كمال العيادي*
رجعت أنجيلكا النادلة، كما عرفتُ من اسمها المنقوش على مشبك نحاسي مشدود بانحراف متعمّد على وهاد صدرها البضّ والمتدلق كضرع بقرة هولندية حلوب.
ــ “آوف داينم فول شاتس”: Auf dein Wohl schatz في صحتك يا كنزي.
قالت أنجيلكا وهي تحية بافارية.
ــ “دانكي شون” Danke Schoen. شكرًا.
أجبتها:
ــ هل أدفع الآن؟
ــ لو تتفضل. لأن النظام هنا يفترض الدفع حالًا، أنت ترى آلاف الزبائن وكل واحدة منَّا تخدم عشرين طاولة، وفي كل طاولة تسعة وخمسون شخصًا، والإيطاليون والأمريكيون يزوغون وهم يتعمدون السكر ولا يدفعون. بمجرد أن ألوّح لهم بمؤخرتي يتسللون خفية، ويختلطون بالآخرين، ويجلسون في مكان ما من الخيمة بحيث لا أراهم، وربما ذهبوا إلى خيمة أخرى. وأنجيلكا الساذجة تدفع من صدرها الحلو… لذلك ومنذ سنوات تغير النظام وأصبح الدفع إجباريًا مقدمًا. يا سيدي.
ــ كم يا عزيزتي أنجيليكا؟
ــ ثمانية يورو وتسعون سنتًا يا كنزي.
ــ خذي عزيزتي.. هذه عشرة يورو، دعي الباقي لك.
وفي الحال شهر جورج ويلي كأسه بطريقة مسرحية وهو يقف قائلًا بابتسامة يغبطه عليها ملائكة السماء جميعًا:
ــ صحّتنا.
ــ صحة. أجبته.
ــ أنت تتكلم الألمانية بطريقة مذهلة ودون لكنة. هل أنت مولود في ألمانيا؟
ــ شكرًا سيدي.
ــ من أين أنت في الأصل؟
ــ تونس. من تونس.
ــ أندونيسيا؟!
“تونس وأندونيسيا تنطقان بالألمانية بشكل متقارب جدًّا”.
ــ لا. أنا من تونس. أندونيسيا في آسيا. وتونس في شمال أفريقيا.
ــ طبعًا. طبعًا. الصوت عالٍ. ولم أسمع جيدًا فقط. أنا عجوز. أعرف تونس جيدًا. زرتها ثلاث مرات. وفي المرة الأخيرة بقيت بها خمسة أسابيع كاملة.
ــ هل تجولت بين مدنها الساحلية؟
ــ طبعًا. سوسة والمنستير وقرطاج وبنزرت والحمامات وحتى مدن الجنوب. قابس وجربة. خصوصًا جربة التي أحبها كثيرًا. مليئة باليهود. يهود توانسة من أقدم القبائل اليهودية. يهود طيبون ولا علاقة لهم بالصهاينة أولاد الزنا. تصادقت مع واحد منهم. اسمه… كاتب شهير جدًّا عندكم. الدكتور جيلبير نقاش، أديب وكاتب كبير. وصوره في كل بيت مع بورقيبة رئيسكم.
ــ أعرفه يا سيدي. هو أديب ومفكر كبير فعلًا. لكن بورقيبة لم يعد رئيسنا… انقلب عليه جنرال من البوليس اسمه زين العابدين بن علي سنة 1987، وادعى أنه مخرّف ومريض وكبر في السّن وعزله في إقامة جبرية حتى موته وحيدًا في مدينته وقصره بمدينة المنستير. توفي فجر السادس من شهر أبريل عام 2000. ومنع الجنرال زين العابدين بن علي نقل جنازته مباشرة على التلفزيون، فلم نسمع بموته إلا بعد مدة. وكانوا يكذبون خبر موته وهو منذ أسابيع في القبر.
ــ أعرف. أعرف أن بورقيبة مات. ولكنني لم أكن أعرف أن نهايته كانت بهذه الطريقة المؤسفة.
ــ للأسف.
ــ وأنت من أي مدينة؟
ــ من القيروان.
ــ قيروااااااان… أعرفها جيدًا. أعرف أغلب شوارعها الضيقة. وكنت أنا وألبير الذي صحبني في رحلتي إليها نجوب المدينة العتيقة كلّ ليلة في رمضان حتى الصباح.
ــ أنا سعيد بذلك. القيروان لؤلؤة الدنيا في رمضان.
ــ أكثر ما أعشق هي بيروته… ذلك الجمل الذي يدور طوال الوقت معصوب العينين بمنديل أخضر ومربوطًا إلى ساقية خشبية ترفع الماء إلى أعلى… بيروته؟ هل نطقتها بشكل سليم؟
ـــ بروطه… اسمها بروطه سيدي. وتعني بئر روطه. وروطه هو اسم كلبة… رُبط اسمها للأبد بهذه البئر. ولها قصة طريفة هي أسطورة يرددها سكان القيروان وأهاليها ويؤمنون بها كلّ الإيمان. على صحّتك أولًا.
ــ صحّتك.
ــ أرجو أن تكلمني بصيغة المفرد فنحن الآن صديقان. رجاء.
“كنت حتى ذلك الحين أخاطبه بصيغة الجمع. وهي طريقة التخاطب باحترام باللغة الألمانية مع مَن لا تعرفه أو مع صاحب منصب رفيع. لذلك غيرت فورًا صيغة الخطاب كما رجاني إلى صيغة المفرد”.
ــ أنت تأمر سيدي.
ــ اسمي جورج. جورج ويلي وأتحرق شوقًا لسماع حكاية هذه البئر والكلبة روطة.
ــ حبًّا وكرامة، صحتك.
ــ صحة صداقتنا والبيرة الربانية العسل.
ــ بروطة اسم مُركبّ، واسمها الحقيقي بئر روطة. أما البئر فهي تلك التي صعدت لها عبر السلم الضيق. وأما روطة فهو اسم كلبة، كانت جروة صغيرة سائبة حين فقدت أمها وتاهت عنها في البراري فتبعت رائحة الشواء والإنسان حتى وصلت مضارب قبيلة مرتحلة، كانت قد ضربت بخيامها عند سباسب الوسط التونسي على بعد ثلاثمائة ميل عن القيروان الآن، واستأنست خيمة ابن شيخ القبيلة الشاب الفتي اليافع، حيث بقايا الشواء، والعظام، وفرح بها الصبيّ أيما فرح، وعني بها، وكان يسقيها حليب النوق والماعز بجمع كفيه وكان يدق لها عظام الطيور والأرانب والخرفان ويعطيها ما يتبقى من الأكل حتى كبرت واشتد عودها وصارت تتبعه كظله وفاء وامتنانًا. ولا تفارقه ليلًا ولا نهارًا وتصاحبه لصيد الثعالب والظباء والأرنب البري والقنفد واليرابيع والسلاحف والطيور وحتى الذئاب. ثم كانت تنام ليلًا على باب خيمته، تحرسه من اللصوص وقطاع الطرق ومن دابّة الأرض وزواحفها من عقارب وأفاع ويعاسيب سامة ونمل عملاق وغيرها.
ــ يا إلهي ما أروع هذا!
ــ وذات فجر، قرر شيخ القبيلة والد الفتى الذي لم يبلغ أشده بعد، أن يرسله في رحلته الأولى مع ثلاثة أشدّاء من القبيلة ليشتري صاغة من الذهب والفضة لأخته المقبلة على العرس. وحين خرج معهم. تبعته الكلبة روطة، ولكنه نهرها بشدّة كون ما معهم من زاد ومن قرب ماء لا يكاد يكفيهم في رحلتهم الطويلة المضنية.
ــ وااااااو… فونتاستيك! صاح جورج.
ــ رماها بالحجر تلو الحجر. وأصابها مرتين أو ثلاثًا في بطنها وفي رأسها. فخمدت ونظرت صوبه بذعر ثم ولت الأدبار حائرة وحزينة.
ــ أنت شاعر. هل تحكون في القيروان هكذا؟ هل حكت لك أمّك الحكاية بهذه الطريقة وهذه التفاصيل؟
ــ على صحتك يا عزيزي جورج. أمي لا تتقن اللغة الألمانية!
ــ ههههه… على صحتك. فهمت. معذرة. فهمت. أنت شاعر. وأنا أرفع كأسي نخب الشعر والشعراء والقيروان والكلبة روطة. وأعبر بأسف عن إحساسي بالاستياء العميق والحزن لما بدر من هذا الفتى ابن شيخ القبيلة من نكران للجميل والقسوة.
ــ صحتك يا جورج.
ــ صحتك عزيزي. صحة روطة الوفيّة. ما أندر الوفاء. سأربّي كلبة وأسميها روطة. وأهشم لها عظام الدجاج وأسقيها بيرة بافارية خفيفة.
ــ ههههه… أكمل لك الحكاية عزيزي جورج؟
ــ أرجوك.
ــ ضربوا في السهول والفيافي والوديان والأحراش، وشوت الشمس القائظة وجوههم وجلود رقابهم وملأ الغبار والتراب والرمل فتحات أنوفهم وآذانهم وأفواههم وأعينهم. فتاهوا واختلطت عليهم المسالك وضلوا الطريق إلى قرطاج حيث كانوا يقصدون.
ــ قصيدة بديعة وربّ السماء.
ــ امتناني عزيزي جورج.
ــ أكمل أرجوك… أعتذر عن المقاطعة… يا إلهي ما أروع طريقتك في الوصف والحكي! مدهش.
ــ قدّروا في البداية أنهم سيبلغون قرطاج بعد أسبوع. ولكن مرت عشرة أيام كاملة من الضّنك الشديد ولم تبد في الأفق بارقة أمل أو علامة تدل على أنهم في الطريق الصحيح الذي عليهم اتباعه، وانتهى زادهم وزُوّادهم وزاد الطين بلّة. أنّ قِرَبَ الماء الثلاث التي حملوها معهم نفدت منذ يومين ونال منهم العطش ولم تطل مقاومتهم بعد عاصفة من الهجير والرمل الحارق. فانهاروا على الأرض يدبّون مستميتين على أربع حتى بلغوا مكان برّوطة الآن. وأسلموا أمرهم لرّب رحيم أو لقطف كريم يريحهم ممَّا عانوا من ويلات الطريق ومن القيظ نهارًا والصقيع ليلًا.
ــ يا إلهي. يا إلهي. أأنا في حضرة جوته العظيم ولا أدري؟!
ــ هكذا تُحكى الحكايات في بلدي يا جورج. أنا أبرقشها قليلًا فقط وأتفنن في تحليتها بسكر التقطيع ونطق المتحركات الفخمة باللّغة الألمانية.
ــ إذن أنتم كلّكم شعراء. لا يمكن لغير شاعر أن يتكلم هكذا مثل الآلهة. لا يمكن. ثمة سرّ عندكم. أنتم شعب الله المختار. لغتكم فادحة الجمال. لغتكم أسرار وفتق في قشرة الصوت اليابسة. لغتكم حكم وغواية وألف ليلة وليلة وهاتي “ماس بيرة” يا أنجيلكا. يا فاجرة… هاتي ماس بيرة لي و”ماس” لصديقي الشاعر القادم من مدينة القيروان البعيدة، أرض الشعراء وبروطة… كلبتي الحبيبة التي سأبحث عنها من الغد. وسأشتريها جروة وأهشم لها عظام الدجاج والأرانب. كم هو رائع فعل “أهشم” وأنت تنطقه ممطوطًا ومفخمًا بشكل غير معهود… ههههه… لولا هذه اللّكنة في نطقك لفعل: “يهشّم” بتضعيف جميع حروفها الأصل، لقلت انّك ألمانيّ أبًا عن جدٍّ. فضحك فعل التهشيم القاسي وتلذّذ نطقه وأنت تتلمظ حروفه الأصلية وتهمل تشديد عوارضه الزوائد… أرجوك أكمل لي حكاية الكلبة روطه.
قاطعت أنجيلكا النادلة حديثنا، ووضعت ماسين من البيرة البافارية الطازجة تعوم في قشرة من الرغوة البيضاء كرغوة الحليب حين يفور.
ــ معًا أو كلّ يدفع ماسه؟
ــ معًا. صاح جورج بحماسة، أنا طلبت. معًا. كم يا ماكرة؟ تريدين بقشيشًا مزدوجًا؟
ــ سبعة عشر يورو وثمانين سنتًا.
ــ وكم تريدين مني؟
ــ سبعة عشر يورو وثمانين سنتًا، قلت لك.
ــ وبقشيشك؟
ــ أنا آخذ بقشيشًا مرّة واحدة. وصديقك كان كريمًا. وأخذت منك أيضًا عشرة سنت في ماسك الأول وعشرة سنت في الثاني وعشرة في الثالث وأنت الآن معفى… إلا إذا كنت رجلًا شهمًا. ههههه… حينها قد أهوي على وجهك المتعرق الأحمر بصدري الرخو العسل، وأدعك تتمرغ.
ــ خذي يا لئيمة. هذه عشرون يورو كاملة. لا بارك الله لك فيها. أنت تعرفين أنني لم أعد أشمّ الصدور وأن خرطومي ذابل منذ سنوات. نحن نعرف بعضنا جيدًا وهذه طاولتي منذ خمسين سنة قبل أن تولدي أنت يا فاجرة…
ــ طيب يا لئيمة. أنا أرتاح لك جدًّا.
ـــ وأنا أحبك وأرتاح إليك رغم أنني لا أعرف حتى اسمك بعد كلّ هذه السنوات التي خدمتك فيها منذ استقالت أمي.
ــ جورج. جورج ويلي.
صحت أنا بحماسة وصوت بدا لي أن الجميع سمعوه. ولكن لم يلتفت أحد.
ــ استمتعا بوقتكما جيدًا يا عزيزيَّ. شكرًا على البقشيش السخي يا جورج الذي أموت في أنفه الضخم …
ضحكنا كثيرًا… قبل أن يلتفت لي جورج ويقرب كأسه الضخمة ومرفقيه سائلًا:
ــ بروووووطة . روطة أرجوك أكمل. شوقتني للنهاية.
ــ إممممم. روطة. أين وصلنا؟ بدأ رأسي يدور يا جورج.
ــ وقعوا على الأرض، وماتوا؟ ــ لا يا جورج. ليس تمامًا. كان الفتى لا يزال على قيد الحياة.
ــ بديع.
ــ فجأة وقد بدأت عينه تغبشّ وهو يجاهد للتجديف عكس اتجاه حلقوم النوم الأبدي، تهيأ للصبي أنّه يرى كلبته روطة تخرج من السراب وتتشكل بوضوح شيئًا فشيئًا.
ــ يا إلهي القادر! أقسم بالربّ توقعت ذلك. روطة لا تخون. روطة كلبة وفية… شكرًا عزيزتي روطة… ياااه.. شكرًا.
لاحظت أن جورج ويلي بدأ يسكر ولسانه يثقل. هو بدأ قبلي بلترين… ماسين كاملين من البيرة القاهرة. فأكملت:
ــ ولكنّه لم يكن واهمًا. كانت فعلًا كلبته روطة. وصلت إليه وبدأت تلعق وجهه المتفحم وشفتيه المتيبستين وعينه المتورمة والمليئة بالغبار.
ــ أرجوك… في صحتك… يا للروعة… يا للروعة!
ــ بعد ذلك، وحين اطمأنت أنه على قيد الحياة وكان مرافقوه قد أسلموا الروح منذ ساعات. بدأت تحفر بحماس وجنون في موضع بعينه. وظلت تحفر وتحفر، نصف نهار كامل، وبين الحين والحين تعود إلى الصبي وتلعق شفتيه ووجهه. بعد ساعات طويلة، وحين بدأت مخالبها تقطر بالدماء، تدفّق الماء وملأ الحفرة بسرعة.
ــ بئر روطة! بئر روطة! صاح جورج وهو يقف شاهرًا كأسه الضخم بكلتا يديه.
ــ نعم. بئر روطة يا جورج.
ومن يومها… جاء وفد من قبيلة الفتى أولًا، كان يبحث عنهم بعد أن سمعوا من تاجر أنه قابلهم يسيرون في الطريق الخطأ ولم يكن يدري أنهم يقصدون قرطاج. فلم يصوب لهم. وبعدها جاءت كلّ القبيلة بخيامها وأغنامها ودجاجها وكلابها وبهائمها وضربت حيث الماء وعاشت مئات السنين. وعلى حافة البئر، حيث يدور الجمل الآن، بنوا مقامًا مرتفعًا كقبة في السماء ودفنوا فيه بروطة. حين ماتت بعد هذه الحادثة بسنوات. وأصبحت تُزار ويتبرك بها وبمائها الزلال. وهذه البئر لا تنضب أبدًا. تمامًا مثل بئر زمزم بمكة، ولم تعرف الأرض بئرًا لا تنضب آلاف آلاف السنين غير هاتين البئرين.
ــ يا لروعة أساطير القيروان يا صديقي! بالمناسبة. ماذا يعني اسم القيروان؟
ــ مربض الخيل ومربط الجمال يا عزيزي جورج.
ــ ولماذا سميت كذلك؟
ــ لأن القائد الإسلامي الفاتح، عقبة بن نافع، الذي قدم من بلاد الحجاز سنة 49هـ أي 671 م. حين بلغ مكان القيروان الآن، وقد عادت غابة تلف بالبئر بعدما غادرتها قبيلة الفتي وروطة، لأنها من القبائل الرّحل، والأعشاب التي تنبت في القيروان لا تصلح علفًا لإبلهم. فامتلأت بعد آلاف السنين بالأعشاب الملتفة ونبتت الأشجار حول البئر وعادت غابة مليئة بالكواسر والوحوش والزواحف ــ هكذا تقول أسطورة نشوء القيروان ــ فدعا القائد الصحابي عقبة ربّه أن يطهّر الغابة من كلّ ضار ومن كلّ زاحف وكاسر وذي ناب أو مخلب أو شوكة… فخرجت جميع الحيوانات تجرجر أبناءها وراءها وتحمل بين فكيها الجراء التي لا تقوى على الحركة. وقام الجند بقلع الأشجار ومن خشبها بنى سقوف البيوت لقادة جنده ورافعي ألويته، ومن عجز منهم عن مواصلة السير، وبنى قبل أن يواصل صوب المغرب جامعًا، هو الجامع الأكبر.. ويعتبر المسجد الجامع بالقيروان الآن أضخم المساجد في الغرب الإسلامي وتبلغ مساحته الإجمالية ما يناهز 9700 متر مربع ومقياسه ما يقارب 126 مترًا طولًا و 77 مترًا عرضًا وبيت الصلاة فيه يستند إلى مئات الأعمدة الرخامية. هذا إلى جانب الصحن الفسيح الأرجاء الذي تحيط به الأروقة ومع ضخامة مساحته، فجامع القيروان الكبير أو جامع عقبة بن نافع يعد أيضًا تحفة معمارية من أروع المعالم الإسلامية، ومئذنته تعد من أقدم المآذن في العالم الإسلامي وهي تتكون من ثلاث طبقات ويصل ارتفاعها إلى 31,5 متر. وهو يحتوي على كنوز قيمة فالمنبر يعتبر تحفة فنية رائعة وهو مصنوع من خشب الساج المنقوش، ويعتبر أقدم منبر في العالم الإسلامي ما زال محتفظًا به في مكانه الأصلي ويعود إلى القرن الثالث للهجرة أي التاسع ميلادي. كذلك مقصورة المسجد النفيسة التي تعود إلى القرن الخامس الهجري أي الحادي عشر الميلادي وهي أيضًا أقدم مقصورة ما زالت محتفظة بعناصرها الزخرفية الأصلية.
ــ زرته مرة أو مرتين. لكن لم أكن أعرف أنه بهذه المكانة في العالم العربي والإسلامي.
ــ جامع القيروان هو من أقدم المساجد الإسلامية المقدسة الأربعة يا جورج. الأول في المدينة والثاني في مكة والثالث هو القدس والرابع جامع القيروان.
ــ حقيقة مذهل. سأقرأ عنه المزيد. لدي عدة كتب عنه في البيت. كتب مليئة بالصور. يا إلهي! عليَّ أن أزور القيروان وبروطة وهذا المسجد من جديد… لا أعرف إن كان العمر سيسمح لي.
ــ كم عمرك يا جورج؟
ــ أربع وثمانون سنة بلغتها منذ شهرين. هل كنت تخمّن؟
ــ أقسم لك بشرفي ظننتك في السبعين على أقصى تقدير يا جورج.
ــ ههههههه… أنت كنز حقيقي يا صديقي.
ــ جورج.
ــ نعم يا صديقي… صحتك أولًا.
ــ صحتك. هل يمكن أن تخمن ما هو اسم القبيلة التي التصق ذكرها ببروطة؟
ــ هههههه… كأنك تسألني أن أسمي لك اسم الرب المئة يا عزيزي.
ــ اسم الرب المئة أعرفه يا جورج… أعرفه جيدًا.
ــ أنت تمزح.
ــ لا، أنا متأكد. اسم الرب المئة هو “الكلمة”. ببساطة اسمه “الكلمة”.
ــ الكلمة!
ــ نعم. الكلمة، واسمه دائمًا موجود أمامنا. ولكننا عميٌّ لا نرى. في كلّ كتبه السماوية ذكر ذلك صراحة. قال: “في البدء كانت الكلمة”، وإذا كانت صفاته متأخرة عن اسمه ونابعة منه، فكيف نعرف صفاته دون تسميتها.. “الكلمة” أولى أن تكون أهم أسماء الرب وأولها وخاتمتها. فكلّ شيء غير موجود بغير استحضاره، ولا يمكن استحضار الشيء أو الصفة إلا عبر تسميتها وإعلانها وتحديدها من بين كل ما دونها وبينها.
ــ هذا مذهل. أنت حقيقة مذهل. ولماذا لم يهتد إليه من يبحث عنه منذ مئات السنين من السحرة والعلماء؟
ــ هذه هي المصيبة يا جورج. هذه هي المصيبة. السحرة يريدون معرفته لمصلحة وتجارة. والكيميائيون يريدون دائمًا استغلاله بخبث أرضي لتحويل المعادن إلى ذهب، ولذلك أعماهم الله يا جورج.
ــ أنت محق تمامًا.
ــ طبعًا يا جورج. لأنني مؤمن بصدق. ولأنني متوحد ربما. أرى الأشياء التي لا يراها الآخرون لأنها ببساطة أمام أعينهم.
ــ اسم الرب المئة هو الكلمة إذن؟ أيها القيرواني العبقري.
ــ نعم يا جورج. اسم الرب المئة هو “الكلمة”. سأشرح لك أكثر حين تفكر في الأمر مليًا…
ــ لا بدّ أن نلتقي. خذ، حتى لا أنسى، عنواني. معي قلم وورقة. سجلّ عندك. بيتي على بعد عشر دقائق على القدمين من هنا. سجّل عندك. شفانتالا شتراسيا 77 مكرّر …وهذا رقم هاتفي: 89- 3766844، ههههه… وما حكاية الجمل الذي يدور في بروطة؟ ولماذا يعصبون عينيه؟ ثم انتظر. انتظر. هناك سؤال يحيرني دائمًا. كيف يصعدونه يوميًا إلى فوق عبر سلم ضيق لا يكاد يكفي لمرور حتى مؤخرة أنجيلكا فضلًا عن جدتها؟
ــ كم أنا سعيد بك يا جورج. كم أنا سعيد أنك تسألني هذا السؤال بالذات. تصور. ثلاثة ملايين سائح سنويًا يزورون القيروان ويصعدون السلم ويرون الجمل. ولا أحد سأل هذا السؤال الهام يومًا. هذا السؤال البسيط العبقري. هذا السؤال الاستنكاري الذي سألتنيه بدهشة وحيرة الآن هو سر أسرار القيروان.
ــ كيف؟
ــ أنت توصلت إذن إلى أنه من المستحيل رياضيًا وفيزيائيًا أن يصعدوا بهذا الجمل الضخم يوميًا عبر هذا السلم. ــ ربما هناك سلّم خلفي.
ــ إطلاقًا. هذا هو السر.
ــ فكيف يفعلون به إذن؟ حيرتني.
ــ يأتون به حوارًا صغيرًا يرضع من خلف أمه الناقة على أن يكون مختارًا وأصيلًا ومعروفًا لديهم سلالة نسله. ويكملون إرضاعه لمدة ثلاثة أشهر قبل أن يكبر بقربة من جلد الأرانب يملؤونها يوميًا مرات بحليب أمه التي يستحلبونها من الأسفل حيث موضع يضعونها فيه. ويتركونه لسنة أو أكثر إلى جوار الجمل الفحل الذي يدور معصوب العينين.
ــ وأمه تسمع رغاءه كل يوم؟
ــ يا رجل! لا تكن رومانسيًا جدًّا. هي حيوانة في آخر الأمر وهو حيوان أيضًا…
ــ المهم. وماذا يفعلون بالجمل الضخم حين يكبر الحوار الصغير ويشتد عوده ويعود قادرًا على خلافته في تدوير الساقية؟
ــ ينحرونه في مكانه في الأعلى، بعد أن يعصبوا عين الأصغر. ويقطعونه إربًا إربًا!
ــ يا للبشاعة!
ــ الجمال عندنا تُنحر ويؤكل لحمها. وهو لذيذ وصحي.
ــ لا اعتراض. ولكن النهاية بشعة. أبهذا يكافأ كائن وفي مخلص قضى عمره كله يدور ويدور من أجل سقيهم الماء الزلال؟
ــ الأساطير كلها هكذا يا جورج. إنه شرط الخلود. إنها الدراما يا عزيزي جورج.
ــ ولكن هذا الجمل يذبح كلما كبر وليس أسطورة… إنها حقيقة القيروان.
ــ جميل ورائع تعبيرك العفوي التلقائي يا جورج. نعم إنها حقيقة القيروان. إنها والله حقيقة القيروان.
ــ وبعد ذبحه؟
ــ يُسلخ.
ــ أقصد ماذا تفعلون بلحمه؟ توزعونه على الفقراء؟
ــ أي فقراء يا رجل يا طيب؟! يبيعون الرّطل من لحمه بسعر عشرة كيلوجرامات من لحم الإبل العادي.
ــ ولماذا؟ ومن يشترى رطل لحم بسعر عشرة كيلوجرامات من نفس اللحم الجملي؟
ــ أهل القيروان يعتبرون هذا الجمل مباركًا من الله. وكما قلت لك، فهم يختارونه وهو صغير من نسل ناقة معروفة وفحل معروف وكريم النسب.
ــ كريم النسب؟! ههههه.
ــ طبعًا، لحدّ أمّه وأبيه السابع على الأقل. وربطًا بالزّمن الأقدم، فالذين اختاروا جدتها السابعة قبل سبعة أجيال بالطريقة نفسها المتبعة والصارمة، فيمكن أن تتصور أن أصلها وخيط سلالتها واحد منذ مئات وربما آلاف السنين.
ــ بديع.
ــ الآن بديع يا جورج.
ــ فقط لم أفهم كيف يشتري الأغنياء والفقراء أيضًا رطل اللّحم وهو لحم في آخر الأمر بسعر عشرة كيلوجرامات من نوع الذبيحة نفسها؟
ــ لا يحدث هذا يوميًا يا عزيزي جورج. مرة فقط كلّ سبع سنوات، وبالضبط في اليوم السابع من الشهر السابع “يوليو” الساعة السابعة صباحًا بعد صلاة الصبح وحضور الإمام الأكبر بنفسه.
ــ بديع.. حقيقة بديع.
ــ مرّة أخرى بديع يا جورج.. ههههه.
ــ هذه أسطورة مكتملة وفاتنة. مثيولوجيا كاملة في أبهى تجلياتها.
ــ المهم أن سبب إقبال وتزاحم الأغنياء والفقراء على شراء لحم جمل بروطة المبارك. في هذا الميعاد الأسبوعي كل سبع سنوات. بلا تأخير ولا تقديم مهما كانت الظروف، وما يبذله الأغنياء من محاولات ومنافسات شرسة أحيانًا وتخلف البغضاء من أجل الفوز بجلد الجمل أو رأسه أو ذيله حسب الطبقة، ويدفعون مقابل ذلك آلافًا مؤلفة من الدنانير. بل قد تصل كل سبع سنوات إلى مئات الآلاف من الدنانير. سبب ذلك، هو التفاخر بحوز جلد الجمل وتوريثه جيلًا بعد جيل في العائلات الغنية. ويفاخرون بهذا الجاه والكسب العظيم… وقد يبيع أحدهم أرضًا ليشتري جلد الجمل كل سبع سنوات ويفاخر أبناؤه بذلك، ويمشي أكبرهم عامًا كاملًا في شوارع القيروان وأزقتها كالطاووس. فالجميع يعلم أن والده قادر ومقتدر. والعامة تنحني لمن هو قادر ويملك فيضًا من المال.
ــ والفقراء، من أين لهم بمنافسة الأغنياء لشراء أشلاء هذا الجمل البائس المسكين؟
ــ الفقراء أكثر حرصًا من الأغنياء على حضور هذه المناسبة النادرة وهم يكنزون الدينار مع الدينار سنوات استعدادًا لهذا الحدث القيرواني الأهم.
ــ ولكن لماذا؟ الفقراء أشد حاجة للمال من الأساطير.
ــ أولًا إيمان الفقراء بالأساطير أقوى من إيمان الأغنياء. وثانيًا هم يعتقدون اعتقادًا راسخًا أن مَن يحصل على رطل لحم ويطعم أهل بيته منه، فكأنه زكّى على حياته وحياة أهله وأمن غضب الله وإيذاء الشياطين والمردة وردّ عين الحساد والسوء. وثالثًا وهذا هو الأهم، أنهم كلما مرض لهم أحد الأحبة من الأهل نذروا إن أنقذه الله وشفاه أن يشتروا رطلين من لحم جمل بروطة المبارك كنذر.
ــ نذر؟
ــ نعم. نذر يا جورج. وهو طقس رئيس في اعتقاداتنا الشعبية. الشعوب عندنا لا تفهم من جوهر الدين سوى قشوره.
ــ بديع.
ــ لم تسألني ماذا يفعلون بروثه ودمه ومرارته ومخاطه ومصارينه وبوله المحبوس عند موته.
ــ آههه؟!
ــ يستعملونها كأدوية ويجففونها ومنهم من يستعملها لأغراض السحر والربط والحلّ والعَقدِ وتبطيل المعقود وفك المربوط واستحضار الجان ويضعونه مجففًا مع الحبة السوداء وأظافر الفئران الذكور وبعر الماعز الحائض، وأنياب الأفاعي وشوك العقارب وشعر العانة وأظافر الميت حديثًا ويعلقونها أعلى باب البيت في أماكن يبنون عليها بالإسمنت لكي لا تظهر أبدًا، وهذا طقس من طقوس القيروان.
ــ القيروان… يااااه يا صديقي… يااااه.
ــ نعم. القيروان يا جورج، القيروان الساحرة الفاجرة الحيزبون اللّعوب حيث يعبق البخور كلّ مساء وتُعقد المناديل وتفوح رائحة الأسرار والخطايا فوق أسطح الجيران وتتكئ الشمس على الوجوه والقلوب والأكباد فتشويها كلّ يوم. القيروان، حيث يهطل المطر مرّة كلّ سنة.
ــ ياااه يا صديقي التونسي القيرواني أي قدر أرسلك اليوم إليَّ؟!
ــ قدر إلهي جبار يا جورج.
ــ صحتك.
ــ صحتك. بيرة ثالثة على حسابي. ماس آخير؟
ــ موافق، أنا لست سكرانا. وأنا أعيش فائض الحياة. هكذا أراد الله يا جورج. هكذا أرادت مشيئة الربّ. أنا أعيش فائض الحياة منذ طفولتي يا صديقي…
ــ بدأت البيرة تلعب بلسانك يا أيها القيرواني، اشرب. اشرب. ملعون أبو الدنيا.
ــ ملعون أبو الدنيا يا جورج.
ــ لا تنس عنواني.
ــ حفظته. شفانتالا شتراسيا 77 مكرر يا جورج. حفظته. نهاية الأسبوع القادم، أزورك ونكمل الأسطورة.
ــ أنت الأسطورة. أراهن أنك الأسطورة.
ـــ نخب الأسطورة إذن.
ـــ نخب الأسطورة.
*****
كمال العيادي
(كاتب تونسي مقيم بميونيخ)
ayadikamal@googlemail.com