1- مبدع يحاصره الصمت:
الصمت لغة للتخابر الخفي، وقد يكون الصمت أبلغ من الكلمات والملافظ التي لا تستطيع النفاد إلى أعماق الإنسان، هذا ما اصطفاه القاص أحمد محفوظ عمر الذي يخط أفكاره في مساحة صمت، ويعيش هادئاً بعيداً عن الطنطنة الإعلامية والتمظهرات الخارجية وتلميع الوجه، ومتشبعاً بثقافة الصمت والإصغاء للآخرين، ومعجوناً بالمعانة والآلام، يسكب أحاسيسه في المناطق القصية من المشاعر الإنسانية مترعاً بالحب والوفاء والعفة والشموخ.
فإبداعاته القصصية تمنح المتعة للقلب والنفس، وملفعة بنفحة إنسانية وروحية ثاقبة، وتعتبر مرآة للواقع الاجتماعي، وملمحاً للحب والجمال والجلال، لا تتسم بركتها وهلهلة نسيجها بل بالرصانة والعمق تحتاج لمن يغوص في أعماقها ويضع هذا المبدع في المرتبة المناسبة.
إنه يكتب ويكتب ويمشي فوق صفيح ساخن في أجواء الانكسار شديد الولع بطقوس الكتابة الإبداعية مشغوف بالتوحد والذوبان بتضاريس وتعرجات البيئة المحلية، فله باع طويل في الكتابة القصصية، وله فرادة وقسمات ينفرد بها عن غيره من كتاب القصة والرواية اليمنية.
فالكتابة كما تقول الروائية اليمنية نادية الكوكباني:
(هي عبق الحياة الذي أتنفسه، هي المدن التي تخترق أوردتي منازلها وشوارعها وناسها وحجارتها !… جميل أن نكتب، والأجمل أن نستمر في الكتابة، والاستمرار يجعلك دائم البحث عن مستوى لم تصله في تجربتك الإبداعية. حتى لو لم تنشر، المهم أن تشعر بأنك مستمر في الكتابة ولو على جمجمتك) (1).
فالقاص أحمد محفوظ عمر يكتوي بنيران الإهمال، بالرغم من أنه يقرأ بإمعان مفردات الواقع ومغموس بالهم اليومي، وله سجل ناصع في الإبداع تناولته بعض الأقلام ولم تكتمل دائرة الصورة النقدية في استبصار العالم الداخلي للقاص أحمد محفوظ عمر، وتوضيح مناطق المنزلقات والإجادة في النسيج القصصي التي لا يعرفها إلا المهرة من النقاد.
فالقاص أحمد محفوظ عمر بلغته البسيطة والأنيقة، لا يتهادن مع البيئة الاجتماعية المترعة بالخروم والأمراض، بل ظل ناقداً بفن قدر المستطاع لعورات الواقع متشحاً بالصبر والإرادة القوية.
وكأنه يقول كما قال أحد المفكرين:
(ليست مهنتي أن أكون فيلسوفاً فأجيبك وليست مهنتي أن أكون حارساً ليلياً، ولكنني رأيت النار تنشب في المنازل المجاورة وتدفعها الرياح باتجاهك، وهكذا باعتباري قد عشت هذا القرن الملعون لم أشأ أن أموت دون أن أصرخ صرخة الإيقاظ: انتباه، أفتحوا أعينكم، ينبغي أن تكون ثاقبة حتى ترى الأفق وتلزم الأيادي أيضاً لتقبض على طوق النجاة، علينا إدارة الظهر لليل وألا ننتظر الظهيرة لنؤمن بوجود الشمس)(2).
ففي قصته الموسومة بـ ( أنظر.. ماذا ترى ؟!)، يصور لنا القاص بتكنيك قصصي شائق، صبياً يقرأ الفنجان بإيعاز من شيخه الكاهن، الذي لا يريد للصبي أن يقرأ كل شيء في الفنجان، وإنما يعلمه القراءة الانتقائية وتجاوز الحقائق والصور الواضحة والمؤلمة في غميس الواقع،الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى طرد الصبي بقوة واعتساف، واستبداله بصبي آخر، لأنه رأى عالماً تتمزق أوصاله، وشاهد كماً هائلاً من الصور الملفتة للانتباه منها: العهر السياسي، العوز، الدعارة الفكرية، التخمة، العطش،الجوع، الضوضاء، وتيه المصير (والضمائر تسلخ في سراديب الرشوة والفساد)، رأى (المبادئ السامية تهزم بأغلبية المنافقين، والحقوق المشروعة تهدر أمام الهبات الرخيصة، والكرامة تذبح في محاريب الخنى والمروق.. أناس يموتون من الارتواء والتخمة.. وآخرين يموتون من العطش والجوع..) .
فأحمد محفوظ عمر كأبطال قصصه يتميز بالصبر لتحقيق الغايات والمقاصد على غرار بطل قصة (يا أهل هذا الجبل) التي ظلت الأصوات تتبعه وهو (يجالد الصعاب.. ويتجنب النكبات..) قائلة له:
(عليك بالصبر.. فالله مع الصابرين). ولقد كانت قصة (فجيعة أبي) من أولى القصص التي سطرها القاص وارتقت درجات بمستواها الفني والقصصي وتختلف عن الأقصوصات المدرسية التي كتبها في مرحلة طفولته القصصية عام 1955م (قربان الوطن)، (القبر التائه).
(فجيعة أبي) نشرت في مجلة «المعلم» (عدن – 1959م)، ص14-15، وكانت محل استحسان من قبل الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان.
لقد أشار ثلة من النقاد أن الغربة سمة مميزة لأبطال قصص أحمد محفوظ عمر، إذ أن أبطال قصصه يعانون من مكابدات نفسية وأزمة هوية تتقاطع مع الواقع الموبوء بالأمراض والمفعم بالتعقيدات الاجتماعية.
إن الغربة التي يتسم بها أبطال القاص أحمد محفوظ عمر هي سليلة المرارات التي يعيشها أفراد المجتمع، وبما إنه ابن البيئة الوطنية استطاعت ريشته الأنيقة أن تصور بحذق الغربة التي يكابدها العامة، هذا التصوير اللبيب يتواكب بوجه عام مع الدراسات في علم الاجتماع التي تؤكد، أن المواطن العربي يعيش أزمة هوية وغربة عن الواقع المعاش خاصة الجماعات الاجتماعية النشطة والمشغوفة بأمل للتغيير الاجتماعي الإيجابي.
ومع ذلك لا يستسلم للأوضاع المأزومة، ويصرخ كما صرخ بطل رواية «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي:
(أيها القوادون.. السراقون.. القتلة. لن تسرقوا دمنا أيضاً. املأوا جيوبكم بما شئتم. أثثوا بيوتكم بما شئتم.. وحساباتكم بأي عملة شئتم.. سيبقى لنا الدم والذاكرة.. بهما سنحاسبكم.. بهما سنطاردكم.. بهما سنعمر هذا الوطن.. من جديد) (3).
لقد استطاع يراع أحمد محفوظ عمر بشاعريته وبلغة تعبيرية راقية وبتكثيف جمالي عميق أن يعكس البيئة الاجتماعية بتلاوينها الطيفية، ويمنح الفن القصصي روحاً تعبيرية شفافة تسهم في إثراء القصة اليمنية من الناحية التعبيرية والتكنيكية ومن زاوية المضمون والعمق القصصي.
2- الموت والعذاب الغليظ فـي: العيون الملطخة بالطين(4):
أحمد محفوظ عمر ليس قاصاً مشاغباً ولا يميل إلى التهييج المصطنع والتهويل للأحداث العابرة, ولا يزرع الرعب والجنون ولا الخيال الجامح في قصصه كما يصنع الكثيرون أمثال ادغار آلن بو, صاحب الإثارة والقصص البوليسية والمتحدث الشهير عن الحياة والرعب والموت.. فالقصة عند المبدع أحمد محفوظ «معاناة مرهقة يسفح في سبيلها كثيراً من العرق والجهــد», فهي تنفرد باقتناص اللحظة المأزومة(5) – حسب تعبير حنا مينه – فاللحظة المأزومة في قصـة « العيون الملطخة بالطين», هي موت طفلته البريئة, حيث استطاع أن ينقل المشاعر والأحاسيس الإنسانية الحية في هذه اللحظة ويترجمها في صور وتعابير فنية مثيرة, لا يستطيع القيام بذلك إلا المهرة من المبدعين الذين يجيدون النفاذ إلى العالم الداخلي للإنسان, ويهزون عروش القلوب بذكائهم وحنكتهم وقدرتهم على التبصر والتصوير والملاحظة والتحليل النفسي والسيكولوجي والخيال الخصــب المتناسل من رحــم البـيـئة المكانيـــة.
لمـــاذا تتلطـخ أعيننـــا بالطيــــن ؟
هل قـدر الموتى أن تتلطـخ عيونهم بالطين ؟ هــذا هو الاستفسار المحيـــر والمدهش والمستـفـز, الذي تتكئ عليه القصة الواقعية.. فعندما رقدت الطفلة رقدتها الأبدية وانتـقلـت روحها إلى باريها, استطاع يراع المبدع أحمد محفوظ, أن يبسـط صورة رهيفة ورائعة للمشهـد التراجيدي, واستطاع بحــدس الفنان أن يغوص في أقاصــي النفس البشرية, ويصور بدقة متناهية «حــدث الموت» والحمولة القاسية غير المرتقبة التي أضافت جرعة من المعاناة والكمــد الغوير إلى نـفـس ووجدان القاص, وقلبت الطاولة رأساً على عقــب واستـفــزت المشاعر الإنسانية الكســيرة, فعندما امتــدت اليــــد الغليظة للقبــار لتلطيخ «الوجه الطفولي البريء.. بالطين بهمجيــة مقــززة» في بطــن القبــــر.
إن القاص أحمد محفوظ عمر كاتب لا يستهويه العبث واللهو بالكلمات, فهو يطلق أفكاره بطريقة منتظمة ومتناسقة في الهدف المرتقب, وفي بناء قصصي حصيــف تفوح منه رائحة الجــودة والإبداع القصصي, ولا يصنع أبطاله من ورق وأشباح وإنما ينتقيهم من البيئة المكانية الحية النابضة بالعطاء والنماء, « فالحياة كوميديا لمن يفكرون.. وتراجيديا لمن يشعرون»(6) – حسب قول دانييل جولمان- نعــــم تراجيديا لمن يشعرون, فالقصة التي بين أيدينا ثــرية بمشهــد تراجيــدي حافل بالدهشة والحــزن, حيث يقـدم القاص صورة نابضة لعذاب أليــم وللقبضة الغليظة التي لطـخت وجـــه الطفلة الميتــة بالطــين.. لقــد غــذى القاص القصــة بوجبة شهية من اللقطات الرائعة والسريعة للحــدث وقــدم كســراً بهيــة من الوقائع الحيــة لموت أليم يقــع كالصخرة على أبوي الطفــلة وأهـلها, وجعـلهم يلعـقون المرارات, ويموتون كمــداً وتـتقــطــع أنيــاط قـلوبـهم مــن هــول الحـــــــدث.
إن الذكاء العاطفـــي للقاص المكلوم, لم يجعلـه يقرأ أحـاسيسـه ومشاعره فحســب, بل مكنــه هــذا الذكاء من قراءة مشاعر الآخرين بقوة الملاحظة ودقة التعبير, ووصــف حـاذق للأحاســيس والأمزجـة والسلوكيات المنفعلة والمضطربة, حيث تمكنت عـدسته الذكية وحدسه المرهف أن يصور مشهداً نادراً في اللحظة المأزومة للبيئة المكانية والفضاء العام والجموع المحتشدة والغبار, وزوجته, حيث يشير إلى أنه: « لم يكن يعرف ـ أن لزوجته صوتاً مهـولاً.. تكمن في نبراته أحزان منفردة.. تهــدر كشـــلال دافق من قمــة المأساة الخالدة.. لقــد انتفت البحــة التي تميزت بها من قبل وهي تلبد بين ذراعيه تتمسح بصــدره وهو يعب كأس اللذة ويتروح أنفاسها المألوفة.. ولكنـه ارتاع في الوداع الأخير, حيث اندفعت تصرخ بحرقة لاسعـة.. وشعرها منكوش.. وعيناها زائغتان.. وثمــة أيــد لرجال عـددين تمسك بها.. وتمنعها, وقـد برز أحــد نهديها عارياً من يجانب في الثوب المشدود.. وهو يرقب المشهــد بذهول, وكتلتان من الأثقال تعوقان قـدميه عن الحركة».
ولا ينسـى القاص في أقصى حالات المرارة والحزن, أن يربط حزنه بأحزان الأمة, ويتـذكر مصير الأمة العربية المكلومة في لمحات تعبيرية مكثفة. وفي السياق نفسه, هناك ملاحظة لا بد من الجهر بها, هو أن العمل مشبع بالرمزية اللذيـذة, يعطي القارئ إمكانية لقراءة القصة على غير وجــه, وتعطيه فسحـة مريحة للنظــر إلى حـدود أرنبة الأنف, وفي الضفة الأخرى يحفزه النص أن يرنو بعينيه إلى ما وراء الأكمـة, ويشعل الاستفسارات:
«الأعـداء الذين نجحوا في الإجهاز على العنق النحيل.. المأساة.. الهــدنة مع العــدو.. لماذا تعادينا أمريـكا ؟.. ولماذا تتلطخ عيوننا بالطيــــن ؟».
فقصــة «العيون الملطخة بالطين», مترعة بالتكنيك القصصي الحديث, وبالرمزية وبضروب من الصور الفنية الممتعة والخيال الخصب والقدرة الرائعة على التصوير واللغة الأنيقة التي تخرج عن المألوف والنمطية الرتيبة.
في هذه القصة تلتمع اضاءات إبداعية تجاوزت عتبة التقليد بأسلوب لذيذ وخلاب وبلغة طيعة ومختنثة مسربلة بغموض شائق ليس من اليسير فض مغاليقه.
أومأ الدكتور / عبد العزيز المقالح أن قصة:
« العيون الملطخة بالطين «، هي واحدة من ثلاث قصص يمنية اخترتها في بداية العام الدراسي المنصرم استجابة لطلب عميد كلية الآداب جامعة صنعاء، لتدريسها لطلبة السنة الأولى في القسمين العربي والانجليزي، والقصتان الأخريان هما: للصديق زيد مطيع دماج. وقد كتبت تحليلاً موجزاً لقصة « العيون الملطخة بالطين «، ورأى مدرس المادة أن يردفه بتحليل آخر، وكان للعميد نظرة مخالفة للتحليلين، وكان لمدرس آخر وجهة نظر رابعة.
لقد احترنا جميعاً في تحديد هدف القاص، وقد فسر كل واحد الهدف على حسب فهمه،وفي اعتقادي أن هذا ليس عيباً بقدر ما هو إثراء للعمل الأدبي، وإعطاءه أكثر من جانب، وليس هذا الصنيع في إمكانية أي قاص، وإنما تلك سمة من سمات القاص المبدع الأصيل، وأحمد محفوظ عمر قاص مبدع.. وآمل أن يستمر في كتابة القصة، وأن يتجنب كتابة أي شكل أدبي آخر شعراً كان أو نقداً، فإن ذلك سوف يفقده قوة التركيز الذي جعله يتبوأ المكانة العالية بين كتاب القصة في بلادنا بخاصة، وفي الوطن العربي بعامة (7).
3- نقطة ضعف في حياته:-
يقول بطل رواية « أفواه واسعة», للروائي المغربي محمد الزفزاف « 1998م»:-
«.. إنني أعرف كثيراً من الناس يحلمون بأن يكونوا كتاباً ورسامين أو مغنيين أو ممثلين أو فاضحي عوراتهم حتى يقال بأنهم أنجزوا شيئاً في هذه الحياة».
فالقاص أحمد محفوظ عمر الذي ولد في عدن عام 1936م, لم يتسلق الأكتاف ولا يبحث عن مجد أو شهرة زائفة, يقرأ بحــذق مفردات الواقع دون طلأ أو تزييف بعيداً عن الرياء النفسي والاجتماعي والسياسي وغير مصاب بداء السهولة والابتذال, فهو صاحب رواية «مبادئ لا تباع», و«رسائل إلى من يهمه الأمر», وله بصمات لا تخطئها العين في تطوير تقنية الفن القصصي اليمني ابتــداءً من مجموعته القصصية «الإنذار الممــزق» 1960م, وانتهاءً بمجموعته القصصية (تحت الطبع), «أبيــع الفــل يا شاري», ومــروراً بـ«الأجراس الصامتة», و«الناب الأزرق», و«يا أهــل هــذا الجبــل»…
ولســت بحاجة للقول أن للــقاص أحمد محفوظ عمر قــدماً راسخاً في القصة القصيرة, حيث يقول عنــه الأديب والـناقــد الســوري فـــوزي معروف: أن(أحمد محــفوظ عـــمر قــد طور هــذا الفـــن (القصصي) ووصل به إلى مستواه في بقية الأقطار لقدرته على استخدام كافة طرائق التعبير من سرد إلى منولوج إلى حوار, وتمكن من اختيار لغته حتى ارتفعت في بعض قصصه إلى مستوى الشعــر.. كمـا ابتعــدت القصة عنده عن المباشرة والأسلوب التقريري حتى وهو يعالج موضوعاً من الواقع إذ نحـس أنه لا يمسك القلم إلا بعــد أن يكتمل نضــج الموضوع في ذاته, كما أن القصــة لا تلتزم عنــده أسلوباً واحــداً بل تتنوع الأساليب حسب الحدث وطبيعـة تطوره, وكذلك لا يتقيد بمفهوم تقليدي في بناء القصة, بل أن كل قصة عنده تبــدع شكلها الذي يناسب مضمونها والهدف منها. وهـذه صـفات الكبار من أعـلام هــذا الفــــن)(8) .
فلكل إنسان شـفرة سـر في حياته, فالحياة على حــد تعبير هـذا القاص «بطبيعتها معقدة ومليئة بالأسلاك الشائكة وبعلامات الوقوف الحمراء الكثيرة عند كل منعطف وأنت في الحياة وجدت رغـماً عن أنفـك.. وتركت في أتونها تصارع الصعاب وتقاتل البقاء, في أعماقك طموح مستمر لحياة أفضل وأهــدأ.. وكما يجد الإنسان نفسه يزاول عملاً ما يحبـه ويتقنه, يجــد الكاتب أيضاً نفسه في عمل إبداعي معين, يرى فيه الرغبة والارتياح للتعبير عن خوالج نفسه, ويشعر بأنه الـوعــاء الأمثل الذي يستــطيع أن يســتوعب نبضات مشاعــره الجياشــة بمختلف الأحاسيس»(9).
ولعل أهم نقطــة ضعــف في حياته أنه خجول حتى النخاع تنقصه الجرأة, ولا تهفـو نفسـه للشهرة والسراب الخادع, وفي غير مرة اكتوى بنيران النسيان تحت ستار سميك من الصخــب الإعلامي والتهويــش والتغنــدر اللفــــظي.
وهناك كثرة كاثرة من المبدعين في هذا الجنس الأدبي, ربما لم يقرأوا أو لم يسمعوا بأحمد محفوظ عمر,كاسم لامع في فضاء القصة اليمنية الحديثة.
يقول الأديب الألماني جونترأورت (جامعة برلين), في كتابه المسمى « دراسات في القصة اليمنية القصيرة»:
«عندما بدأ اهتمامي بالقصة القصيرة في اليمن لفتت قصص أحمد محفوظ عمر انتباهي من بين قصص مختلف الأدباء اليمنيين منذُ أول قراءتي لها. وجــدت نفسي أمام قاص جاد وبارع يمارس فن القصة بشيء كبيــر من الوعي والقدرة والمتعة…». وكانت أبرز الملاحظات التي بسطها جونتر أورت على قصص أحمد محفوظ عمر هي كالتالي: –
1- أبطال القصـص يعانون عــزلة في مجتمعهم.
2- يعبر الكاتب عن موقف ناقــــد تجاه الواقـــع.
3- يستخــدم أســـاليب فنية قصصيــــة مــتـطورة.)(10)
لقــــد ولد القاص أحمد محفوظ عمر في الشوك وعاش حياة قاسية مفعمة بالمخاطر والتوجس والتوجع وتعلم دروساً بليغة من مدرسة الحياة, واستخدم لغة قصصية مغموسة بالهم اليومي وبدون جمجمة يقتحم مغاليق الشخصية اليمنية, ويجيد فن الغوص في أغوار المجتمع. حيث بدأ مشواره الأدبي منذُ أكثر من نصف قرن, بأول قصة موسومة بـ«قربان الوطــن», وأهجـس أن خجله وصمته النبيل ربما يكون من الأسباب المفصلية مرفوقة بعوامل شتى حالت دون شيوع نتاجاته الأدبية والقصصية بصورة ملائمة شأنه شأن الشاعر العراقي محمود بريكان, الذي لم ينعم بقسط معتبر من الشهرة في حين أنه كان يقف على قمة الهرم الشعري مع زميله الشاعر بدر شاكر السياب.
وعلى خـط آخر أتذكر مفكراً وتربوياً جليلاً لم يأخذ نصيبه من الشهرة والتألق ألا وهو الأستاذ الدكتور عبدالله عبد الدائم, الذي يشكو عدم شيوع مؤلفاته في الساحة الثقافية والتربوية العربية بشكل يليق بمقامه الرفيع, حيث ألف أكثر من خمسين كتاباً, فضلاً عن مئات المقالات والمحاضرات والأبحاث العلمية في بحــر ستين سنه, حيث يقول:
«إن جانباً كبيراً من فشـلي في ذيوع نتاجي الثقافي يعود إلـيُّ. ذلك أنني انشغلت بالإنتاج عن الترويج له, ولم أحاول في يوم من الأيام أن أذكر من يعنيهم أمر الثقافة بما أقوم بإنتاجه مما يستحق النقــد والتقويم. لقد كان جُـل وقتي موزعاً بين العمل الوظيفي (في الجامعة وفي اليونسكو وفي سواهما), وكنت أنتزع السويعات القليلة (بالإضافة إلى أيام العطل) وأسهر الليالي أحياناً, وأحرم نفسي وعائلتي من النزهة, من أجل أن أقرأ أو أفكر وأؤلف. ومن هنا لم يكن لدي متسع من الوقت لمتابعة ما أنتــج وللتعريف به ولبثــه وإذاعته. إن التعريف بالعطــاء «لاسيما في مجال الفكــر «لا يقل شأناً عن العطــاء ذاته»(11).
فالقاص أحمد محفوظ عمر يكتب نصــه الأدبي بعيــداً عن الإسراف والتسرع وشعارات الزينة «فيصارع الكلمات وهي تصارعه إلى أن يخضعها أو يترجل عنها, ويجد غيرها, فيلجمها أو يتوقف عن الكتابة», حسب تعبير الدكتور هشام شرابي(12).
وعن تجربته القصصية يقول القاص أحمد محفوظ لمجلة الثقافة الجديدة:
«قبل الكتابة تمــر القصة في ورشة عمل خاصة, حيث يصنع لها الهيكل المناسب, وترسم ملامح الشخوص وتقولب الفكــرة.. ثم الابتعاد عنها فترة من الزمن, وأعود إليها بين حين وآخر بالإضافة والحذف ثم يأتي وقت الكتابة في زمن مفاجئ تكون فيه درجة الاستعداد في أعلى مرحلة. أما عن مــدى الزمن الذي تستغرقه الكتابة فأمر صعــب للغاية فلا يوجــد وقت محــدد للإبداع.
فقــد تستغرق كتابة قصة معينة عــدة أشهر, وقـد تستغرق كتابتها عــدة أيام.. والأمر متروك أولاً وأخيـراً للظروف النفسية والحياتيـــة»(13).
فثمة رواد للرواية في الوطن العرب في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يأتي في مقدمتهم فرانسيس مراش، مروراً بمحمد حسين هيكل « زينب»، والشاعر والروائي جبران خليل جبران « الأجنحة المكسرة ».
وهناك رواد للقصة القصيرة في الوطن العربي ومن ألمعهم سعيد حورانيه، ذو النون أيوب، ويوسف إدريس، وفؤاد كنعان.
أما أول من كتب الرواية اليمنية فيأتي على رأس هذه القائمة: أحمد السقاف -1927م – (فتاة قاروت)، محمد علي لقمان – 1939م – رواية (سعيد)، ثم الطيب أرسلان – 1948م – رواية
(يوميات مبرشت)، وفي المرتبة الرابعة علي محمد عبده – نهاية الخمسينات من القرن العشرين – رواية (حصان العربة).
أما على صعيد القصة القصيرة فقد بدأ هذا الفن القصصي على يد أحمد البراق عام (1940م) بقصة (أنا سعيد)، مروراً بالقاص حامد عبد الله خليفة (1948م)، (مجموعة قصصية)، ومحمد سعيد مسواط (1949م) قصة (سعيد)، وأحمد محفوظ عمر (1955م) قصة «قربان الوطن»، ثم صالح الدحان (1957م) .
ثمة فسحة للتحاور والنقد والإقناع خارج أسوار المجاملات في محاولة لإطلاق الحوار والانخراط في سجال مثمر ومُــدارسة عميقة للأعمال القصصية والروائية اليمنية بمنأى عن البصمة الشمولية وذهنية الحبس وثقافة المجاملة والطبطبة الذكورية. لقد تعمد البعض طمر صورة المبدع أحمد محفوظ عمر في الرمال، وحاول البعض منهم قتله بالصمت وجعله يكتوي بنيران النسيان.
* الهــوامــش:
1- حوار مع صاحبة رواية « حُــب ليس إلا «, الأديبة اليمنية نادية الكوكباني, دبي الثقافية (دبي), العــــدد20،(يناير 2007م), ص 50.
2- علي حسين, « روجية جارودي.. الفيلسوف المشاغب «, مجـــلة الكــويت (الكويت), العـــــــدد 264, (أكتوبر 2005م), ص 74.
3- أحلام مستغنامي, رواية, ذاكرة الجسد, (بيروت: دار الآداب, ط ا, 1998م), ص 395.
4- أحمد محفوظ عمـــر, « العيون الملطخة بالطين «, الحكمـــــــة (عدن), السنة الخامســــة, العدد 42, (أغسطس 1975م), ص 20- 25.
5- حنا مينة, القصـة والدلالة الفكـــرية, كتاب الرياض (76) (الرياض: مؤسسة اليمامة, مارس 2000م), ص11.
6- دانيل جولمان, الذكاء العاطفي, ترجمة ليلى الجبالي, (الكويت: سلسلة عالم المعرفة 262, تشرين الأول
2000م), ص 30.
7- د. عبد العزيز المقالح, « ملامح التعبيرية في مجموعة أهل الجبل «, التواصل (جامعة عدن),
العدد 7, (يناير 2002م), ص 202.
8- فوزي معروف, « نماذج من أحمد محفوظ عمر «, التواصل, المرجع السابق, ص 208.
9- « تجارب إبداعية, أحمد محفوظ عمر «, الثقافة الجديدة (عدن), السنة 18, العدد 8, (أكتوبر – نوفمبر 1988م), ص 210.
10- جونتر أورت, دراسات في القصة اليمنية القصيرة, (صنعاء: مركز عبادي للدراسات والنشر, ط1 2004م), ص 69.
11- د. عبد الله عبد الدائم, « 50 كتاباً في 60 سنة.. ولم أصل إلى القارئ «, المعرفة (الرياض), العدد 118, (فبراير 2005), ص 147.
12- العربي (الكويت), العدد 566, (يناير 2006م), ص123.
13- « تجارب إبداعية, أحمد محفوظ عمر», الثقافة الجديدة, مرجع سابق, ص 212.
سمير عبد الرحمن هائل الشميري
كاتب وأكاديمي من اليمن