رائحة
عندما رجع جدي من الحرب قبل 60 عاما، علّق بندقيته وعمامته البيضاء في سدرة البيت، وبعدها رحل من دون ذاكرة ولا عاطفة.
وبعدها ذهب أبي إلى حرب أخرى، لكي يُرمم ذاكرة أبيه، ففقد أبي نصف ذاكرته، وعندما رجع إلى البيت في الفجر علّق نصف ذاكرته وحذاء الحرب في سدرة البيت، وبعدها نام.
كنّا نحن أطفال البيت نسمع في الليل أصوات جنود وبكاء أمهات وأناشيد رعاة وأصوات طائرات تحمل جرحى، كنّا نسمع صوت امرأة تُغنّي للشجرة. كلُّ هذه الأصوات كنّا نسمعها من جذع سدرة البيت التي ماتت بعد رحيل أبي.
عصافير
في هذا الصباح، وفي طريقي إلى المدرسة، رأيتُ جنودا وعميانا وقراصنة يطاردون الأشجار والأطفال والأحلام، فتحتُ نافذة سيارتي فدخلتْ كل الغابة وعصافيرها وأصوات الظلال والرعاة.
دخلتْ العصافير إلى الأغنية لتجعلها أقرب إلى القلب، الرعاة شربوا الماء، والظلال دسّتْ الحكاية عن نقطة التفتيش.
جسر الكلام
السادسة والنصف صباحا / جسر فنجا.
الجسرُ الذي يدفع نهر السيارات إلى العاصمة، تحته يتمدد الجفاف ككلب يراقب الأشياء بكسل. وفوقه يمرُّ العابرون إلى وظائفهم وأحلامهم وكسلهم وفسادهم وأوهامهم.
في الباص الصغير، طالبات وطلاب يُوصلون الكلام بحركة اليد في الهواء، كل صباح أرى الأيادي تحرك اللغة في المدى. يد ترتفع وأخرى تنزل، ويد تحاول أن تمسك بكلمة هاربة، وأصابع تشكل اللغة للعين، وضحكات صامتة. وحلم يطير في بطن الباص الذهاب إلى العاصمة.
الراعي
عندما خلق الله الأرض، ونشر فيها البشر، أخذ الراعي صوت الأشياء وزرعها في الناي، من صوت الناي الأول تكوّنتْ المراعي والصحراء والجبال والسفوح، تعب الناي من الغناء، نام الراعي تحت شجرة وحيدة، أخذ الذئب الناي، وبصوت الناي قاد الذئب قطيع الراعي النائم نحو الكارثة والدم.
الشجرة الضاحكة
سيخرجُ الطفلُ من سريره بعد منتصف الليل، ويحمل ضحكة أمه الميتة، يضع الضحكة في دراجته البلاستيكية، يقود الدرّاجة في صالة البيت، يخرج إلى حديقة البيت، يحفر حفرة صغيرة، يُنزل الضحكة من الدرّاجة إلى الحفرة، يدفنها، يعود إلى حضن أمه الميّتة. في الصباح سيتحدث العابرون عن الشجرة التي تضحك.
الأفعى
الأفعى التي طاردها العطش والمباني الإسمنتية من سيح الأحمر، قررتْ هذا الصباح أن تتبع رائحة الماء والظلِّ في وادي فنجا. مدّتْ الأفعى رأسها جهة الغرب، لم تنتبه للموت الأسود الذي يُسمّى شارعا، تبعتْ غريزتها نحو الماء، مدّتْ رأسها في الأسفلت، ومدّتْ السيارة عجلاتها وداسّتْ على الرأس الباحث عن جرعة ماء في وادي فنجا. مرّتْ إطارات السيارة الملطّخة بدم الأفعى نحو العاصمة. سينزل رجل ثلاثيني من السيارة الملطخة بدم الأفعى في محطة شل (مقابل المطار) ليشرب شاي الصباح، وفي اللحظة ذاتها سينزل دبور على جسد الأفعى ليشرب من دمها الجاري على الأسفلت.
شجرة
في كل صباح كان الطفل ينتظر باص مدرسته تحت الشجرة القريبة من الجسر، وقبل أن يصل الباص، يفتح عبوة الماء، ويسقي الشجرة الوحيدة، ويغني لها.
كبرتْ الشجرة في حصة الرسم، في الورقة البيضاء رأى معلم الرسم الشجرة تثمر دمعة وأغنية.
سأل المعلم التلميذ: لمن هذه الدمعة؟
رد التلميذ:هي دمعة أمي.
سقوط
من شجرة ميتة ووحيدة، سقطت ورقة جافة في يد الطفلة، كتبتْ الطفلةُ أحلامها ورسائلها إلى الله، رجعت الورقة إلى الشجرة.
في الليل كنا نسمع غناء الشجرة.
ذاكرة
في شتاء الطفولة البعيدة، عاد أبي من الحرب بيد واحدة، وبنصف ذاكرة، جلس تحت الشجرة الوحيدة في حوش البيت.تحلّقنا حوله، هبط صحن البيض والخبز من الشجرة. أخذ أبي بيده الوحيدة بعض قطع البيض، ونثرها في الحوش، وتمتم بسورة الفلق، عندما قلت لأبي نحن جياع يا أبي.
قال : حال حيّانا الصالحين.
في هذه الليلة عندما رأيتُ ابني يقدم وجبة العشاء لقطة البيت الجائعة، تذكّرتُ أبي، والحرب ،والطفولة، والشجرة،ونسيتُ حيّانا الصالحين والذاكرة.
حمود سعود*