حينما تبدأ الشمس مسيرة أقولها الصامتة ، وتبدأ ظلال الأشياء في الاتساع والدكنة ، أبدأ في انتظار الطفل الذي يأتي كل عصر الى غرفتي الضيقة وشبه المظلمة ، يمسك بيدي بغتة ويجرني خلفه. أتبعه محني الظهر الى نهاية الممر الذي يوصل بالمخرج الرئيسي للبيت ، حينها تعتدل قامتي ويكون قد أخرجني من البيت ، يمشي بي قليلا ويسلمني لزاوية الجدار المتداعي الغربية. تتملص يده الصغيرة من يدي التي تمسك بها بشدة. يسحب يده فأتشبث بها أكثر وأكثر. لكن اليد الصغيرة الطرية تفلت وتبقى يدي الكبيرة الخشنة ممدودة في الفراغ تمسك الهواء الذي خلفته يد الطفل.
أقف وأشعر بخطواته الصغيرة والسريعة مبتعدة ، أبحث عن الجدار فتصطدم يدي به. أتبعه الى الزاوية الشرقية ثم انحرف جنوبا، وأمشي الى أن أصطدم بجذع النخلة المنحنية ، حيث بقعة الظل الضيقة. الباردة قليلا أبحث بعصاي عن مكان فارغ وأكثر برودة. أقعد بجوار شاة سبقتني الى المكان. أهشها فتبتعد ، لكنها سرعان ما تعود لتشاركني ما تبقى من ظلة. يزعجني قربها مني، فهي تحك ظهرها بالجدار تارة ، وتارة تنطح النخلة المتداعية أو تتبول بالقرب مني وتربض فوقه ووبرها المليء بالقمل يلامسني ، أحاول إبعادها مرة ثانية ، بيد أنها تثغو بحدة في وجهي وتهاجمني صغارها بقرونها النابتة الصغيرة ، فأربت على جبهتها كي تكف عني.
شيئا فشيئا تتقدم الشمس نحو المغيب ، تتطاول ظلال الأشياء وتسري البرودة في جسدي، ويبدآ النوم يدغدغ يقظتي واحساسي بالمكان ، فتنبعث همسات الحارة كالموسيقي متصاعدة من البيوت ، تداعب جفني الحالمتين ، فترتعش حواسي منصتة لأدنى صوت قادم من أقصى بيت : بكاء الأطفال. تأوهات النساء. شتائم الآباء ، والهمسات المتضاحكة التي تأتي من الظلال المجاورة ، وأصوات التليفزيونات ، والاذاعات الموشوشة البعيدة.
هكذا أبقى طوال العصر هاربا من النوم ، أمارس حقي في الاستماع الى تلك الأصوات الي تشيع حالة تشارك فيها جدران البيوت وأبوابها المقفلة ، ظلال الأشياء المتداعية ، حفيف أشجار البيذام والشريش ، لفحات الهواء القادمة عبر الكثبان الرملية الصغيرة التي تحمي الحارة من هجمات البحر الموسمية ، اللقاءات السرية بين العشاق الصغار التي تتم في ظلال غرف البيوت الخربة. أزيز المكيفات وأصوات البحر البعيدة الفاهمة.
أقعد منصتا لكل تلك الأصوات المشغولة عني، وأذهب بعيدا، بعيدا أتخيل ما يحدث هناك مولع بأصوات النساء الآتية كهمسات سكرى بنشوة المداعبة. تتراقص أمام عيني المغمضتين. تحلق بي عاليا. تعانق فحولة النهار الهاربة ، ثم تحط على فخذي الممدودتين.. تمرر نغماتها على صدري وتعانق الشيب الذي يكسو تفاصيل وجهي. فتسري في رعشة نشوى لا يقوى جسدي الهرم على ترجمتها.. تفر الهمسات الأنثى.. تحلق بعيدا.. بعيدا تعانق ضوء المساء الأرجواني القادم.. ثم.. تتوافد النساء من جهات الحارة المختلفة يطفن بي، يسلم بعضهن علي باحترام ، وبعضهن يقتربن مني ويدغدغن كرشي المتكور أمامي، فيضحكنني ، أو ألوح لهن بعصاي، فيبتعدن متضاحكات ويسألن من بعيد:
– كم شاة حولك يا عمنا؟ إذا عرفت سنأتي نهشها عنك ، ونقعد جوارك.
واذا لم أعرف ؟
– سنتركها…
وقبل أن أحسب عدد الشياه يكن قد ابتعدن ، فأنادي عليهن لكنهن بعيدات بعيدات جدا.. ترى أين ذهبن ؟ لا أعرف ، فتخرج الياه طويلة وعميقة مشحونة بحسرة ، كل الذي لم أستطع فعله عندما كان الجسد قويا، وأقول لنفسي : ياه كم النساء جميلات ! كم هن جميلات في البعد! أتساءل ما الذي يخرجهن الآن ؟ ما يزال الوقت باكرا على خروج أزواجهن كالديكة يثيرون الجلبة بدشاديشهم الفضفاضة الملونة وهم يتوافدون كالنساء أيضا من كل صوب ، وعند زاوية الجدار يلقون التحية على بعضهم ، ويتجهون شرقا نحو المسجد دونما التفاتة منهم الي.
في هذا القيظ الجائر ، أقعد تحت هذا الجدار محتميا بظلته التي أجلس فيها مقرفصا، أنتظر جود البحر وظلال الأشجار بنسمة هواء باردة أو خانقة مشبعة بالرطوبة ، بينما يستلقون هم تحت أسقف جبسية ، فوق أسرة هزازة تحيط بهم جدران مزركشة وتنفحهم نسمة مكيف الهواء.. هكذا أنا الآن لا يمكنني فعل شيء سوى الانصات. الانصات الى الناس والأغنام وأصوات القيلولة الأخرى. الى حياة الحارة في هذه الفترة من النهار، ومن بعيد أسمع نداء البحر وأصواته الفاهمة تدعوني لكي أغتسل في مياهه ، أتطهر من عمر لا يستحق التوقف عنده ، من ذيل السنوات الطويل الذي يمتد خلفي كالدخان. من استدعاءات وولادات عقيمة لذاكرة باهتة. من صور شاحبة لأشخاص لا أهمية لهم ، ومشاهد جافة لا معنى لها، أتطهر من خيط السنوات الطويل الذي تسرب من يدي خفية دون أن أنتبه اليه ، الأن والبحر فاتح ذراعيه ، ونهماته اللحوحة تستحثني منادية : أترك هذا الجدار المتداعي، أترك تلك الأغنام التي تشارك ظلتك المتسعة والمزدادة برودة كلما تقدم المساء أهرب من ذلك الطفل الذي سيمسك يدك بغتة ويجرك خلفه ليدخلك غرفتك التي تضيق كلما حل الليل. أغلق أذنيك عن سؤاله الجاف والمتكرر دوما.
– لماذا ظلتك أطول منك يا جدي؟
هل ستظل تعيد عليه حكمتك.
* لأن الشمس تغرب يا بني، لأن الشمس تغرب !
أم ستترك كل ذلك وتأتي الى ملوحتي النابضة بالحياة ، ومياهي الشفافة الدافئة الكفيلة بطرد شيطان الشيخوخة عنك ، هل ستأتي الى أصلك الذي منه ولدت ؟ أم ستبقى بين تلك الغرفة المظلمة ،وذلك الجدار المتداعي الى أن يكبر كل أطفال الحارة ولن تجد من سينقلك بينهما؟ هل ستأتي؟ هل ستأتي؟
أصوات البحر اللحوحة تزداد علوا. تأتيني من كل اتجاه ، وكأن البحر قد طوق الحارة وسرت مياهه الشفافة الدافئة المليئة بالحياة في أرقتها وأحواش البيوت واختلطت بطين الجدران ، هاهي تسبح فوق جسمي ، تلتئم جروحه. تنشط خلاياه ، وتصبغ الشيب الذي يتوجني بلون أسود. أسود فاحم كمداد الحبار، فأنهض دونما عصا أتوكأ عليها وأمشي بعيدا. بعيدا عن الجدار وأسبح في مياه البحر الشفافة الدافئة المليئة بالحياة ، حولي سبع من حوريات البحر: الأولى تلف خصري بإزار من حرير والثانية تلبسني الدشداشة المدهونة بالورس ، والثالثة تتوج رأسي بالعمامة الكشميرية ، والرابعة تطوق خصري بالخنجر المشغول بالذهب والفضة ، والخامسة تضع السباعية على كتفي والسادسة ترشني بالعطر وتضع مبخرة العود بين رجلي ، والسابعة تلبسني حذائي الذي تفوح منه رائحة الصندل.
أجلسنني بمواجهة البحر، على كرسي مغطى بشال أخضر، حيث بدأ موكب عرسي البحري، الذي صفقت فيه النوارس بأجنحتها المحناة ، وتقافزت فيه الدلافين ،وتمايلت الصيرة طربا على أنغام الحوريات ، بدأ الموكب من الصيرة واتجه شرقا ناحية البحر الذي لا تزال أصواته تنادينني.
سعود البلوشي (قاص من سلطنة عمان)