زياد أبو لبن*
الصباح استطاعت أن تقدم قصيدة غنائية بامتياز الشعر، وهذا ما يشهده منجزها الشعري في عمومه، بعيداً عن تسطيح اللغة واللفظة الممجوجة
نلمح تفاعلية النصّ بما يحمله من خطاب مؤثّر في المتلقي أو السامع، وتشكّل في مجملها حالة شعرية طيعة بين يديّ الشاعرة سعاد الصباح في اقتدار على إعلاء لغة الشعر الغنائي التي تمتلك خصوصية في مرتبة الجمال عند العرب
مَنْ يُطالع قصائد سعاد الصباح في دواوينها يجد غنائية عالية ترفع من ذائقة الشعر، وتسحر القلوب في مسامع عشّاق الغناء العربي، فهناك قصائد مغناة من عدد من المطربين الكبار، أمثال: نجاة الصغيرة وماجدة الرومي وأصالة نصري وسميرة سعيد وسناء الخراز وسوزان عطية وغادة رجب وأنغام ونوال وعبدالكريم عبدالقادر وعبادي الجوهر ورباب العراقية…إلخ، وقد قام بتلحينها عدد من كبار الملحنين العرب، أمثال: محمد الموجي وكمال الطويل وأنور عبدالله…
استطاعت الشاعرة سعاد الصباح أن تقدم للقارئ العربي قصائد شعرية بإيقاع غنائي، وبلغة أقرب ما تكون للحياة اليومية للتعبير عن أحاسيس النفس وخلجاتها، لترفع من قيمة الشعر عالياً عند متلقيه، ليغدو الشعر إيقاعاً جميلاً ينظم الذائقة الإنسانية بعد أن اختلط عليه جيد الغناء من رداءته.
تقف الشاعرة سعاد الصباح في قصيدتها “كُن صديقي”، وهي مغناة ماجدة الرومي، على وقع الحالة الشعورية المنحازة لجماليات الحياة بما تحمله من تواشج للعلاقة الإنسانية بين رجل وامرأة، هذه العلاقة المحكومة بحاجة المرأة لصديق مبرئ من دونية الجسد أو من نزواته، فتسعى المرأة إلى مشاركة الآخر أو نصفها الثاني لرجل يشاركها صداقة العمر، والتمني بفعل الأمر “كُنْ” مقترن بالحاجة لكفٍّ صديق وكلام طيب تسمعه ودفء كلماته، فتعبر الشاعرة عن إحساسها بالفَقْدِ لكل ما يصنعه الرجل من جمال باقٍ في الطهر الأدمي، نافية أن تكون هذه العلاقة مبنية على شهوانية الجسد، ويبقى سؤال المرأة الشرقية معلقاً بمزاجية الرجل الشرقي المرهون بحاجة النساء بما يرضيها حتى تكتفي بالتفاصيل الصغيرة أو بأشيائها الصغيرة، وتقتصر حاجات المرأة على عاطفة مفقودة في إحساسها المرتهن بالفعل الأنثوي:
“كُن صديقي
كُنصديقي
كم جميلاً لو بقينا أصدقاء
إنّ كلّ امرأة تحتاج أحياناً إلى كفّ صديق
وكلام طيب تسمعه
وإلى خيمة دفء صنعت من كلمات
لا إلى عاصفة من قبلات
فلماذا يا صديقي؟
لست تهتم بأشيائي الصغيرة
ولماذا لست تهتم بما يرضي النساء؟”.
وتتعمّق مأساة المرأة الشرقية أمام الرجل في نظرته الدونية للمرأة، فيغدو البحث عن جسد المرأة حالة مقلقة، وهي تستعيد بوعيها المنفتح على مغاليق الرجل ما كان يبحث عنه شهريار في علاقته مع المرأة ممثلة بشهرزاد، وكأن المرأة في حاضرها المتغيّر عبر أزمنة طويلة تلتقط ما هو جوهري فيها، ألا وهو البحث عن متعة الروح في سقوط الجسد، وتبقى الأسئلة مدار حيرتها المسكونة بالأمل:
“كُن صديقي
إني احتاج أحيانا لأن أمشي على
العشب معك
وأنا أحتاج أحيانا لأن أقرأ ديواناً من شعر معك
وأنا كامرأة يسعدني أن أسمعك
فلماذا أيها الشرقي تهتم بشكلي؟
ولماذا تبصر الكحل بعيني
ولا تبصر عقلي؟
إني أحتاج كالأرض إلى ماء الحوار
فلماذا لا ترى في معصمي إلا السوار؟
ولماذا فيك شيء من بقايا شهريار”.
وتقدم الشاعرة عتاباً رقيقاً في حضرة الرجل الشرقي الذي يسعى دوماً لدور البطولة، وإن دوره في الحياة ينبني على عقلية الشرقي في نظرته للمرأة، وكأن الأمر لا يعدو أكثر من تابع ومتبوع، ونلحظ فعل الإدانة لتصوراته في إنزياحها نحو الجسد، ويبرز في القصيدة دور المرأة الأكثر عقلانية من الرجل، والأعمق ثقافة في نظرتها للرجل، فهنا نلمح بصورة ما يحمله الرجل الشرقي من إرث ثقافي في نظرته المتخلفة للمرأة:
“كُن صديقي
ليس في الأمر انتقاص للرجولة
غير أن الرجل الشرقي لا يرضى بدور
غير أدوار البطولة!
فلماذا تخلط الأشياء وما أنت
العشيق؟
إن كل امراة في الأرض تحتاج إلى
صوت ذكي.. وعميق
وإلى النوم على صدر بيانو أو كتاب
فلماذا تهمل البعد الثقافي
وتعنى بتفاصيل الثياب؟”.
وتعبّر الشاعرة سعاد الصباح عن وجع المرأة الشرقية وزهدها في الحياة، فكلّ طموحها أن لا تقع فريسة لضجر الحياة القاتل، فإيقاع الحياة وتناغمها يشحذ النفس في تعالقها مع الجسد، حيث لا يصبح الجسد في تمثلاته علّة في ذهنية الرجل الشرقي، وهدفاً لتحقيق سمو عشقه للمرأة:
“كُن صديقي
أنا لا أطلب أن تعشقني العشق الكبير
(لا أطلب أن تبتاع لي يختاً وتهديني قصوراً وتمطرني عطراً فرنسياً) وتعطيني مفاتيح القمر
هذه الأشياء لا تسعدني
فاهتماماتي صغيرة.. وهواياتي صغيرة
وطموحاتي هو أن أمشي ساعات وساعات معك
تحت موسيقى المطر
وطموحي هو أن أسمع في الهاتف صوتك
عندما يسكنني الحزن ويضنيني الضجر”.
تتحوّل الإدانة للرجل الشرقي إلى إدانة لعصر شكّل ذهنيته بالمفهوم الذكوري، وإن المنظور المادي يفقد اشتراطاته أمام الروح في سموها الأزلي أو الكوني، وإن فعل القصيدة ينزاح إلى انتصار المرأة في فهمها للعلاقة مع الرجل فهماً مغايراً للواقع، وإنّ ما تصنعه عقلية الذكورة ينهزم أمام أحلام المرأة، فشخصية الرجل الشرقي تمتلك قدراً كبيراً من السيطرة، فهو محكوم بنظرة جسدية وليست بنظرة إنسانية روحية، وقد اكتسبها إرثاً ذكورياً في مجتمع شرقي:
“كُن صديقي
فأنا محتاجة جدا لميناء سلام
وأنا متعبة من قصص العشق والغرام
وأنا متعبة من ذلك العصر الذي
يعتبر المرأة تمثال رخام
فتكلم حين تلقاني
لماذا الرجل الشرقي ينسى
حين يلقى امرأة نصف الكلام؟
ولماذا لا يرى فيها سوى قطعة حلوى
وزغاليل حمام
ولماذا يقطف التفاح من أشجارها
ثم ينام؟!
إلى جانب الإيقاع الراقص في القصيدة تحضر الصور الشعرية في بهائها المتوازن مع اللغة: (خيمة دفء صنعت من كلمات، إني أحتاج كالأرض إلى ماء الحوار، تحت موسيقى المطر، حين يلقى امرأة نصف الكلام؟)، أي هنا نلمح تفاعلية النصّ بما يحمله من خطاب مؤثّر في المتلقي أو السامع، وتشكّل في مجملها حالة شعرية طيعة بين يديّ الشاعرة سعاد الصباح في اقتدار على إعلاء لغة الشعر الغنائي التي تمتلك خصوصية في مرتبة الجمال عند العرب، فتنطلق من الوعي الفردي إلى الوعي الجمعي في بثّ هموم المرأة وقضاياها، وتتوافق في هذه القصيدة الموسيقى في إيقاعاتها مع الكلمات، وقد أخذت القصيدة الغنائية منزلتها في الشعر الجاهلي وفي باقي العصور وصولاً إلى العصر الحديث بما يتوافر للشعر من ملكات الصوت الغنائي وأدوات العزف وقدرات التلحين، وقد استطاعت الشاعرة أن تترك بصمة كبيرة في الشعر العربي، وأن ترتقي إلى سُلّم الشعراء الكبار، أمثال: نزار قباني ومحمود درويش وأبو القاسم الشابي والأخطل الصغير والسياب وغيرهم.
وبحكم أن الشعر العربي هو شعر غنائي في المقام الأول، فإنّ الشعر الذي يعبّر عن رغباتنا وأهواءنا وأشواقنا وعن الحبّ والوصل والهجر هو الأكثر صدقاً مع الذات، وهو الذي يقدّم نصاً جميلاً في انشغال الذات (الأنا – الفرد) مع (الأنا – الجماعة) إذ يجعل من التوازي والتكرار والتقفية في القصيدة غنائية قادرة على إضفاء سحر الكلمة في الأنساق اللغوية، وإنّ نسق الكلام عطف بعضه على بعض ورتبه في الجملة أوالعبارة الشعرية في دلالة مركبة حسية ونفسية، عبر توليد المعاني والصور، والشعر الغنائي مشحون بطاقة كبيرة للتعبير عن الذات الإنسانية وتأثيره على المتلقي.
يبقى القول إن الشاعرة سعاد الصباح استطاعت أن تقدم قصيدة غنائية بامتياز الشعر، وهذا ما يشهده منجزها الشعري في عمومه، بعيداً عن تسطيح اللغة واللفظة الممجوجة، كما استطاعت القبض على جمر القصيد في استبطان الذات واستشراف المستقبل وسحر الكلمة، وقد أثبتت بجدارة أن الشعر الغنائي هو إكسير الحياة، وإنه قادر على تقديم قصيدة الشاعرة الأنثى الرافضة للذكورة الشرقية.
الصباح استطاعت أن تقدم قصيدة غنائية بامتياز الشعر، وهذا ما يشهده منجزها الشعري في عمومه، بعيداً عن تسطيح اللغة واللفظة الممجوجة
نلمح تفاعلية النصّ بما يحمله من خطاب مؤثّر في المتلقي أو السامع، وتشكّل في مجملها حالة شعرية طيعة بين يديّ الشاعرة سعاد الصباح في اقتدار على إعلاء لغة الشعر الغنائي التي تمتلك خصوصية في مرتبة الجمال عند العرب