الكتابة عن أمينة فارس غصن ليس بالأمر اليسير، لأنّك تكتب عن شخصيّة قلقة تُضمر في ثنايا ذاتها أكثر ممّا تكشفه لمن حولها. عرفتُها لأوّل مرّة في مطلع ثمانينيّات القرن الماضي عندما التحقتُ بدائرة العربيّة ولغات الشّرق الأدنى في الجامعة الأمريكيّة في بيروت لدراسة الأدب العربي، وكانت الدّكتورة غصن آنذاك تدرّس الأدب الحديث؛ فكنت تلميذًا في صفّها قبل أن تمضي سنوات وأكون زميلاً لها في الدّائرة نفسها، ثمّ صديقًا قلّما التقى بها بعدما تركت الجامعة الأميركيّة. عندما كنت لا أزال تلميذًا، كنت أرى فيها شخصيّة ثائرة على كلّ شيء وعلى كلّ أحد، ولمّا صرتُ زميلاً لها كنت أشاهدها ناقمة على نفسها وغاضبة على غيرها، ولمّا انتهيت صديقًا لا يراها إلاّ لمامًا أمسيتُ أتذكّرها كلّما أردتُ أن أتصوّر شخصيّةً آثرت البقاء وحيدة حزينة على أن تداهن أو تجامل أحدًا، حتّى نفسها.
لقد أجاد الأستاذ عبده وازن في المقال الّذي نشره في جريدة الحياة (13/9/2017)، وذلك بُعيد وفاة الدّكتورة غصن، عندما ختم كلامه عنها واصفًا إيّاها بأنّها “عاشت حياتها في حال من الاضطراب الدّائم والحزن، وعانت الاكتئاب، ولم تعرف كيف تتصالح يومًا مع العالم وأهل العالم، ومع الحياة الّتي غالبًا ما اتّسمت لديها بالسّوداويّة. كانت مثاليّة جدًّا وبريئة جدًّا، لا تحتمل الخطأ في عالم ملؤه الأخطاء وسوء الفهم”، وكان عبده وازن يعرف الدّكتورة غصن عن كثب، وقد التقى ثلاثتنا مرّةً في مكتبه في جريدة الحياة في بيروت، وأدركتُ آنذاك مدى معرفته بشخصيّتها، كما شاهدت مدى انفتاحها في الحديث معه.
السيميائية في الحياة أيضاً
بدأت أمينة غصن رحلتها الأكاديميّة في كلّيّة التّربيّة في معهد المعلّمين العالي في بيروت حيث حصلت على إجازة في اللّغة العربيّة وآدابها عام 1971. بعد ذلك بعامين، نالت شهادة الكفاءة في الأدب المقارن لكتابتها دراسة مقارنة عن رسالة الغفران لشاعر المعرّة والكوميديا الإلهيّة لدانتي. بُعيد اشتعال نيران الحرب الدّاخليّة في لبنان في منتصف سبعينيّات القرن المنصرم، انتقلت إلى إيطاليا للدّراسة في جامعة أوربينو للسّيميائيّة، ونالت دبلوم في سيميائيّة المسرح والسّينما قبل أن تتوّج دراساتها الأكاديميّة بالحصول على إجازة الدّكتوراة من جامعة السّوربون في باريس سنة 1979، وقد عالجت في أطروحتها موضوع الأسطورة في الشّعر العربي الحديث في قراءة سيميائية. قد تكون دراستها للسيميولوجيا، وتطبيق نظريّات ذلك العلم على الأدب العربي الحديث، جعلاها تركّز في معظم أبحاثها وكتبها، وحتّى في تدريسها، على الصّلة بين اللّغة والنّصّ، من جهة، والعالم الخارجي، من جهة أخرى، وربّما كان لذلك أثرٌ بارز على شخصيّتها ونهج تفكيرها، وكذلك على تعاملها مع مَن حولها من تلامذة وزملاء وأصدقاء، وقد يوافق على هذا الرّأي كلّ من عرفها في السّرّاء والضّرّاء.
فور عودتها إلى وطنها عام 1980، التحقت بدائرة العربيّة ولغات الشّرق الأدنى في الجامعة الأميركيّة في بيروت، واستمرّت في التّدريس فيها، بين مدٍّ وجزر، إلى أن رحلت عنها دون وداع سنة 2004. أثناء تلك السّنوات الأربع والعشرين درّست، لفترة، التّراث والحضارة العربيّة في الجامعة اللّبنانيّة الأميركيّة، وبعد العام 2004 أمضت ستّ سنوات في تدريس الأدب العربيّ الحديث في جامعتي الرّوح القدس في الكسليك وجامعة الحريري الكنديّة على التّوالي.
جادة وحادة
المعروف عنها، وأقول ذلك كشاهد عيان، أنّها كانت مدرّسة جادّة وقاسية؛ فلم تكن تجامل أحدًا أو تهادن مع أي أحد من طلاّبها، وطبعها كان يجعلها ترغب دائمًا في أن تصدم كلّ من يستمع إليها، وأن تكسر تلك التّقاليد الاجتماعيّة المشرقيّة الّتي تجعل المتكلّم محرَجًا عند ذكر بعض الأمور المحظورة والمحرَّمة أسماؤها، فيكتفي بالكناية عنها. كانت أمينة غصن عدوّة لدودة لمثل تلك التّقاليد الّتي تعتبر أن ذكر مثل تلك الأمور بأسمائها على الملأ خارجٌ عن نطاق الأخلاقيّات والذّوق العام. أذكر أنّ كثيرًا ما كانت تكرّر كلمتي “اللّقيط” و”الهجين” أثناء وصفها لنصوص أدبيّة خلال الحلقات الدّراسيّة، علاوة على ألفاظ أخرى حادّة وصادمة. كما أذكر أنّها دُعيت إلى مؤتمر في إحدى الدّول العربيّة، وكان من المفترض أن تُشارك فيه لمدّة ثلاثة أيّام، لكنها سرعان ما عادت بعد يوم واحد من مغادرتها! عندما شاهدتها في اليوم التّالي من مغادرتها في ممرّ الدّائرة العربيّة استغربتُ، وسألتها عن سبب عودتها المبكرة! أجابتني بأنّها، أثناء المحاضرة الأدبيّة الّتي ألقتها في المؤتمر العربيّ، تلفّظت في سياق كلامها بكلمات أثارت حفيظة عدد من المشاركين الّذين رفعوا الصّوت في الاعتراض على “إباحيّتها في التّعبير”، فما كان منها إلاّ أن تركت منصّة المحاضرات تعبيرًا عن امتعاضها من عدم تقبّل تلك البيئة الاجتماعيّة ذكر الأمور بأسمائها، وعادت إلى بيروت في اليوم التّالي رافضة أن تُملي عليها التّقاليد الاجتماعيّة ما يجب أن يُقال وما يجب أن لا يُلفظ بأسمائه الصّريحة.
كانت صادقة مع طلاّبها وصادمة لهم، وعلى الرّغم من ذلك، لا أذكر فصلاً دراسيًّا افتقرت فيه إلى طلاّب يسجّلون في صفوفها الّتي كانت أربعة في كلّ فصل. أذكر أنّني عندما كنتُ تلميذًا في المساق الّذي كانت تدرّسه في الأدب الحديث، كان المطلوب من الطّلاب الّذين كانوا يتخصّصون في الأدب العربي أن يكتبوا بحثًا عن موضوع محدّد في نهاية الفصل. اخترتُ أن أكتب عن المناحي الرّوحيّة في أدب جبران خليل جبران؛ فقمتُ بدراسة استقرائيّة لأدبه، وتوصّلت إلى نتائج قد لا تُعجب المفرطين في إعجابهم بجبران. بعد أيّام من تسليم البحث للدّكتورة غصن، كنت أقف في الممرّ الّذي يقع خارج الصّفّ الّذي كنّا ندرس فيه معها في مبنى “النايسلي” في حرم الجامعة في بيروت، وفجأة شاهدتها تقترب مسرعة نحوي، وصوت نعلي حذائيها يقرع الأسماع، وعندما بلغتْ حيث كنتُ أقف متّكئًا على الدرابزين، خاطبتني بعنف قائلة: “أنت لا تدرس كفاية للامتحانات، أليس كذلك؟” فما كان منّي إلاّ أن أجبتها: “كيف عرفتِ ذلك؟” قالت: “إنّ البحث الّذي كتبتَه أفضل بكثير من الامتحانات الفصليّة الّتي تُنجزها”. أجبتها بأنّني أميل أكثر إلى كتابة الأبحاث، ولست شديد الاهتمام بالتّحضير لامتحان عابر نحصل منه على علامة. عبّرتْ عن رضاها عن إجابتي بابتسامة فيها شيء من الخبث والإعجاب. عندئذ قالت لي: “أنا لستُ موافقة على الاستنتاجات الّتي عرضتَها في البحث، ولكن أعطيتُك أعلى علامة لم أعطها من قبل لأيّ بحث في الأدب الحديث، وذلك لأنّ المنهجيّة الّتي اتّبعتها صحيحة وبحثك متقن ومتين مع أنّني أختلف معك في الرّأي”، وهكذا كان. ثمّ طلبتْ من رئيس الدّائرة أن يسمح لها بتنظيم ندوة في المرصد القديم في حرم الجامعة لأقرأ فيه بحثي على الطّلاّب والأساتذة. عُقدت النّدوة، وبعدما انتهيتُ من قراءتي للبحث، اختلف الأساتذة في تأييدهم ورفضهم لاستنتاجاتي، ودار جدلٌ فيما بينهم وكنتُ أستمع إليه مستمتعًا. كانت أمينة غصن هي الوحيدة في ذلك الجمع الّتي أطرت على البحث وقدّرته وعارضته في الوقت نفسه. هذه الحادثة تدلّ على طريقة تفكيرها وتقييمها للأمور؛ إذ كانت تميّز بين القيمة الأكاديميّة للبحث العلمي والرّأي الخاص لمن يتناول ذلك البحث بالنّقد والتّقييم. أخبرتني بعد سنوات طويلة، عندما صرتُ زميلاُ لها في الدّائرة، أنّها كانت لا تزال تحتفظ، بعد عشرين عامًا، بنسخة عن بحثي الّذي كتبته عن جبران، ولا أدري أين هو الآن!
مشاغبة كتابية
كانت الدّكتورة غصن تعشق الكتابة بقدر ما كانت تحبّ تبادل الأحاديث، وكانت تكتب بالقلم على صفحات الورق ولم تكن تستعمل الحاسوب، على ما أذكر، وكأن الكتابة بالقلم تجعل الكاتب أكثر تواصلاً واندماجًا مع ما يكتب. نشرت ثمانية كتب وأكثر من ثلاثين مقالة بين العامين 1980 و2011، ولم تنشر شيئًا بعد ذلك العام، دون أن يعني ذلك أنّها لم تكن تكتب. كأنّها آثرت العزلة والابتعاد عن الغير، ولا أدري كيف كانت طبيعة تلك العزلة لأنّني لم ألتقِ بها بعد ذلك، ولكن أعتقد أنّها كانت عزلة يكتنفها الحزن. لها كتاب غير منشور وغير مكتمل، وقد يكون آخر ما كانت تؤلّفه، وهو تحت عنوان “الحرّيّة والتّفكير النّقدي”، ويبرز ما بقي من هذا الكتاب مدى معرفتها بالمدارس الفلسفيّة وخاصّة الفلسفة اليونانيّة.
كانت صادمة لقرّائها في كتاباتها مثلما كانت صادمة في حديثها مع أصحابها. كتابها الأوّل الّذي نشرته كان “قراءات غير بريئة في التّأويل والتّلقّي” (1999)، ثمّ “نقد المسكوت عنه في خطاب المرأة والجسد والثقافة” (2002)، فـ “جاك دريدا في العقل والكتابة والختان” (2002)، وبعده “تداعيات اريكة وسرير” (2004) و”حداثة بلا جذور” (2004) ثمّ “نون في المحراب” (2007). عندما صدر هذا الكتاب الأخير ورأيت صفحة الغلاف، سألتُها عن دلالة النّون في العنوان! كان جوابها المباشر والصّريح والصّادم: “فَرْج العاقر”. وصف أحد المعلّقين ذلك الكتاب بالمشاغبة الكتابيّة، وعندما سألها عن ذلك أجابت: “هي أبجديّة تعجّ بزغردة الرّضاعة وبصوفيّة الغرائز والصّبوات؛ أبجديّة تستوي في عرش الرّيح، وتمتطي برزخًا للسّماء، وآخر للعازف الّذي يلاعب أوتار الفضاء”. إنّ التّأمّل في عناوين تلك الكتب الّتي أصدرتها خلال سنوات ثمان تدلّ على “زغردة الرّضاعة وصوفيّة الغرائز والصّبوات” الّتي تنعكس في عدد من التّعابير الّتي استعملتها لعناوين كتبها مثل انعدام البراءة والمرأة والجسد والختان والأريكة والسّرير وأخيرًا النّون الكائن في المحراب، وكأنّها كانت تريد أن تجمع بين الغرائز البشريّة والقداسة، فتتقدّس الغريزة وتُغرز الغريزة في القداسة! قد تكون هذه صدمة أخرى أرادت أن توجّهها إلى المقدّسين الّذين فصلوا بين القداسة والغرائز البشريّة.
قد يكون هذا ما دعاها إلى تأليف الكتاب الأخير الّذي نشرته تحت عنوان “أمين الرّيحاني في العبء الرّسولي” (2011)، والّذي تمّت طباعته في العام الموافق للذّكرى المئويّة الأولى لصدور “كتاب خالد” لأمين الرّيحاني بالإنجليزيّة. في ذلك العام نظّمت جامعة سيّدة اللّويزة مؤتمرًا دوليًّا عن “كتاب خالد”، وكنتُ مدعوًا لتقديم بحث في إطار موضوع المؤتمر. قبل انعقاده بأيّام، اتّصلت بي الدّكتورة غصن هاتفيًّا وأخبرتني أنّها عند اطّلاعها على برنامج المؤتمر، وجدت اسمي ضمن لائحة المشاركين؛ فطلبت منّي بإصرار الحصول على نسخة من كتابها عن الرّيحاني والّذي لم يكن قد نزل بعد إلى مكتبات بيروت. بعد جهد جهيد تمكّنتُ من الحصول على نسخة من الكتاب المطبوع في اليوم الّذي سبق انعقاد المؤتمر. أمضيتُ ليلتي أقرأه حتّى أتمكّن من أن أشير إليه في كلمتي خلال المؤتمر إرضاءً للدّكتورة غصن الّتي لم أكن قد التقيت بها منذ أن تركَتْ دائرة العربيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت قبل سبع سنوات من ذلك التّاريخ. عندما وصلت إلى حرم الجامعة، وبلغت المبنى الّذي كان المؤتمر سينعقد فيه، وجدتُ الدّكتورة غصن جالسة عند المدخل تدخّن سيجارة. حيّيتها وحيّتني، وشعرت بحزن في عينيها، وأعتقد أن سبب ذلك الحزن الّذي حاولت إخفاءه خلف ابتسامة كان توقّعها أن تكون أحد المدعوّين لتقديم كلمة عن الرّيحاني، وهي الّتي نشرت كتابًا عنه في ذلك العام بالتّحديد وصدر في يوم الذّكرى المئوية لصدور كتاب خالد. لقد كانت في حالة ثورة خلال المؤتمر، حتّى أنّني كنت أشعر بالحرج، وأنا جالس إلى جانبها، كلّما كانت توجّه انتقادًا لاذعًا للمتكلّمين كان يصل أحيانًا إلى حدّ السّخرية والتّهكّم. أثناء الكلمة الّتي ألقيتها، تجرّأت أن أنتقد في حضورها فكرةً كانت قد طرحتها في كتابها، وبعد الانتهاء رفعتْ يدها طالبة التّعليق. لمّا رأيتُ ذلك، قلتُ في نفسي: “لقد حان حِينُ الحَيْن”. لكن المفاجأة كانت أنّها قالت أمام الجميع: “إنّي أوافق على كلّ ما قاله الدّكتور وحيد”، فنظرتُ إلى منظّمي النّدوة الّذين كانوا يجلسون في الصّفّ الأماميّ من القاعة، وخاطبتهم قائلاً: “ما دامت الدّكتورة غصن قد وافقت على ما قلتُه، فانا أشعر بالأمان، وأعتبره صحيحًا”! هكذا كانت تعامل من كان ذات يوم أحد طلاّبها على الرّغم من أنّها كانت في خفيّات وجدانها غاضبةً عليه وعلى مَن حوله.
خاتمة الفصول
تجدر الإشارة إلى أنّ كتابها الأخير عن أمين الريحاني يستحقّ دراسة تحليليّة، وهذا يخرج عن نطاق مقالنا. لكن من اللاّفت أّنها سمّت خاتمة كتابها “خاتمة الفصول”، وكأنّها كانت تتكلّم عن فصول حياتها الاجتماعيّة والأكاديميّة والشّخصيّة، وكانت تشعر أنّ ختام ذلك الكتاب هو ختام لتلك الفصول أيضًا، وهكذا صار!
كانت أمينة غصن كاتبة ناقدة لكنّ انتقادها من قبَل الآخرين كان يستثير حفيظتها. ذات يوم، عندما كنّا زميلين في دائرة العربيّة في الجامعة الأميركيّة، أعطتني مسوّدة مقال كانت قد كتبته عن ابن عربي، مقارنةً بينه وبين أحد الأدباء الفرنسيّين المحدثين لا أذكر اسمه. طلبت منّي أن أقرأ المقال، وأن أعبّر لها عن رأيي “بصراحة”! قرأتُه ولم أقتنع بما كتبته لعدم عثوري في المقال على رابط معقول بين ابن عربي وذلك الأديب الفرنسي، ورأيت أنّ المقارنة عبثيّة، لكنّني لم أكن أعلم كيف يمكنني أن أعبّر لها عن حقيقة رأيي “بصراحة”. بعد مضيّ أسبوع، حضرت إلى مكتبي وسألتني عن رأيي، فلم أجرؤ على التّصريح، واكتفيتُ بالقول: “إنّ أسلوب كتابتها في ذلك المقال يُشبه إلى حدّ بعيد أسلوب فلان – وكنت أعلم أنّها لم تكُن تُكِنُّ مودّة لذلك الفلان –”، فما كان منها إلاّ أن استشاطت غضبًا موجّهةً بعض الشّتائم إلى ذلك الفلان، وامتنعت عن التّكلّم معي لأكثر من شهر، وسمعتُ من طلاّبها أنّها قالت لهم: “إنّ وحيد قد طعنني في الصّميم”. أمّا المقال، فإنّها لم تنشره أبدًا، ولم يره أحد بعد ذلك التّاريخ. هكذا كانت أمينة غصن، لسانها يقول شيئًا، فيما قلبها وعقلها يعملان في مكان آخر.
أثناء السّنوات الّتي كنّا فيها زميلين في الدّائرة العربيّة، أهدتني ثلاثةً من كتبها المنشورة مع كلمات دوّنتها بخطّها على صفحة العنوان، وأعتبر أنّ تلك الكلمات كانت تعبيرًا صادقًا عمّا تكنّه في نفسها وعن نفسها. كتبت لي عند إهدائي كتاب “قراءات غير بريئة”: “كنتَ العزاء تلميذًا وتبقى العزاء أستاذًا وزميلاً”. بعد ثلاث سنوات، أهدتني كتاب “نقد المسكوت عنه” وكتبت لي فيه: “العزيز المشغول أبدًا ودائمًا، والمصرّ على قراءة ما لا يعنيه، بكلّ محبّة وودّ أهديه ما يلهيه عن رصانته”. أمّا الكتاب الأخير الّذي أهدتني إياه، فكان كتابها عن جاك دريدا، وقد دوّنت فيه الكلمات التّالية: “حضرة العزيز المتسلّط والمستبدّ بحقّه، الدّكتور وحيد بهمردي المحترم، بانتظار نفورك من تعب استمرّ أربع سنوات، المخلصة أمينة غصن، بيروت 25 آب 2002”. بعد ذلك بسنتين، شملني غضبها مثلما شمل سائر الزّملاء، فطلبَت من سكرتيرة الدّائرة أن تبلغني بأنّها تُريد استرداد الكتب الثّلاثة الّتي أهدتني إياها. لبّيتُ طلبها، لكن كنتُ أعلم أنّها تعلم إمكانيّة الحصول على تلك الكتب من المكتبات، لكّنها كانت تُريد أن تُلغي من الوجود ما كانت قد كتبته لي في كلمات الإهداء. كنتُ خبيثًا لأنّني صوّرتُ صفحات الإهداء قبل أن أعيد الكتب إليها، ولا أزال أحتفظ بتلك الأوراق الثّلاث، ولم أكن أتوقّع آنذاك أنّني سوف أفصح عنها في مقال عن أمينة غصن بعد وفاتها!
كان آخر تواصل بيني وبينها قبل عامين عندما أرسلت لي رسالة نصّيّة على هاتفي تعزّيني فيها بوفاة صديق وزميل مشترَك! لم أسمع خبرًا عنها بعد ذلك إلى أن أبلغني زوجها برحيلها بُعيد وفاتها. تمنّيت لو كنتُ حاضرًا في جنازتها لأضع على ضريحها وردة بيضاء تعبّر عن صدقها فيما كانت تقوله على الرّغم من أنّ صدقها كان دائمًا مؤلمًا لها ولغيرها، لكن يبقى الصّدق فضيلة مهما كانت نتائجه.
إنّها حكاية لا تنتهي، لأنّ الذّكرى تدوم بحلوها ومرّها!
هوامش
(1) موسى وهبة، “جيل دولوز وصناعة الأفهوم،” مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 152-153 (خريف 2010)، ص150. وقد جاء هذا الكلام في إطار ندوة نظّمها مطاع صفدي بمناسبة صدور كتاب جيل دولوز وتجديد الفلسفة.
(2) موسى وهبة، “تقديم الترجمة،” في: كنط، نقد العقل المحض، طبعة منقّحة (بيروت: دار التنوير،2015)، ص 14-15.
(3) موسى وهبة، “مقدّمة المترجم” في: هوسّرل، مباحث منطقيّة، مج 1، ص 8.
(4) من محاضرة تحت عنوان (ماذا عن الميتافيزيقا اليوم؟) ألقاها الراحل موسى وهبة في معهد المعارف الحكميَّة قبل بضع سنوات من وفاته. وهذه المحاضرة موجودة بصوته على اليوتيوب.
(5) المصدر نفسه.
وحيد بهمردي