خمس حقائب في متجر..والمتجر يقع عند ناصية طريق يتدفق منه المشاة والسيارات وعربات الباعة وراكبو الدراجات وبعض البهائم التي تحسن الجر بمهارة وصبر أو حمل بني الإنسان ..
في المتجر رفٌّ اصطفت عليه خمس حقائب سفر إلى جانب بعضها …
كانت الحقيبة الأولى بلون زيت الزيتون الغامق والثانية بلون القهوة الممزوجة بشيء من الحليب والثالثة بلون بنفسج عطش, والثالثة بلون نبيذ معتّق.. أمّا الخامسة فكانت سوداء كثياب الأرامل والثكالى في بلاد أدمنت الحروب ..
الحقائب الخمس تشرف على الطريق المزدحم وتتأمل المارة بحسرة وتتهامس بأصوات خجولة وهي تحلم أن يدخل المخزنَ أحد المارة ويشتري واحدة منها ..لكنَّ أفرادا قليلين فقط من المارة وبعض المتسكعين والمشردين كانوا يقفون أمام واجهة المحل البللورية ويتأملون الحقائب النسائية الأنيقة المعروضة وحقائب تلاميذ الأطفال الملوّنة وجزادين النقود المصنوعة من جلود التماسيح كما قيل ..وما إن يناديهم صاحب المحل العجوز ويشير إليهم بيده التي يشبه جلدها جلد سلحفاة عجوز حتى يمضي المتسكّعون مسرعين غير مبالين ..
طال انتظار الحقائب الخمس فوق الرفّ …علاها الغبار الناعم .. كانت ترنو بحسرة إلى بعض الناس الذين يمرون ….راكضين ذاهلين …أجسادهم تدبّ على الرصيف وأرواحهم هائمة في أمكنة بعيدة ..بعيدة ..
في ليلة عيد ….ذهب صاحب المحل مبكراً إلى بيته فمن يشتري الحقائب في ليلة عيد..!..سمعت الحقائب دوي المدافع المبشّرة بقدوم العيد وأصوات المآذن وغناءً ينبعث من كل مكان … ثم عمّ الهدوء قليلا ليل المدينة …
قالت الحقيبة ذات اللون الزيتي وقد استعر حلمها
-أتعرفون ما أتمناه الآن ؟…صرخن جميعاً
– ماذا تتمنين يا أختنا الزيتية ؟
– أتمنى أن يشتريني رجل غني يحبّ الأسفار.. يحمل في جوفي العطور الفاخرة وعلب السجائر والقمصان الحريرية والمناديل الملونة وربطات العنق وأزرار القمصان الذهبية ولا بأس أن يضع في جوفي بعضَ الممنوعات….أنا أحب المخاطرة ..ويسافرَ بي في بلاد الدنيا تحملني الطائرات الصغيرة والكبيرة وتجوب بي أنحاء الدنيا ينتقل بي من مطار إلى آخر ومن محطة قطار إلى أخرى…..من فندق إلى آخر ومن حقيبة سيارة إلى أخرى ..ولا آبه بعده ذلك إن رموني في مكبٍّ قمامة..يكفي أنني رأيت ما لا يراه أحد ..
قالت الحقيبة ذات لون القهوة مع الحليب
– أتمنى أن يشتريني ممثل ..نعم ممثل كوميدي…لماذا تبتسمون ؟! أنا أحب الفرح والضحك.. والابتسام…أتمنى أن يضع في جوفي ثياب التمثيل والقبعات الملوّنة الغريبة وبعض الذقون والشوارب وأقنعة مضحكة لملوك ومجانين وحيوانات وأمراء ورجال دين وأغبياء ….ويسافر بي في سيارته القديمة من بلدة إلى أخرى .. ننام في فنادق رخيصة وخيم قد ننصبها على قارعة الطريق وقد ننام أحيانا في السيارة ..أو خلف خشبات المسارح …يفتحني قبيل العرض ويُخرج الثياب المناسبة ..إمبراطور- خادم ..ديكتاتور … حمار.. ثور.. لص…حمّال …وزير ..مزارع ..حارس …مهرج …. ..فأسمع بعد قليل ضحك الجمهور …صراخه ..تصفيقه …ثم يعود إليّ باسم الثغر يضمخه العرق وربما سألني في يوم ما …هل أعجبك العرض يا حبيبتي …أقصد يا حقيبتي ؟
قالت الحقيبة ذات اللون الخمري ..
– أنا ..أتمنى أن تشتريني عروس جميلة اقترب موعد زفافها وقد حظيت أخيراً بمن تحب فتضع بي أثوابَ فرحها ..أدواتِ زينتِها …عطرَها الذي سترشه على جسدها الفاتن ..أثوابها الرشيقة التي سترقص بها كالفراشة الطروب متباهية بجسدها والجميع سوف يشتهي جسدها المحرّم قبل فارس أحلامها ….ثم أُحمل في سيارة فارهة مزدانة بالورود والشرائط الملونة تدور بي أنحاء المدينة مطلقة زمور الفرح وهي تحمل أجمل الصبايا المتنهدات ..وحين نصل دار العريس سوف أحمل على الأكتاف والأغاريد تحيط بي …
قالت الحقيبة ذات اللون البنفسجي …
-أتعرفون ما أتمناه الآن …أتمنى أن أضمّ في جوفي ما تبقى من ثياب امرأة أرهقها ظلم زوجها المخادع وأعيتها الجراح التي تحاول نسيانها , ولكنّ إهانات الزوج كانت تنكؤها كل صباح ومساء من جديد …فقررتْ هذه المرأة الجريحة الرحيل إلى أيّ مكان يدفع عنها الظلم ..وهاهي تنزلني من فوق خزانتها وهي تبكي بحرقة ,ترميني على السرير الذي اغتُصبت فيه مرارا وتقذف في جوفي على عجل ما استطاعت من ثياب ثم تفرُّ هاربة من بيت توهّمت أنه جنة أحلامها حين دخلته صبية مشرقة الجمال في يوم لا تنساه …وسوف أجازف معها في رحلة الهروب هذه ..مهما كان المصير ..
عمّ الصمت المكان …وانتظرت الحقائب الأربعة أن تفصح الحقيبة السوداء عن حلمها ..ولكنها بقيت صامتة
صاحت الحقيبة الزيتية
-هيه أنت يا أختنا السوداء ..أليس لك حلم تقولينه ؟!..تكلمي لا تخجلي
تأملت الحقيبة السوداء الظلام الذي يسكن المتجر والباب الحديدي المغلق من الخارج بثلاثة قفول ثم قالت…
.حلمي بسيط يا إخوة السفر ..أتمنى أن أكون الآن في يد مسافر عائد إلى وطنه …يقبض في يده اليسرى جواز سفره القديم الذي ازدحمت فيه الأختام من مختلف الشعارات والألوان والبلدان..وأنا في يده اليمنى التي أنحلتها الغربة حتى العظام وقد وضع في جوفي وثائق ملكية بيته .. شهاداته ..بقايا ثيابه .. صور أهله وأحبابه ..من بقي منهم على أرض وطنه .. ومن رحل إلى أعماق الأرض أو أصقاع الدنيا ………وهاهو يعود حاملا إياي بفرح لا يسعه الكون كله ..على متن طائرة ..في قطار سريع .بطيء ..باص ..نقل …سيارة صغيرة ..لا فرق في ذلك …المهم أنه سيعود أخيراً إلى وطنه …
صمتت الحقائب جميع ….نامت تلك الليلة والليالي الباقية وهي تحلم ..وأخيرا…
بعد أيام أو أسابيع …أو..غادرت جميع الحقائب الرف ..ويقولون إن أحلامها قد تحققت ..
ما عدا الحقيبةَ السوداء …فما زالت تنتظر ..رغم أنها الأجمل ..
نورالدين الهاشمي*