمة الدفع إلى الفعل؛ إذ كان البطل لا يني يسلك مسلكاً يستجلب له رضا أمه، جاء فؤاد ليتولى هذه المهمة إذ يصبح هو محرض البطل على فعل جديد يتماشى وطبيعة القضية التي نذر البطل لها نفسه، وهو ما يتجلى لنا بكل وضوح من الحوار الختامي الذي جمع البطل وأمه بعد نزوله من الباخرة:
«لقد انتهينا الآن إذن يا بني، أليس كذلك؟/ فأجابها من غير أن ينظر إليها:/ بل الآن يا أمي … »ص.285
هذه محاولة قراءة (الحي اللاتيني)، أحد الأعمال الأدبية التي تناولت صورة الآخر في مخيلة الأنا. إنها قراءة وليست القراءة؛ فالرواية تظل مفتوحة على عدد لا نهائي من المقاربات. وإذا كان لنا فضل في شيء فهو محاولتنا المتواضعة لتفكيك آليات تشكيل صورة الآخر في مخيلة الأنا وما يتبعه من تحجيم للنظرة الأسطورية للآخر ومن نقد ذاتي لما يمكن أن تختزنه الذاكرة الجماعية من مواضعات تكتسي طابع القداسة بينما تضيع مبادئ وقيم في ثنايا منظومة تلجأ إلى الصورة للحفاظ على التوازن الاجتماعي مهما كان الثمن.
الهوامش:
1) إدريس، سهيل، الحي اللاتيني، دار الآداب، بيروت، 1989، الطبعة العاشرة، كل نصوص الرواية الواردة في البحث مجتزءة من هذه الطبعة.
2) الشاروني، يوسف، في مجلة الآداب، (الحي اللاتيني، عرض وتحليل)، عدد4، بيروت، سنة1954، ص57
3) المرجع السابق، ص59
4)الناعوري، عيسى، «الحي اللاتيني»، مجلة الآداب، العدد 5، 1954، ص.38
5) المرجع السابق، ص.38
6) المرجع السابق، ص.39
7)المرجع السابق، ص.38
8) سرور، نجيب، «نرجس في الحي اللاتيني»، مجلة الآداب، العدد 4، 1954، ص.29
9) طرابيشي، جورج، شرق وغرب، رجولة وأنوثة، دار الطلائع، بيروت، 1979، ص.99
10)الخطيب، محمد كامل، المغامرة المعقدة، وزارة الثقافة، دمشق، 1976
11) المرجع السابق، ص.117
12) طرابيشي، جورج، المرجع السابق، ص.9
13)Frantz Fanon, Peau noire masques blancs, E.ENAG, Alger, 1993, p.61
14) طرابيشي، جورج، ص.95
15) المرجع السابق، ص.101
16)De Beauvoir, Simone, Le deuxième sexe, Ed. Flammrion, Paris, 1974,
p.557-578
17) طرابيشي، جورج، المرجع السابق، 111ـ112
Propp, Vladimir, Morphologie du conte, Ed.Points, Paris, 1974 18)
19) المرزوقي، سمير، مدخل إلى نظرية القصة، الدار التونسية للنشر، تونس، 1985، ص.23
20) Al Zahrani, Moajeb Saïd, L’image de l’Occident dans le roman
arabe comtemporain, Thèse de Doctorat, Université de la Sorbonne Nouvelle, Paris 3, 1990, p.104
21) A.J.Greimas, Du sens, essais sémiotiques, Ed.Seuil, Paris, 1970, p.233
22) المرجع السابق، ص.232
23) المرجع السابق، ص.139
24) طرابيشي، جورج، المرجع السابق، ص.113
25) طرابيشي، جورج، المرجع السابق، ص.91
26) المرزوقي، سمير، المرجع السابق، ص.27
27) سهيل إدريس، الحي اللاتيني، ص.115
28) Fontanille, Jacques, Le ralentissement et le rêve, Nouveaux
29) actes sémiotiques, Ed.Pulim, Limoges, 1993, n°26-27, p.36 Bouhdiba, Abdelwahab, La sexualité en Islam, E.PUF, Paris, 1986,p.261-262
30) Anderson, Benedict, L’imaginaire national, Traduit de l’Anglais par
Emmanuel Dauzat, Ed.La Découverte, Paris, 1996, p.1
31) Abdel Malek Anouar, La pensée politique arabe contemporaine,
Ed.Seuil, Paris, 1970, p.28
32) Laroui, Abdellah, Islam et modernité, Ed.La Découverte, Paris,
1987, p.57
33) المرجع السابق ص.58
34) رواينية، الطاهر، في مجلة «التواصل»، (قراءة في التحليل السردي للخطاب)، العدد 4، 1999، جامعة عنابة، الجزائر، ص.18
35) Greimas, A.J, Sémantique structurale, E.PUF, Paris, 1986, p.180
36) المرجع السابق.
نصرالدين بن غنيسة
ناقد وأكاديمي من الجزائر