الذي لا يملك الشجاعة لأن يكون مزعجا، هو وعمله، ليس بكل تأكيد مفكرا من الطراز الأول…. (نيتشه)
ماذا يفعل الذي يرفض؟ إنه يتوق إلى عالم علوي، يريد أن يتابع تحليقه أعلى وأبعد من كل أناس الموافقة. (نيتشه)
اكتملت المغامرة. اكتملت الحبكة. فيروس غريب يصيب دماغ رجل غريب تصدّى للأصولية والجهل بالعقل وحده. رجل خاض معركته الأخيرة بتحدي التأشيرات ليحدّث العالم عن بعد مثل إله.(1) ويلقي بسؤاله المحيّر «من يملك أوطاننا؟». سنة كاملة جمعتني بالمفكّر والفيلسوف د نصر حامد أبو زيد من خلال مراسلات أسبوعية ويومية أحيانا تحضيرا وإنجازا لكتاب حواري سيري ضمن سلسلة «هكذا تحدّث». قبل شهر فقط سألته هل يخاف من القتل؟ فأجاب: «حين يحين أوان الموت سيأتي فلماذا أقلق على كيفيته؟ لم أعش أبدا في أي لحظة من حياتي هذا الخوف من القتل. وصلتني تهديدات كثيرة، ولا أزال بين الحين والحين أتلقاها.» لم يحدّثني عن خوفه من فيروس مجهول. بل حدثني عن حلمه الذي تمنّى أن يُحفر على قبره علامات طريق للزائرين وتعويذة تقيهم من خوف المقابر، مقابر العقول.
رجل الاحتمالات الغريبة : اللاسلكي المتمرّد والشاعر المستقيل والناقد الأدبي المنشق اختار أن يكون مفكّرا. نصر حامد أبو زيد لم يكن شخصية عادية فهو من أواخر المفكّرين المعاصرين الكبار من أرض العرب. حياته سلسلة مواجهات من أجل نصرة العقل. رحلة فرار من الأقدار، قدر الفقر والجهل وقدر الشرق الاستبدادي وقدر الأصولية التي نشأ في جلبابها وقدر المؤسسة الدينية الراديكالية التي كفّرته وقدر السلطات القامعة التي تواطأت عليه بصمتها.
كان آخر المنفيين من أجل الفكرة. ومن أجل الحب ففتوى التفريق بينه وزوجته جعلت من قول صاحب «دوائر الخوف» أكثر شراسة. فلا ردة عنده إلا الردّة عن العقل.
لم تكن هولندا أرض فان غوخ لتحتمل جنون فكره فلوّح بها إلى الغرب والشرق والمغرب والشرق الأدنى. كما الدين تجتاح أفكار أبو زيد عقول مريديه في كل الدنيا. لم يكن مكفّروه يعلمون أنهم بنفيه سيطلقون جناحيه في سماء ثامنة لم يسمعوا بها.
سنة كاملة جمعتني به تحدث فيها نصر حامد أبو زيد، بشجاعة وصراحة وذاكرة حيّة عن طفولته وأحلامه الأولى وارتباطه بالإخوان المسلمين وعن انشقاقه عنهم. تحدّث عن البحث العلمي وعن علاقته بالدين والأدب وعن رؤيته المختلفة لشؤون النص وكيف رُمي بالكفر والردة. وعن قصة الحسبة ومحاولة التفريق بينه وزوجه. كان يسأل بين الرسالة والأخرى عن توقيت نشر الكتاب وكنت أماطل في ابتزاز معرفي لم يرفضه لمزيد من الأسئلة ومزيدا من الأجوبة كأنما كان يقبض على ذهني حدس بأنه آخر كلام للرجل. كان نصر حامد أبو زيد يعمل معي بنفسه على تجميع الصور المصاحبة وقد طلب في آخر رسالة قبل شهر من رحيله أن يراجع النسخة الأخيرة من الحوار كاملة وكان ما أراد وأعادها إلي بملاحظاته.
رحل الفيلسوف العقلاني أبو زيد وغاب عن جنازته كل المسؤولين وجل المثقفين وهرب من العزاء أهالي قريته «قحافه» بمدينة طنطا وأحجموا عن تقديم واجب العزاء، خوفاً من أن تصيبهم اللعنة التي أصابت المفكّر المرتد، بينما شمت فيه الأعداء من كل فج وعبروا عن كراهيتهم الكريهة في تعليقاتهم وتصريحاتهم وتهاتفوا مستبشرين بخبر «هلاك المرتد» ليختتم مشهد الاغتراب. بعضهم من سلالة الفكر الغيبي الذي فضحه في كتابه الشهير «نقد الخطاب الديني» اعتبروا الفيروس الغريب الذي فتك بخلايا دماغه لعنة إلهية. هل كان الله يحتاج كل هذا الوقت لينزل لعنته على عبده المفكّر؟ هكذا يلوذ الجهل بأسواره وينكفئ على نفسه مثل ثعبان يحتضر. الكل يركض خلف جنازته بلسانه أو بعصاه طلبا للجنة. يقول نيتشه في المعرفة المرحة «انظروا… انظروا إنه يفر بعيدا عن الناس. لكن هؤلاء يتبعونه لأنه يجري أمامهم، لشد ما هم قطيعيون».
عبد الصبور شاهين صاحب التقرير الأسود الذي كان وراء ما سمي، «قضية أبو زيد» أكثر من ظهوره هذه السنوات ليتبرّأ من تكفير(2) صاحب «نقد الخطاب الديني» بعد أن ذاق من نفس الكأس مع صدور كتابه «أبي آدم» ويلوذ بالأمانة العلمية وهو من العلم بعيد. هل كان شاهين يشعر بوخز الضمير؟ كيف يمكن أن ينبت له ضمير وهو الذي اعتبر تقريره التحريضي صكه للجنة في أحد خطب الجمعة التي كان يلقيها بمسجد عمرو بن العاص؟
كان يمكن لنصر حامد كما قال الغيطاني «خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، [..] أن يكون نجماً في المنابر الإعلامية الكونية، وكان باستطاعته أن يكون القوة الضاربة في مواجهة الحركات المتشددة التي تلحق بغبائها، وعدم فهمها للإسلام وللعصر أبلغ الضرر بالإسلام والمسلمين»(3). ظل نصر حامد أبو زيد وفيا لوجهه الأكاديمي ومشروعه الفكري وضرب عرض الحائط بكل الإغراءات التي عرضت عليه. تلك الإغراءات التي توقع حدوثها منذ ان وطئت قدماه أرض هولندا فكانت ضربته الاستباقية في أول محاضرة يلقيها هناك بأن نطق الشهادتين ليلجم الانتهازيين والمترقبين والمستثمرين في بورصة العقول والضمائر والذين يقفون على «شواطئ» المطارات في انتظار المنفي الغاضب. رفض نصر كما قال لي في الحوار حتى اللجوء السياسي وفضل الاحتفاظ بجنسيته المصرية.
هذا حوار سيري يرصد سيرة هذا الهرمنيوطيقي العربي الذي انتصر لعقل الباحث فيه وأخلص للفكرة دون غيرها. يتحدث فيه بكل حرية الرجل الشجاع الذي لم يعد يعنيه أن تصطاده رصاصة فرج فودة أو سكين نجيب محفوظ. يأتي إليه الرصاص من كل الجهات الأربع على حد عبارة معين بسيسو : من الإسلاميين ومن رجالات السلطة الانتهازيين ومن الشعوب المسكوبة مثل المرق في طناجر الخرافة والميتافيزيقا ومن العدو الرابض هناك بعيدا والذي يحرك الثلاثة السابقين وإن كانوا لا يعلمون.
حوار أردناه سيريا من الولادة إلى الموت، وأردناه عميقا لرجل وهب حياته لعمق أعماق الفكرة لتشييد المعنى. تحدّث بضراوة الذئاب عن الأصولية الدينية والقمع السياسي والفساد وتأمّل معنا بعمق واقعنا الثقافي والسياسي والديني والعلمي.
حوار أصغينا فيه كثيرا وسألنا قليلا متى وجب السؤال. حتى يبقى الحوار وفيا لعنوانه: «هكذا تحدث نصر حامد أبو زيد»
البداية: ُيتم
vv نصر حامد أبو زيد المولود سنة1943 في أسرة ريفيّة بسيطة الحال، إنسان هارب من أقدارٍ غريبة كان من الممكن أن يجد نفسه في أماكن أخرى. ما بين قدر أن يكون شيخًا أزهريًا أو متخصصا فنيًا لا سلكيًا أو شاعر عامية أو ناقدًا أدبيًا، انتهى به الأمر إلى باحثٍ في الظاهرة الدينيّة والفكر الإسلامي، باحثًا أيّده الكثيرون وعاداه الكثيرون أيضًا لإشكاليّة طرحه وخطورته. حدّثنا عن القدريّات الغريبة منذ البدايات. النّشأة والتكوين النّفسي داخل هذه البيئة، هل كان لها أثر في تحديد المسار لاحقًا لتكون واحدًا من أكثر المفكّرين البارزين والجدليين في مجال فقه اللغة والدراسات الإسلاميّة؟
لا أعتقد أنه كانت هناك قدريات غريبة بالمعنى الذي أفهمه من عبارتك، بقدر ما تطورت الحال وفق متغيرات طرحتها الحياة آنذاك. كان حلم الأب أن أواصل تعليمي في الأزهر بعد أن حفظت القرآن في كُتِّاب القرية. تبين للأب أن المسار طويل والعمر قصير فتحولتُ إلى التعليم المدني. ازدادت وطأة المرض على الأب وأنا على أبواب امتحان الإعدادية، فقرر أن ألتحق بالتعليم الفني وحسنا فعل، فقد وافته المنية في 24 أكتوبر 1957، أي في بداية العام الدراسي. هذا مكنني من الانخراط في المسؤولية التي وضعتني فيها الظروف – مسؤولية الإبن الأكبر – بعد الحصول على الدبلوم والعمل فنيا لا سلكيا. كانت القراءة متعتي الوحيدة ونافذة التواصل مع العالم لكسر وحدة «اليُتْم». كتبت الشعر وحاولت كتابة القصة، لكن نهم القراءة ظل هو الحاكم. لم يفارقني حلم الأب، لكنه صار حلما من نوع آخر انتهى بي إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان هدفي قسم الفلسفة. كانت محاضرة الفلسفة في السنة الأولى مخيبة لكل آمالي فقررت قسم اللغة العربية.
vv أستاذ نصر، يقول هوغو في كتاب «التهذيب للقدّيس فيكتور»: «الإنسان الّذي يرى موطنه أثيرًا على نفسه هو إنسان غفل طري العود، والإنسان الذي ينظر إلى أيّة تربة وكأنّها تربة موطنه هو إنسان قويّ، وأمّا الإنسان الكامل فهو ذلك الإنسان الذي يرى العالم بأسره غريبًا عليه». هل كنت تفكّر بالغربة بهذا المعنى داخل وطنك في مرحلة البدايات لتفكّر في خوض المغامرة الفكريّة والتميّز حينها؟ هل الشعور بالغربة والمنفى داخل الوطن هو دائمًا ما يجعلك مدفوعًا بغريزة الإبداع نحو التفرّد والإصرار على الخروج عن القاعدة؟
تجربة «اليتم» تمثل مستوى ما من الاغتراب، خاصة في المجتمعات التي تخلو من نظام للرعاية الاجتماعية للمواطن. لكن هذه الغربة كانت تخفف منها الحياة في مجتمع يحاول النهوض. كانت ثورة 1952 تمثل هذا الحلم بالنهوض، لكن ملابسات الصدام الذي حدث بين قادة الثورة وبين القوى الوطنية المختلفة بسبب مسألة «الديمقراطية» ألقت بظلالها على وعيي منذ منتصف الخمسينات. وهذا مستوى آخر للاغتراب أسميته بداية «الحزن السياسي»، لأنه لم يصل أبدا إلى حد التقاطع مع حلم النهوض. هزيمة 67 عمقت هذا الاغتراب وحولت الحلم إلى كابوس. كان انقلاب 1970 – ثورة التصحيح – بمثابة النهاية وتحول الاغتراب إلى جرح عميق، أعتقد أنه لا يزال ينزف.
vv مرحلة السبعينات من القرن العشرين: عام 1972 الليسانس في اللغة العربيّة بامتياز، عام 1976 الماجستير بامتياز وعام 1981 الدكتوراه مع مرتبة الشرف من قسم الدّراسات الإسلاميّة. هل يمكننا أن نقول إنّ فترة السّادات المشحونة اجتماعيًا وفكريًا وسياسيًا أثرت في وعيك الفكريّ وكانت حافزًا لهذه الإنجازات؟ أهي العائلة والبيئة الشخصيّة؟ أم أنّك كنت طالبًا بأجندة فكريّة منذ البداية؟
يجب تصحيح المعلومات: أربع سنوات لليسانس (1968- 1972)، خمس سنوات للماجستير بعد السنة التمهيدية (1973-1977) ثم أربع سنوات للدكتوراه (1977-1981). كانت خطواتي متأنية سعيا للإجادة. كثيرون من أقراني سبقوني كثيرا في الإنجازات حتى صاروا رؤسائي الإداريين. لم أكن متعجلا. السنوات المشحونة اجتماعيا وفكريا وسياسيا تبطئ من إنجازاتي بحكم الانشغال بالهم العام. فقط هؤلاء الذين لا يعنيهم الشأن العام يخطون بسرعة.
vv كيف جاءك قرار دراسة اللغة العربيّة وآدابها ثم الانتقال إلى دراسة الفكر الديني لاحقًا؟هل كان في حياتك من أخصب وعيك مع هذه الموهبة الدّفينة داخلك، وحدّد أمامك مسارًا سيغيّر فيما بعد مسار حياتك، أم أنّك كنت مدفوعًا بروح الموهبة والطموح المتأججين والرّغبة في تجاوز الفكر الجهاز «المألوف»؟
كما ذكرت التحقت بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، ثم أصابني الإحباط من أول محاضرة فقررت الالتحاق بقسم اللغة العربية، وعندي تصميم بحكم قراءاتي في الأدب أن أتفوق فأكون «معيدا» ثم أواصل دراستي العليا حتى الدكتوراه لأكون أستاذا. قراءتي في الفكر الديني قبل الجامعة كانت لا بأس بها بتأثير فكر «الإخوان المسلمين» الذي تأثرت به في صباي الأول، كتابات سيد قطب ومحمد قطب بصفة خاصة. كنت مفتونا بكتابات القطبين عن القرآن والفن، وتفسير سيد قطب «في ظلال القرآن» كان مدهشا ومذهلا بالنسبة إلي. إلى جانب فكر الإخوان كنت قارئا نهما للعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ. كان ببالي أن أدرس شيئا عن «النظرية الجمالية الإسلامية» متأثرا بكل هذه القراءات. تصادف أن قرأت عن أزمة «محمد احمد خلف الله» في دراسته للفن القصصي في القرآن الكريم بإشراف الشيخ أمين الخولي وكيف انتهت بفصله من الجامعة، وبحرمان أستاذه من الإشراف على رسائل في القرآن. طبعا كنت على وعي بالأزمات التي أحدثتها بعض الكتب الجسورة مثل كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» وكتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، بل وعاصرت أزمة «خالد محمد خالد» في كتابه «من هنا نبدأ» كما عاصرت أزمة كتاب «لويس عوض» «في فقه اللغة العربية». كل هذا غير توجهاتي فقررت أن أكون «ناقدا أدبيا».
ما لا يعرفه الناس، أن مجلس قسم اللغة العربية هو الذي أعادني إلى الاتجاه الأول: أعني دراسة القرآن من مدخل الأدب، حيث قرر مجلس القسم أنني يجب أن ألبي حاجة القسم إلى متخصص في الدراسات الإسلامية، وألا أبحث لنفسي عن عمل آخر. شرحت لمجلس القسم مخاوفي من الدراسات الإسلامية فلقيت نوعين من رد الفعل: تطمينات بأن ما حدث في الماضي كان سببه خلافات شخصية بين الأساتذة (طبعا هذا كلام لا يقنع أحدا، فطرحت التساؤل: ما الذي يضمن عدم تكرار هذه الخلافات في المستقبل؟) وهنا لقيت رد الفعل الساخر: أتظن أنك ستأتي بما لم يأت به الأوائل؟ كان ردي: أليس هذا هو ما يجب أن أفعل، أليس هذا معنى البحث العلمي!
vv إذًا، تحصّلت على الليسانس في اللغة العربيّة وآدابها. ثمّ دمجت بين الأدب والفكر الديني في دراسة الماجستير حول قضيّة المجاز في القرآن عند المعتزلة. تُعتَبر هذه نقلة وبداية نشوء وعيٍ فكريّ ما بأجندة مخفيّة. ما الذي دفعك لاختيار هذا الموضوع، وكيف انفتحت على قرار دراسة المجاز كفن بلاغي في القرآن عند فريق المعتزلة؟ حدّثنا عن هذه النّقلة وأسباب اختيار هذا الموضوع وهل كنت بدأت وقتها بالتأثّر بمنهج تحليل الخطاب؟
انتهى الأمر باقتراح موضوع «قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة» جامعا بين ولعي بالفلسفة والأدب من جهة، وبين احتياج قسم اللغة العربية لمتخصص في الدراسات الإسلامية من جانب آخر. لم أكن أعرف بعد منهج تحليل الخطاب أو غيره من المناهج، إنما معالجة البحث بجدية وأناة والإفادة من كل الأساتذة إلى جانب المشرف، وعدم الانغلاق في مسمى «التخصص» كل ذلك قادني إلى مسألة المنهج. وفي هذا الكتاب الأول، نشر بعنوان الاتجاه العقلي في التفسير تجد جنوحا أكثر نحو منهج التحليل التاريخي الاجتماعي باعتبار الأفكار ثمرة العلاقة الجدلية بين حركة الواقع وموقف هذا المفكر أو ذاك من هذا الواقع. إلى حد كبير كنت متأثرا بهذه العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، لا على أساس الانعكاس الآلي للبنية التحتية في بنية فوقية. كلا كنت أسخر من هذا التصور الآلي للعلاقة بين الفكر والواقع. كانت هذه بداياتي مع «المنهج» ومشكلاته.
طرق المحظور
vv وهذا المجال، أي القرآن وهذا الولع بدراسته انفتح مع أطروحة الدّكتوراه في فلسفة التأويل والّتي كانت دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي. كيف تكوّنت لديك ثقافيًا فكرة دراسة تأويل القرآن عند ابن عربي أولاً، ولماذا جاء ابن عربي بعد قراءة المجاز القرآني عند المعتزلة؟
النتائج التي توصلت إليها في الدراسة الأولى أثارت أسئلة من قبيل: إلى أي حد يمكن القول إن منهج تأويل النص الديني يعتمد على مقاربة موضوعية؟ ولماذا اتفق المتجادلون حول معنى القرآن على تقسيمه إلى «محكم ومتشابه» ثم تشعبت بهم الطرق واختلفوا حول تحديد «المحكم» وتمييزه عن «المتشابه»؟ لماذا صار «محكم» المعتزلة «متشابها» عند خصومهم، والعكس صحيح؟ وهل الخلاف حول «بؤرة المعنى» مجرد خلاف لاهوتي، أم أن هذا الخلاف اللاهوتي يعكس اختلافا في مواقف الجماعات المختلفة من الواقع الاجتماعي السياسي الثقافي؟ يؤيد هذه الافتراضات التي انطلق منها البحث الأول «قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة» حقيقية أن الاختلاف حول الواقع السياسي منذ مقتل الخليفة الثالث – عثمان بن عفان – وما تلاه من حروب مثل «الجمل» و«صفين» هو الباعث الأول للنقاش اللاهوتي.
النتيجة التي توصل إليها الباحث في بحثه الأول وجهت الباحث إلى محاولة اكتشاف منهج التأويل في فضاء أخر، هو فضاء الفكر الصوفي مفترضا أن الفضاء الصوفي فضاء روحي خالص، من هنا دراسة «تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي». لكن النتائج لم تختلف كثيرا، أعني من حيث تأثير مشكلات الواقع في وعي/أو لا وعي المفسر. الاستجابة الصوفية مختلفة بحكم اختلاف المنحى الفكري من جهة، وبحكم اختلاف الواقع السياسي الاجتماعي من جهة أخرى، حيث أثر مناخ الأندلس التعددي من جهة، وظروف حروب «الاسترداد» من جهة أخرى، في تشكيل طبيعة الوعي الصوفي وصياغة المعنى الديني.
التأويل وتكفير التفكير
vv القرآن كنصّ مهيمن يؤسس ذاته ديناً وتراثًا. وأنت تبحث في هذا الإشكال، أكنت على وعي بخطورة ما تقوم به في مجتمع لا يسمح «بالعبث» داخل هذه المساحة المحظورة؟ هل كنت مطّلعًا على الدراسات التأويلية الغربيّة للنصوص الدينيّة والدراسات اللاهوتيّة؟ ما نقصد فهمه هنا هو منظورك الفلسفيّ ومفهومك ومدى وعيك لمدى محظوريّته فيما يخصّ النصّ القرآني؟
كنت واعيا للمخاطر، لكنني كنت في نفس الوقت مدركا لضرورة التعامل مع أسئلة من نوع «طبيعة» النص الديني، حدود قابليته للتأويل وضوابط هذا التأويل. انبثقت الضرورة من حقيقتين: النتائج التي توصلت إليها في أبحاثي عن تاريخ الـتأويل في بعديه اللاهوتي والصوفي، وهي نتائج كشفت عمليات التلاعب الدلالي في إنتاج المعنى. الحقيقة الثانية أن المعنى الديني في الواقع المصري العربي الذي عشته في عقدي الستينات والسبعينات كان موضوعا لتأويلات شتى من الاشتراكية والقومية إلى الحاكمية والإسلاموية. كان السؤال الجوهري الذي انبثق في «مفهوم النص» هو «ماهية القرآن» ومنهجية مقاربته. في تصوري أن التلاعب الدلالي ممكن في حالة عدم تحديد ماهية النص تحديدا يعتمد على الحقائق التاريخية والثقافية التي تولدت في رحمها النصوص. حين أقول تولدت في رحمها أفترض أن القارئ يفهم أنني لا أنكر إلهية المصدر، مفهوم «البذرة» أو «البذور» التي تتولد في رحم التاريخ والثقافة يحيل إلى الجدل الإلهي/الإنساني في عملية الوحي وفي صياغة المعنى.
الأمر عويص، لكنه ليس مستحيلا في ضوء أرهاصات تراثية لاهوتية/فلسفية/صوفية تسمح للباحث المعاصر في التواصل مع إنجازات الفكر الإنساني في أرقى تعبيراته. ولا ننسى أن ثمة محاولات بذلت في الفكر الإسلامي النهضوي الحديث في إيران والهند والعالم العربي لطرح بعض هذه الأسئلة عن طبيعة النص الديني وضرورة إنجاز منهج للتأويل يفتح معنى النص للإجابة عن أسئلة معاصرة. منطلقا من الإنجازات التراثية والنهضوية متواصلا مع الفكر الإنساني لم أتخيل أنني أرتكب أمر محظورا. لا زلت متيقنا أن تحقيق إصلاح فكري جوهري في الفضاء العربي الإسلامي غير ممكن دون الدخول في هذه المناطق. إنها محظورة لأنها تهدد عروشا سياسية واجتماعية وثقافية كثيرة، لكنها ضرورية لتحقيق نهضة مستدامة.
vv نعود بك إلى الوراء قليلاً. إلى لحظة مناقشة طرح دراستك هذه؟ كيف كانت الرّدود عليها وكيف تمّ استقبالها في الأوساط الدينيّة الفكريّة قبل قضية التكفير؟ ثمّ كيف دخلت سرداب التكفير وقصّة هجمة أساتذة جامعة القاهرة التي أوصلتك المنفى؟
استقبلت أبحاثي استقبالا إيجابيا لا في مصر وحدها، بل في العالمين العربي والإسلامي. وحين أقول إيجابيا لا أعني بلا تحفظات مشروعة في رأيي، لأنها تفتح مجالا للنقاش يحتاج إليه أي فكر لينضج ويتطور. قصة التكفير لا يمكن فهمها خارج سياق مناخ الاحتقان السياسي/الثقافي الذي غلَّف الأجواء المصرية منذ بداية الثمانينات بعد اغتيال رئيس الجمهورية السابق في وضح النهار وتحت وميض كاميرات الإعلام في احتفال مصر بيوم انتصارها. ازداد الاحتقان في التسعينات بعد أن طالت يد الإرهاب قيادات سياسية في قلب القاهرة، وساعد مناخ «الفزع الحكومي» من الإرهاب في توسيع سلطة الفكر الديني الذي يؤيد النظام ويدين الإرهاب بلاغيا. امتدت يد الإرهاب للمثقفين فاغتيل «فرج فودة» وتم الاعتداء على «نجيب محفوظ» وانقسم المجتمع الثقافي إلى معسكرين متنابذين. وسط هذا المناخ جاء موضوع الترقي واستطاع تقرير غير علمي أن ينال موافقة اللجنة العلمية ضد تقريرين إيجابيين. ولم يكن هذا ليقع في مناخ أكاديمي طبيعي لم تلوثه ضغوط «الإرهاب» الذي صار فزاعة النظام السياسي والإداري في مصر كلها ضد أي نقد.
تحول موضوع «الترقي» إلى معركة قرر خصوم «حرية الفكر» حملها إلى القضاء. في ظل غابة القوانين والتشريعات في النظام القضائي المصري تمت صياغة مسألة التكفير والحكم بالردة… الخ.
vv وذريعة هذا الحكم هي جريمة التأويل. التأويل: أداة للتحرر من السلطة بكل أشكالها، أداة للانعتاق من سلطة النص. لنقف بدايةً عند مفهوم كلمة نصّ. لنتعرّف أولاً على مفهوم كلمة نصّ عندك بين علم تحليل الخطاب وعلم العلامات أو السيميوطيقا، وكيف يأخذنا هذا إلى تأويل النصّ الأصلي وأهداف هذا التأويل؟
هذا سؤال يحتاج إلى كتاب مستقل للإجابة عليه. ولعل القارئ لا يعرف أنني وإن انطلقت في كتاب مفهوم النص من اعتبار القرآن «نصا» يمكن تأويله وفق إجراءات منهج تحليل النص باعتبار النص أساسا «بناء لغوي» ثقافي/تاريخي، فإنني قد طورت هذا المفهوم في السنوات الأخيرة، خاصة بعد إدراكي أن مفهوم النص يتضمن مفهوم «المؤلف»، كما يتضمن مفهوم «الوحدة» القائمة على التناسق البنيوي للأجزاء، هذا فضلا عن مفهوم «القصد». هذا المفهوم الكلي بما يتضمنه من مفاهيم جزئية انبثق منذ اللحظة التاريخية الأولى التي تم فيها تدوين القرآن في «المصحف» بترتيبه الحالي وتقسيمه إلى سور، يتضمن كل منها نصوصا تنتمي إلى مناسبات تاريخية مختلفة. وبسبب هذا التحول الشكلي من «قرآن» إلى «مصحف» قام علم التفسير على محاولات تأكيد التناسق بين الأجزاء بافتراضات لعل أهمها «المحكم والمتشابه» و«الناسخ والمنسوخ»، وهي افتراضات عمقت الاختلاف ولم تحقق هدف «الانسجام» بين الأجزاء.
لاحظت أيضا أن المفسرين المحدثين يختلفون فيما بينهم في تحديد «بؤرة الدلالة» القرآنية بصفة عامة، حيث يصر بعضهم على تحديدها في الأبعاد الروحية والأخلاقية، بينما يصر آخرون على تحديد البؤرة الدلالية في الأحكام والتشريعات. كل هذا دفعني إلى مراجعة مفهوم النص بالمعنى المشروح أعلاه بالعودة إلى الطبيعة التداولية الأولى للقرآن، أي بالعودة إلى الظاهرة القرآنية قبل أن تتخذ شكل «كتاب» أو «مصحف». تكشف هذه الطبيعة التداولية أن القرآن مجموعة من «الخطابات» التي تم جمعها وترتيبها بشكل لم تكتشف أسسه بعد نتيجة التسليم بأن هذا الترتيب «توقيفي»، أي أنه ترتيب إلهي. لكن هذا التسليم «الإيماني» لا يعني أن البحث عن «علته» يناقض الإيمان، فالبحث عن العلة هو محاولة لاكتشاف «الحكمة الإلهية» وهذا من صميم الإيمان.
والعودة إلى الطبيعة التداولية للكشف عن مستويات المعنى وحدود الدلالة يستلزم منهج «تحليل الخطاب» بما يتضمنه المنهج من الكشف عن الأصوات البارزة والمضمرة في كل خطاب على حده، والكشف عن «دليل الخطاب» و«فحوى الخطاب» و«نمط الخطاب». منهج تحليل الخطاب يعني أن كل خطاب هو في النهاية «نص» لغوي، ومن هنا «تركيبية المنهج» المطلوب. وليس معنى هذا المنهج التحليلي تجزيئ الظاهرة القرآنية، ولكنه يعني أن الكشف عن «الكليانية» لا يتم إلا بتحليل الأجزاء. وهذا مخالف للمنهج الكلاسيكي الذي يفترض «الكليانية» ثم يفرضها على كل الأجزاء دون تمييز. المنهج الكلاسيكي افترض الكليانية على أساس لاهوتي وليس على أساس تحليلي، ومنهج «تحليل الخطاب» يحاول الاقتراب من الظاهرة القرآنية قبل الصياغات اللاهوتية والتشريعية، أو الفلسفية والأخلاقية، الـ«بعد قرآنية». بل يزعم منهج «تحليل الخطاب» أنه قادر على تحليل تلك الصياغات «البعد قرآنية» تحليلا نقديا.
المنهج – تحليل الخطاب – يوظف التحليل اللغوي للنصوص، ولا يكتفي به، فاللغة في الخطاب تتجاوز دلاليا حدود العلامة اللغوية حين تحولها إلى علامة سميوطيقة فيما يعرف بالسمطقة. من هنا توظيف السميوطيقا. هدف «التأويل» هو تحقيق الفهم العميق للظاهرة، لكن هذا الفهم لا يجب أن يزعم لنفسه الهيمنة بادعاء الحقيقة النهائية، أو الصحة المطلقة. تعلمنا الهرمنيوطيقا الدرس الذي يجب ألا ننساه: كل تأويل مشروع طالما ينطلق من التواضع وعدم ادعاء الموضوعية المطلقة التي لا وجود لها: ليست الحقيقة – أقصد المعنى – قارة في النصوص الظواهر، وليست في عقل المفسر ووعيه، بل هي ناتج هذا التفاعل الجدلي بين المفسر – لا الفرد بالمعنى الفرويدي بل الفاعل الاجتماعي – وبين الظاهرة/النص.
vv أترى أن تسليط التأويل / الهرمنيوطيقا في النص القرآني والتراث الديني هو نوع من تفجير مسلّم لا بدّ منه إنسانيًا؟ نقصد أنه في مشروعك دعوة إلى تحرر العقل الإنساني كما تقول في كتابك «التفكير في زمن التكفير»، أليس التحرّر من سلطة النصّ الديني أو نقده هو ترك الإنسان دون مرجع، فيما كان الإنسان يعتمد دائمًا على وجود النصّ «الاوّل» كمرجع له لحاجته إلى «حضن» أو «أب» يمدّه بنوع من الطمأنينة؟
للأسف الشديد يختلط الأمر في ثقافتنا بين «الفهم العميق» وبين «التفكيك»، حيث يتصور الناس أن الفهم النقدي يعني «النقض» بالضاد. التحرر من سلطة النصوص دعوة يجب أن تفهم بالتركيز على كلمة «سلطة» لا بالتركيز على كلمة «نصوص». السلطة قيمة مضافة بفعل الفكر الإنساني، و«الإيمان» وحده لا يحول النصوص إلى سلطة. تتحول النصوص إلى «سلطة» حين يتمأسس الإيمان ويتم تقنينه لاهوتيا، وهذا يحدث في سياقات تاريخية ترتبط غالبا بالخلافات السياسية والاجتماعية داخل مجتمع «الإيمان»، أو بين مجتمع «الإيمان» وبين مجتمعات «إيمان» أخرى. داخل مجتمع الإيمان يراد التمييز بين التصورات والشروحات والممارسات المتعددة، فتقوم السلطة السياسية بفرض «عقائدها» واعتبار العقائد والممارسات الأخرى بدع أو هرطقات. وقد رأينا في تاريخ الدولة العباسية مثلا كيف كانت عقيدة المعتزلة في «خلق القرآن» عقيدة الدولة، ثم استحالت «هرطقة» ترقى إلى درجة الكفر بعد أقل من ثلاثة عقود ليس إلا.
هذا التمييز السلطوي يتم غالبا في سياق أكبر من الصراع مع المجتمعات غير المسلمة، سواء داخل المجتمع أو مع مجتمعات خارجة، الإمبراطورية البيزنطية على سبيل المثال. هذا يفضي إلى النتيجة التي فحواها أن التحرر من سلطة النصوص هو التحرر من السلطات التي احتمت وتحتمي بتأويلاتها زاعمة أن هذه التأويلات هي «النصوص» بلا زيادة ولا نقصان. الدكتور حسن حنفي له عبارة طريفة ولكنها دالة – وهو مشهور بصياغة أمثال هذه العبارات الطريفة الدالة – «احتمينا بالنصوص فدخل اللصوص».
أبوية النصوص هي أبوية السلطات التي تدعيها، وحضن النص هو حضن السلطات التي تستتر وراءها. كل ذلك يحتاج لتفكيك. يبقى «الإيمان» الحر هو الحماية الحقيقية، أعني الإيمان الذي هو «العقد» – من هنا كلمة عقيدة – بين الفرد أو الجماعة وبين نصوصها المقدسة دون وساطة أي سلطة، بما فيها سلطة المثقف أو المؤول.
vv في ظل انهيار المفاهيم الثابتة للذات وسقوط مقولة المرجع وتهشّم الواقعي في التخييل. هل يمكن الحديث عن الإنسان وفعله كمقولة خيالية؟
لا أوافق على أن المفاهيم انهارت لمجرد أن مفهوم «الثابتة» يحتاج للمراجعة النقدية. «الثبات» هو المشكل وليس وجود «القيم». الإنسان – الفاعل الاجتماعي- هو صانع «القيم»، و«الثبات» يعني التجمد. الواقعي والمتخيل ليست مفاهيم متناقضة، طالما أن «الوعي» الإنساني ليس وعاء فارغا يملؤه «الواقع الحسي»، كما أنه – الوعي الإنساني – ليس كالمقولات الثابتة يتشكل على أساسها الواقع.
vv تقول في إحدى مقالاتك «المثقف النهضوي يسعى دائما للعمل من خلال السلطة ولو بالسعي للانقلاب عليها، فلم يكن التغيير ممكنا في وعيه إلا بالانتماء للسلطة، أو بالاستيلاء عليها. وهذا بالضبط أحد الفروق الهامة بين الخطاب النهضوي والخطاب السلفي، لكن كليهما لم يدرك أنه حتى بالاستيلاء على أجهزة السلطة، سواء بالانتماء أو بالاستيلاء يظل الجهاز ببنيته الإدارية حاملا مخلصا لإيديولوجيا السلطة التي أنشأته» هل يعني هذا ألاّ أمل في النهضة؟ وهل يستقيل المثقف من أداء أي دور ما دامت النوايا لا تكفي لتحقيق تقدم ما، ما دامت المؤسسة القديمة موجودة؟
معنى هذا التحليل أن الأمل يكمن في إنتاج خطاب لا يضع السلطة في بؤرته سلبا أو إيجابا. وليس معنى هذا التوقف عن نقد السلطة بكل تجلياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية (أعني عدم اختصار مفهوم «السلطة» في نظام الحكم). سعي المثقف للاستيلاء على السلطة يعني أنه يؤمن أن التغيير لا يأتي ولا يتحقق إلا من أعلى، بينما أتصور أن التغيير الدائم لا بد أن يأتي من القواعد لا من القمم.
vv تبدو غرامشيا، كيف يمكن المراهنة على الشعوب الخاملة اليوم؟
تستطيع السلطة تغيير القوانين، لكن هذه القوانين تظل فاقدة الأثر ما لم تتغير الأذهان. والسؤال الآن: كيف يتواصل المثقف بخطابه مع دائرة أوسع من الجمهور، وكيف ينتج خطابا عميقا ومفهوما في نفس الوقت؟ ليس عندي وصفة جاهزة لحل هذا المعضل الذي أعتبره تحديا حقيقيا لكل مثقف في مجتمعات العالم الثالث حيث «التعليم» في أزمة عضال. المسألة ليست إنتاج خطاب شعبوي يطبطب على عواطف وغرائز الجماهير، يقوم الإعلام بتحقيق ذلك بنجاح ساحق (أعني يسحق سحقا كل خطابات المثقفين)، بل خطاب نقدي يحترم عواطف ومشاعر الناس دون أن يزايد عليها. في ذهني مفهوم «المثقف العضوي».
الحداثة الضالة
vv وهل يمكن لشعوب لم تصنع نهضتها أن تتحدّث عن الحداثة وما بعد الحداثة؟هل يمكن للمجتمع الزراعي والإقطاعي الجديد أن ينتقل إلى الحداثة دون أن يلحق بها تشوّهات كبرى؟
من المؤكد أن ما لا تصنعه الشعوب لا يستقر في وجدانها الثقافي. لكن تشويه الحداثة وقيمها في عملية «التحديث» في العالم العربي لم تقترفه الشعوب، بل اقترفته السلطة التحديثية بمعاونة مثقف حداثي ظل يرواح مكانه بين التراث والحداثة دون أن ينتج وعيا علميا بأي منهما. لا يمكن تحقيق حداثة علوية، من أعلى، مع المحافظة على البنى التقليدية تحت أي مسمى.
تقول «لست كافرا ولا درويشا» وتؤكد أنك تحرص على العقل النقدي في البحث العلمي حتى شبهك بعضهم بدون كيشوت الذي تحتفظ بلوحة له في منزلك، أجبت يومها «لم يستطع النقاد تصنيف شخصية دون كيشوت، هو فنان ينهل من كل التراث الإنساني، وأنا كذلك احتاروا في تصنيفي.. هل أنا شيوعي أم ليبرالي؟»
vv هل رغبتك في تمكين العقل النقدي مكانه الذي يستحقه في فضاء ينعم فيه الفكر الخرافي بالرفاهية يجعل منها مهمة مستحيلة؟
هي مهمة صعبة وليست مستحيلة. الفكر الخرافي يمرح في مناطق بعينها هي التي تحتاج لتسليط ضوء العقل النقدي عليها. في مناطق أخرى يسيطر الفكر البراغماتي – فكر رجال الأعمال مثلا في مجال البيزينس – وهذا أيضا يحتاج للنقد. في مناطق «الاقتصاد» مثلا يسيطر الفكر الليبرالي بحكم الضغوط الكوكبية، لكنها ليبرالية مقيدة بحدود «آليات السوق»، أي أنها ليبرالية براغماتية. في الفكر السياسي هناك «ديمقراطية» بلا حريات. كل هذه الصيغ المشوهة من الخرافة والبراغماتية والشكلانية يمارسها مفكرون ومثقفون.
ثقافة التكفير
vv هل يمكن أن نتحدث اليوم عن عالم عبد الصبور شاهين، واستفحال ظاهرة التكفير؟ كيف يمكن محاربة «حراس النوايا» حسب رأيك مادام الفكر المستنير والتقدمي هو الآخر متّهم ويعيش في مأزق بعد تعرّضه للاختراق من قبل المرتزقة؟ وهل هذا ما دفعك لنطق الشهادتين في أوّل محاضرة تلقيها في الغرب؟ماذا لو حدّثتنا قليلا في هذا الشأن؟
تنامي ظاهرة «التكفير» واستفحالها يعني، وهذه مفارقة ساخرة، أنها تفقد خطورتها. تنامي ظاهرة مصادرة الكتب واللوحات والأغاني وإغلاق الصحف والمجلات نكتة غير مضحكة في عصر الإنترنت والسماوات المفتوحة. كل هذا يعني أن الظاهرة تتفكك، وهذا ما يفسر حالة «الهياج» و«السعار» في دوائر من تسميهم «المرتزقة» والذين لا يكفون عن الصراخ في فضائيات الارتزاق. لكن يجب أيضا أن أنبه إلى الظاهرة المقابلة، ولا أقول النقيضة، وهي صراخ «المرتزقة» الحداثيين – أو بالأحرى مدعي الحداثة في نفس الفضائيات.
مسألة نطقي الشهادتين في أول محاضرة ألقيتها بعد رحيلي من مصر عام 1995 كان المقصود منها توصيل رسالة إلى الجمهور الغربي بأنني لست ضد الإسلام كما قد يتوهم البعض. قلت: إذا كنتم تحسنون استقبالي وتحتفلون بي ظنا منكم أنني أنقد الإسلام من منظور المرتد فقد أخطأتم العنوان، ثم نطقت الشهادة. كنت أخشى من الاستقبال الخاطئ نتيجة الحكم الجائر الذي صدر ضدي أنا وزوجتي، ذلك أن كثيرا من الذين اضطرتهم ظروف شبيهة للهجرة للغرب استثمروا هذه الظروف أسوأ استثمار بأن تحولوا كارهين – وليسوا ناقدين- لثقافتهم. لهذا رفضت اللجوء السياسي، وأفخر أنني ما أزال أحمل جنسيتي المصرية وحدها. أؤكد ليس هذا تقليلا من شأن من تضطرهم ظروفهم ازدواج الجنسية، لكن حرصي منشؤه تأكيد حقيقة أنني باحث ومن شأن الباحث أن يكون ناقدا للثقافة التي ينتمي إليها. الانتماء لا يعني عدم النقد.
vv نتذكّر الآن قضيّة التكفير التي شكّلت نقطة مفصليّة في حياتك. فقد تجاوزت قضية نصر حامد أبو زيد أسوار الجامعة ومسألة الحرمان من درجة الأستاذية من جامعة القاهرة لتشكل قضية رأي عام في ما أشبه بثورة إعلامية أعقبت قرار اللجنة العلمية في تاريخ 18/03/1993 الذي تضمن عبارات التكفير. حادثتك هذه تذكرنا بالمفكر طه حسين بحكم كونكما حالتين معروفتين ممّن طالتهم القوى المتشدّدة الرافضة للمبدأ العقلاني. إلاّ أنّ الأوّل تمّ التحقيق معه وبرّأته النيابة، والثاني وصل به الأمر إلى التكفير والتّفريق بينه وبين زوجته. ما بين الأستاذ والطالب في جامعة واحدة يفصل بينهما عقود من الزمن: ما الذي اختلف بين جامعة «طه حسين» وجامعة «عبد الصبور شاهين» على حدّ قولك أدّى إلى اختلاف النتائج على تشابهها؟
الاختلاف بين الجامعتين هو الاختلاف في الواقع المصري بين ثلاثينات القرن الماضي وتسعيناته. أولا: الاختلاف بين الليبرالية (المقيدة) في الثلاثينات وبين الديكتاتورية (المطلقة) في التسعينات. ثانيا: الاختلاف بين جامعة مستقلة (نسبيا) في الثلاثينات وبين جامعة خاضعة خضوعا كلّيا للسلطة السياسية انطلاقا من الثمانينات. خلال الفترتين حدثت محاولات حثيثة من جانب النظام السياسي للسيطرة على الجامعة أمنيا وفكريا. قامت حركة «الضباط الأحرار» – ويا للمفارقة – بحركة تطهيرية للمجتمع طالت الجامعة عام 1954، حيث تم فصل عدد كبير من الأساتذة ينتمون لكل فصائل الفكر السياسي بدعوى «الفساد». ولم يكن للفساد معنى سوى نقد توجه النظام الجديد لإلغاء الديمقراطية المتمثلة في تعدد الأحزاب. كانت هذه الخطوة بداية الهيمنة الفكرية على الجامعة سياسيا. تم في السبعينات إحكام الاستيلاء على الجامعة أمنيا لمنع أي نشاط سياسي غير مرغوب فيه داخلها.
بعد اغتيال الرئيس السادات وتنامي ظاهرة الإرهاب التي أدت إلى تغلغل الفكر الديني التقليدي بتأييد النظام السياسي والمؤسسة الدينية الرسمية اجتاحت هذه الموجة الجامعة كما اجتاحت المجتمع. هكذا حدث التحول من جامعة «طه حسين» إلى جامعة «عبد الصبور شاهين». إذا كان طه حسين تم اتهامه من قوى خارج الجامعة فإن الجامعة دافعت عنه، وبرأه النظام القانوني الليبرالي (المقيد). في الحالة الثانية صدر الاتهام من داخل الجامعة، التي تبنت إدارتها تقرير «شاهين» للحرمان من الترقية. وداخل أروقة الجامعة تم التخطيط للإجراءات القانونية لرفع دعوى التفريق. هذا كله موثّق في كتابيّ «التفكير في زمن التكفير» والقول المفيد في قصة أبو زيد.
المثقف والسلطة
vv كتابك الخطاب والتأويل. كنت قد تناولت فيه إشكاليّة علاقة المثقّف بالسلطة، واختلاف مفهوم الحقيقة عند الاثنين. في سؤال المثقّف يقول ادوارد سعيد ان المثقف فرد منح قدرة على تمثيل رسالة، أو موقف أو فلسفة ما، لأنها تنبع من إحساسه بمسؤوليّة التصدّي للأفكار التقليدية والعقائدية الجامدة لا أن يدعمها أو ينتجها. عودةً إلى مسألة المثقّف والسّلطة، أين يكمن التباس العلاقة بين المثقّف ورجل السّلطة؟
يكمن الالتباس في هذا الاعتقاد الدوغمائي عند الفصيل الأكبر من المثقفين باستحالة التغيير دون مساندة السلطة. أقول اعتقاد «دوغمائي» لأنه نتيجة تراكم تراث طويل ممتد من تقسيم الناس إلى «خاصة» و«عامة»، حيث لا يسمح بتداول المعرفة «الحقة» إلا بين «الخاصة»، بينما يترك العامة لعقائدهم وتصوراتهم المريحة. يكفي للتدليل على هذه الحقيقة التاريخية ما كان يدور داخل قصور «الموحدين» في الأندلس من نقاش فلسفي حول حدوث العالم وقدمه، بينما لا يسمح خارج أسوار القصر إلا باتباع العقائد القائمة على أساس الفهم الحرفي للنصوص الدينية. في هذا التصنيف التمييزي بين البشر يتفق كل من «أبو حامد الغزالي» و«ابن رشد» رغم البون الشاسع في مواقفهم اللاهوتية والفلسفية. بل إن كثيرا من المثقفين المعاصرين يؤمنون أن ثمة قضايا ومسائل لا يجب أن تناقش إلا داخل الأكاديميات حفاظا على عدم المساس بعقائد العامة، وهذا هو نفس المنطق القديم. مفهوم «الخاصة» في الفكر المعاصر يشمل المفكرين والمبدعين ورجال السياسية، وفي عصر الليبرالية الاقتصادية يشمل «رجال الأعمال». كل هذه في جوهرها قيود تنتمي إلى عصور مضت، لكنها لا تزال سائدة للأسف الشديد في عصر انتشار التعليم والثورة التكنولوجية في مجال الاتصال: عصر السماوات المفتوحة والإنترنت. والأهم من ذلك عصر «ديمقراطية المعرفة».
يجب على المثقف أن يحتفظ لنفسه بمسافة خارج مفاهيم السلطة، حتى لو كان النظام السياسي يتبنى بعض المفاهيم التي يتبناها المثقف. هذه المسافة تسمح للمثقف بالاستقلال الفكري الذي يحميه من أن يقوم بتبرير القرارات السياسية أو الدفاع عنها. الاستقلال عن السلطة لا يعني معاداتها بل يهدف إلى ترشيدها، فالسياسة هي فن تحقيق الممكن، والفكر سعي لاكتشاف المجهول وفتح آفاق الممكن.
vv إذا كان المثقف الحقيقي صاحب خطاب مفتوح غير دوغمائيّ، ومستنير وتقدّمي وما الى ذلك، لماذا يعاني المثقف العربي اليوم/ على عكس المثقف الغربيّ إذا من العجز على إحلال التغيير وعالق في مستوى النخبوية فقط؟
المثقف الغربي متحرر من القيود الكلاسيكية التي تصنف الناس إلى خاصة وعامة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى إن واقع المجتمعات الغربية – التي تأسست فيها الديمقراطية على أساس حرية الفرد – يسمح بتداول الأفكار ليس فقط خارج إطار سيطرة السلطة – أي سلطة اجتماعية أو سياسية أو دينية – بل ضد هذه السلطة تحديدا. منطقة «المحرم» و«اللا مفكر فيه» تتسع في ثقافتنا بينما تضيق إلى أقصى حد في الثقافات الغربية. من أقدس المقدسات في هذه المجتمعات حق حرية الرأي وحق حرية التعبير. ولهذا لا تفهم شعوبنا – وبعض مثقفينا للأسف الشديد مرة أخرى – عدم قدرة الحكومات في هذه المجتمعات الغربية على كبح جماح الأصوات المتطرفة ضد الإسلام هنا وهناك.
منتج ثقافـي
vv انعتقت من دائرة «المحرّم» هذه عندما دافعت لا شكّ عن حقّك في ممارسة الاجتهاد المشروع في الدّين. لكنّ مشكلتك تنبع في الأساس من كونك تعاملت مع القرآن كنصّ وكمنتج ثقافيّ وولجت إلى عوالم تحليل الخطاب الديني منطلقًا من مفاهيم فلسفيّة غربيّة. ألا ترى أن مجرّد تعاملك مع النصوص الدينية من منطلق نظريّ غربيّ في فترة يحكمها احتقان سياسي وديني وحالة انغلاق على الذات كان لها نصيب كبير في الأزمة التي حصلت معك بغض النّظر عن القوى المنتفعة من وراء افتعال هذه الأزمة؟
هذا المنطق هو بالضبط ما يجب الحذر منه، بل وتفكيكه: منطق التعامل مع النص الديني فقط من داخل المنظومة المعرفية الكلاسيكية، واتهام المناهج الحديثة بأنها تنطلق من «مفاهيم فلسفية غربية». يعتمد هذا المنطق على حجة براغماتية هي «حالة الاحتقان السياسي والانغلاق على الذات»، التي يجب وفقا لهذه المنطق أن تمثل محظورا لا يسمح لنا باختراقه. والحقيقة أن هذه المحظورات بالذات يجب أن تكون دافعا لمحاولة الاختراق وإلا يفقد الفكر دوره الريادي في إحداث التغيير الفكري المطلوب لتطور المجتمعات. التسليم بمنطق الحذر والحظر يعني أن يؤبِّد الفكر حالة التخلف والانغلاق بدل أن يواجهها نقديا. من جهة أخرى، هذا المنطق يبطن مفهوم «نحن وَهُم» و«ثقافتنا وثقافتهم» «مناهجنا ومناهجهم» الخ، وهو منطق مغاير تمام المغايرة لسيرورة الفكر الإسلامي في تطوره التاريخي، هذا التطور الذي كان مستحيلا حدوثه لو لم ينفتح المفكرون المسلمون على ثقافات العالم في كل مجالات المعرفة. إذا كانت المعارف اللغوية ونظريات تحليل النصوص وتأويلها قد تطورت في «الغرب» فمن العار أن نتصور أن نصوصنا الدينية لا تقبل أو تتأبى على التعاطي مع هذه التطورات، بدعوى أنها قد تفقد قداستها. والحال أن هذا التأثر بثقافات العالم حدث في تاريخ التفسير والتأويل، ولم تفقد النصوص شيئا من ذلك، لسبب بسيط وبديهي أن القداسة صفة يمنحها المجتمع المؤمن لنصوصه الدينية. طبعا يمكن الاعتراض بالقول إن إيمان المجتمع يحتاج إلى حماية من التفكك، وهذا اعتراض يفترض إيمانا مريضا وليس الحل في «الحماية» وإنما في تطوير مستوى الوعي.
vv ولكن ألا ترى أن كلمات ومفاهيم مثل المجاز والتأويل وتحليل النص الديني بعيدًا عن ثوابته أي الاجتهاد الذاتي في التفسير هو عمليّة لا توصل إلى ما هو قطعيّ، أو إلى إجابات شافية وترك الإنسان أمام مجالات الشكّ والظنّ في مجال كمجال الدين (يحتاج فيه إلى رواسخ وإجابات قاطعة بعيدة عن الظنّ والاحتمال)؟ أي أنها مفاهيم تفتح باب التأويل والظن والشكّ في ثقة النصوص الراسخة في ذهنية الإنسان أو المواطن البسيط؟ تماما كمسألة المجاز الذي يتناول الشيء على خلاف حقيقته؟
الثابت والقطعي والراسخ في مجال المعنى الديني هو الاستثناء لا القاعدة، وأي دراسة لتاريخ الفقه أو لتاريخ علم العقائد أو لتاريخ الفلسفة، فضلا عن التصوف تؤكد هذا. خذ أوضح المفاهيم الدينية – التوحيد، أن الله واحد لا شريك له – وحلل النقاش الذي دار وما زال يدور حول ماهية التوحيد: هل كثرة الأسماء والصفات في القرآن تؤدي إلى كثرة في الذات الإلهية؟ وهل الصفات تتمتع بنفس صفات الذات الإلهية. ومن داخل هذه الإشكالية – التي لا يصح التقليل من أهميتها بدعوى وقف التفكير لأنه يؤدي إلى الشك والكفر – تتفرع إشكاليات «القضاء والقدر» «الفعل الإنساني والمسؤولية الإنسانية»… الخ وهي إشكاليات يطرح القرآن إجابات مختلفة لها إلى حد التناقض. سيادة العقائد الأشعرية – التي منحت لأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية صفة «عقائد أهل السنة والجماعة» – لا يعني أن يهمل المفكر التعامل مع العقائد التي تم تصنيفها في خانة «البدع». إذا ظل الفكر الديني واقفا، أو سائرا ونظره إلى الخلف، فهذا هو «الجمود» الذي يتم تدليله بمنحه اسم «الثوابت».
vv إذا كان النصّ القرآني منتجا ثقافيّا- مثله مثل النصوص الدينيّة في الديانات الأخرى- أنتجه واقع بشريّ تاريخي تمامًا كما في تحليلك لظاهرة الوحي على أنه ليس تنزيلاً سماويًا بل اعتقاد القدماء بوجود إمكانية الاتصال بين البشر والجن، هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني، فكيف نفسّر مسألة المعجزات التي أوتي بها الأنبياء كما تظهر في النصّ القرآني من منطلق «الإنتاج الثقافيّ» للواقع؟
القرآن نص سردي بامتياز – وهذه قضية لم تنل حقها بعد من الشرح والتحليل والتفصيل – يحكي قصصا كان المعاصرون يعرفونها، وهو يخاطب معاصريه على قدر تصوراتهم التي تتمثل العالم عجائبيا وغرائبيا، مليئا بالملائكة والجن والقوى المسخرة إما لمساعدة الإنسان أو لتعويقه. هذا عالم القرآن المليء بحكايات وقصص المعجزات التي كانت جزءا من الواقع الثقافي. وحين نتحدث عن الواقع الثقافي يكون الحديث عن المفاهيم والتصورات القارة في وعي ومخيال الجماعات التي توجه لها القرآن في القرن السابع. عن هذا يقول الشيخ محمد عبده إن هذا القصص بما يتضمنه من معجزات وأفعال خارقة لا يقصد به التأريخ، وإنما يقصد به التنبيه والاعتبار, إنها في نظر عبده «تمثيلات» تخييلية. بل إن عبده يذهب إلى تبني رأي بعض المعتزلة في مسألة نزول الملائكة للحرب إلى جانب المسلمين في «بدر»، بأن هذا لم يحدث حرفيا، فالمؤرخون حددوا على وجه التقريب عدد القتلى من الجانبين ومن قتل من.. الخ. القرآن ينص على أن الوعد بتنزيل الملائكة للقتال مع المؤمنين – هكذا يؤكد عبده متابعا بعض المعتزلة – كان لمجرد البشارة وتقوية العزيمة «وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به».
إذا كان القرآن يحكي قصص الأولين أو أساطيرهم – أسطورة تعني قصة أو حكاية من التاريخ القديم – المليئة بالمعجزات، فإن نبي الإسلام لم يقترف معجزة بهذه المعنى، لذلك حرص المسلمون على إثبات كون المعجزة المحمدية هي القرآن نفسه، أي أنها معجزة غير مفارقة للخطاب النبوي، معجزة في اللغة وليس في كسر قوانين الطبيعة.
vv ان كنا سننظر الى النّص القرآني على أنه جزء من واقع ثقافي، ألا ترى أن هذا يضعنا في مأزق حيال مسألة الإعجاز؟ بمعنى، كيف سنفسّر مثلاً مسألة الإعجاز البيانيّ في ظلّ غياب الوحي بصفته تنزيلاً سماويًا، وإعجازه في الإخبار عن غيوب الماضي والحاضر والمستقبل؟ بمعنى أن نزع «الأسطورة» عن النصّ المهيمن، قد ينزع سلطة النّص ويتجاوزها إلى نزع السلطة الألوهيّة ومنحها للإنسان الذي أنتج هذا النصّ- أي يقودنا حتمًا إلى مسألة التشكيك والإلحاد؟
كل هذه نتائج محتملة طالما أن الإيمان ينبني على التصورات الكلاسيكية، وتلك هي المشكلة الحقيقية. هل القرآن كتاب لقراءة الماضي والحاضر والمستقبل؟ قراءة الماضي من منظور تاريخ الخلاص، أي تاريخ الرسل والملوك والأمم الغابرة بهدف العظة والعبرة، نعم. أما قراءة الماضي بالمعنى العلمي للتاريخ فلا. قراءة المستقبل، أي مستقبل! وفي كثير من العبارات على ألسنة الرسل، وعلى لسان محمد أنه لا يعلم الغيب إلا الله. المستقبل جزء من هذا الغيب «إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت». ومع ذلك فالخطاب الديني هو الذي يضطرب بسبب تطور المعرفة العلمية وإمكانية توقع هطول الأمطار وإمكانية معرفة نوع الجنين في الرحم.. الخ.
يبقى أمر الإعجاز البياني وتطور نظرية الإعجاز البياني يكشف عن أصولها فيما يسمى «آيات التحدي» في القرآن، وهي نسق من الخطاب السجالي بين العرب ومحمد حللته تحليلا مستفيضا في أماكن كثيرة من كتاباتي. وقد بدأت نظرية الإعجاز بالقول بالصرفة، أي أن الله تدخل فصرف العرب – أي أعجزهم – عن الإتيان بمثله. ولولا هذا التدخل لأتى العرب بمثل القرآن أو بأحسن منه بيانيا. هذا قول المعتزلي «إبراهيم بن سيار النظام» أستاذ «الجاحظ»، وهو قول معناه أن المعجزة ليست في القرآن ذاته بل في «تعجيز» العرب بالتدخل الإلهي. تم رفض هذا التفسير وتطورت محاولات إثبات الإعجاز حتى بلغت نضجها في نظرية «النظم» عند عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري. وجوهر هذه النظرية أن القرآن نص لغوي أدبي ممتاز، ومصدر امتيازه أنه نص استثمر قوانين اللغة – النظم – في أقصى وأعلى مستوياتها. لكن تظل هذه القوانين في الأساس هي قوانين الكلام البليغ. من هنا دفاع الشيخ عبد القاهر عن «علم الشعر» و«علوم اللغة» لدرجة أنه اعتبر أن من يهونون من شأن دراسة اللغة ودراسة الشعر تحت أي شعار ديني إنما يسدون المنافذ الوحيدة التي من خلالها يثبت الإعجاز، فهم بذلك يرتكبون جرما دينيا باسم الدين.
فحوى ما يؤكده الشيخ الجليل – الذي لم يكن منغلقا عن الإفادة من المعارف التي كانت متاحة في عصره – أن القرآن نص لغوي أدبي بامتياز، وأن المنهج الناجز لمقاربته هو منهج التحليل اللغوي الأدبي في أرقى تجلياته بحسب تطور المعارف اللغوية الأدبية. كان اكتشاف عبد القاهر في العصر الحديث على يد محمد عبده له الأثر الأكبر في التواصل مع التراث اللغوي والبلاغي وتطويره على يد أمين الخولي رائد منهج التحليل الأدبي للقرآن. أن يُحارب هذا المنهج بهذه الضراوة يكشف عن جرثومة الخلل في الفكر الإسلامي لا في علاقته بالعالم وتطور المعرفة فحسب، بل في علاقته بتراثه الحيوي القابل للانفتاح وتمسكه بالتراث المغلق الذي كان مسجونا في أفق وعيه الزمني.
السلطة والمشروعية
vv إلى أيّ حدّ تشكّل مشروعية السلطة في العقليّة الإسلاميّة عمومًا سببًا في الأزمة الّتي تعاني منها مكانة الإسلام اليوم في الغرب؟
يجب أن تستمد السلطة – أي سلطة – مشروعيتها من الحاضر الحي وليس من الماضي الميت. أقصد بالحاضر الحي الحاضر المتواصل مع الماضي تواصلا ديناميكيا نقديا خلاقا. الحاضر الذي يعيد إنتاج الماضي بالترديد والتكرار يفسح المجال لقيام سلطات تستمد مشروعيتها من هذا الماضي. انظر حولك في إيديولوجيا السلطات السياسية المتمثلة في الألقاب والأسماء التي يحملها الحكام، بل وأسماء بعض الدول. هذا فضلا عن الدساتير – إن وجدت – التي تصر على احتكار السلطة للمعنى الديني حين تقرر أن للدولة – في مجتمعات حديثة متعددة الأديان بل ومتعددة الانتماءات المذهبية داخل نفس الدين – دينا. تتضمن معظم هذه الدساتير مادة: «الإسلام دين الدولة الرسمي، والشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي – أحيانا أحد مصادر – التشريع».
الدولة ذات الدين تحتاج لسلطة دينية تحدد معنى هذا الدين، وتحتاج لسلطة سياسية تحمي هذا الدين. وتستقطب هذه السلطات – بالجزرة أو بالعصا – فصائل من المثقفين والمفكرين الذين لا يملون التصدي للدفاع عن «ثوابت» – دينية ووطنية وقومية وثقافية في الأعراف والتقاليد الأخلاقية والعائلية- ضد التغيير والتطور. باختصار يصبح الدفاع عن هذه الثوابت/الأقانيم دفاعا عن كل الأوضاع الراهنة والسماح ببعض مظاهر التجميل الخارجية في المباني والشوارع.
كل هذا التجمد يؤثر بشكل أو بآخر علي ذهنية المسلمين الذين يعيشون في الغرب، والذين تتزايد عند أغلبهم سيكولوجية الخوف من فقدان الهوية التي انحسرت أخيرا في الهوية الدينية نتيجة الأسباب المذكورة. يضاف إلى ذلك التحول الذي أحدثته مأساة الحادي عشر من سبتمبر، وما تبعها من تفجيرات في مدريد ولندن بالإضافة إلى مقتل المخرج الهولندي فان جوخ على يد شاب من أصول مغربية، في تدشين العلاقة بين الإرهاب والإسلام، الأمر الذي خلق حالة الإسلاموفوبيا في الغرب. وهكذا أصبحت العلاقة بين المسلمين في الغرب وبين مواطنيهم علاقة توتر وتوجس وشك متبادل.
زاد من تعقد الأمر مسألة «حرية التفكير والتعبير» التي لا تُساوم في الوعي الغربي، والتي أدت إلى ازدياد الاحتقان المعادي للغرب في العالم الإسلامي (الكارتون الدانمركي وتصريحات البابا وأفلام اليميني الهولندي فيلدرز، ومنع بناء المآذن في سويسرا). المسألة ليست بالضبط مكانة الإسلام في الغرب، فثم دعوات الآن هنا وهناك للسماح للمسلمين بالاحتكام إلى الشريعة في شؤون الأسرة، بل هي العلاقة بين المسلمين وبين مواطنيهم في بلاد الغرب. المشكلة التي يطلق عليها الساسة ورجال القانون اسم «مشكلة الاندماج» ويتناولها المفكرون والمثقفون من مداخل مختلفة مثل «التعدد الثقافي» «النسبية الثقافية» مفهوم «المواطنة» في الدولة الحديثة المتعددة الأعراق والثقافات والأديان… الخ.
vv لو ناقشنا قضيّة التنوير العربي الإسلامي اليوم سنجدها بين قطبين متضادين للإسلام: قطب ولّد الجانب الظّلامي الذي تنقاد وراءه القاعدة الشعبيّة العظمى، وقطب التيار العقلانيّ الذي سطع أساسًا في العصر الذهبي للحضارة الإسلاميّة مع المعتزلة والفلاسفة الإسلاميين الّذين شكّلوا رمزًا للفكر الدّيني الإسلاميّ التنويريّ. هل مشكلة الإسلام تنبع أساسًا من هذه المعركة الدائمة بين هذين القطبين، أي أنها ليست مشكلة مع «الآخر» بقدر ما هي مشكلة مع الذّات وصراعاتها الدّاخليّة ولّدت بحالة الطّبيعة انفجارًا نحو الخارج؟
لا يمكن الفصل بين «الداخل» و«الخارج» في مناقشة القضايا التاريخية الجوهرية، كما لا يمكن ولا يجب وضع الأمور في شكل ثنائية حادة مثل ثنائية «الظلامي» و«التنويري». الأمور أكثر تعقيدا من هذه التبسيطات. ففي تاريخ الثقافة الإسلامية لم تكن إشكالية العقل والنقل تنبني على أساس إما هذا وإما ذاك، بل كان السؤال هو سؤال تحديد العلاقة بين العقل والوحي. لم ينكر أحد من أنصار «النقل» أهمية العقل، إذ بدون حكم العقل لا يثبت صدق الوحي، من هنا تحدد دور العقل عندهم – بعد إثبات صدق الوحي- في استنباط الأحكام والتشريعات من الوحي. أنصار «النقل» يؤكدون أن الوحي لم يترك صغيرة ولا كبيرة في شؤون الحياة – في الحاضر والمستقبل- إلا أحصاها وبينها بشكل مباشر وصريح، أو دل على طريق بيانها بنصب الدلائل المفضية إلى استنباطها. دور العقل هنا هو إثبات الوحي أولا، ثم تنحصر مهمته بعد ذلك في البحث عن الحلول فيه. يمكن القول إن هذا موقف الفقهاء وعلماء أصول الفقه بصفة عامة مع وجود بعض الفروق التفصيلية في هذا المذهب أو ذاك وبين هذا الفقيه أو ذاك. إنها باختصار الرؤية التشريعية للإسلام حيث «الواجب والمحرم والمندوب والمكروه» هي الجهات الأربع التي تحيط بالمباح في عالم الإنسان «المُكَلَّف» الذي يتحدد مصيره الأخروي في مدى الطاعة – أو العصيان – داخل هذه الحدود.
أنصار العقل من جهة أخرى لا ينكرون مرجعية الوحي، بل ينكرون شمولية الوحي في تقديم حلول لكل النوازل في الحاضر والمستقبل. هناك الكثير من الأمور المتروكة لمرجعية العقل ومنها أو وعلى رأسها تأويل «الوحي» طبقا لمرجعية العقل، وذلك في حالة وجود تعارض «ظاهري» – هكذا يؤكدون جميعا أن أي تعارض هو تعارض ظاهري – بين العقل ومعنى الوحي. العقل قادر وحده – يؤكد أنصار العقل – على الوصول للمعارف الكلية الأساسية فيما يتصل ببنية الكون (الفيزيقا) وما وراء الكون (الميتافيزيقا). العقل قادر وحده كذلك على معرفة الخير والشر والحسن والقبح في الأفعال والسلوك الإنساني، فالعقل في النهاية هو شارة الإنسانية تمييزا للإنسان عن الحيوان. لكن هذا العقل يحتاج للوحي ليساعده في معرفة التفاصيل الكمية والكيفية التي من خلالها يمكن للإنسان أداء ما وصل إليه العقل من «تكليف» بوجوب شكر المنعم الواهب للعقل وللوحي معا.
بين الموقفين موقف ثالث هو موقف الصوفية – أهل الله – حيث العقل على أهميته وحيويته ليس كافيا، وحيث الشريعة وسيلة وليست غاية. للعقل حد يقف عنده، فالعقل لا يُمَكِّن الإنسانَ من معانقة الحقيقة، وإن كان يعرِّفه بها تعريفا تجريديا. بالعقل يعرف الإنسان ما يجب وما لا يجب أن ينسب إلى الله من صفات وأسماء، ولكنه لا يقرِّب الإنسان من الله، الذي هو بنص القرآن «أقرب إليه من حبل الوريد». الشريعة من جهة أخرى مجرد طريق – وهذا هو المعنى اللغوي الأصلي لكلمة شريعة – يجب أن يكون له غاية يفضي إليها. الشريعة إذا لم تؤد إلى غايتها – وهي الحقيقة المُعايَنة المُشاهَدَة – تصبح ممارسات شكلية لا جدوى منها مثلها مثل المعرفة التجريدية التي يؤدي إليها العقل. هكذا أسس الفكر الصوفي مفهوم «التجربة الروحية» لا كبديل للعقل والشريعة بل كطريق لتعميقهما وتجاوز التعصب لأحدهما على حساب الآخر.
هذه المواقف الثلاثة لم تتحدد في سياق التاريخ الثقافي الإسلامي بمعزل عن التواصل مع العالم الخارجي. العرب المسلمون الذين حملوا الإسلام خارج الجزيرة العربية ليقيموا إمبراطوريتهم حملوه كشتلة – فسيلة – قابلة للنمو والنماء، فنمت في سياقات ثقافية وحضارية متباينة، وارتوت من عصير تلك الثقافات والحضارات، فنشأ علم الكلام تاليا للفقه أو موازيا له، وتطور علم الكلام إلى الفلسفة بدءا من الكندي وانقسمت إلى مدارس واتجاهات إشراقية ومشائية. ونشأ التصوف من الزهد وتطور إلى نظرية «الحب» عند رابعة العدوية، ثم العرفان عند «ذي النون المصري» حتى وصل إلى البناء الفلسفي الشامخ عند «ابن عربي». هذا فضلا عن نشأة علم التاريخ والجغرافيا والرياضيات والطب، وتطور الشعر وانبثاق أشكال جديدة للقصيدة، وتطور فن العمارة، وازدهار الغناء والموسيقى، وكل ذلك لم يكن يمكن أن يتحقق لو بقي العرب والإسلام داخل حدود الجزيرة العربية، ولو لم تساهم كل تلك الشعوب بتراثها وثقافتها وحضارتها في تخصيب شتلة الإسلام التي حملها العرب.
المشكلة الآن أن العالم الإسلامي بعد أن استيقظ من فترة سبات طالت على وقع أقدام الغرب المتطور المتقدم تطأ أرضه غازية مستعمرة وقع في تناقض لم يخرج منه حتى الآن: لا تقدم إلا بالتعلم من نفس هذا العدو الذي يجب أن أحاربه. هذه قصة طويلة يمكن اختصارها في الحلول التي اقترحت وما تزال مطروحة مع تفاوت قوة الأصوات المعبرة عن كل منها الآن: الصوت الأول الذي كان له الحضور في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين هو صوت «الإصلاح»: التعلم من الغرب بالقدر الكافي الذي يؤهل العقول لتجديد الفكر الإسلامي وبعث الحيوية التي كانت فيه في عصور الازدهار والقوة. الصوت الثاني الأضعف آنذاك كان صوت أصحاب وجوب اتباع خطى الغرب حذو النعل بالنعل، هذه هو سبيل التقدم ولا سبيل سواه. لكن هذا الصوت الأضعف لم يكن – كما يشاع الآن – معاديا للدين، بل كان يحب أن يراه أمرا شخصيا بين الفرد وربه. وفي حين ركز الصوت الأول – صوت الإصلاح – على الهوية الإسلامية باعتبارها الهوية الحضارية لكل شعوب المنطقة مسلمهم وغير مسلمهم، ركز الصوت الثاني على هوية «المواطنة» بعيدا عن الدين. كان السجال بين الصوتين سلميا في مناخ شبه ليبرالي حتى كان إلغاء الخلافة وإعلان تركيا جمهورية علمانية. كان ذلك بداية الاحتقان في سؤال الهوية: فشلت محاولات إقامة خلافة جديدة، بسبب ادعاء كل حاكم أنه الأولى بالمنصب الشاغر. وحوكم «علي عبد الرازق» محاكمة دينية على كتابه «الإسلام وأصول الحكم» في مصر التي كانت ما تزال شبه ليبرالية. كشفت هذه المحاكمة وما قبلها وما بعدها عن بنية هشة لدولة ونظام سياسي يسير بساق ليبرالية وبأخرى ثيوقراطية.
والحال الآن أوضح في بيان هذه البنية العجيبة التي وصلت إلى أن تصبح «الشريعة» أو الرؤية التشريعية للإسلام هي الممثل الوحيد للإسلام بديلا عن الرؤى المتعددة التي كانت بدورها تمنح الرؤية التشريعية في الماضي خصوبة تفتقدها الآن. في غياب الرؤى الأخرى فقدت الرؤية التشريعية ديناميتها وصارت نداءات فجة وعقيمة لتغطية المرأة وإخراجها من حيز الفضاء الاجتماعي. وأخيرا تحولت إلى سلاح لمطاردة المفكرين والمثقفين والمبدعين ومحاكمة أي خروج على ثوابت وضعية وضعها بشر ليسوا هم الأذكى ولا الأعلم ولا الأحكم، بل هم حلفاء كل السلطات العسكرية العشائرية المشيخية الديكتاتورية التي تستريح لوهم أنها تمثل الإسلام وتدافع عنه. المشكلة هي في الأساس هنا في الداخل وليست هناك في الخارج، مع تأكيد أن الفصل بين الهنا والهناك، بين الداخل والخارج، في هذا العصر نوع من الهذيان.
vv أستاذ نصر، تناولت في كتابك الاتجاه العقلي في التفسير، قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة المفاهيم اللغوية من أمثال المجاز والتشبيه والتأويل في الفكر الاعتزالي بحكمه فكرًا يتبنّى العقل كأعدل الأشياء قسمة بين البشر، حيث حاول هذا الفكر تقديم المعقول على المنقول في عمليّة التفسير والإدراك الديني، لكنّه لم ينجح في تثبيت قاعدة ثابتة ومستديمة داخل الفكر الإسلامي. ما هي أسباب تقويض/تحديد/ قصور هذا المشروع العقلانيّ؟
القاعدة التي وضعها المعتزلة للتأويل المجازي لكل ما يتناقض مع العقل في منطوق القرآن ما تزال قاعدة راسخة أفاد منها الفكر الإسلامي على طول تاريخه. الأشاعرة يؤولون كل آيات الصفات، ويختلفون مع المعتزلة في تأويل ما يتصل بخلق الأفعال وحرية الإنسان. المتشددون الحنابلة وحدهم هم من يرفضون التأويل المجازي، بدعوى أن المجاز قرين الكذب والقرآن منزه عنه. إن إنكار وجود المجاز في القرآن يخل خللا بالغا بقضية الإعجاز. إذا الأساس العقلي للتأويل المجازي – الذي وضعه المعتزلة – بدأ مسيرة في تاريخ التفسير لم ولن تتوقف. سيظل الخلاف قائما حول التطبيق وليس حول القاعدة.
في العصر الحديث مع محمد عبده، ثم أمين الخولي، إلى سيد قطب، تطور مفهوم «المجاز» إلى مفهوم «التصوير» ولسيد قطب كتابات عن «التصوير الفني» و«مشاعد القيامة» في القرآن. السؤال عن تقويض أو تحديد المشروع العقلاني واستبعاده من أفق الخطاب الديني الراهن هو السؤال الجدير بالفحص.
العقلانية ضد الاستبداد وضد الشمولية، ناهيك عن عدائها للعنصرية والعصبية للدين أو المذهب أو الجنس أو العرق. وكل هذا القيم المضادة للعقلانية قيم ترسخت في الثقافة السياسية والدينية والاجتماعية وإن تجملت باتخاذ أسماء أخرى: مثل تقاليدنا الراسخة، قيمنا الدينية والأخلاقية العريقة، احترام الكبير وتوقير أولي الأمر. إنه «الثبات» ضمن المقدس، و«الثوابت» أبقارنا المقدسة. يتنفس أطفالنا هذه القيم من لحظة الميلاد، يتلقنونها في المدرسة، تُضخُّ في أسماعهم من أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية ليل نهار. وحين ينضجون ويبدأون رحلة التعليم الجامعي يجدون المحرمات والممنوعات أكثر من المباح والمسموح. إنها الدائرة الجهنمية التي تعيشها مجتمعات «التكفير» باسم حماية الدين وحماية العقائد والمقدسات والحرص على الثوابت. باختصار إنها المجتمعات التي تجرِّم التفكير لتفسح للفساد أن يمرح فيها. هذا كله يعني الحاجة الملحة لحرث التربة حرثا كاملا.
vv كان فيلسوف التنوير في أوروبا ايمانويل كانط يرى أن مفهوم الحماسة أو القاعدة الشعبيّة هي الأساس الذي يتحدد به معنى التقدّم. إلى أيّ حدّ تشكّل القاعدة الشعبيّة للدّين لدى الشعوب العربيّة جزءًا من الصراع مع «الخارج»؟ وكيف، في رأيك، يمكن لهذه القاعدة الثابتة في الأرض أن تتغيّر حتّى يتغيّر مفهوم الصّراع مع «الآخر» أو مفهوم الصراع بين الإيمان والإلحاد، إلى مفهوم التّغيير الجذريّ في العقليّة الجماعيّة التي تشكّل هويّة جمعيّة حتى تتاح فكرة التقدّم للشعوب؟
القاعدة الشعبية للدين– ما يسمى بالدين الشعبي العفوي– تم تجريفها تجريفا تاما منذ بدأ الإصلاحيون يصبون جام غضبهم على هذا التدين واصمين إياه بالوثنية. بدلا من تفهم هذا التدين الشعبي وبدلا من محاولة ترشيده شارك في هذا الاحتقار للتدين الشعبي كل المثقفين من «الخاصة». كان هذا الاحتقار والتحقير شارة أن تكون «متعلما» أو«مثقفا». هذا أدى مع انتشار نظام التعليم التلقيني إلى خلق كوادر من الشباب تتقبل دون تردد صيغة التدين السلفي المتشدد المعادي لتسامح وأريحية التدين الشعبي المُشبَّع بالروحانية والأخلاقية ومسؤولية التضامن الاجتماعي. صارت هذه الكوادر من الشباب نصف المتعلم/نصف الأمي الأرض الخصبة لدعوة الإخوان المسلمين في الثلاثينات من القرن الماضي، وهي الأرض الخصبة لا تزال لانتشار فكر التطرف.
ما هو شائع الآن هو ذلك التدين الشعبوي الخاوي الوفاض من العمق الروحي والأخلاقي الذي خبرناه في تدين أبائنا وأمهاتنا في الأربعينات والخمسينات وشطرا من الستينات في القرن الماضي.
كانط محقٌ في قوله، لكن علينا أن نتفهم معنى «القاعدة الشعبية» عند كانط بأنها القاعدة التي مستها أضواء التنوير في القرن الثامن عشر، لا القاعدة التي تخاصم العقل. كما قلت في الجواب السابق تحتاج الأرض – القاعدة- إلى حرث لكي تتعرض من جديد للشمس والهواء فتسترد خصوبتها التي جرفتها الأمراض التي سردت بعضها فيما سبق. أنا مع كانط لا تغيير حقيقيا مستداما يمكن تحقيقه من أعلى، لابد من تثوير وعي القاعدة فهي وحدها صاحبة المصلحة في التغيير وصاحبة الحق في حمايته.
الإسلام والارهاب
vv مرّ التاريخ العربي والإسلامي وفكره بتصاعدات وتنازلات فيما يتعلّق بمسألة تفاعله مع الثقافات الأخرى والإفادة منها حينًا من منطلق حوار الحضارات التفاعل مع الآخر، ورفض هذا الآخر مع النفوذ إلى سياسات الإرهاب والقمع تجاه هذا الآخر وحتّى تجاه الذات. يطرح المفكر برهان غليون في كتابه «اغتيال العقل» أسئلة نطرحها عليك مرة أخرى: من أين ينبع هذا التناقض في ثقافتنا وهل هي ثقافة تمتلك القدرة على «استيعاب» الحضارة الحديثة مثلها مثل الثقافات الأخرى اليوم؟
في الحقيقة إن هذا أمر غير مستبعد على الإطلاق، بدليل هذا التنازع والفزع من واقع استوعب كثيرا من منجزات الثقافة الغربية، خاصة في جانبها التقني العملي. أما الفزع والتنازع فهو حول «الفكر» الذي أنجز التقدم العلمي، المسؤول عن التقدم التقني الذي قلب حياة الإنسان– وما يزال – رأسا على عقب. في طفولتي كان التليفون الوحيد في مكتب عمدة القرية أعجوبة الأعاجيب. ثم شاهدت قريتي الراديو فكان أعجب، ثم التليفزيون في الستينات، ثم الفاكس – الذي كان ثورة مدهشة – ثم البريد الإلكتروني والإنترنت والفضائيات. ما أعجب الإنسان وما أروعه وما أخطره: حربان عالميتان وهولوكوست وحروب أهلية في كل مكان لأسباب عرقية ودينية، ثم أخيرا «الإرهاب» بقوته الشيطانية المدمرة ووجهه الخفي.
لبسنا قشرة الحداثة بالكامل. صارت الحياة في شكلها المادي في أي عاصمة عربية لا تختلف كثيرا عن شكل الحياة في عواصم العالم المتقدم وإن تخلفت عنها في الانضباط والدقة وربما في النظافة. لن أقول كما قال نزار قباني «والروح جاهلية» بل أكتفي بالقول والروح ماضوية. الفكر الإسلامي الراهن في أرقى تعبيراته الفلسفية لا يرى في الحضارة الغربية سوى التقدم المادي وينعى عليها كل السلبيات التي ذكرتها، معتبرا أن منشأ هذه السلبيات غياب الدين الذي هو ما تتميز به حضارتنا. هذا المنطق يسمح باستيراد التقنيات معزولة عن أساسها العلمي الذي ما كان يمكن أن يتحقق قبل ثورة الإصلاح الديني. سيقول لنا فلاسفة الفكر الإسلامي إن أوروبا احتاجت للإصلاح الديني بسبب «الكنيسة»، المرض الذي لا وجود له في حضارتنا. وهنا بالضبط يكمن الخطأ، فلدينا كنائس لا كنيسة واحدة، إذا كان معنى الكنيسة وجود سلطة أو سلطات تحتكر المعنى الديني وتكفر كل من يخالف هذا المعنى. لدينا وفرة وافرة من هذه السلطات التي تحتكر إلى جانب المعنى الديني المعنى الاجتماعي والمعنى الثقافي والمعنى السياسي بالإضافة إلى المعاني الأخلاقية والروحية، وكلها معان يتم احتواؤها داخل المعنى الديني الذي تنتجه هذا السلطات.
إنها «العلمانية»- التي تفصل بين الدولة ونظامها السياسي وبين الدين- هي وحدها التي يمكن أن تفتح آفاقا للحرية والعقلانية وتعدد المعاني. الدين شأن المتدينين، ومهمة الدولة أن تضمن حرية الجميع وتحمي البعض من البغي على البعض باسم الدين أو باسم هذا المعنى أو ذاك لدين بعينه. مشكلة الخطاب الديني التي شرحتها باختصار أنه يلعب على أوتار «الخصوصية» وكأننا بدع بين البشر ما أصلح العالم لا يصلح لنا، دون أن يدقق المخدوعون بمفهوم «الخصوصية» المطروح في الخطاب الديني ليدركوا أنها خصوصية فقيرة جدا ومغلقة، لأنها تختصر هوية الإنسان في بعد واحد من الأبعاد العديدة، وهو بعد «الدين».
vv عندما نتحدّث عن دراسة الإسلام والفكر الإسلاميّ والنصوص التراثيّة الدينيّة، نصطدم بقطبين متنافرين هما القطب الاستشراقيّ الذي يشكّل النظام البحثيّ الغربيّ، والقطب الإسلاميّ العربيّ- الذي يمثّل «الاستشراق التقليديّ» بمصطلحات محمد أركون. الأوّل يُتّهم بالعدائيّة والثاني يُتّهم بالمحدوديّة. لماذا توجد هذه القطيعة بين القطبين وهذا التنافر، وما هي المآخذ على هذين المنهجين في عمليّة تلقّي وتأويل ودراسة النصوص الفقهية الكبرى في العصر التأسيسي عمومًا وفي عمليّة فهم النّص الأول- أي القرآن؟
ما ينعاه الأستاذ أركون على الاستشراق الغربي التقليدي – حسب قراءتي له- ليس هو العدائية بقدر ما هو الموقف الوضعي الذي يتخفى وراء الحيادية ليكتفي بالوصف والتحليل تاركا وراءه «الخواء» بعد رد الأفكار إلى مصادرها الأولية هنا وهناك. الأمر الثاني الذي ينعاه أركون على الاستشراق الغربي التقليدي هو انشغاله بالتراث المكتوب دون التراث الحي، الأمر الذي يجعله يكرس مفهوم «الدين الرسمي» متجاهلا التعبيرات اللغوية والثقافية العديدة للإسلام الحي. الأمر الثالث الذي ينعاه أركون هو حرص «الاستشراق التقليدي» على عدم التورط في نقاش القضايا الحية التي تشغل المسلمين تاركا ذلك لجيل جديد من الباحثين – يسميهم أركون «المستشرقون الجدد» من المتخصصين في الأنثروبولوجيا والعلوم السياسية قليلي البضاعة المعرفية من تاريخ الإسلام وتاريخ المذاهب والأفكار بل واللغات التي كتب بها هذا الفكر الإسلامي.
أما صفات «المحدودية» و«الانغلاق» التي ينعاها أركون على الفكر الديني التقليدي في العالم الإسلامي، فإنها تنصب على هؤلاء النابتة المتصايحين هنا وهناك بصيحات سياسية تحريضية تسجن الفضاء الديني في شعارات جوهرها التخلف، لكنها تلقى تأييدا شعبويا بسبب قدرتها على الحشد والتجييش. يفسر أركون هذا النجاح بهشاشة النظم السياسية السائدة في دول العالم الإسلامي عموما، وفي فشل نظم التعليم في المدارس والجامعات والمؤسسات.
في العقود الأخيرة حدث تحول ملموس- لا يغيب عن معرفة الأستاذ أركون لأن دراساته ونقاشاته ساهمت في إحداث هذا التحول – من الاستشراق التقليدي «المحايد» إلى بزوغ علم «الإسلاميات» Islamology بديلا عن «الدراسات الشرقية» التقليدية. لا شك أيضا أن الدوي الفكري الذي أحدثه كتاب «إدوارد سعيد» عن الاستشراق منذ أكثر ثلاثين عاما كان له أثره – رغم ردة الفعل المتشنج الذي ووجه به الكتاب عند صدوره – في إحداث هذا التحول في مناهج دراسة الإسلام في الأكاديميات الغربية. يضاف إلى ذلك الوجود المتنامي لعدد كبير من الباحثين المسلمين الذين تعلموا في الغرب ويعيشون في الغرب في الأكاديميات والمؤسسات التعليمية ذات الاهتمام بالدراسات الإسلامية والقرآنية.
يتبع بقية الموضوع بموقع المجلة (الانترنت)
لعل أهم النتائج في مجال الدراسات القرآنية الاختفاء التدريجي للنظر إلى القرآن من منظور الأثر اليهودي المسيحي وبداية التعامل معه كنص مؤسس لدين وعقيدة مستقلين– مع التسليم بانتمائهما لمنظومة عقائد «التوحيد الكتابية»- مع عدم إهمال منظور النقد التاريخي الذي ازداد عمقا بمناهج الألسنية المعاصرة ذات الأبعاد المركبة من السيمانطيقا (علم الدلالة) والسميوطيقا (علم العلامات) والهرمنيوطيقا (التأويلية). ان انجاز الطبعة الثانية من «الموسوعة الإسلامية» في 12 مجلدا وإنجاز الطبعة الأولى من «الموسوعة القرآنية» في خمس مجلدات في العقد الأول من القرن الحالي بمشاركة باحثين من أقطار العالم الإسلامي كافة خير دليل على هذا التحول الإيجابي. ضم المجلس الاستشاري للموسوعة القرآنية – التي بدأ الإعداد لها منذ بدايات العقد الأخير من القرن الماضي – ثلاثة من الباحثين المتخصصين العرب: الأستاذ أركون، والأستاذة وداد القاضي وكاتب هذه السطور.
في مجال الدراسات الفقهية يكفي ذكر اسمين: «موتسكي» في هولندا و«وائل حلاق» فلسطيني في كندا. في حدود علمي أن هذا التطور في مجالات الدراسات الإسلامية لا يجد أي صدى في المؤسسات التعليمية في العالم العربي على عكس الصدى الذي تلقاه هذه التطورات في تركيا وإيران وجنوب شرق آسيا، الأمر الذي يرشح احتمال تطوير الفكر الإسلامي خارج العالم العربي. صار العرب أقلية بالنسبة لتعداد المسلمين في العالم على كل حال.
vv أصدر صاموئيل هنتنجتون عام 1996 كتابه «صدام الحضارات» المصطلح الذي شاع وأثار جدلاً كبيرًا في العالم. من أين تستمدّ فكرة صدام الحضارات شرعيّتها وإلى أيّ حدّ ينطبق هذا الزعم على ما يجري اليوم من صدام بين الحضارة الإسلاميّة والحضارة الغربيّة؟
فكرة «صراع الحضارات» معلوم أنها جزء من تقرير لصانع القرار الأمريكي الهدف منه الاستعداد لأمر محتمل. إنها نبوءة تتضافر مع نبوءة الياباني الأصل الأمريكي الجنسية فوكوياما بفكرة «نهاية التاريخ». لا التاريخ انتهى بسيادة نمط الإنتاج الرأسمالي – الكارثة الاقتصادية التي حلت بالعالم ما تزال ماثلة – ولا صارت «الديمقراطية» النظام العالمي، فقد سبب «الإرهاب» إعلاء لمفهوم «الأمن» على مفهوم «الحرية» في مجتمعات الديمقراطية. كما تنبأ فوكوياما بنهاية التاريخ تنبأ زميله بالصراع القادم الذي يجب على أمريكا أن تستعد له.
أن يستنبط أحد أن ظاهرة «الإرهاب» هي أحد تجليات صراع الحضارات فهو استنباط يحول فعل «الإرهاب» التدميري إلى تعبير حضاري. إنه الجنون وحده الذي يفضي إلى هذا النمط من الاستنباط، لأن هذا الإرهاب نشأ وترعرع وشب ونما بين أحضان هذه الحضارة التي ننتسب إليها، قبل أن تحمله رياح العولمة – شأن كل الظواهر – إلى خارج حدود الحضارة الأم. والعجيب أنه تم نسيان أن ريح العولمة حملت الإرهاب ليكون طرفا في صراع داخلي بين قطبي تلك الحضارة الأخرى التي تُسمى غربية. إذا صح هذا التحليل الوصفي إلى حد كبير فإن الحديث عن «صراع حضارات» حديث خرافات تنبئية. بعد هذا كله أريد أن أوضح أنني استخدمت العبارات التي تفترض وجود حضارات في عالمنا الراهن على سبيل التساهل من أجل التحليل. العالم يعيش الآن حضارة واحدة، متعددة الثقافات والمنابع والمصادر، وتلك هي القضية الجديرة بالتسليم بها أولا من جانب الجميع، السياسي والفكري والاجتماعي والثقافي، سعيا لبلورة صيغة عالمية جديدة للتعايش على أسس عادلة.
vv أهو في رأيك صراع حضارات أم حرب أديان؟
لا هذا ولا ذاك، إنه صراع سياسي اقتصادي من أجل السيطرة. من هنا تجب مقاومته. من هنا أيضا وجوب التمييز بين «المقاومة» سلمية كانت أم مسلحة، وبين «الإرهاب» التدميري. العالم السياسي الدولي مسجون في عدم التمييز، وقطاعات كثيرة في العالم الإسلامي مصابة بنفس عدم القدرة على التمييز ولكن من الجانب العكسي.
vv يقودنا هذا إلى طرح فكرة التعصّب. ما معنى التعصّب؟ ومن أين تولد فكرة التعصّب الدّينيّ: هل هي نتيجة الانكشاف على الثقافات الأخرى مع حفظ الشعور بالاستعلاء الذاتي ودونية الآخر، أم هي أساسا نتيجة عدم الانفتاح على الثقافات الأخرى وبالتالي تهويل الجانب العقائديّ؟
التعصب حالة ذهنية، حالة عقلية، فردية أو جماعية، تصبح فيها الذات مصدر الحقيقة ومصدر الفضائل كلها، في حين يكون الآخر هو «الشيطان» أو «الشر المطلق» لا خير إلا في إبادته. التعصب الديني يمكن أن يكون أسوأ أشكال التعصب، خاصة حين يحدث بين أبناء الدين الواحد، بين المذاهب والتأويلات المتعددة داخل العقيدة. أسبابها خارج الدين، إذ لا يجوز علميا تفسير الظاهرة بذاتها، في الشخص لأسباب سيكولوجية أو في المجتمع
لأسباب أكثر تعقيدا في بنية المجتمع وفي بنية ثقافته في سياق سوسيوتاريخي محدد.
يمكن أن تنتشر الظاهرة لتشمل حدود مجتمعات متشابهة إزاء مجتمعات أخرى متشابهة أيضا، وفي هذا الحالة يكون التعصب موجها لأفكار وسلوكيات وأنماط حياة وليس موجها ضد أشخاص. هذا هو «التعصب» المشهود الآن في كثير من بقاع الأرض وداخل كثير من المجتمعات. في سياق العولمة وتطور وسائل الاتصال وثورة المعلومات صار كل مجتمع يرى كل المجتمعات، صار الفقير معرضا لرؤية كل مظاهر الثراء، وصار المتطهر معرضا لمشاهدة كل تجليات الفساد. هذه الشفافية في عالم يعاني من الأطماع والرغبة في السيطرة والهيمنة من جانب ومن الظلم والإحساس بالفقر وانعدام العدل من جانب آخر، هذه الشفافية يمكن أن تسبب درجات من الحقد والكراهية والتعصب.
vv يعاني الفكر الإسلامي الحديث اليوم من تناقضات كثيرة. فالإسلاميون، على حد تعبير برهان غليون، لا يفرّقون بين الإسلام كجماعة ودين وبين الحركة الاسلامية كفريق سياسي يجتهد في تفسير الواجبات الدينية وتأويلها تأويلا سياسيا من جهة أخرى. إلى أي حدّ يشكّل هذا الأمر معضلة في الفكر الإسلامي- في الانتماء الى التيار الإسلامي (السياسي) على أنه انتماء للإسلام؟
هذه إحدى تجليات المشكلة وليست كل تجلياتها. لو كان الأمر مجرد انضمام لجماعة تزعم أنها «إسلامية» على سبيل الاحتكار لهان الأمر، خاصة إذا كان المجتمع خارج الجماعة واعيا بأنها مجرد جماعة. بداية حدوث ذلك كانت في مصر 1928 بل قبلها حيث وجدت «جماعة أنصار السنة المحمدية» وجماعات وتجمعات كثيرة لها أسماء أخرى، ولم تكن الدولة تتبنى زعم أي واحدة من هذه الجماعات. كانت هذه إرهاصات «المجتمع المدني» في مصر شبه الليبرالية، حيث تحمي الدولة حق الناس في التجمع وتنظيم تجمعاتهم في شكل قانوني، سواء في شكل ناد أو نقابة أو حزب أو جمعية خيرية أو دينية إسلامية أو مسيحية أو يهودية.
الكارثة الآن أن الدولة بنظامها السياسي الديكتاتوري القمعي تتبنى نفس النهج فتزعم أنها دولة إسلامية، وتحرص في صياغة قوانينها على الحصول على موافقة المؤسسة الدينية. بل وتتبنى في نظامها الاقتصادي مفاهيم «الاقتصاد الإسلامي» الذي يحتل ركنا خاصا داخل كل البنوك. وصار هناك الزي الإسلامي والشعار الإسلامي والبرامج الإسلامية في الإذاعة والتليفزيون، وصار بعض الناس يحملون لقب «المفكر الإسلامي». الخطر هنا في هذه الأسلمة التي لا هدف وراءها سوى سحب بساط احتكار الإسلام من تحت أقدام المعارضة. يمكن القول باختصار أن النظام السياسي يسجن نفسه في خندق المعارضة الإسلامية وهو يظن انه يحاربها. لقد انتصرت بأسلمة المجتمع والدولة دون الوصول إلى السلطة. وهذا يفسر حالة التراوح في تقديم برنامج سياسي لخوض الانتخابات من جانب المعارضات الإسلامية. إن شعار «الإسلام هو الحل» كاف ما دام النظام السياسي يحول الشعار إلى سياسة. المعضلة في هذا الوضع ليست فقط معضلة المسلم الذي لا يريد أن ينتمي لهذه الأسلمة الإكراهية، بل المعضلة الأكثر تعقيدا معضلة غير المسلم الذي يعيش بالإكراه والإرهاب بقوة القانون المتأسلم في مجتمع لا يأبه به ولا يعير دينه أي قيمة إلا بطرف اللسان والبلاغة اللفظية. وضع المرأة أنكى وأنكى، ووضع الفكر والمفكرين والإبداع والمبدعين لا يحتاج لمزيد من الإيضاح.
vv عند دراسة تاريخ المسيحيّة في أوروبا نجد أن الشعوب الأوروبيّة دفعت ثمنًا باهظًا حتى تحدث النقلة النوعيّة في الوعي المسيحيّ في القرن الثامن عشر والذي كان رهينة الحداثة العلميّة والثورة التنويريّة وقتها. فشل الوعي الإسلاميّ في الوصول إليه حتى الآن-. ما هي معضلة المجتمع الإسلاميّ اليوم في إحداث هذه النقلة النوعية في وعيها الفكريّ رغم اصطدامها بالحداثة العلميّة؟ لماذا يتأخّر انتفاض الوعي في الشرق؟
لم يتحقق الإصلاح الديني الذي حدث في أوروبا في القرن السادس عشر، ولم تحدث ثورة فلسفية كالتي أحدثها فلاسفة أوروبا، تلك الثورة التي على أساسها تحققت الثورة الاجتماعية والسياسية التي أرست مفهوم «المواطن» وأحلته محل مفهوم «الرعية»، المفهوم الحاكم في مجتمعاتنا رغم بلاغة الدساتير في تأكيد «المواطنة». بعد تحرر الإنسان من نير الطغيان السياسي ونير التصور الكنسي للعالم بفضل كل ما سبق- الإصلاح الديني وثورة الفكر الفلسفي والعلمانية، تحققت الثورة العلمية. كل شيء ولد في مجتمعاتنا مختنقا بسبب أن «الحداثة» الوافدة تم تمزيقها أشلاء في الوعي التحديثي– ولا أقول الحداثي– فتم تقبل الشكل التقني فقط، وتم رفض الأساس العلمي للتقنية بكل مكوناته من عقلانية وعلمانية… الخ. تم تقبل الديمقراطية بدون أساسها وهو حرية الفرد، تم تقبل الاقتصاد الحر بدون أساسه من حرية الفكر. لم يحدث الفصل بين السلطات ولا كان ممكنا أن يحدث لارتباط مفهوم السلطة بمفاهيم قروسطية مثل «الراعي» و«الحامي» و«الزعيم الملهم» و»الرئيس المؤمن» و«أمير المؤمنين».
الإرهاب وقرصنة الجهاد
vv والمجاهد الأكبر… لنتوقف عند بعض المصطلحات الملتبسة، الجهاد مثلا، ما معنى مصطلح «الجهاد»؟ وكيف ارتبط مصطلح الجهاد وتفسيره عقائديًا في أيامنا هذه بمصطلحات التطرّف والإرهاب؟
الجهاد – قبل أن يصبح مصطلحا – مفهوم يعني بذل أقصى الجهد للوصول إلى هدف ما. في التداول القرآني توجد الكلمة في سياقات كثيرة منها بذل الجهد في الدفاع عن النفس وقهر العدو. لا بد أن يفهم الناس أن طبيعة السياق التاريخي الذي تم فيه تكوين المجتمع المسلم في المدينة فرضت القتال كأحد وسائل تأمين سلامة هذه الجماعة. تطور الأمر من تأمين السلامة إلى تأمين الحدود بالتوسع. في المرحلتين المدقق في اللغة والتعبيرات القرآنية التي فرضت القتال يدرك تردد أفراد من الجماعة في الدخول في أي نشاط ظنوا أن الدين الجديد الذي اتبعوه لا يرغمهم عليه: «كُتب عليكم القتال وهو كره لكم»، «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين.. الخ الآية». «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه» وعلى الباحث المدقق أن يحلل هذه التساؤلات ولا يمر عليها مرور الكرام. النتيجة أن مسألة فرض القتال لها سياق لا ينبغي إهماله أو تجاهله.
حتى انتهاء الوحي بوفاة النبي محمد يصعب القول إن «الجهاد» صار مصطلحا. كانت عمليات القتال يطلق عليها اسم «غزوات» الاسم المعروف في الصراعات القبلية. بعد أن خرج العرب خارج حدود الجزيرة – لإنشاء إمبراطوريتهم تحت لواء دينهم- صارت عمليات القتال المنظم برعاية سلطة مركزية في «المدينة» ثم في «دمشق» و«بغداد» تسمى «فتوحات» طبقا لنتائجها.
مع استقرار الإمبراطورية ومع تجدد المناوشات بينها وبين الإمبراطورية البيزنطية ومع تطور الفقه في أبواب وكتب تم تأصيل «الجهاد» كمصطلح وباب من أبواب الفقه أشبه بفصل العلاقات الدولية في القوانين الحديثة. الإرهاب المنبثق من عمليات الأسلمة التي أشرت إليها قام بعملية قرصنة على مفهوم «الجهاد» وأعاد تدويره ليكون أولا قبل المخالفين في الفهم من أبناء العقيدة. هكذا بدأ تكفير الحكام في العالم الإسلامي، لأنهم لا يحكمون بما أمر الله. ثم تم تكفير المجتمعات البشرية كلها وإضفاء صبغة «الجاهلية» عليها، لأنها تسلم قيادها لغير منهج الله. قتل السادات عام 1981 باسم «الجهاد»، وقبل مقتله قامت جماعة «التكفير والهجرة» بعملية «الكلية الفنية العسكرية». تم ارتكاب كثير من عمليات الجهاد ضد المواطنين المصريين مسلمين ومسيحيين.
رحبت كل الأنظمة في العالم العربي بعملية ترحيل «المجاهدين» إلى أفغانستان لينصروا الجماعة المؤمنة في صراعها ضد الكفر. احتفلت أمريكا بإعلامها وساستها بهؤلاء المجاهدين المغاوير وزودتهم بالسلاح والعتاد ليقضوا على الشيوعية الكافرة التي تدنس أرض الإسلام. وحين انقلب السحر على الساحر صار مصطلح «الجهاد» شارة القتال ضد الصهيونية والاستعمار الأمريكي. لا ننس أن «صدام حسين» خاض حربه ضد إيران رافعا شعارات الجهاد، ولم يدخر النظام الإيراني وسعا في توظيف شعارات يرى أنه الأحق برفعها بحكم الثورة الإسلامية التي أنشأت جمهورية إسلامية تجاهد ضد الاستكبار والطغيان الدوليين وضد عميلهما النظام العراقي.
لا غرابة وقد تم الاستيلاء على الإسلام من قبل الجماعات والأنظمة أن يتم الاستيلاء على مصطلح «الجهاد». الأنظمة والدول «الإسلامية» التي أممت الإسلام لا تستطيع ولا تجرؤ على استثمار «الجهاد»، لأنها انضمت إلى صف الشعار الأمريكي العالمي «الحرب ضد الإرهاب». هكذا صار «الجهاد» محتكرا بالكامل دون أي شراكة أو نزاع لحساب «القاعدة» وفروعها في كل مكان.
الجامعة والجامع الطريق إلى أين؟
vv لو أخذنا قضيّة قراءة وفهم التراث العربيّ والإسلاميّ بأشكاله المتعدّدة، ألا ترى أن هناك أزمة اليوم في عمليّة قراءة التراث وفهمه تنبع أساسها ممّا يتلقّاه الطلاّب في المدارس وفي الجامعات حيث المواد التي يتلقونها قد مرّت بعمليات غربلة وتلخيص وتسييس ومراقبة، مما يخلق قصورًا في فهم هذا التراث وسياقه، وبالتالي يولّد عجزًا عند هذه الأجيال في التواصل مع موروثهم إلى درجة التطبيق المغلوط الناتج عن القصور في الفهم؟
التعليم هو مأساتنا الحقيقية في كل المراحل التعليمية – من رياض الأطفال إلى الجامعة- وفي كل فروع المعرفة العلمية والإنسانية. في مجال المعرفة الدينية أخجل أن أذكر ما الذي نعلمه لأطفالنا من كراهية لغير المسلم، ولا من احتقار للمرأة. في الجامعة وعظ، لا فرق بين «الجامعة» و«الجامع». المأساة كارثة بكل المقاييس. شهدت في بعض المجتمعات العربية محاولات لتحديث التعليم الجامعي بإنشاء مجمع جامعات أجنبية وبإدخال اللغة الإنجليزية كلغة التعليم في بعض الأقسام والكليات المستحدثة في الجامعات الوطنية بالشراكة مع الجامعات الأجنبية. تطوير لخلق كوادر من التقنيين في مجالات الإدارة والاتصالات في الشركات العابرة القارات التي يساهم فيها المال العربي الخليجي.
كل هذه المحاولات لا قيمة لها في تحقيق حداثة حقة، إنها تجميلات إضافية في عملية التحديث الشكلي الذي ذكرته من قبل – تحديث بلا حداثة – وهو مواز موازاة مطابقة للخطاب الديني الذي ينتجه الدعاة «الجدد»: تحديث بلا وعي حداثي وخطاب دينيي جديد المظهر عتيق المخبر والمحتوى، فضلا عن العشوائية في الجهتين.
تغوّل السلطة والمال
vv لماذا في رأيك توقّف المشروع التنويريّ الذي بدأ في عصر النهضة مع روادها أمثال محمد عبده وقاسم أمين والطهطاوي وغيرهم وحدثت قطيعة فكريّة أو لنقل اندثرت معالم تطوّر هذا المشروع سريعًا؟ أهو قصور في انتاج الوعي في العقل العربيّ؟ أم هو النّظام والتركيبة الاجتماعية والسياسية والنفسيّة لمجتمعاتنا؟
لم يتوقف المشروع التنويري – وإن كنت أتردد في استخدام كلمة تنوير بسبب ما علق بها كما يعلق بكثير مثلها من حمولات إيديولوجية – أبدا عن التطور ولكننا مغرمون بالبكاء على الماضي فقط حين يصبح ماضيا. هذا الماضي كان ملعونا في زمنه: محمد عبده كان مرفوضا ولا يزال من المؤسسة التي حاول إصلاحها ففشل. قاسم أمين تجهم له «سعد زغلول» الزعيم السياسي و«طلعت حرب» الرائد الاقتصادي فضلا عن الخديوي. اما الطهطاوي قبلهما تم نفيه إلى السودان. قصة طه حسين وعلي عبد الرازق ثم خالد محمد خالد ولويس عوض قصص معروفة، لكن ما حدث لمحمد احمد خلف الله بسبب رسالته لنيل درجة الدكتوراه عن «الفن القصصي في القرآن» بإشراف أمين الخولي عام 1947 غير معروف، وقصة «أبو زيد الأول» الذي رفعت ضده دعوى تفريق في محكمة دمنهور عام 1918 بسبب تفسيره للقرآن غير معروفة كذلك. غدا أتوقع أن يبكي أخلافنا علينا بعد أن نمضي. المشروع لم يتوقف ولكن محاولات حصاره وخنقه تتزايد بسبب هذا الزواج الكاثوليكي بين المثقف والسلطة.
التنوير نجح في الغرب بسبب استقلال المثقف واستقلال الفكر عن أن يدور في فلك أي سلطة. التنوير في عمقه هو تحرير العقول من كل السلطات (سياسية واجتماعية ودينية). وليس معنى تحرير العقل تدمير هذه السلطات، بل تحجيم مجال تأثيرها. من هنا ارتبط التنوير في تطوره بإبداع سلطات موازية لتحجيم تغول السلطة السياسية مثل السلطة الرقابية والتشريعية – النابعة من ممثلي الشعب غبر تطوير آليات الديمقراطية- والسلطة القضائية المستقلة والسلطة الرابعة، سلطة الرأي العام المتمثل في الصحافة والإعلام المستقلين، وهي أهمها. من هنا إقرار مبدأ «الفصل بين السلطات». كل هذا لم يتحقق في مجتمعاتنا، ما زالت السلطة السياسية تتغول على باقي السلطات وأحيانا تحولها إلى مجرد أبنية وهياكل وظيفية. الصحافة والإعلام في قبضة الأنظمة السياسية أو في قبضة المال الذي أصبح جزءا جوهريا من السلطة. المال في العالم العربي ليس نتاج العمل، بل هو إما نتاج ركاز الأرض (البترول) أو نتاج السمسرة. كل ذلك يكشف عن بعض أسباب الخلل في البنى التي يمثل التنوير تهديدا لاستمرارها فلا تبخل بأي جهد يقتله، أو يخنقه، أو يحاصره وهذا أضعف الإيمان في ظل العولمة التي تكشف عن بعد كل الأسرار.
ماذا حدث للمصريين؟
الحجاب والوهّابية
vv قضيّة الحجاب في مصر، مثلا، قضية شائكة ومتناقضة تعبّر الى حدّ كبير عن أزمة مفهوم الدّين في المجتمع الإسلامي المصريّ لأنّها تعبّر بالأساس عن انتقال فكرة الحجاب من المستوى الدّيني الى المستوى الاجتماعيّ- أو ما يشبه الشّكل الاجتماعيّ منه الالتزام الدّينيّ. أين تضعنا هذه الظاهرة في فهم مفهوم المرأة لذاتها داخل عمليّة التلقّي الديني والاجتماعيّ/ ومفهوم المجتمع المصري عمومًا لمعنى الدّين؟
لا أدري لماذا تعتبر أن مشكلة «الحجاب» وقضايا المرأة في الفكر الإسلامي مشكلة المجتمع المصري دون غيره من المجتمعات. في حدود علمي إن منظومة القضايا المتعلقة بوضع المرأة ومكانتها في المجتمع – وقضية الحجاب أو النقاب واحدة من هذه المنظومة – هي كعب أخيل في العالم الإسلامي طولا وعرضا. لكن لأن المجتمع المصري كان قد تجاوز هذه المشكلات وتخطاها منذ بدايات القرن العشرين فإن حالة الارتداد التي يمر بها منذ عقود تلفت الأنظار إليه. بعبارة أخرى، ينطوي السؤال على تساؤل: ماذا حدث للمصريين؟ وهذا هو السؤال الذي يُحْتاج النظرُ فيه.
فماذا حدث للمصريين إذن؟
للإجابة على هذا التساؤل ينبغي عدم استبعاد التأثير الخليجي (السعودي الوهابي بصفة خاصة) على وعي المصريين الذين تزايد عدد مهاجريهم بحثا عن فرص عما أفضل منذ بداية السبعينات من القرن الماضي. بالإضافة إلى هذا العامل الجوهري، ثمة عاملان إضافيان يتعلق أحدهما بالتحول السياسي الاجتماعي الذي أحدثه الرئيس السادات في بنية الدولة منذ توليه سلطة الحكم في أكتوبر 1970، أعني الانتقال من نظام «رأسمالية الدولة» إلى نظام «الاقتصاد الحر» بشكل عشوائي. هذا الانتقال العشوائي – الذي أطلق عليه أحد الإعلاميين النابهين (احمد بهاء الدين): الانفتاح السداح المداح – كان له ولا يزال تأثيره الفادح على الطبقات العاملة المصرية، فاختفت الطبقة الوسطى تدريجيا لحساب انقسام طبقي حاد بين أغنياء سفهاء وفقراء معدمين. صار المجتمع المصري، الذي كان مجتمع التكافل الاجتماعي تحت مظلة الدولة الاشتراكية- مجتمع الصدقة والبر والإحسان تحت رحمة رجال الأعمال. من المهم هنا أن نؤكد أن هذا الوضع أدى إلى تحالف بين طبقة رجال الأعمال من جهة، وبين رجال الحكم وفصيل من المثقفين والأدباء والفنانين من جهة أخرى. فضيحة «شركات توظيف الأموال» في الثمانينات كشفت انضمام المؤسسة الدينية الرسمية إلى هذا التحالف الذي ضم أيضا «الإخوان المسلمين» أكبر المدافعين عن رأسمالية السوق الحرة. هذا التحول في الخطاب الديني المصري تعاملت معه تحليلا ونقدا في «نقد الخطاب الديني». انتهى هذا التحالف إلى أن أصبح زواجا كاثوليكيا بين المال والسياسة والفكر فصار رجال الحكم هم أنفسهم رجال الأعمال.
أما العامل الثاني – الذي أثر على وضع المرأة في المجتمع المصري بشكل فادح – وهو الأثر الأكبر للعامل الأول فيتعلق بأزمة سوق العمل وتزايد معدلات البحث عن عمل في مصر خاصة بعد أن تزايد اعتماد سوق العمل في الخليج على الايدي العاملة الآسيوية الأرخص. غني عن البيان أن هذا الانفتاح الاقتصادي- الانفتاح الاستهلاكي بامتياز – عمق من مأساة أزمة البحث عن عمل بكل ما صاحبه من مظاهر الترف المبالغ فيه. لعل مثال حفل زفاف إحدى بنات الرئيس السادات لأحد أنجال أكبر رجل أعمال في مصر يكفي للتدليل على هذه الظاهرة، حيث تم بث الحفل من خلال قناة التليفزيون الحكومية ورأى المصريون جنيهات الذهب ترش على العروسين بدلا من حبوب الأرز أو القمح – أو الورود – التي تعود المصريون رشها رمزا لأمنيات الزواج الخصب السعيد.
في نقاشات في مجلس الشعب المصري حول البطالة كان الاقتراح هو إعطاء النساء العاملات اجازة بنصف أجر للتفرغ لتربية الأطفال ورعاية الأسرة، أهم الأدوار المنوطة بالمرأة حسب الخطاب الديني. بعبارة أخرى لم تناقش الأزمة بوصفها أزمة اقتصاد استهلاكي يحتاج إلى ترشيد وإعادة هيكلة ليتحول إلى اقتصاد إنتاجي، بل صارت الأزمة هي عمل المرأة الذي يقلل من فرص عمل الرجال. هكذا بدأ تحويل كل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى قضايا تحلها العودة إلى قيم الدين وعلى رأسها عودة المرأة إلى البيت. من هنا بدأ الانحدار وتدريجيا من عودتها إلى البيت – الذي يعني استبعادها من الوجود في الفضاء العام – إلى تغطية شعرها، ثم تغطية جسدها كله. كان هذا البعد موضوع كتاب «المرأة في خطاب الأزمة»، وخطاب الأزمة يتضمن الخطاب الديني وغيره من الخطابات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعزف نفس نغمته ولكن بآلات أخرى.
الآن، ومع ظاهرة الدعاة الجدد، التي تزعج المؤسسة الدينية أيما إزعاج، نحن إزاء خطاب ذي وجهين: وجه يبرر للأثرياء متعة النعم التي من الله بها عليهم (لاحظ هنا أن الثراء نعمة بصرف النظر عن مصدره) طالما أنهم يعطفون على الفقراء والمحتاجين ويؤدون حق الله في المال (نصيب الزكاة الشرعية 2.5%، لا ذكر للضرائب على الدخل لأن ذلك موضوع ينتمي للقانون الوضعي والعياذ بالله). الوجه الثاني: أداء حق الله من صلاة وزكاة وصيام وحج (التشريعات العبادية). لذلك ليس للدعاة الجدد باع في المعاملات والتعقيدات الفقهية والتشريعية، إنه خطاب بسيط واضح سهل الفهم سهل الهضم في لغة عصرية متخلصة من المصطلحات المعقدة، كما تخلص ممثلوه من الزي التقليدي للشيوخ واستبدلوا به الزي العصري. هذا الخطاب، بكل هذه المزايا التي تسحب البساط من تحت أقدام رجال الدين التقليديين، يزيف الواقع ويزيف التاريخ معا. هكذا تتعقد الأزمة.
أليس للغرب يد في تأجيج هذا الجدل حول الحجاب؟
زاد الطين بلة في مسألة الحجاب بصفة خاصة قرار الجمهورية الفرنسية بإصدار قانون يحرم ارتداء الرموز الدينية في المدارس. أراد شيخ الأزهر أن يرضي حكومة فرنسا فقرر أن من واجب المسلمين أن يطيعوا ولي الأمر في بلاد المهجر، وهكذا ظن أنه سهل الأمر. لكنه استدار إلى المرأة التي تعيش في بلد مسلم (يقصد أغلبيته مسلمه) فقرر في حسم أن الحجاب بالنسبة لهذه المرأة «فرض ديني» تحاسب عليه إن فرطت فيه. هكذا في نزعة رد فعل صار الحجاب «فريضة»، وصارت جميع غير المحجبات، حتى في تركيا التي تمنعه في الجامعة وفي تونس التي تضع عليه القيود – مفرطة في فرض ديني. ليس من الصعب أن يبني المتشددون على أساس هذا التصريح من شيخ المؤسسة الدينية أن عدم ارتداء الحجاب يماثل ترك الصلاة وكلاهما والعياذ بالله كفر.
vv لماذا يمثل هذا الموضوع مأزقا معرفيا وتواصليا والجدل فيه بلا ضفاف؟
أي تعليق على مسألة الحجاب أو مناقشة لمدى حجية الأدلة على اعتباره «فرضا» تثير عواصف هوجاء في المجتمع المصري. عبارة قالها وزير الثقافة «فاروق حسني» – كان أحد المرشحين لمنصب مدير اليونسكو، لكنه لم يحصل على المنصب – شغلت مجلس الشعب المصري – مصر التي يتحمل شعبها أكواما وأحمالا من المشكلات التي يجب أن تشغل أعضاء المجلس الموقر – أياما من الجدل والنقاش حتى سحب الرجل عبارته وخطَّأ نفسه. نفس الأمر يتكرر الآن مع المستشار «تهاني الجبالي» – مستشار في المحكمة الدستورية العليا – التي نعت علي المصريين التمسك بالشكليات – ذكرت مسألة تغطية جسد المرأة نموذجا – على حساب الجوهر في الإسلام. رفع عليها أحد المحامين المتشددين دعوى قضائية يطالب بفصلها من موقعها. أغلب الظن– وبعض الظن إثم لا ضرر منه– أن الرجل كان مستاء من مجرد تعيين امرأة في المحكمة الدستورية العليا، وكان يتحين الفرصة للنيل منها.
النظر في كل المبررات الدينية وغير الدينية لتغطية المرأة وحجبها عن الوجود في الفضاء الاجتماعي العام يفضي إلى نتيجة يجب أن تزعجنا جميعا: إن الهدف الأسمى هو حماية الرجل من فتنة المرأة، حمايته من غواية النظر إليها. لا أحد يتحدث عن حماية المرأة من فتنة الرجل ويطالب الرجال بستر فتنتهم. تبدو غواية الرجل للمرأة بفتنتها– في الوعي العام – أمرا مقبولا، إنه الطبيعي. فتنة المرأة فقط هي غواية الشيطان. هكذا يعود الوعي العام إلى أسطورة الخلق التوراتية حيث أغوت حواء أدم فارتكب معصية الأكل من الشجرة المحرمة فطرد وهي من الجنة. القصة التوراتية تقول إن المرأة هي مدخل الشيطان إلى الرجل، وهكذا يصبح الرجل هو الإنسان والمرأة بعضه الأعوج الذي يحتاج طول الوقت إلى تقويم. كل هذه العناصر التوراتية لا وجود لها في القرآن نصا، وإنما دخلت نطاق الفكر الديني عبر كتب التفسير التي استعانت بهذه التفاصيل لشرح ما لم يذكره القرآن.
وحده محمد عبده في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضي تنبه لهذه المشكلات في الفكر الديني. والفكر الديني الآن بتراجعه إلى ما قبل لحظة محمد عبده يسحب المجتمع إلى الوراء. لكن علينا ألا ننسى أن المجتمع في الأصل هو الذي سحب الفكر الديني إلى الخلف ثم استسلم له ليقوده. من هنا مقاومة أي نهج أو نمط جديد من التفكير بالصياح ورفع يافطة «الثوابت» و«الفكر الغربي»، و«المناهج المستوردة»، كأن ما أنتجه الأسلاف لا يقبل الفحص والنقد والرد.
الحداثة والتجربة الروحية
أستاذ نصر، تناولت في كتابك الموسوم بـ«هكذا تكلّم ابن عربي» شخصيّة محيي الدّين ابن عربي وسياقه وعلومه ووصله بين التراث العالمي والتراث الإسلاميّ على حدّ قولك. لماذا بدايةً هذا الاهتمام بابن عربي (ونحن نعلم أنّك تناولته في كتب ومقالات عديدة) ومن أين تنبع حاجتنا اليوم في عالم ما بعد الحداثة كما يقال، إلى دراسة فكر هذا الشيخ أكثر من أيّ وقت مضى؟
شرحت بالتفصيل في الفصل التمهيدي للكتاب الحاجة الماسة في سياق أزمة ما بعد الحداثة إلى اكتشاف مناطق «التجربة الروحية» في التراث الإنساني. وفكر «ابن عربي» يقدم أنضج صياغة لفضاء التجربة الروحية في الفكر الإسلامي. هذا هو السياق العولمي الذي حفزني لإعادة قراءة الشيخ الأكبر، لكن الأهم كان السياق العربي الإسلامي حيث يسود خطاب ديني بائس محدود الأفق يسعى لمحاربة الأساطير بالأساطير: أعني محاربة أسطورة الطاغوت السياسي (الدكتاتورية) وأسطورة إله العولمة (السوق) بأسطورة «الحاكمية» بكل ما تتضمنه هذه الأسطورة من خنق روح الإنسان واختصار هويته في بعد «العبودية»، واستبعاد كل من لا يتبنى هذه الأسطورة من جنة «الفائزين في الدنيا والآخرة». هذا بالإضافة إلى العجز التام عن التعامل مع الأسطورة الصهيونية/التوراتية (أسطورة أرض الميعاد) التي تتسلح بالعلم والتكنولوجيا الممتَلًكة- لا المستوردة- بسبب اعتماد أساطير مبنية على الأسطورة التوراتية. ربما يساعدنا فكر ابن عربي في تفكيك هذا التأزم الخانق في الخطابين المحلي والعولمي لا من خلال تبنيه – فالتبني نوع من الأصولية – بل من خلال إدراك ساحة الانفتاح الممكنة نقديا على الذات وعلى الآخر. من هنا حرصت على وضع خطاب ابن عربي داخل التاريخ لا خارجه في الفصل الثالث «قيود الزمان والمكان».
ابن رشد بين الشريعة والحكمة
حاول ابن رشد التوفيق بين «الشريعة والحكمة» أو بين «الدّين والفلسفة» أو «الإيمان والعقل» بدعوى أن القرآن لا يمكنه أن يناقض العقل والمنطق، وإنّما ما تظهر به الآيات من معنى قد يناقض العقل فهو مجرد ظاهر. أما المعنى الباطن لها الذي يستوجب التأويل فلا يناقض العقل. أصحيح أن الغلبة للفلسفة في قضايا التناقض بين المعنى الظاهر والباطن في القرآن وآياته؟
في الخطاب الرشدي عن «التأويل» مساحات أوسع من التأويل الفلسفي بالمعنى الذي ساد عنه، نتيجة أننا قرأنا ابن رشد كما نقرأ المعتزلة والفارق بينهما كبير. صحيح أن «ابن رشد» لم يوجه نقدا مباشرا للمعتزلة وإنما صب جام نقده على الأشاعرة بصفة عامة وعلى الغزالي بصفة خاصة، لكن نقد الأشعرية هو نقد لعلم الكلام كله على أساسين:
إن المتكلمين صنعوا من «الله» إنسانا أزليا، بمعنى أنهم في تطبيق مبدأ «قياس الغائب على الشاهد» – المبدأ الذي صاغه المعتزلة أساسا كما هو معلوم – اتخذوا الإنسان نموذجا تقاس عليه الألوهة قياس العكس أحيانا وقياس الطرد أحيانا. في «قياس الطرد» أطلقوا في حق الإلوهة الصفات الموجبة في الإنسان (مثل العلم والقدرة والإرادة والحياة) فجعلوها مطلقة، أما في «قياس العكس» فقد نفوا عن الله صفات الضعف الإنساني (كالموت والضعف والحاجة).
على هذا الأساس بنى المتكلمون تأويلاتهم ونشروها بين الناس فتسببوا في تشويه الشريعة، وفي إرباك عقائد العامة، وهز يقينهم الإيماني البسيط النقي. جريمة المتكلمين، في نظر ابن رشد، أنهم بنوا آراءهم واستنتاجاتهم على أدلة «جدلية» شائعة غير برهانية، أي لا تفضي إلى «يقين».
من هنا علينا أن نتفهم حرص ابن رشد على حماية عقائد العامة من هذا الهذر الذي يمارسه المتكلمون من جهة، ولا نعرضهم للأدلة البرهانية، إن لم يكونوا مستعدين لها من جهة أخرى. علينا أن نتردد في تصور أن فيلسوف قرطبة يميز بين الناس على أساس استعلائي. إنه في الحقيقة يصف واقع الحال في عصره، حيث كانت كل القضايا الفكرية والدينية العويصة تناقش في بلاط الأمير (دولة الموحدين) داخل جدران القصر، بينما لا يسمح خارج أسوار القصر إلا بطاعة الفقهاء.
ابن رشد لا يسفه عقائد العامة بل يدافع عنها على أساس أنها نابعة من معطيات النص الديني. إنها ليست سوء فهم، ولا حرفية فهم: إنها النصوص الدينية ذاتها التي تتجلى في اللغة التي من طبيعتها الجوهرية الغموض والاحتمال. النصوص الدينية – الشريعة في لغة ابن رشد – تخاطب الناس جميعا، أبيضهم وأسودهم وأصفرهم وأحمرهم، جاهلهم وعالمهم ومتوسط الفهم فيهم، بلا تمييز. من هنا يميز ابن رشد بين ثلاث مستويات في الخطاب تتحدد على أساس مستوى المخاطب (بفتح الطاء): الأقاويل الشعرية والخطابية للعامة، الأقاويل الجدلية للفقهاء والمتكلمين، والأقاويل البرهانية للعلماء الفلاسفة. المتكلمون يحصرون مستويات الخطاب في اثنين فقط: المجاز والحقيقة. وإذا كان «المجاز» هو نقيض الحقيقة، بمعنى أنه يسترها ويخفيها، فإن الحقيقة هي الأصل والمجاز فرع. هذا التصور الثنائي لدلالة القرآن (المعنى) عند المتكلمين يستند على تصور ثنائي آخر للمبنى هو ثنائي «المحكم والمتشابه». وكلا التصورين لا يضع «المخاطب» في الاعتبار.
التصور الثلاثي الذي يطرحه ابن رشد للمبنى – مبنى الخطاب- أكثر ثراء، هذا بالإضافة إلى أنه يقوم على اعتبار «المخاطبين». وهذا يسمح لنا بالقول إن «ابن رشد» يُحَلِّق في سماء أوسع من سماء المتكلمين، في سماء تنظر للأرض وتتحاور معها وتراعي مقتضيات حالها. وأريد هنا أن أستطرد قليلا فأقول إن ابن رشد يستطيع من خلال ثلاثية المبنى في الخطاب القرآني أن يقسم فضاء المعنى القرآني كالتالي، وسأستخدم في عرض هذا التقسيم مصطلحات الألوان للتمييز والإيضاح:
1- فضاء اللون الأبيض: وهو الفضاء المتروك لمحاولات الفهم الإنساني، فضاء ما لم تتناوله النصوص من قريب أو من بعيد (ما سكتت عنه الشريعة). إنه الفضاء الأوسع والأرحب، فالنصوص دائما محدودة والوقائع والنوازل لا حد لها. هذا الفضاء الرحب هو ما حاول الفقهاء والأصوليون إدخاله في حيز الفضاء المعنوي للنصوص وإخضاعه لها عن طريق «القياس»، أداة الاجتهاد الناجزة كما حددها الشافعي. ابن حزم الأندلسي يرفض هذا «القياس» لأنه في الغالب يُدخِل في حيز «الحرام» ما سكت عنه الشرع، وفي رأيه أن كل ما سكت عنه الشرع فحيزه الطبيعي هو «المباح». ابن رشد فلسفيا يعتبر أن ما سكتت عنه النصوص يدخل حيز «البرهان»، أي مجال نشاط التفكير العقلي.
2- فضاء اللون الأخضر: وهو ما يتفق فيه المعنى المباشر (الظاهر) مع أدلة العقل. في هذا الفضاء النصي لا مجال للتأويل، بل التأويل جريمة. يتضمن هذا الفضاء «أصول العقائد» الثلاثة التي هي محور الإيمان: 1- وجود الله 2- والإقرار بالنبوات 3- الإقرار بالثواب والعقاب الأخرويين (بالوجود لا بالكيفية والصفة). لا تأويل هنا، إذ أصول العقائد مما لا تحتمل التأويل، والتأويل كفر في الأصول وبدعة فيما وراء الأصول.
3- فضاء اللون الأصفر: حيث يتناقض المعنى مع البرهان. والأمثلة البارزة التي يستشهد بها ابن رشد مأخوذة من المتكلمين، وكلها تتعلق بنسبة التحيز والجهة إلى الألوهة، مثل آية «الاستواء» وحديث «النزول». يرى ابن رشد أن «التأويل» فرض على العلماء، وهو الراسخون في العلم بحسب الآية 7 من سورة آل عمران الذين يتميزون بمعرفة التأويل (هنا يكون الوقف في قراءة الآية على ما بعد «والراسخون في العلم» وليس على ما قبلها، على أساس أن الواو للعطف لا للاستئناف). أما بالنسبة للعامة فالفرض فيها الحمل على الظاهر، إذ التأويل ضار في حقهم. يجب أن يشرح الأمر للعامة بأن هذه النماذج من المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله (وهنا يكون الوقف على اسم الجلالة، وتكون الواو استئنافية، أي تبدأ جملة جديدة). لماذا هذا التمييز بين العامة والعلماء؟ يعود ابن رشد مجددا لتأكيد أن الشريعة للناس جميعا، ومن هنا تتضمنها لمستويات من الخطاب يناسب مستويات المخاطبين. بعض المخاطبين يستحيل عليهم الإيمان بما لا يقع تحت الحس والخيال، وهؤلاء يكون التأويل بالبرهان في حقهم ضارا بإيمانهم. يستشهد ابن رشد بواقعة الجارية التي أراد سيدها أن يختبر إيمانها من أجل أن يعتقها فأحضرها للنبي الذي سألها ببساطة: أين الله؟ فأشارت بيدها إلى السماء، فقال لسيدها: اعتقها فإنها مؤمنة. يتساءل ابن رشد عن إمكانية أن تستوعب مثل هذه الجارية تأويلات أهل البرهان. مشكلة الغزالي والمتكلمين في نظر ابن رشد أنهم أنتجوا تأويلات غير برهانية وأشاعوها في الناس وكفروهم على أساسها. وهكذا ندرك حرص فيلسوف على حماية عقائد العامة من التشوش. لكن الأهم ان فيلسوف قرطبة يرى أن عقائد العامة لها مرجعيتها في الخطاب، لأن الشارع راعى مقتضيات أحوالهم. إنهم ليسوا على خطأ ولا يجب إكراههم على قبول تأويلات المتكلمين، ولا أن يطلعوا على تأويلات الفلاسفة إلا إذا كانوا مستعدين لها.
4- المستوى الأخير هو فضاء اللون الأحمر، وهي القضايا العويصة، مثل كيفية المعاد وصفته هل هو بالروح فقط أم بالجسد كذلك؟ وما هي صفات النعيم والجحيم؟ وهي من القضايا التي كفَّر بسببها أبو حامد الغزالي الفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة». يميز ابن رشد بين «الإيمان» بالبعث والثواب والعقاب الأخرويين (أصول العقيدة) وبين البحث في الصفة والكيفية وتأويل الشريعة على أساس نتائج هذا البحث. وإذا كان تكفير الغزالي للفلاسفة يعتمد على فكرة خرقهم للإجماع بتأويل ما لا يجوز تأويله، فإن ابن رشد يرى أن ادعاء الإجماع في الأمور النظرية محض توهم لم ولن يتحقق. الإجماع إنما يمكن الوصول إليه في الأمور العملية، أما الأمور العلمية فلا. هذا التمييز بين الأمور العملية – التي يجوز الإجماع حولها – وبين المسائل العلمية النظرية – التي يستحيل فيها الإجماع- نحتاج إليه في ضبط صخب الجدل الذي يملأ عالمنا العربي حول قضايا لا تمييز فيها بين ما يحتاج للإجماع (بالديمقراطية) وبين ما هو من فضاء الفكر الذي يجب أن يبقى حرا. هذه المنطقة الحمراء هي منطقة الاختلاف بالتأويل، كل على قدر معرفته، لكنه تأويل محرم تماما الاطلاع عليه من غير المؤهلين، بل ويجب أن يكون محصورا في كتب البرهان التي لا تطالها، بسبب صعوبتها، أيدى العامة. في مسألة «حدوث العالم» مثلا (الخلق من عدم)- وهي من القضايا التي كفَّر بسببها الغزالي الفلاسفة – يرى ابن رشد أن شروح المتكلمين لإثبات «حدوث العالم» ونفي القدم تعتمد على تأويلات فاسدة، فالظاهر القرآني – في رأي ابن رشد- يبين أن العالم خلق من مادة وليس من عدم. ويضع ابن الرشد القاعدة العامة التالية. إذا تم تصفح الشريعة تصفحا تفصيليا (أي كليا بدل التصفح الجزئي للمتكلمين) أمكن إيجاد ما يثبت الأقاويل البرهانية من الظاهر القرآني. وكيف لا، والشريعة والحكمة أختان في الرضاعة. لاحظ أن عنوان كتابه «فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، فهو تقرير للاتصال القائم بينهما وليس توفيقا بينهما.
vv لقد تعرّضت الحركة «الرشديّة اللاتينيّة» في الغرب إلى اضطهاد في وقت ما ذلك لأنّها تبنت أو قامت على فكرة الفصل بين ما هو غيبي «ديني» وما هو علمي أي «برهاني». وفي الشرق تمّ حرق كتب ابن رشد. رغم أن فكره اضطهد الجهة الغربيّة وفي الجهة الإسلاميّة إلاّ أن الغرب استفاد من فلسفته وتجاوز التناقض. أيعود هذا إلى البصيرة العقلانيّة الحيويّة التي يمتاز بها الفكر الغربيّ إلى درجة تمكّنه من موازنة الجدل بين الدين والفلسفة على عكس ما يحدث في الشرق؟
كما قلت، ابن رشد يقرر «الاتصال»، فليس صحيحا أن فكره يقوم على الفصل بين الديني والبرهاني. السؤال عند ابن رشد هو: كيف نفهم العلاقة؟ الرشدية اللاتينية تمت صياغتها من خلال قراءتين تأويليتين (أي قراءة تأويل بالضرورة): إحداهما فهمت من ابن رشد «الفصل»، والأخرى فهمت منه «التوفيق». قراءتي تفهم «الاتصال» الذي لا يعني التطابق. الصراع حول ابن رشد في العالم اللاتيني دار حول هاتين القراءتين، وهو الصراع الذي أحدث الشرخ في اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى.
بحكم عوامل كثيرة معقدة، غاب ابن رشد من الفضاء الثقافي الديني العربي حتى كتب عنه الفرنسي أرنست رينان رسالة الدكتوراه، التي أثارت ردودا من الأفغاني حين كان في باريس. ثم تمت محاولات استعادة ابن رشد – الإبن الغائب – وما تزال المحاولات مستمرة. المسألة ليست حيوية هناك ومواتا هنا، بقدر ما هي اختلاف في حركة التطور وسياقه. العجز الحالي له أسباب كثيرة تعرضنا لبعضها في سياق هذا الحوار.
vv ما الّذي أضافه ابن عربي إلى فلسفة ابن رشد العقلانيّة والبرهانيّة جعلته يتجاوزها إلى الفكر الصّوفي؟
لا أحد يمكن أن يتجاوز العقلانية. عقلانية ابن رشد بصفة خاصة عقلانية لا تعادي الدين بل ترى «الوصل» كما قلت. صوفية ابن عربي- وكل التصوف في الفكر الإنساني، لا يتجاوز العقلانية بمعنى محاولة إلغائها، بقدر ما يؤكد وجود قنوات معرفية أخرى، مثل الخيال والتجربة والحدس… الخ. وهذه القنوات لا يتنكر لها ابن رشد ولا يعاديها، بل يدرك خصوصيتها. في بحثه عن المشترك الإنساني في الفكر والدين – المشترك القابل للتواصل – يرى أن التجربة الصوفية فردية. ابن عربي- من جانب آخر – حاول نقل التجربة الصوفية من حدود الخاص إلى العام المشترك أيضا. ولعل هذا يفسر نجاحه في المشرق: كل من ابن رشد وابن عربي غادر الأندلس – التي كانت شمسها الإسلامية تؤذن بالغياب – غادر أولهما إلى أوروبا اللاتينية، وغادر الثاني إلى الشرق العربي. كيف نجمع بينهما في إطار واقعنا؟ هذا هو السؤال.
الإسلام الواحد المتعدّد
vv لو نظرنا إلى واقع الإسلام اليوم في ظلّ إسلام متعدّد: كالإسلام التركيّ وإسلام الشرق الأدنى- إندونيسيا، والإسلام التونسي والإسلام الشرق أوسطي، كيف ترى هذا الواقع الإسلامي اليوم عمومًا المتولّد بفعل المكان والتأويل المؤسس للدين؟
هذا الواقع – واقع الإسلام الواحد والمتعدد – ليس جديدا بأي حال. وعينا به هو الجديد. تاريخيا، ما حمله العرب الفاتحون معهم إلى البلاد المفتوحة كان بذورا تم استنباتها في أراض مختلفة. ازدهرت شجيرات بطعوم وروائح متعددة، أنتجت بدورها ثقافات وعلوما ومعارف يصعب نسبتها إلى البذور الأولى وحدها. هذا الإسلام الواحد المتعدد هو القادر على تخطي المحن والأزمات. ولعل أخطر أزمة يمر بها الإسلام الآن محاولة الحفر بحثا عن البذور وقتل هذا التعدد الرائع، حتى داخل البلد الواحد. البحث عن البذور يقتل الثمار. أشجار الإسلام المتعدّد الثقافات والتأويلات تتعرض لأكبر عملية استئصال للخصوبة في التاريخ.
vv يقول محمد الطالبي في كتابه «ليطمئن قلبي» «إن مجتمع الإنترنيت يجد عبادته وطقوسه في الإنترنيت منها الجنسيات ونحن نتركها لهم بكل رحابة صدر». ما رأيك في هذا الكلام، وفي هجمته المعلومة على أركون والشرفي. هل اطمئن قلبك معه أم ضده؟
لم أقرأ الكتاب بل قرأت عنه في الإنترنت. وليس من عادتي أن أعلّق على ما لم أقرأ. التقيت بالأستاذ الطالبي مرات عديدة في تونس وخارج تونس، وأكنّ له كل التقدير والاحترام. الشبكة العنكبوتية ليست حكرا على مواقع «الجنس»، فهناك مواقع الإرهاب ومواقع الإلحاد ومواقع الأديان، ومواقع الفلسفة والتاريخ. كل كتبنا- من الشعر الجاهلي والقرآن إلى المفكرين المعاصرين- متاحة مجانا على الإنترنت. هذا تعليق عام. الهجوم على أركون والشرفي غير مفهوم بالنسبة إلي حتى أقرأ الكتاب و«يطمئن قلبي» أنا الآخر.
فضاءات الرب الغاضب
يُلاحظ اليوم في العالم العربيّ صرعة دينيّة جديدة يروّج لها عبر الفضائيّات التي لا حصر لها- حيث يتمّ الترويج لها في القنوات الإسلامويّة وغيرها- الدعاة الإسلاميون الجدد. كيف ترى ظاهرة التسليع الديني عبر هذه الفضائيات والترويج لها وكيف تؤثّر في الفضاء الدّيني العامّ؟
هذه الظاهرة تستحق أن تدرس دراسة متفحصة بدلا من الاكتفاء بردود فعل بالغضب أو بالإعجاب. هل الظاهرة علة لما هو حادث من فوضى في الخطابات الدينية؟ أم أنها نتيجة للفوضى ذاتها؟ الظاهرة تقوم على تحويل «الخطاب» إلى «سلعة» تستجيب لحاجة الزبون. هل هي «العولمة» التي أخذتنا على غرة، كما أخذتنا الحداثة من قبل؟ يحتاج هذا السؤال للخوض في شؤون اقتصادية جعلتنا رغم الثروات – البترول – في ذيل قائمة المنتجين وعلى قمة قائمة المستهلكين. لعل نمط الاستهلاك هذا يمكن أن يشرح جزئيا كثرة الطلب على الفتاوى، وسرعة تصنيع (سلق) الفتاوى. في مجتمعات هرولت نحو «العلمنة» في أسلوب الحياة الظاهرة – دائما نهرول كأن العالم على وشك الفناء – يريد كل فرد وكل مؤسسة أن تثبت أنه – أنها – لم تغادر الجذور. هكذا صرنا مجتمعات معلمنة وعقولا متأسلمة وقلوبا لا محل لها من الإعراب. صرنا حكومات متأسلمة ومعارضات سياسية تنافس في الأسلمة، وشعوب حائرة بين حياة الرفاهة المعلمنة والحلم بالآخرة الخالية من الجحيم. الرب غاضب من الشباب ومن الشيوخ ومن المرأة، وساخط على الكفرة الذين هم كل الأغيار: الشيعة عند السنة، والسنة عند الشيعة، وعند الجميع النصارى واليهود والبهائيين والأحمدية. إنها الفوضى تجدها في كل الفضاءات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فلماذا نسخط على الفضائيات؟
المقاومة والدين
vv في الدّول العربيّة التي لا تزال تقع تحت الاحتلال كما في العراق وفلسطين والجنوب اللبناني فصائل مقاومة إسلاميّة. لماذا ترتبط المقاومة عمومًا وعلى مرّ التاريخ العربي بالدّين، وكيف تراها اليوم؟ هل تخدم هذه المقاومة قضايا شعوبها؟
مرة أخرى، هذا التعميم ليس صحيحا (على مر التاريخ العربي؟ّ!) في التاريخ القريب، حارب المصريون الاحتلال الانجليزي بمسلميهم وأقباطهم، وخاضوا كل الحروب ضد إسرائيل معا، وعدد الشهداء من الجانبين يشهد بذلك. منظمة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية نشأت منظمة مقاومة بدون أي يافطات دينية. وجود شعار «الجهاد» لم يكن يعني المعنى الديني السائد الآن. السؤال الأجدر بالنقاش: ما قيمة هذه المقاومة التي ترفع شعار الدين؟ وما مدى كفاءتها في التصدي للاحتلال، ما دامت تقتل من مواطنيها «الخونة! أو الكفار؟!» أكثر مما تؤلم الاحتلال؟ مرة أخرى، انها الفوضى التي صارت تمثل البنية الأساسية لمجتمعاتنا. التصدي لإسرائيل برفع شعارات دينية مهدد بالفشل، لأن أساطير التوراة جزء مؤسس في السرديات الدينية الإسلامية والمسيحية. إسرائيل – من جهة أخرى – تؤسس وجودها توراتيا وتحميه بالعقل والعلم (عناصر القوة في العصر الحديث). يؤلمني عدم قدرة «حزب الله» على عقلنة السرديات الشيعية، رغم قدرته العسكرية العلمية على التصدي للعدوان الإسرائيلي. عقلان وذهنيتان، أؤيد إحداهما وأتصدى بالنقد للأخرى.
الغرب هو الحل؟
vv هناك ظواهر بدأت تنتشر في العالم الإسلامي مثل التشيّع الإسلامي والتنصير الغربي. ما الّذي يدفع اليوم إلى انتشار مثل هذه الظواهر والخوف منها ومن مرجعيّتها؟
في المجتمعات الصحيحة عقليا لا تقلقنا مثل هذه الظواهر: تغيير الدين أو الانتقال إلى معسكر/فرقة أخرى داخل الدين ليس إلا حق من حقوق الإنسان يجب حمايته. في المجتمعات المريضة – ومجتمعاتنا في أشد حالاتها مرضا – يصبح الدين لا المواطنة هو اللحمة الماسكة للكيان الاجتماعي. ومن هنا يُقدَّر الانتقال إلى دين آخر أو معسكر آخر «خيانة وطنية» جزاؤها الإعدام.
vv كيف ترى علاقة الولايات المتحدة الأمريكيّة اليوم بالمسلمين في أمريكا والعالم العربي والإسلاميّ. هل يمكن لأمريكا أوباما أن توجد هذه التسوية مع العالم الإسلامي وإصلاح مع أفسده المحافظون الجدد في التعامل مع الإسلام والعرب؟
نحن في العالم العربي نقيس العالم على مقاسنا. لأن كل شيء عندنا مرهون بإرادة السلطان أو الملك أو الأمير أو الرئيس، نتصور أن الرئيس أوباما قادر على صنع المعجزات. الرئيس أوباما رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحكمها مؤسسات تضع الاستراتيجيات السياسية العليا. مهمة أي إدارة هي التنفيذ، وإضافة لمسات هنا وهناك لهذه الاستراتيجيات على مستوى التكتيك. قد تكون مهمة «أوباما» تحسين صورة أمريكا في العالم بعد أن حولها المحافظون إلى هدف للكراهية في كل مكان، وقد تكون في فتح مجال أوسع للعلاقات الدولية (الصين صارت شريكا لا يمكن الاستغناء عنه). الأمر يتوقف في النهاية على «العرب»، هل هم قادرون على إقناع أوباما بأنهم جزء مهم من العالم؟ أم أنهم سيكتفون بانتظار «المخلص»؟
vv يقول محمد أركون ردًا على سؤال ما الحل؟ «الحل هو أن نذهب إلى السربون وندرس التاريخ الإسلامي هناك، وليس في جامعة قسنطينة.» هل يعني هذا الكلام أن الجامعات العربية التي تدرّس الفكر والفلسفة والدين أصبحت عاجزة عن أداء وظائفها الحقيقية تجاه الفكر والدين والفلسفة، لذا صار أولى أن نغرب إلى الغرب لكي نفكّر بحرية في شأننا الديني؟
لا أعتقد أن الأستاذ أركون يعني ذلك حرفيا بقدر ما يعبّر عن أسفه – وربما عن يأسه – من نظامنا التعليمي في العالم العربي. ليس فقط ما يشكوا منه كل رجال التعليم من أنه تعليم يعتمد على «التلقين» و«الترديد»، بل هو بالإضافة إلى ذلك فقير من حيث المحتوى. المثال المطروح هو «التاريخ الإسلامي» الذي يدرَّس بشكل تمجيدي، وبالتالي يفتقد المتعلّم أي إحساس بمعنى التاريخ والتطور والفعل الإنساني. لا شك أننا بحاجة إلى ثورة في مجال التعليم من رياض الأطفال إلى الجامعة، ثورة لا تتحقق إلا بثورة اجتماعية إصلاحية شاملة. من أين نبدأ؟ من الاقتصادي؟ أم من السياسي؟ أم من الثقافي؟ أم من الدين؟ حائرون في البدايات وعاجزون عن الحسم.
vv يرى أبو يعرب المرزوقي أن هناك خللا منطقيا في الفكر العربي الحديث هو ما يؤدّي إلى ضمور الإبداع الفلسفي في الساحة الثقافية الحديثة. أين يكمن في رأيك هذا الخلل وكيف يمكن ملء الفراغات في هذه الساحة كشرط لتحقيق الإبداع الفلسفي؟
الشرط الأساسي للإبداع – أي إبداع في أي مجال ثقافي فني أدبي معرفي – هو «الحرية»: هي البداية التي منها ينطلق الفكر القادر على تحقيق التنمية الشاملة. لم نعد نعلم – وليس مهما أن نعلم – من قال هذه العبارة التي تختصر بنية التقدم وصناعته: ليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة بيننا نبنيه بالحرية والفكر والمصنع (الترتيب هام).
vv التأسيس لفلسفة وفكر حرّ حديث. أين يقف العقل العربي اليوم في هذه العمليّة؟
في موقف الحيرة: من أين نبدأ؟
النهاية: حلم
vv نصر حامد أبو زيد، المرفوض من مطارات السلطة العربية- أزمة الكويت_ هل مازال اليوم يعيش خوف التهديد بالقتل؟ ثم ما القتل عندك هل في الموت بعد القول أم في الصمت القاتل؟
قال لي صديق يوما ما إنني معتزلي العقل وأشعري السلوك، وذلك حين أجبت عن سؤال مثل سؤالك بالقول: حين يحين أوان الموت سيأتي فلماذا أقلق على كيفيته؟ لم أعش أبدا في أي لحظة من حياتي هذا الخوف من القتل. وصلتني تهديدات كثيرة، وما أزال بين الحين والحين أتلقى تهديدات. غادرت مصر لحماية «الباحث» من التورط في سجالات عقيمة عن «الكفر والإيمان». لم يكن صعبا عليَّ أن أضحي بدور المعلم لحماية دور «الباحث» بعد أن صار مستحيلا الذهاب للجامعة يوميا تحت الحراسة.
الوصية
دثريني ابتهال
vv لو طلبنا منك طلبا غريبا كأن تكتب وصيتك في سطور بماذا توصي العالم؟
من أنا حتى أوصي العالم؟ حدود وصيتي لا تتعدى الأسرة، وزوجتي – شريكتي في كل الآلام والمتاعب – على وجه الخصوص: اكتبوا على قبري: هنا يرقد أحد الحالمين بمستقبل أفضل. أيها الزائر قبري لا تكف عن مواصلة الحلم!
j j j
jj وكان أبو زيد ولد في قرية قحافة القريبة من مدينة طنطا بمحافظة الغربية في العاشر من تموز عام 1943، وحصل على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي عام 1960، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة وتخرج في قسم اللغة العربية عام 1972، ثم حصل على دكتوراة من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1979 بتقدير مرتبة الشرف الأولى، وعندما تقدم بأبحاثه وكتبه لنيل درجة الأستاذية في كلية الآداب قسم اللغة العربية رفض الدكتور عبد الصبور شاهين منحه الأستاذية، وأشار في تقريره الذي رفعه إلى مجلس الجامعة أن أبحاثه وكتبه لا ترقى إلى درجة أستاذ، ودافع عبد الصبور شاهين عن نفسه فيما بعد في عدة تصريحات صحفية مؤكدا أنه لم يقم بتكفيره، وإنما أكد أن إنتاجه لا يرقى لدرجة الأستاذية.
خاض نصر حامد أبو زيد معارك عديدة عندما طالب بالتحرر من سلطـة التراث، الذي قال عنه: «آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورًا قبل أن يجرفنا الطوفان»، فأثارت كتاباته ضجة إعلامية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، واتُهم بسبب أبحاثه العلمية بالارتداد والإلحاد..
ونظراً لعدم توفر وسائل قانونية في مصر للمقاضاة بتهمة الارتداد، عمل خصوم د. أبو زيد على الاستفادة من أوضاع محكمة الأحوال الشخصية، التي يطبق فيها فقه الإمام أبو حنيفة، والذي وجدوا فيه مبدأ يسمى (الحسبة) طالبوا على أساسه من المحكمة التفريق بينه وزوجته، واستجابت المحكمة وحكمت بالتفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته قسراً، على أساس أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم، فحياة الزوجين باتت بعد ذلك في خطر، وفي نهاية المطاف غادر نصر حامد أبو زيد وزوجته د. ابتهال يونس الأستاذة في الأدب الفرنسي، القاهرة نحو المنفى إلى هولندا، حيث عمل نصر حامد أبو زيد أستاذًا للدراسات الإسلامية بجامعة لايدن منذ,1995.
وقامت أسرة أبو زيد، بدفن جثمانه عقب صلاة الظهر، بقرية قحافة في مدينة طنطا بمحافظة الغربية مسقط رأسه، وذلك بعد تأدية صلاة الجنازة على جثمانه بأحد المساجد التابعة للقرية، وكان على رأس المشيعين الدكتور حسن حنفي والمفكر الدكتور علي مبروك.
1- لم يكن قرار منعه من دخول الكويت لإلقاء محاضرته قادرا على اسكاته
2- انظر حواره مثلا بجريدة الدستور الذي واصل اتهامه له بصفته مروجا لايدز ثقافي وانه كان طالب شهرة لا طالب علم…والحق أن سؤالا يطرح اليوم هل كنا سنسمع عن عبد الصبور شاهين لولا تقريره في نصر حامد وإن كانت الإجابة بالنفي فأيهما جدير بصفة الباحث عن الشهرة؟ ولو راجعنا إنتاج الرجلين فأيهما أغزر إنتاجا وأعمق رؤية علما؟. 20103-01-
3 انظر مقاله بجريدة أخبار الأدب بعنوان «نصر» في عدد خاص بنصر حامد أبو زيد. رقم العدد: 886 الأحد 11 يوليو 2010
ناقد ومترجم من تونس