«إنّ الرواية الواقعية هيَ الشكلُ الفنيّ الأكثر ملاءمة ً في التعبيرِ عن العلاقةِ بينَ كلٍّ من السياسةِ والتاريخ والحياة» – جورج لوكاش .
توطئة :
تبدأ الرواية بـ(صهر الحلم بالواقع) ، والانتقال المُدهش من الخيال إلى الحقيقة ، وهو ما يُسمّيه النقاد بـ( الواقعية الخيالية) وهي ( إعادة خلق الواقع، وإعادة تركيبه خيالياً) كما يقولُ توماس هاردي، والواقعُ هو (الواقعُ الذي تتوسلُ إليه الرواية، هوَ ذلكَ الذي ترتبط ُ بهِ تاريخياً) – كما يرى مورس شرودر – نظرية الرواية ص14 .. ولكنّ الخيال هو «الإسمنت» الذي يجمعُ لبنات هذا الواقع .. وإذا كانت للروايةِ كلّ هذهِ القدرة على (الانتقال داخل الشخصيات، وإذا كان (التخيلُ) هو كلّ شيء ، وهو صوت الجرأة في السرد، فإن ( الواقع خيالٌ أشدّ تركيزا) حسب تعبير أرنست فيشر .. ولهذا فأنّ « كامل همّام» وأخته «صالحة» هما نتاجُ ( خيال أولي) خيال إنتاجي ، تولدُ وفقَ كيميائه شخصيات أخرى، تحكي تجاربها . وهمومها ، وفق قواعد سردٍ محكم ، لكاتبٍ ذي خبرةٍ طويلة ، وهو (القدرة الروحية في كلّ إدراك إنساني) كما يقولُ كولريدج : (ومهما يكن مِن أمرهما ، فكيفَ عرفا أسماء شخصيات روايتي الجديدة التي لمْ يقرأها مخلوقٍ سواي ؟ هلْ يمكن أن تنبعثَ حياة حقيقية في شخصيات أدبية متخيلة؟) – الرواية ص14.. ممكنٌ جداً لأنّ الروائي أحياناً لا يخلقُ تلك الشخصيات بل ( هيَ تخلق ذاتها عندَ الكتابة) – بتعبير أليف شفق !!
الزمنُ بطلا ً !! لسانهُ اللبقُ التاريخ ، وتاريخ اختراع (المحرك) – أول سيارة في العالم تتجسّد دهشة هذا الاختراع ، وقد أصبح البديل لتلك العربة التي يجرّها الحصان ، وهو حلم الإنسان (كارل بنز) وما عاشهُ من معاناة ومتاعب الاختراع ، وما صحبهُ من معارضة ، وفشل ونجاح ، وسخرية وجديّة ، وقلق وسهر مضنٍ من أجل أن يصبح الحلم حقيقة .. يقظة عسيرة، وقدْ بدا أول الأمر سراباً ، ولكنّ الثقة ، والإصرار، والألفة الأسرية ، جعلت من هذا الحلم واقعاً مدهشاً 🙁 بيرتا .. هذا أعظم يوم في حياتي، لقدْ صنعت أول عربةٍ بمحرك في التاريخ) – ص27.. ولا يبدو المخترع ( كارل بنز) بقواعد السرد وفنّ الحكي بطلاً ، بلْ هو تاريخ ، كانت محاولة برماد الأيّام ، وقد سجّلت بعرق الإنسان انتصاراً مدوياً ، السبب في أن رأى المصريون السيارة لأول مرةٍ ، والسبب الأهم ، بفلسفة السرد ، هو وجود (نادي السيارات) .. وكان الروائي علاء الأسواني بارعاً وهوَ يربضُ في إيقاع هذا المكان ، ليجعل منه بطله الأوحد ، ويسرد سيرته – أوتوبوغرافيا مثيرة .. حلمُ الواقع ، وواقع الحلم ، مصدرُ تفردهِ ونبوغه ككاتبٍ مُقلقٍ ، الذي ينسحبُ على رواياته التي سبقت هذا العمل «عمارة يعقوبيان» و«شيكاغو» ، ونالت من الشهرة والانتشار الكثير .. وقد جاءت مقدمة الرواية خلاصة تنافس موضوعي شريف ، بينَ الخيال والواقع ، وقدْ أظهرَ الروائي براعة ً أيضاً في صهر الحلم بالحقيقة ، أو الواقع بالمتخيل ، وهو يبدي قدرة هائلة في التحكم بأدواتهِ الفنيّة ، ولغته التي أخذت مسار ( السهل الممتنع) ببساطتها العميقة ، مقرونة بحنكةٍ في التكنيك ، وعرض الشخصيات والأحداث من دون ملل ، بلْ هي سحرُ سردٍ جذاب مقنع وممتع معاً ..!!
و(عبد العزيز) و( رقيّة) معاناة إنسانية من نوعٍ آخر ، فإذا كانت معاناة (كارل بنز) و( بيرتا) في الاختراع ، والسعي للتفوق والنجاح والشهرة ، وما صحبهما من رفضٍ ، وسخريةٍ ، ومعارضة .. فإن معاناة الصعديين (عبد العزيز ) و( رقية) هي في صنع الحياة الأفضل ، بعدَ حالة الإفلاس والفقر التي تعرضَ لها الزوج (عبدالعزيز) اضطرتهُ إلى بيع أرضه وأطيانه ، والتوجّه منكسراً من قريته (دراو) إلى ( القاهرة)، وما لاقاهُ من صعوباتٍ ، متاعب، وهو يبحث عن عملٍ ، ليعيش حياة مجهولة أخرى ، بعد الحياة المخملية و(الغنى) الذي كانَ ينعمُ بهِ هو وأسرته ، والجاه والعزّ في (دراو) ، أصبحَ يعمل فراشاً و(مساعد مخزن) من أجل أن يوفّر رغيف العيش ، والسكن ، وبعض الأمان للأسرة التي باتت تعيش أصعب أيامها : (عبدالعزيز همّام ، أحد أعيان دراو الذي ورث عن أبيه أطياناً وأموالاً ، المعروف بشهامتهِ وكرمه الذي لمْ يتخل يوماً عن مؤازرة قريب أو جار أو أيّ أحدٍ من أهل بلدته ، ها هو تلاحقه الديون ، فيبيع أرضه قطعة قطعة حتى يفلس وتنقطع بهِ السبل فيهاجر إلى القاهرة بحثاً عن عملٍ مثل الأجراء والمطاريد بعدَ أن جاوزَ الأربعين من العمر) – ص39.
المكانُ بطلاً متفرداً .. لكنهُ يبدو مرآة ً مهشّمة مظلمة وقاتمة ، في زمنٍ أكثرَ ظلاماً وحلكة ً ورطوبة .. المكان – (نادي السيّارات) .. قلعة حكم مصر ، وإمبراطورية العبودية والاستبداد والظلم ،وهو مركز الترفيه والسعادة للملك ، وحاشيته الساقطة من البرجوازيين والإقطاع الذينَ يعيشون في هذا المكان لحظات غياب وشرود ، كلّ فعلٍ وحركة مظلمة تصدرُ عنهم ، حية في ذاكرة التاريخ ، وهؤلاء يطيلون أعمارهم البائسة بأقذر الأفعال وأخس الأخلاق ، وهم بلا كرامة ، حينَ يقدمون زوجاتهم وبناتهم – طائعين- لفراش الملك الشهواني .
بورتريهات :
«والتاريخ كلّهُ ليسَ إلاّ قصّة شخصياتٍ عدّة»- ميلان كونديرا- ثلاثية الرواية ص63.
(صالحة عبدالعزيز همّام): إحدى شخصيات الرواية التي غامرت ، وتجاسرت على العيش في فضاءالخيال والواقع ، ودسّت جسدَها الغضّ في تفاصيل خيال الكاتب ورؤاه، بلْ سكنت حدائق أصابعه وزوارق قريحته معاً ، وهي تفيضُ حناناً ودفئاً إنسانياً.. وما زالت تحتفظ بصورها مُذ كانت طفلة ً : ( كمْ كنتُ أبدو مبتسمة ً ومطمئنة ً، نعمتُ بطفولة سعيدة بلا شك ، كنتُ الوحيدة التي يدللها الجميع ، لمْ أعرفْ القلق والإحباط قط ، حتّى هجرتنا من الصعيد إلى القاهرة ) – ص54. وبينَ علامات النضوج التي أرهبتها في بادئ الأمر ، حين تأكّدت من أمّها أنّها ( أصبحت امرأة يعدّها الله للإنجاب) ، وخوفها على مستقبلها حينَ فاجأتها إدارة المدرسة، بالتحذير من دخول امتحانات نهاية العام ، وقدْ تأخرَ وليّ أمرها عن دفع المصاريف.. وبينَ الحيرة والقلق من إيقافها عن الدراسة ، والتباطئ غير المفهوم عن دفع المصاريف ، كانت (صالحة) نموذج للإتزان والتعقّل ، والدفء الأسري ، وهي تحرص على ألاّ تحرجُ أحداً ، وبالذات والدها ، وأنّ البديل لحيرتها هوَ أنْ تتظاهر بالمرض ، وتجد راحة النفس في طرح أسئلتها التي ظلتْ بلا إجابة مقنعة ، فقط وعود وغموض ومراوغة من قبل أخيها ( كامل) : ( أبي موظف كبير في نادي السيارات ، وهو يلتقي كثيراً بمولانا الملك، ويتحدّث معهُ .. كيف يعملُ أبي مع جلالة الملك، ويعجز عن دفع مصروفات المدرسة؟ ) – ص58
.( الكوو) : البطلُ الفعلي ، داينمو الأحداث ، خيالُ الواقع ، اسمهُ ( قاسم محمّد قاسم) النوبيّ الذي تمّ إلغاء اسمهِ الحقيقي من صحيفة المكان – نادي السيّارات ، ورُبّما في سجلات الدولة الملكيّة ، وأصبح فقط ( الكوو) وهو (الخادم والسيد) في الآن ..أسلوبه الأمثل في خضوع (الخدم) هو البطش والقسوة ، يتحكّم – بكل غرور- برغيف عيشهم ، سياسته التي بلا أبجدية إنسانية ، هي زرع الرهبة والخوف في نفوس هؤلاء الضعفاء – الخدم .. سلطان المكان الجائر ، في مكانٍ بؤرة الاستبداد والقهر والظلم .. (الكوو) بوّابة الملك الحقيقية ، التي يمرّ منها الجميع ، بانحناءة وذل ، وبوافر من الحذر والقلق والخوف ، بفعل خبرة – كيمياء خبث وغدر ومكر تندرُ عناصرها ، مُحبّبة لدى ( مولانا) الملك – حاكم البلاد ، وهي سبب رفاهيته الباذخة ونومه المخملي ، بعد كلّ ليلةِ سهرٍ وفسقٍ وفسادٍ وزنا.. ( الكوو) الرئيس الأعلى للخدم، ومن تحت يديه الملوثتين بكلّ أفعال الظلم والقهر والجور والحرام، تخرجُ بطيئة شحيحة أرزاق وأتعاب الخدم الذي ينصاعون ويأتمرون بأمرهِ ، وينحنون لظلّهِ المقيت .. هو (قانون) الملك ، (دستوره) الذي لايمكن العبث في نصوصهِ ، أو التصرف في بنوده وتأويله ، السوط اللاذع لمن يرأسهم من المصريين النوبيين وغيرهم ، وأقذر بنود هذا القانون احتقار المصريين ، وهو لا مواطن في الحقيقة في هذا المكان – نادي السيارات ، وانحيازه بشع فاضح لكلّ ما هو أجنبي .. وفي مقدمة الأرذال الإنجليز ( جيمس رايت) العنصريّ حتّى العظم .. والبخيل والأناني حتّى البشاعة .. ومن هنا تصبحُ طاعة ( الكوو) للأجنبي فخراً ونفوذاً وهيبة ً ، وهو يدري أو لايدري هذا الخادم ( المبجّل) إنّه بهذا يحتقرُ جنسه ولونَهُ ، ويعترف – بسلوك مقيت- بسلطة ونفوذ (الأبيض) الإنجليزي الطامع العنصري المحتل ، ويراهُ مولاه ومصدر وجوده ورزقه .. ( الكوو) يبدو ملكاً في مساحة عمله ، أكثر من الملك نفسه ، فهيبته عالية في نظر الخدم ، وأوامره نافذة ، مُطاع في الخير والشرّ ، ومَن ترمش عينه منَ الخدم بسرّ أو امرٍ من دون أن يعرفه، فأنّ العقابَ سيكون شديداً .. بورتريه فائق الدقّة ، تلقائي الفرشاة واللون ، هذا الذي يرسمه الروائي علاء الأسواني لهذا العبد المهيمن ، بصورةٍ تتفوق كثيراً على عدسة الكاميرا، وهو في الوقت نفسه بورتريه للمكان .. وكلّ ما يدور في المكان من طقوس آثمة ، وعادات ، وتصرفات ، وأخلاق بلا أبجدية ، ابتداءً من الملك نفسه وانتهاءً بسيدة القصر التي لا ترى في الخدم رجالاً بمشاعر وأحاسيس وعواطف، ولهذا فهي عندما تستدعي أحدهم إلى حجرتها ، فأنها لا تتحرج من أن ( ترتدي قميص نوم يكشف مفاتنها) .. وقانون العبودية في هذا المكان ، يعملُ حقيقة أو مجازاً على (إخصاء) الخدم وينصّ على (الطبقية) المقيتة ، فالقصر الملكي يرى أنّ الجنس الأسود لا ذكاء لهُ ، وهو مخلوق قذر ، لا يحظى بالاحترام الذي يُتوّج بهِ ( الأبيض) ، وهو الأجنبي بكل دقّةٍ ووضوح : الكوو: (يرطنُ بالنوبية ، وينطق العربية بلكنةٍ ثقيلة ، فيخلط بينَ ضمير المذكر والمؤنث.. يتحدّث الفرنسية والإيطالية بطلاقة ، ويكتبها بصعوبة، وظيفته الأصلية شماشرجي الملك، مسؤول الملابس الذي يساعد مولانا على ارتداء الملابس وخلعها ، الكوو أكبر شماشرجية القصر وأقدمهم ، وأقربهم إلى قلب الملك ، علاقته بمولانا تتعدى وظيفته بكثير) – ص60
. ( حميد) : اللوطيَ .. المخنث .. مساعد ( الكوو) وذراعهُ اليمين، وسوط العقوبة الماهر ، شابٌ أسود ، كلّ حركة ينطق بها جسدهُ تدلّ على شهوانيته ، صورة حيّة مجسّدة للشاذ .. تمتعهُ بالقسوة وسيلة لإطفاء نيران شذوذه .. شخصية مريبة ، مثقلة بأصناف الإشاعات والتكهنات حول سلوكهِ الأخلاقي .. كريه ، ومصدرُ قلقٍ في المكان ، لما تبدو عليه طباعه من رغبةٍ وحبٍّ للتعذيب والضرب والقسوة : (وجههُ متجهمٌ دائماً ، محتقنٌ ، ينضحُ بمرارةٍ ما ، نظراتهُ وقحة ، مُتحفزة ، كارهة ، تتصيّدُ أقلّ خطأٍ ، كأنما تتمنى وقوعه) – ص68.
.( كامل عبد العزيز همّام): من الشخصيات الرئيسية ، وأبطال الرواية الفاعلين ، والذين يوليهم الروائي اهتاماً كثيراً ، ربّما يعكسُ رؤاه ، ووطنيته ، وفكره ، وانتماءه .. بطلٌ ذو نكهةٍ سينمائية ، في سيناريو مُتقن ، حقيقة ً وخيالاً ، إنّهُ ( بطل تراجيدي) ، ظلهُ الطاغي يرسمُ البورتريه الدقيق لهُ .. شجاعتهُ ، كرمهُ ، أخلاقه ، إخلاصه الأسريّ ، حنانه الألطف الذي يمارسهُ بسهولةٍ وعفويةٍ ، ذكاؤه الاجتماعي والعلمي يُؤكد حقيقته ، ويرسمُ حلمَهُ الآسر ، هو الشابُ الجسور ، قمرٌ مضيءٌ في المكان الذي يشغلهُ بفكرهِ ، وسلوكه ، وعلمه ، وفعله الإنساني .. نقيض أخيه الأكبر ( سعيد) الأنانيّ بامتياز .. ربّما لأسباب سيكولوجية وإخفاقات حياتية ودراسية ، يعرفها ( كامل) ولكنّهُ لا يُبرّر جفاءه العائلي وحبّه لمصالحه .. ( كامل) شريط من الشجن والحيرة والإصرار والأحلام ، والألم والقلق الكثير .. البطل الذي تترجم أحلامه أفعالاً إنسانية .. الشخصية الأكثر مسؤولية في حياتهِ العلمية والاجتماعية والسياسية أيضاً.. ومغامر شجاع جسور ، وهو ينفذ ما يكلفهُ بهِ التنظيم الوطني ، بتضحيةٍ وإصرار من أجل الهدف الأسمى ،وهو تحرير مصر من الاحتلال الإنجليزي .. لم يكن (كامل) يحبّ السياسة ، وربّما يراها (عالما ً ملوثا ً ) على طريقة المتمرّد هنري ميللر .. ولكنهُ بمثابرة الطالب الشاب الواعي ، وحماسه الوطني ، وحبّه لبلدهِ ، وجدَ نفسه منقاداً ، وفي خضم العمل السياسي ، لا كفكرة تجريدية ، بلْ كفعل وهدف ومصير ، وواجب وطني ، ونبض إنساني ، متأثراً بإطروحات حزب الوفد ،وهو يقاومُ الإنجليز ، ويحرض المصريين على إنهاء الاحتلال البريطاني الذي يتعدّى الخطب والنوايا الحسنة إلى الكفاح والجهاد والمقاومة: ( كأنني أتعمدُ أن أستفز نفسي ، هؤلاء الإنجليز الشقر ، بعيونهم الزرقاء ، وبشرتهم البيضاء جاءوا ليغتصبوا بلادنا .. تخيلت أنّ جندياً إنجليزياً يحاولُ اغتصاب أختي صالحة.. أحسست بغضبٍ هائلٍ) – ص79. ( كامل همّام) .. وطني غيور ، ومواطن بإحساس ثائر ، قِبلتهُ التي لا يُمكنُ تغييرها هي الوطن .. وجدَ نفسه عضواً في لجنة الحزب ، و( بارومتر) التنظيم الذي يخطط لإنهاء الاحتلال الإنجليزي ، فتحملَ مسؤوليات أكبر .. وأخطر ، من أجل بلدهِ ، كانَ أهمّها وأخطرها ، قيامه بتوزيع ( منشورات) تدعو إلى طرد الإنجليز ومقاومتهم 🙁 أريدُ أنْ أفعلَ شيئاً من أجل مصر) – ص80.
(علي حمامة): شخصية فلكلورية ، تضفي بهرجة ممتعة على المكان ، أقرب إلى الشخصية المسرحية، لما يتقنه من دورٍ فاعلٍ في تحريك المفاصل المعطلة في المكان ، هو في شهادة الميلاد (علي محمد حنفي) ، ولقب الشهرة (حمامة) الذي حملَ عدّة تفسيرات ، كلها تنمّ عن الدهاء والمكر والمراوغة والقدرة على الألاعيب التي ارتبطت بشخصيته ، بالإضافة إلى حبّه للمال ، وقدْ اكتسبَ لقب ( البخيل) بامتياز !! .. شخصيته مزدانة بالقصص الطريفة والمواقف التي أخذت شكلاً كاريكاتيرياً معبّراً عن مكنون شريحة اجتماعية ، وهو ماهر في التخلص من أخطر مأزق يكادُ يودي بحياتهِ .. وحكايتهُ التراجيكوميدية مع الطفل الذي أخطأ في طريقة ختانه ، بسبب الحشيش الذي دار برأسهِ والتي كانت ستقضي على حياته وحياة الطفل معاً ، ولكنّ دهاءه ، وبراعته في الهروب في الوقت المناسب ، كتب لهُ عمراً آخر ..يرخص دقائق وقتهِ في الغوص ببحار شهوةٍ جارفة ، في جسد الزوجة ( عائشة) الماهرة في الإغواء ، والدلع، والخلاعة ، لتبدو عاصفة في حركاتها الجنسية : ( بعدَ هذا الحادث المؤسف ، اعتزلَ علي حمامة نشاطه الجراحي ، وامتنع عن إجراء عمليات الختان ، ثمّ اتخذ مكانه الخالد في دكان البقال الصغير المعتم الذي يمتلكه في أول شارع السد أمام محطة الترام ، يجلس طوال النهار خلف المكتب المتهالك ، وقد ارتدى الطربوش العتيق المتبعج أعلاه قليلاً والبالطو الكاكي الذي يجعلهُ يبدو أشبه بمخبر في الداخلية ، وتحت البالطو يرتدي دائماً جلباباً مقلماً ) – ص85.
.( عائشة): زوجة ( علي حمامة) .. ملكة الإغراء والإغواء في المكان !! امراة ٌ من نوعٍ آخر .. تفكّر من خلال مفاتن جسدِها العاري على الدوام .. تتقنُ وبمهارة دور بطلات السينما في الأدوار الفاضحة .. داعرة بامتياز !! في ضحكتها ، وحركاتها ، وألعابها الجنسية الفاضحة حتّى وهي تنشرُ غسيلها .. هي نموذج المرأة ذات الخلاعة الفاحشة ، وأستاذة ماهرة في فنّ الإغواء .. مع ذلك لها شعبيتها ، واسمها المميز في المكان ، في علاقاتها مع جيرانها ومعارفها على أنها نموذج إنساني في الكرم والألفة والتواد والشهامة والنخوة.. وهي تنصتُ باهتمام إلى مشكلات مَن يحيطون بها ، وتشاركهم همومهم وعوزهم ، وتنصحهم بإخلاص ، وتخدمهم بقلبٍ .. إخلاصها الأسري ، وحنانها العاصف على ولدها الذي تريد أن ترتقي بمظهرهِ أمام الناس ، بلبسهِ وشكله ، وهيبته .. هذا الحنان الأعمق تمارسهُ ببساطةٍ وإلحاح ، قدْ أفسد عليها حياتها الجنسية مع ( علي حمامة) زوجها البخيل الذي يمتنع عن شراء ( بدلة) لولدهِ .. وهذا ما عكّر صفو العلاقة مع الزوجة ( عائشة ) التي استبدلت أفلام الإغواء والإثارة بالكدر والنكد ، فتحولت حياة الزوجية ذات الترف الباذخ إلى شريط من الشتائم واللعنات اليومية والكراهية ، بعدَ أنْ فرَّ ( علي حمامة) هارباً غير مبالٍ بثورة الزوجة وهي تتحرر من ثيابها ، عارية ً تماماً ، ساخطة على الزوج البخيل: ( الله يخرب بيتك ، كانت جوازة سودا ، قالوا عليك من الأول أبخل من كلبة يزيد) – ص91
. ( بحر البارمان): أحد موظفي النادي ، في سلوكٍ هادئ، لا يخلو من حيلٍ وخبثٍ ، على رأس إدارة (البار) المستفيد بمكرٍ ، ودهاءٍ ، يتقنُ عملهُ جيداً ، ويتميزُ بملامحهِ المهضومة من قبل الجميع ، الابتسامة ( أصول الشغل) تملأ وجهه ، وتزينُ ملامحه.. حذقهُ ، ذكاؤه، ومهارته في التعامل مع مساعديه في البار ، تأخذ شكلَ الشفرات ،وحدهم يستطيعونَ فكّها ، وهو مع الزبائن يتخذ سياسة أخرى .. سياسة الكسب والجذب والرضاء ، في أسوأ الأحوال ، وأصعب المواقف ، من دون أن يفقدَ حاسة الحذر ، في كل ما يدور في صالةِ البار ، وما للندماء من أمزجة مختلفة.. نقطة ضعفه الوحيدة هي ( الكوو) الذي يخضعُ لهُ ، بلْ يخشاهُ ويحسبُ لهُ ألفَ حساب ، وهوَ يتفنّن في رضائهِ ، وكسبهِ إلى جانبهِ ، ويعرفُ كيفَ يؤمّن لهٌ حقه من الزبائن ، بوسائل لا تقلّ مكرا ًودهاءً ومراوغة وخدعة ، وعلى رأس ألاعيبه الخبيثة (الشيك الدوار) الذي يمكنهُ من أن يقبضَ ثمن الفاتورة ذاتها عدّة مرات : ( يجني البارمان أرباحاً وفيرة من البار ، لكنهُ لا يعتبرُ ما يفعلهُ سرقة ً إطلاقاً ، إنما هي حيل مشروعة تماماً في عالم البارات ، حيث القاعدة أنّ كل شيء مباح مادامَ الزبون مبسوطاً ، مقابل أرباحه يدفعُ بحر مبلغاً شهرياً إلى الكوو يسمى»البوناس»)-ص97.
(جيمس رايت): مدير (نادي السيارات) ، الإنجليزي العنصري حتّى النخاع ، حيث حياة الراحة والاستقرار ورغد العيش ، والوظيفة المرموقة في مصر ، كلّ هذا لا يلغي نظرته الدونية للمصريين ، ويهذب من طباعهِ الخسيسة ضدهم ، وهو يعيش بينهم ، سارق خيراتهم ، (رايت) الذي لمْ يتخلص بعدُ من (فيروس) الاستعمار وهو ينتشر في كامل جسدهِ ، أضفى عليه كلّ هذا التعالي على الغير ، فضحتهُ (أوديت) العشيقة ، وهي تفتحُ صنابير الضوء على ظلمة المكان – نادي السيارات ، وهي ترى فيه ( مليء بالأوغاد) .. (رايت) العنصري يرى المصريين(شعب عشوائي كسول) ، وأنهم (كسالى وكذابون قذرون) :
– يا لكَ من مديرٍ عظيم !!
– لستُ مديراً عظيماً، لكن المصريين شعب عشوائي كسول.
-هلْ أنتَ جاد فيما تقول؟
-نعم أنا أعتقد فعلاً أنّ قدرة المصريين على العمل ، وقيمهم الأخلاقية مختلفة تماماً عن الغربيين )-ص109؟
.( أوديت فتّال) : ابنة المليونير( هنري فتال) واحدٌ من أكبر تجّار القطن في مصر.. مُدرّسة في الليسيه فرنسية ، ذات شخصية متفردة ، سليلة طبقتها الاجتماعية الباذخة ، وهي تنتصرُ لعقليتها الراجحة ، وفكرها المتنور ، وذاتها شديدة النقاء، وحياتها البسيطة التي تخلو من أي زخرفٍ بيروقراطي ، ولا تريدُ أنْ تكون تابعة لأيّ نسبٍ أرستقراطي ، حادة الذكاء ، مخلصة وفية للمكان الذي تعيش فيه ، تنتصرُ لأهلهِ ، وتربضُ في إيقاع همومهم ومشاكلهم ، صريحة جداً ، لا تحتملُ الخطأ، وجارحة جداً حينَ تلمسُ عيباً من الآخر ، أو تدرك فداحة خطأه ، رفضها للمكان – نادي السيارات رفض مدروس وممنهج ، فهو مكان زخرفي ، كاذب ، وحقل أوغاد ، هي البطل – الضد في الرواية ، لمْ يتدخل الروائي كثيراً في رسم ملامحه أو في لغتهِ الثورية ، بلْ تركهُ يقدم نفسه ، وعلى سجيته ، يكتب رؤاه مزدانة بعلامات الاستفهام بفسفور حروفٍ قاتم ، رغمَ ما فيه من إثارة وبريق وبهاء :
(- هلْ لي أن أعرفَ لماذا تكرهين نادي السيارات؟
-لأنّهُ مكانٌ كاذبٌ ، مصطنع ، مليء بالأوغاد) – ص104.
فرقٌ شاسعٌ بينَ ما تحملهُ (أوديت) من رؤى وأفكار ، ومن أدب وخلق اجتماعي سامٍ ، وبينَ ما عليه ( جيمس رايت) من أخلاق ونوايا عنصرية مقيتة ومكائد فاضحة:
( – هنا في نادي السيارات ، يرتدي اللصوص أفخم الملابس ، ويتعطرون ثمّ يؤدون أدوارهم في مسرحية سخيفة.
-مَنْ تقصدين باللصوص؟
-كلّ هؤلاء المدعوين ، أليسَ هؤلاء الباشوات نجوم الطبقة الراقية في مصر ؟ اذكر لي أيّ اسمٍ منَ الحاضرين ، وأنا أذكرُ لك َ سجلاً كاملاً لجرائمه) – ص105؟
( أوديت فتّال) امرأة من طراز رفيع !! جادة في أحاديثها ، واضحة وحادة في سياط فكرها ، واثقة في قراراتها ، لا تجاملُ ، ولا تكذب على مجرى نهر أفكارها الدافق .. امرأة تنتمي إلى المكان ، ولا تعترف بالجنسيات التي تأخذ شكلَ السجون ( إنّها مجرد إنسانة) !!
. ( كامل عبدالعزيز همّام ) .. والعمل السياسي .
«الرواية تتميزُ بالقدرة على الانتقال إلى داخل الشخصيات» – أندريه مالرو- الرؤية الإبداعية ص206.
كامل همّام) شاب مصري وطني .. مواطن شديد الإصغاء لأنين أرضٍ ، منحتهُ لونها ، ينخرط في عملٍ نضالي – إنساني أكثر من أنْ يكون أيديولوجياً ، تنظيرياً جامداً ، كما يبدو عليه الأغلب الأعم من السياسيين الساعين لكرسي السلطة الصدئ، لهُ قضية شريفة وهي السعي إلى التغيير حين (يصبح التحرّك والتغيير شريعة وجود) – كما يقول الفوضوي كروبوتكين .. وهو مثقل بوجود المحتل ،وتقلقهُ أفعال الإنجليز وسياستهم فوق الأرض المصرية ، وهو يراهم مغتصبين للبلد ، وآكلي خيراتها ، ومستولين على ثروات إنسانها الكادح ، لهذا لمْ يأبه لأي خطورة في توزيعه المنشورات ضدّ الإنجليز ، وقد قام بهذا الواجب الوطني ، والفعل الثوري على أكمل وجه ، رُغم موقف أخيه الكبير المتخاذل ( سعيد) الذي أراد أن أن يثنيه عن هذا الفعل الذي سيسبب لهُ وللأسرة المتاعب ، ولكن موقف ( كامل) بدا بطولياً .. ثورياً ، فالثوري والوطني شخص مستحيل ، وهو يرى أنّ مستقبل مصر .. وسعادتها ..وأمانها .. واستقرارها مرهون في أعناق الشباب من أمثالهِ: (قرّرت أن أوزع المنشورات في ساعة متأخرة من الليل) – ص113.
ولأنّ النبض الوطني عالٍ لدى ( كامل همّام) ، فهو يرى أنّ مصلحة مصر فوق كلّ شيء، وهوَ يراها محتلة ، وأنّ من واجبه الأخلاقي والإنساني أن يعملَ ، ويحرّض على تحريرها من الإنجليز:
-هلْ أنتَ مجنون ؟
-بلْ أنا مصري ، بلادهُ محتلة !!
ضحكَ سعيد ساخراً وقال:
-وهلْ أنتَ الذي سيحرّر مصر ؟
-أنا أقومُ بواجبي ..
واجبنا أنْ نقاومَ الاحتلال بكلّ الوسائل)- ص116.
. الملكُ .. وطقوسُ حياةٍ مُثيرة .
كلّ طقوس حياة الملك الباذخة ، حافلة بكلّ ما هو مثير ، ومُستفِز ، لا يكفيه أنّهُ يهدي ذهب الأرض للمحتل ، وهو لا يخجلُ من أنّ هذا المحتل العابث ، يتفاخرُ بأنهُ مالكُ الأرض وسيّدها ، وهاتك حرمة البلاد ، مربك خطوات إنسانها ، وهو الساخر من قيمها ، وأعرافها .. الملك – حاكم البلاد الأوحد ، الذي (يستسقى بهِ المطر) .. إمبراطور الفساد ، وإهدار مال البلاد وخيراتها ، ومبدّد كنوز هيبتها ، وقامتها التاريخية والحضارية ، مدمن فسق وسكر وقمار بامتياز!!ولهُ طقوسه المستفِزة في هذهِ اللعبة ، وهو يخصّص لهُ ورق ( الكوتشينة) المطلي بماء الذهب ، يلعب في هذا الورق مرة واحدة فقط ، ورق مميز جداً ( كوتشينة ملكية ) ، وبعدَ أنْ ينتهي من لعبته، يصبحُ الورق من مهملات القصر ، ويتمّ إعدامه تحت يديّ مشرف ومسؤول عن هذا العمل ، أما إذا تسرّبت ( الورقة الملكية) إلى المقاهي الشعبية ، واستعملها السوقة والعامة ، عندها لا هيبة .. ولا مكانة .. ولا نفوذ يبقى للملك :
(إنّ الكوتشينة الملكية المذهبة ، مثل اللون الأحمر الساطع «الرويال» المقصور استعماله على السيارات الملكية ، مثل البوق المميز لسيارات مولانا الذي لا يجوز قانونا لأيّ شخص آخر تركيبه في سيارتهِ ، كلّ هذهِ خطوط حمراء مَنْ يتجاوزها يتمّ سحقه فوراً ) – ص120.
. عبد العزيز همّام .. لحظات تأمّل بينَ الماضي والحاضر .
هوَ صاحبُ الهيبة في ( دراو) بلدته – ذاكرته التي لا تعرف الصدأ والنسيان .. وتاريخهُ الذي لا يكذب ، الغنيّ ،صاحبُ الجاه في أهلهِ ،وابن الأكابر ، من نبلاء ( دراو) الذي خانتهُ فجأة ً الحياة ، وخذلهُ ،وحدّ عليه أقسى أنيابه الزمن ، حينَ أفلسَ ، وباع الأرض ، وتخلّى عن الجاه من أجل أسرتهِ ، أولادهِ ، وهو يرضى بعدَ حياة العز والبذخ ، بوظيفة( مساعد مخزن) .. غناهُ الروحي جعلَ منهُ شخصاً شريفاً عفيفاً عزيزاً ، لا يحسدُ ، و ينافق ، ولا ينافس أحداً من العاملين ، ولا يشترك معهم في ( بقشيش) ، بلْ كانَ ملجأهم ، وسكنهم ، ومعينهم في كلّ استشارة ، أو مشكلة تقع لهم .. ( عبد العزيز همّام) وتأمّلات شفيفة شاردة ، بينَ صور الماضي المنعّم المخملي ، وبينَ كوابيس الحاضر ، وهو يتصنع الفرح والابتسامة .. بينَ فضاء ( دراو) حيث أيام عزّهِ وشموخه وغناه ، وفضاء (القاهرة) وهو (مساعد مخزن) فقير ،يتسول مصاريف المدارس لأولاده .. هوَ المساعد المخلص للرجل الطيب (جورج كومانوس) مدير المخزن الذي وجدَ فيه الأمانة والصدق والإخلاص ، فاتخذ منهُ صديقاً حميماً ، يتكاشفان بأسرارهما الشخصية.. مثقل ( عبدالعزيز) بأعباء الأسرة ، ومتطلباتها ،وما يتقاضاه من مرتب قليل ، لا يكفي لإسعاد أسرتهِ وأولاده ، وهذا مصدرُ حيرته وقلقه وشروده الدائم ، وخوفه من المستقبل الذي يراهُ مجهولاً .. غامضاً أمام أولاده ، ولكنّه لا يتوقف عن البحث عن عملٍ آخر إلى جانب عملهِ كمساعد مخزن في نادي السيارات .
(إنّه الآنَ يُقيمُ في القاهرة منذ خمس سنوات ، لكن شتّان بينَ عهدٍ وعهد ، إنهَ الآن مساعد محزن ، بعدَ العزّ أصبحَ فقيراً ،يتسولُ مصاريف المدرسة لأولادهِ ) – ص120.
. (صالحة عبد العزيز همّام ) .. قلقٌ دائمٌ .
(إنّ الرواية تبلغُ مداها التعبيري الفنّي الأعلى عندما تستخدم الواقعية النفسية منهج) – هنري جيمس – فنّ الرواية – ص56.
(صالحة) مُدللة العائلة ، وشمس أيّامها التي تشرقُ في ضوءٍ خجولٍ نحيل غالباً ، هي حالة قلقٍ مزمنة .. بينَ الحلم الذي سُرِقَ بيدِ زمنٍ غادرٍ ، حيث حياة الدلال والترف والغنى والبذخ والاستقرار التي كانت تعيشها أسرة (عبد العزيز همّام) .. وحقيقة حياة الفقر والفاقة والعوز ، حينَ تصعبُ على الأسرة الصعيدية أبسط متطلبات الحياة .. (صالحة) وهي تعيش ( الغنى) حُلماً آسراً ، تتشظى نفسياً ، حينَ تحبط وتجرح بسهام الفقر والعوز ، وهي تجدهما نقيصة ،عيباً ،شيئاً مخجلاً ، لا بدّ أن تخفيه عن زميلاتها في المدرسة ، ولكنّ للفقر مظاهره التي يصعبُ إخفاؤها ، ولهُ وسائل إعلامية ضاجة ،يصعب الردّ عليها بمفردات الصمت، حتّى لوْ أصبح للصمت صوت وضجيج ، وهذا ما كانت عليه (صالحة) وهي تخفي حاجتها حتّى عن أبيها ، إلى حذاء الرياضة (الباليرينا) ، غير مبالية بالعقوبة التي تنتظرها ، أو صورتها التي ستبدو كاريكاتيرية أمامَ زميلاتها ، ولكنّ أخلاقها ، وذكاءها ، وهي المتفوقة دراسياً ، لا تسمح لها بالضغط على عائلتها ، وعلى أبيها بالذات (صعبان عليّ أبي) و( نفسي أساعده بأيّ طريقة) .. وهل على ( الأب) أنْ يدفع مصروفات ا لمدرسة أمْ يشتري حذاء (الباليرينا) .. وهو الزاهي والمفتخر بتفوق أولاده الدراسي ، وعلى رأسهم (صالحة):
(وجدتُ نفسي في ورطة ، بعدَ أزمة مصروفات المدرسة ، لمْ أكنْ أجرؤ على مطالبة أبي بشراء الباليرينا ، انتابني إحساس ثقيل بالذنب) – ص128.
الفقرُ هوَ ما يؤذي ( صالحة) نفسياً ، وتتمنى لوْ كانَ شخصاً لتمكنت من ترويضه وكسب ودّه ، ولكنهُ يأخذ شكلاً كارثياً .. فضيحة ، تصغرُ عندها النفس ، وتضطربُ كلّ خطوةٍ نحو مستقبلٍ سعيدٍ آمن : ( ما كانَ يفزعني أنْ أتعرض إلى الفضيحة ، أنْ تعرفَ تلميذات مدرسة السنيّة كلهنّ ، أنّ أبي فقير ، لدرجةٍ أنْ عجز عن شراء باليرينا ) – ص130.
. ( الكوو ) .. يتعرض لمؤامرة فاشلة .
.»إنّ الروائي هوَ الخالقُ في عالمهِ الخياليّ ، يلاحظ شخوصه ، ويوجههم من رابيته» – مورس شرودر – نظرية الرواية – ص20.
(الكوو) سلطة قوية ، و( كلّ سلطة مكروهة) –كما يقولُ أوسكار وايلد.. وهو( ملك) والآمرُ الناهي في مجال عملهِ ، والخادم – الرجل الأمثل والأقرب إلى قلب جلالة الملك.. لهُ كرسيهُ الوثير الذي لمْ يصلهُ الصدأ ، مهما حيكت من مؤامرات ودسائس ضدّه من الخدم أو غيرهم من موظفي النادي ، متسلّط بغرورٍ و(كلّ تسلط شرير ) بتعبير أوسكار وايلد أيضاً ، ولهُ هيبتهُ واحترامهُ بينَ الخدم ، وأنّ عصيان أمره أو الخروج على تعليماته وعدم الأخذ بوصاياه طامة كبرى ، لا تمحوها إلا عقوبة قاسية ، في حقّ مَنْ غفلَ أو أخطأ من الخدم ، حتى بعفوية أو عن غير قصد .. و(بحر البارمان) هوَ مَنْ ينسج خيوط هذهِ المغامرة ، بخبثٍ كبير ، وهو يحاولُ أنْ ينقلَ إلى الخدم الصورة المظلمة القاتمة لشخص (الكوو) ، ويحرضهم على الخروج على أوامره ، وهو يطمع في زيادة الضريبة على مستحقاتهم (البوناس) ، ومَن أوشك أنْ يقعَ ضحية هذه المؤامرة هم (الشيف ركابي) الأناني الذي شعارهُ ( الوقاحة الكاملة) و( المتر شاكر) الأستاذ في فنّ الأكاذيب ، ويضرب لهُ المثل في الخداع والمناورة ، والتملق الفاضح من أجل الحصول على ( البقشيش) ، و( الحاج يوسف طربوش) الذي ينال من عسل الحظ ما لا ينالهُ أحد غيره في النادي ، فإن جلالة الملك يتفاءلُ بوجودهِ إلى جانبهِ وهو يلعب القمار.. وهذا مصدرُ غنى ( طربوش) وثرائه : ( ثمّ تغيرت حياته تماماً لما بدأ جلالة الملك يسهرُ في النادي ، لاحظ َ جلالته أنّ وجود يوسف طربوش بجوارهِ يجلب لهُ الحظ السعيد في القمار..
-جو ..إياك أنْ تتحركَ من جواري ) – ص140.
كل ّهؤلاء الخدم والموظفين مجتمعين ، وفي مقدمتهم ( بحر البارمان) رافضون لأيّ زيادة في ضريبة ( الكوو) لأنّها ( خراب بيوت) و( ظلم) : ( يا إخوانا ، شقانا ورزق عيالنا ، كيف نفرط فيه؟ عليّ الحرام ما أنا دافع مليم زيادة للكوو) – ص143.. وما أن طلب ( الكوو) الاجتماع بهم ، وهو يزهو في مشيتهِ الطاوسية ، ويدخن سيجاره الفاخر ، ويرمي بنظراته الحاقدة المتصيدة .. المنتقمة ، التي تأخذ شكل السهام التي لا تخطيء الهدف ، وهم يقدمون المظاريف التي تطل من فتحاتها الأوراق المالية.. انطفأت نيران الحماس ،بماء الخوف المثلج: (فضلة خيرك يا جناب الكوو ، إحنا زودنا البوناس ، ربّنا يخليك ، ويحفظك ، مهما عملنا لا يمكن نقضّي جمايلك) – ص145. وكان انتصار ( الكوو) مؤكداً .. ساحقاً ، بعينٍ يقظة / ومهارة تصرف ، وقبضة فولاذية ، وسيطرة مطلقة .. بدت حبال المؤامرة بائدة ، حينَ هبت عواصف الشكر والتبجيل لـ (الكوو) .
أحداث .. وأزمنة متداخلة
في هذا السرد النثري الخرافي ، الطول لا يفسد المتعة والمتابعة لكلّ حركةٍ من حركات أبطاله وشخوصه الفاعلين ، ووضع كلّ حدثٍ ضاجٍ في زمنهِ ، بما بنيَ عليه واقتضاه التكنيك في السرد.. تتداخلُ الأزمنة والمكان واحدٌ ، ينصبُ أوتاد خيمته في حبال ماضٍ قاتمٍ ، والأبطال ممثلون ماهرون ، يؤدون نصاً درامياً (هو سمة الرواية الأعلى) – حسب تعبير جورج إليوت على المسرح – نادي السيارات الذي تظلُ أنواره وستائره مضطربة ، والممثلون منهمكين ، غارقين في أداء نصٍّ نادرٍ في مفرداته ..وجمله .. وبلاغته الباذخة.. ( محمود عبد العزيز همّام) و(فوزي) سليل عائلة (علي حمامة) شابان نزقان ، يعوضان فشلهما الدراسي بالفتونة الشكلية ، والطيش الغبي ، وإطلاق حمّى الغريزة الجنسية ، والحياة لديهما فوضى ، وعبث ، وطيش ، ومتعة محرمة ، وهو تعريفهم الوحيد والسيء للحرية التي تؤدي بهم إلى مهالك ، مواقف طافحة مياهها بالعار والخيبة والخذلان.. المدرسة لديهم ليسَت أكثر من (مكان للتعذيب) والشارع هو مصدر الحياة الحقيقية الحلوة والمريحة ، وراحة البال بالمزيد من العبث ، والمجون ، والغياب ، وقد سبقا في تصرفاتهما عمرهما كثيراً.
.( سعيد عبدالعزيز همّام) أسير الوهم ، والترفع ، والزهو الكاذب ، متفرد في أفكاره الخلبية عن بقية أسرتهِ ، يرى – بأنانية مفرطة- أنّ الحياة مشروع بحث عن الثراء.. وكلّ المشاكل تنتهي حينَ يتوفرُ ويحكم المال.. ويرى خيبة الأسرة ، وتأخرها ، بسبب الفقر .. شخص مراوغ نفعي مصلحي إلى أبعد الحدود ، غير جاد في أي شيء ، المسؤولية عنده في خبر كان ، يحملُ فشله في الدراسة ذنباً في رقبة الأب الطيب ( الذي حرمه من التعليم الجامعي) .. وهو يريد أن يرجح كفّة الميزان لصالحهِ ، ويتصورُ نفسه عاشقاً متيماً ، و(فايقة) ابنة (عائشة وعلي حمامة) هي المعشوقة التي جمالها لا يقاوم: ( فإن الأنوثة الكامنة في فايقة بدون مبالغة تكفي لعدّة نساء) – ص162..نظرتهُ للحب الذي هو ( قوة جامحة) ليسَ سوى نزوة.. رغبة .. شهوة ، لحظة اصطياد للجسد ، وليسَت عاطفة سامية ،تتوحدُ في قدسيتها روحان – طيران سماويان على إيقاع إنساني ملائكي.. ولأنّ حياته مقرونة بالفشل، ينتهي حبّه الزخرفي المصطنع بالفشل أيضاً، لأنهُ حبّ مادي جسدي غريزي ، وليسَ إيعازاً روحياً: ( إنّ تعلقه بها لا يٌقاوم ، لا يعودُ ذلك إلى حبّ رومانسي ، وإنما إلى جاذبية جسدية ، تجعلهُ يطاردها بإلحاح ) – ص168.
و(علي حمامة) و( عائشة) حياة زوجية بينَ مدٍ وجزر، هو تطغى عليه شهوته( أعلى درجات الخضوع للجسد) – كما يقول سارتر.. ولأجلها يتنازل صاغراً أمام كلّ رغبات (عائشة)..وهي أستاذة ماهرة في الإغواء والإثارة ولها (حفاوتها بالجنس وإتقانها المدهش لفنونه)، وتبدو أكثر فتكاً في استخدام هذا (السلاح البايلوجي) ، كي تجدَ (حمامة) ضعيفاً صاغراً .. ومتوسلاً .. وخاتماً في إصبعها ، تضفي بساطة اللغة المتقنة في مفرداتها الشعبية المحلية جمالاً على كلّ حوار غريزي يدور بينَ الاثنين، كلّ مفردة وجملة مثيرة في تلقائيتها ، وحسّها ودفئها الشعبي ، تصوغها أصابع الروائي ، وتنغمها قريحته الصافية ، من دون تكلف ، ليبدو (التفاوض الدبلوماسي) بينَ (حمامة) و( عائشة) أكثر إثارة ولذة ومتعة وإقناعاً : (أنا أجيبلك شبكة جديدة..دا أنت تستاهلي ثقلك ذهب..
-يا سلام يا سيدي.. أيوة.. كلْ بعقلي حلاوة ، أنا مش قدك يا علي حمامة) – ص169.
.( صالحة همّام) ورهان جاد على قهر الفقر ، لا بالمال بلْ بالاجتهاد .. والدراسة.. والتفوق ، وهي أكثر وعياً..وذكاءً..ومسؤولية في العائلة من أخيها الكبير ( سعيد) عاشق الوهم.. والمال .. والثراء ، وهو النفعي العائش في سرير الأحلام .. والفقر .. والخسارة لا يثبطان همّم ( صالحة) بلْ يزيدها دهاءً ، وقوة ً ، وإصراراً على جني ثمار الحلم.. حينَ يفخر بها (الأب) وتبرّر لهُ معاناته .. وعذاباته في انتظار حياة أسعد ..وأكثر أماناً :
(-يا صالحة أنا فخور بكِ ، أتمنى أنْ يمدّ الله في عمري حتى أراكِ أستاذة في الجامعة )-ص171.
و(صالحة) وأخوها الودود ( كامل) في حلف ألفةٍ ، وتوادٍ ، وحميميةٍ لا ينتهي ، كلاهما حالمان نقيان ، حلم يقظة عسيرة ، هي تحلمُ بالتفوق والنجاح الذي تقهر من خلالهِ الفقر ، وهو الحالم بالحرية.. والثورة الطريق المضيء إلى إجلاء وطرد المحتلين الإنجليز: (مصر بلد عظيمة يا صالحة ، لكنها لم تأخذ فرصتها ، الاحتلال عار علينا جميعاً ، يجب أن نطردَ الإنجليز ، ونبني دولة ديمقراطية حديثة وقوية) – ص172.
. المكان (نادي السيارات) الذي يبدو بطلاً أسطورياً ، فأنهُ يستمد بطولته المدهشة هذهِ من أناس (أبطال) همُ نبضهُ الحقيقي ، وتاريخه ، ووجوده ، وإنْ بدا المكان (عبارة عن مؤسّسة متاهية هائلة) على حد تعبير ميلان كونديرا..لكنهم يتفوقون على ملامحه وتضاريسه ، هم روح المكان ، وكيمياؤه ، بكل ما فيهم من عزمٍ وإحباط ، من فرحٍ وحزنٍ ، من سكونٍ وصخبٍ ، من شرودٍ وتأملٍ ، من فشلٍ ونجاح ، ومن خبثٍ وطيبةٍ أيضاً.
المكان – نادي السيارات فسيفساء بشرية .. ضاجة بخطواتِ حذرٍ وخوفٍ أيضاً .. الفرحُ والثقة فيه في إجازةٍ .
(عبد العزيز همّام) البطل الأوحد ، ضحية الطموح ، الباحث عن عملٍ إضافي إلى جانب عملهِ كـ(مساعد مخزن) رغبتهُ في تحسين وضعه المعيشي .. ينهي رئيس الخدم ومساعده ( حميد) هذا الحلم اللازورديّ ، ليصبح في حسابات ( عبدالعزيز) سراباً ، ويأساً ، وحزناً ، وألماً ، ويموتُ بهدوء ، مكفناً بقماش أحلامهِ وكبريائه واعتزازه بنفسه ، وهو يتجرع آلام سهام إهانة ( الكوو) لهُ : ( صاحَ حميد بصوتٍ عالٍ :
-تعرف السيجار الهابانا ولا أنت حمار ؟
-أنا مش حمار ، أنا بني آدم مثلك !
زفرَ حميد ، وبدا كأنه استراح ، كأنه أحرز هدفاً ، صاح وهو يقترب من عبد العزيز:
-أنت حمار ، وقليل أدب ، أنا حأعرف أربيك)- ص190.
(جيمس رايت) والمزيد من الحقد والعنصرية ، وهو يرى نفسه شيئاً آخر.. إنساناً (سوبرمان) ، وكل إنسان غربي هوَ معجزة ، هو مصدر الخير والتفوق والحكمة والعقل ، هو صانع التقنية بامتياز!! وغيره يعملُ إلا (طلباً للثواب) أو (خوفاً من العقاب) .. والمصريون ليس لديهم أي إتقان ، ولا وجود لديهم للعقلية المنتجة ، و( عندما يحسن المصري أداء عملهِ ، يكون الفضل لمديره الأوروبي الذي عرفَ كيف يروّضه) – ص182.
.( كامل همّام) .. ولحظة اختبار الموت ، النوم الأبدي ، و( نوع من الحلم) .. فقدُ(الأب) الموجع الجارح ، وما تركهُ من فراغ عائلي وحياتي ،(الأب) الطيب عمود البيت ، وقد تحولَ فجأة ً إلى ( ذكرى) ، ولكنها ذكرى حزينة.. موقظة للزوجة (أمّ كامل) التي جعلَ منها غياب الزوج امرأة أخرى.. شجاعة وقوية ، وهي تطالب بجرأة ، وجسارة روح وذاكرة ، بحقّ زوجها الذي ظلمتهُ قوانين المكان – نادي السيارات ، القوانين العنصرية والملكية معاً .. صورة( رايت) والغرب ، وصورة ( الملك) الفاسد ، ودولته المنهارة ، وهي تسفّه مطالب شعبها ، وتتاجر بأحلام مواطنيها :
-وماذا عن معاش المرحوم؟
-للأسف لا يوجد معاش..
-لقد عملَ المرحوم في النادي أكثر من خمس سنوات ، كيف تتركون أولاده بدون معاش ؟
-سوف نعطيكم مكافأة !!
-كنت أحبّ أن أساعدك ، لكني مقيّد بلائحة نادي السيارات التي لا تنص على أي معاش.
-هذهِ لائحة ظالمة !!
-عندما تموت أنت ألن يدفع النادي معاشاً لأولادك ؟
-لأنّ نادي السيارات لا يدفع معاشاً للمصريين ، هناك معاش للأوروبيين فقط )-ص 196.
* المكان – نادي السيارات ، جغرافيا وبشر ، تبدو تضاريسه مضطربة معتمة ، وقوانينه الجائرة تخون ، حينَ تفرق بينَ البشر الذينَ أرادهم الله أن يتعارفوا ويتساووا: (إنّ إدارة نادي السيارات تعتبر دائماً المصريين أقل من الأجانب) – ص197.
. ( الملك) ( مولانا) حامي البلاد .. وحاكمها الأوحد ، وصورة جانبية قاتمة.. فاضحة ، مخجلة ، لرجلٍ شهواني ، غرائزي ، الجنس لديه هو الحياة والناس والبلاد.. ذلك ما يُقرأ في صحيفة أعمالهِ ، وهذا ما يشيرُ إليه ( بارومتر) أخلاقه ، مُستهتر ، كسول، بدين ، أسير شهواته بلا حدود : ( تملك الملك هوس جنسي ، جعلهُ يخصّص قاعة كاملة في قبو قصر عابدين لمشاهدة الأفلام الإباحية المستوردة خصيصاً من أجله)- ص199. وفضاء (الملك) الأسري مريب ، مشبوه ، ملوث ، يرجع المحللون ذلك إلى ( أمّه) بعدَ موت أبيه وهي ( تترك العنان لنزواتها ، وتنتقل بسرعة من عشيقٍ لآخر) .. حاشيتهُ المفسدون المنتفعون من طيشه وسيول غرائزه ، هم مَنْ أقام لهُ صرح الانحراف والشذوذ( كارلو بوتشللي) زعيم هؤلاء ، الميكانيكي الإيطالي الذي تحول في يومٍ وليلةٍ إلى محترف زنا ، ( قواد الملك) فنّان ، ذواقة ، خبير حقيقي بالمرأة ، يعرف بالضبط ماذا يريد الملك من النساء: ( كانت متعة الملك هنا تتحقّق بإفساد البراءة، كان شعوره بأنه يهتك حياء فتاة بريئة، ويدنس جسدها ،يضاعف من شهوته، ويحقّق لهُ لذة عارمة) – ص202.
. الموتُ رديف الحياة .
«مستحيلة الحياة بلا موت ، ومستحيلُ الموت بلا حياة « – هنري ميللر- ذكريات الثمانين –ص65.
موت الأب ( عبد العزيز همّام) وجهٌ آخر للحياة .. للولادة.. لليقظةِ أيضاً ، غيّرَ في دواخل الخدم الذين تجرعوا كأس السكون والمهانة والإذلال ، وهاهم يطلقونَ رصاص غضبهم وتمردهم ، بالصمتِ الحزين نفسه ، على قلعة الظلم والاستبداد ،متمثلة في الخادم – السيد ( الكوو) .. موت ( عبد العزيز) حزناً ، قرّب لهم حقيقة أنهم لا شيء ، قشة في مهب الريح ، ما حصل لمساعد المخزن ممكن أن يحصلَ لهم في أي وقتٍ ، ( عبدون) الأكثر جرأة وشجاعة في التعبير عن مكنون غضبهِ ، وقد هبتْ من دواخلهِ عواصف هوجاء للرفض والتمرّد ، أمام دهشةِ واستغراب البعض ، واستنكار البعض الآخر ، من دون أن يعبأ بما سينتظره من عقوبة ضرب ، أو الطرد نهائياً من النادي: (اللي حصل للمرحوم عبد العزيز ممكن يحصل لأي واحد فينا ،عبد العزيز ماتَ مقتولاً ، الكوو قتله) – ص207
( الكوو هو المسؤول عن موتهِ ) – ص208
(لغاية إمتى الكوو حيفضل يضربنا كأننا حيوانات) – 209.
وحشية البشر تفوقُ وحشية الحيوانات – صدق هنري ميلل كثيراً في هذا التعبير المقتضب ، ( عبدون) يرفض هذهِ الوحشية ، بغضبٍ حقيقي ، بثورةٍ مستعرة ، لا توقفها رياح التخاذل والاستنكار والسخرية التي جاءت من بعض الخدم .. إنهم يتصنعون حالة السخرية هذهِ ، لأنّ ظاهرهم يقولُ شيئاً ، وباطنهم يقولُ غيره تماماً .. صرخة الكرامة التي أطلقها ( عبدون) صاحبتها حركات خذلان وزيف مشاعر وانتهازية مقيتة ، خوفاً وتحاشياً لعقاب ( الكوو) :
-جناب الكوو يعرف مصلحتنا أكثر منا .
-سيدنا الكوو ولي نعمتنا ، ولولاه كان زماننا في الصعيد قاعدين وراء الجاموسة)-ص210
-اخرس قطع لسانك ياوسخ قبل ما تنطق بكلمة سوء على سيّدك الكوو ) – ص211.
لكنّ ثورة ( أمّ سعيد) زوجة المرحوم ( عبد العزيز) لمْ تهدأ ، ولافتات رفضها ، ومطالبتها بحقّ زوجها ، مكتوبة بحبر الإصرار ، وتكاد تزين كلّ جدران نادي السيارات ، تنتهي مفاوضاتها ، حول حقوق زوجها بنجاح ، بمساعدة الخواجة ( كومانوس) حيث توصّل إلى حل ، بعدَ الموافقة الصعبة التي انتزعها من أنياب العنصري (رايت) ، بدلاً من معاش للمرحوم (عبد العزيز) ، يقوم مدير النادي بتوظيف اثنين من أولاد ( عبد العزيز) أفضل كثيراً من رفع قضية على النادي في المحكمة ، وربما لم تنتهِ إلى شيء يفيد العائلة.
العنصرية أحد مظاهر نادي السيارات
«إنّ عدوانية القوة لا تملك أية مصلحة على الإطلاق ، إنّها بلا دافع ، إنها لا تريد سوى إرادتها ، إنّها اللاعقلانية المحضة» – ميلان كونديرا – ثلاثية الرواية ص23.
القوة حينَ تبدو مفردات قانونها مترهلة .. وركيكة لدى ( رايت) الإنجليزي ، وحليفه الإيطالي الهزيل الشخصية ( بوتشللي) ، وما يبديان من عنصرية مقيتة ، وخسّة ونفاق فاضح ، يُعرف الأول بعنصريته تجاه المصريين الذين لديه ليسوا أكثر من ( همج) ، وهو ضال خسيس ، بلا كرامة ، وبائع شرف ، حينَ يقدّم ابنته ( ميتسي) كصديقة للملك، بل ( فتاة فراش) ، باتفاق مع الثاني المنافق و( قواد الملك) ( بوتشللي) :
-المصريون ناكروا جميل ، لنْ يقدّروا ما يبذلهُ جلالته من جهد (رايت) – ص221
-مستر رايت ، أظنك تعلم كمْ يحرص مولانا على التقرّب من كلّ طوائف الشعب ( بوتشللي)- ص221
ولحظة عقاب وإدانة لـ(رايت) في حوارٍ جادٍ بينه وبينَ زوجته ، وابنته ( ميتسي) ، ولا تبدو لهذا العنصري أي هيبة ومكانة في فضائهِ الأسريّ ، الزوجة لمْ تعره أي اهتمام ، وتجد فيه شخصية هزيلة .. لعبة في يدِ الملك الفاسق ، وتكشف لهُ عن الشخصية الساقطة ( بوتشللي) الذي ليسَ أكثر من ( قوّاد):
– هلْ تعلم أنّ بوتشللي قوّاد؟
– معلوماتي أنهُ ميكانيكي في القصر الملكي
– إنهُ ميكانيكي ، لكنهُ في نفس الوقت قوّاد الملك ) – ص224.
و(ميتسي) هي الأخرى تمطرهُ بوابل من الكراهية والاحتقار، والإشمئزاز من وجوده ، رافضة ً أيّ دعوة ، وأي صداقة مشبوهة مع الملك :
-حسناً .. أنا أرفض الدعوة ، لنْ أذهب إلى الحفل ، أحبّ أنْ أرى ما سوفَ تفعله )- ص229.
. كامل همّام والأمير شامل .. لقاء أفكار وهدف .
(كامل همّام) وفكرة الثأر لأبيه بشكلٍ سلمي ، لحظة قبول العمل في (نادي السيارات) كـ(مساعد مخزن) ، ليؤدي واجبه نحو أبيه ، ووفاءً لهُ ، يستعيد إيقاع خطواته ، وصوته ، ووجوده في المكان من ناحيةٍ ، ويؤكد ذاته ، ليستطيع الاستمرار في دراستهِ ، وأخذ حقّ أبيه في وقتٍ واحدٍ ، وهو يقهرُ كلّ خطوةٍ للظلم ، يخطوها (الكوو) في النادي: ( لمْ يكن أمامي إلاّ أن أجتهدَ في العمل والدراسة حتّى أتخرج ، طالما حلمَ أبي بأن يراني محامياً ، واجبي أن أحقق حلمه) – ص236.. ولم يجتهد ( كامل) في الدراسة والعمل فحسب ، بلْ في تطوير علاقاته الاجتماعية والإنسانية والوطنية أيضاً .. مصادفة ً يلتقي وجهاً لوجه ابن عم الملك ( الأمير شامل) ويفضي هذا اللقاء إلى صداقةٍ وألفة .. لقاء فكر وهدف ، أضفى أماناً وسعادة وثقة أكبر على حياة ( كامل) :
-متى تنتهي من عملك ؟
-الساعة السادسة !
-حسناً ، يوم الخميس الساعة السادسة ، سأبعث إليك بسائقي ليحضرك إلى القصر ، هلْ لديك مانع من زيارتي ؟
-شرف عظيم لي ، تحت أمرك) – ص240.
لقاء فكر ، وصداقة حميمة ، خالية من أي زخرف ومجاملات ، ومنافع ، وتسلط ، وإملاءات ، فقط آراء متبادلة صريحة وناضجة ، خلاصة عقلين متفتحين ، آراء في الفنّ والفكر والسياسة والحياة ،هي إضافة للاثنين معاً:
( الصورة وسيلة رائعة لتسجيل الحياة.. الكاميرا توقف الزمن عند لحظة معينة
-ألاحظ أنّ كل البورتريهات نساء !
-المرأة جوهر ، أصل ، المرأة هي الحياة – ص245.
( أجمل شيء في مصر روحها، والروح غير قابلة للتعريف ..
قلتُ بأسىً : مصر التي نحبّها محتلة ومهانة !!
لا يا كامل ، هذهِ حقيقة ، إرادة الشعب تقهر ، بفضل ما تفعله أنت وزملاؤك ، سيكتشف الإنجليز قريباً أن احتلالهم لمصر ،صارت له تكلفة لنْ يتحملوها .. عنئذٍ سوف يتحقّق الجلاء)- ص248.
التاريخ .. سلطة حاكمة
هو التاريخ ، الرقيبُ الأزليّ ، لسان الزمان اللبق الذي يصعبُ الهروب منهُ ، ( لأننا غارقون فيه حتّى آذاننا) كما يقول ألبير كامو.. ولكن الكفاح من خلال التاريخ هو الأهمّ ، حينَ تتوالى الأحداث على مسرح المكان ، وتبدو كتابة سيرته – الأوتوبوغرافيا صعبة ، تضاريسه لا تخبرُ بالنسماتِ الطيبة ، ولا ببرق الأمطار التي توقظ البهجة في النفوس ، وفي حقول الوطن.. مكان معتم ،مرآة مهشمة ، ضاج بأناس مختلفي الأهواء والرغبات والأخلاق ، والأحلام ، والنوايا ، لكنهم متماهون في تفاصيل المكان ، ونبضه ، وفضائه الذي يشكو غياب الصحو والشمس تتوهُ في دورتها ، بسبب رياح الظلم والعبودية والغطرسة والتعالي والاستبداد ، وامتهان الإنسان وإذلاله في أبشع الصور.
.( سعيد همّام) يفكّر في الزواج من ( فايقة) في وقتٍ حرجٍ ، حيث تعيش أسرته أيام العزاء ، وإغواء ( فايقة)بحركات جسدها الطافح بالشهوة والأنوثة ، تطغى على أحزان العائلة ،وفق أجندة ( سعيد) وأنانيته ، وحبّ لنفسهِ ، وهي تقوّض ما في جوانح روح الأسرة من ألفةٍ ومحبةٍ وتواد ، وتبعث بينهم الكراهية والضجر ( بدت فايقة في ملابس الحداد ، وكأنها تؤدّي عرضاً مسرحياً ، يختلط فيه الأسى بالجمال والحزن بالغواية ، عرض مثير يشاهدهُ متفرج واحد ، هو سعيد همّام) – ص251.
.( الكوو) بكل ما يمتلك من حقدٍ وقسوةٍ ، وقوة شريرة ، وتضخم ذات ،يسعى إلى التخلص من ( عبدون) الذي يصبحُ السكوت عن أفعاله التحريضية للخدم والعاملين ضعفاً ، وإهانة ، وفقدان هيبة رئيس الخدم ( الكوو ) .. ولا وسيلة إلى ذلك إلا ّ( مستر رايت) ، لكنّ إقناع هذا الرجل صعب ، لا لأنه يحبّ ( عبدون)، بل لأنّ وراءه مَنْ هو أهمّ ، والأكثر تأثيراً عليه ، وهو شهواته ، وغرائزه الجنسية المجنونة التي تتكفل بإطفاء نيرانها ( أوديت) الجميلة ، والجمال سلطة و( متعة إلى الأبد )- كيتس:
-عبدون يحرض الخدم ضدّ النادي .
-من أين عرفت ؟
-لديّ عيوني
-ماذا قال ؟
-قال إننا الذين قتلنا عبد العزيز همام ، لأننا صفعناه فلم يحتمل الإهانة.. قال إننا نعامل الخدم مثل الكلاب ، ودعا الخدم إلى مقابلتي ليطلبوا منّي إلغاء عقوبة الضرب.
-لا بدّ من عقاب عبدون على ما قاله..
-إذا لمْ نعاقب عبدون فوراً سوف يتمرّد الخدم ضدّنا ) – ص262
و( أوديت) تجهض كلّ مخططات ( الكوو) الخبيثة ، وتذهل ( رايت) بوسيلتي الإغواء والحجة معاً .
.( كامل همّام) وشجاعة في اجتياز الاختبار !! في دفاع مستميت عن ( اللغة العربية) وعن ( مصر) و( المصريين) وعن (العروبة) التي هي نبض كلّ مواطن عربي .. بدا ( رايت) العنصري ضعيفاً ، لم تشفع لهُ آراؤه الفاضحة في التحيز والحقد والغطرسة ، لأنه يعرف أنهُ يكذب.. ويحيد عن الحقّ ، ولكنهُ يكابر ، لكنّ سهام حقدهِ التي يطلقها من جعبته الخائبة بمواجهة (كامل همّام)تعودُ إلى نحرهِ ، فتصيبه باليأس والحزن ، أمام صدق ونقاء أنتماء (كامل) :
– لماذا يتمسك المصريون باستعمال لغة معقدة وميتة مثل العربية الفصحى؟
-لأنّ اللغة العربية تحملُ تاريخنا ،وتوحد بين الشعوب العربية ، كما أنها لغة القرآن.
-لنْ يتقدم المصريون أبداً ماداموا يتمسكون بالعربية الفصحى العقيمة
-الفصحى ليسَت عقيمة ، بلْ من أغنى اللغات الحية ، كما أن اللغة ليست السبب في تأخر مصر ، مصر متأخرة لأنّها محتلة) – ص286.
و(عبدون) قائد التحريض والتمرد ، الذي ألهب مشاعر الحضور من الخدم وغيرهم ، وهو يتطاولُ بكل جرأة على ( الكوو) رئيس الخدم ، وقلعة الظلم والعبودية ، ويحرض الخدم ، كاشفاً عن مواطن القهر والاستغلال والاستبداد في نادي السيارات التي يعيشها الخدم تحت سياط (الكوو) ومساعده اللوطي المخنث ( حميد) .. ومن دون أن ينال عقابه أو يطرد ، يصبحُ في نظر الآخرين لغزاً ، صعب الحل والتكهن إلى أبعد الحدود: ( ثمة تفسير وحيد قدْ يريحهم ، أن يكون عبدون مدسوساً من الكوو.. محتمل جداً – ص289.. و( احترسوا الولد عبدون جاسوس) – ص290
.( ميتسي ) صدقٌ جارحٌ .. وذكاء حاد .
بخواطر تأمّليّة ، وروح حالمة ، ترسمُ ( ميتسي) بورتريهاً معبّراً لوالديها ، لتتفرّد بشخصيةٍ مستقلةٍ ، وهي تراوغهم ، وتدهشهم بآيات جمالها الأخاذ ، ورقّتها ، وجرأتها ، واتزان عقلها ، فالأمّ ( باردة وبخيلة ) لكنّها ( صادقة) ، والأب ( رايت) ( كاذب ومنافق) .. يستخدمُ كلّ حبال الزيف والمراوغة والخسّة من أجل كسب المال ، والحفاظ على موقعه ، و( ميتسي) عقلٌ وجمال في الآن ، ليسَت من اللاتي يتدربنّ على يديّ ( بوتشيللي) تمهيداً لفراش الملك ، لأنّ الدماء التي تجري في عروقها ليست من فصيلة الأب ، وأحلامها ليسَت من قماش أحلام (بوتشللي) الكريه اللزج المبتذل ، وبعقلٍ راجحٍ أتقنت فنّ التخلص ، وتركت (الملك) يتجرع حسرات وحدته ، وفريسة شهوته الجنسية : ( أنا مريضة ، أعاني من التهاب مزمنٍ في الحنجرة ، الطبيب يؤكد أنهُ مرضٌ نادر ومعدٍ ، وسينتقل إلى كلّ مَنْ يقترب منّي أو يستعملُ أشياء أستعملها) – ص311. و(ميتسي) تعلنُ قوة الإرادة ، شعلة الحياة ، وهي تضع قدميها في تربة الثقة والعزم ، وتنتصر لشخصها ، وتتوّج ذاتها بعطر النقاء ، وتحمي عذريتها وحياتها بذكاءٍ حادٍ ، وبراعة تصرّف ، تبدو زاهية متبخترة في سلوكها الأخلاقي والإنسانيّ ، ويبدو ( الملك) السكير ، المقامر ، وزير النساء ، ولأول مرة مغفلاً ، خائب الإرادة ، ناحل الخطى ، وتستحيلُ مخططات قوّاده ( بوتشللي) إلى قشة في مهب الريح ، والاثنان نهب عواصف انكسار وخيبة لم يشهد مثلها المكان – نادي السيارات ، ويعيش الأب ( رايت) صدمة كبيرة ، بدّدت كلّ أحلامه في المزيد من التقرب إلى ( الملك) لكسب المزيد من المنافع والمصالح : ( أنا آخذ علاج ، وأتحسّن ببطء ، لكنّ الأطباء أكدوا أنّ الميكروب الذي أحملهُ في حنجرتي ، سيظل معدياً لفترةٍ طويلةٍ ) – ص334.
. ( سعيد همّام).. على فراش اللامبالاة .
هوَ كبير الأبناء ، ولكن بجينات مختلفة ، من الذين يبصقون في نهر المحبة ، ولا يخلبهُ بريقه الإنساني ، وهو يفتقدها تماماً ، وهي( تشفي الكائن من الموت) .. يرتبط بعائلتهِ بالاسم ، لا في المشاعر والعواطف، صورة مكبرة كريهة للأنانية ، طافح بإسفلت حبّ النفس واللامبالاة .. هو في أحضان منجم الشهوة والإغواء ، في أحضان ( فايقة ) بسعادةٍ عمياء ، في شقة بسيطة ، في مقر عملهِ الجديد بـ(طنطا) ، وهي تظهر كلّ براعة وموهبة في فنّ الجنس وفنّ الطبخ معاً : ( اكتشف سعيد كمْ هي موهوبة في الفراش ، كانت فايقة تملك كلّ مقومات العشق جميعاً ، الجمال والرشاقة والعناية الفائقة بجسدها والشهوة العارمة ، وذكاء الإحساس والحرص على إمتاع زوجها بكلّ وسيلة ، وبلا أدنى حرج ) – ص317. وهي ابنة( عائشة) ولم تستورد هذهِ البراعة من الخارج ، بلْ هي ( صناعة محلية ) ، نسيج الألاعيب الممغنطة بعسل المكر مع زوجها ، وهي تعدّ كلّ أسلحتها البايلوجية الفتّاكة .. ومع عائلته تتظاهر بالعوز والفقر ، كيْ تنالَ نصيبها من خيرات العائلة الكبيرة ، وحتّى لا تفكر ( أمّ سعيد) أو ( صالحة ) أو أي فرد من العائلة بحصة من مرتب ( سعيد) أو انتظار أي مساعدة مالية منه : (لمْ تكن أم سعيد بالطبع غافلة في أعماقها عن مناورات فايقة ولا خططها ، بلْ كانت في أعماقها تكاد تعجب ببراعتها ، وتتساءل كيف تعلمت هذهِ البنت الصغيرة كلّ هذهِ الحيل والألاعيب.) – ص323.
. الموتُ .. يلقي شباكه في نادي السيارات.
الموتُ الليلُ المبكر – بتعبير أندريه مالرو ، يرسلُ جنده الأسطوريين ، بكامل أسلحتهم إلى أرض نادي السيارات .. حيث يعشب الظلم والفساد والعبودية ، عقوبة ربانية عاجلة ، فيقع (عبدالملاك) و(مرعي) في شباك هذا الصائد الماهر الأزليّ ،والزائر لضروري لهذا المكان ، فيبسط داء (الكوليرا) ظلّه الثقيل ، ويصبح كل شخص في النادي من رئيس النادي إلى رئيس الخدم إلى الخدم والعاملين جميعهم في حالة ذعر وخوف ورعب ، وكأنّ أيامهم جميعاً قدْ أصبحت معدودة ، وليترحموا على أنفسهم ، قبل أن يترحم عليهم أحد ، وكل واحدٍ ينتظرُ دوره ، والنادي يغلق لثلاثة أيام ، وبدا لروادهِ مكاناً محظوراً ، فقدَ زبائنه وقلّ الإقبال عليه ، وانعدمت الخدمات ، وذهب البقشيش ، وأعلنت حالة طواريء شديدة، لم تعلن مثلها حتى في حالة حربٍ ضروس ، وامتنع الزاني الأكبر ( الملك) عن ممارسة طقوسه الليلية في السكر والقمار وتلويث الأعراض: ( ماذا حدث؟ هل هي لعنة أصابت نادي السيارات؟ هلْ عشّشَ ملك الموت في النادي ، وقرر أن يخطف أرواحهم واحداً بعدَ الآخر؟)-ص344.
و( كامل همّام) و( ميتسي) ينتصران على ملك الموت المترصد الأعظم بالمكان ، بنسمات الحياة ، وهما يجدان روحيهما في مشاعر وعواطف نبيلة متبادلة ، يكتفيان في شراب نضوج العقل والذكاء ، وعطر القلب ، وجمال الرؤى والأحلام ، ويبنيان جسراً شفافاً من الحميمية والعلاقة الدافئة ، التي يجهلُ ( رايت) العنصري جغرافيتها ، .. وبينَ (كامل) و(ميتسي) أكثر من صفةٍ تجمع بينهما .. أكثر من لقاء ، مشاعر إنسانية صادقة ، كهرباء روحين تائقتين لصنع الحياة بسحر الألفة ، بنهر متدفق من المبادئ السامية والمفاهيم والرؤى النهارية حول الأدب والفكر والوطن والانتماء : (عندما أرى ما يفعله بكم الاحتلال أحسّ بالخجل من كوني إنجليزية ..
-لستِ مسؤولة عن سياسة الحكومة البريطانية
-بلْ مسؤولة.. أنت لست مسؤولاً عن ملك مصر المستبد لأنك لمْ تختره ، أما نحن البريطانيين فننتخب حكومات ترى أنّ المجد يتحقّق باحتلال البلاد الأخرى ونهبها)- ص349.
و(جيمس رايت) و( الكوو) رأسا الشر ، يبدوان للقاصي والداني شخصين كريهين منبوذين ، في (نادي السيارات) ، أخلاقهما السيئة وتصرفاتهما ، وأحقادهما الدفينة ، وما يسنونه من قوانين جائرة داخل النادي ، ومعاملتهما للخدم التي تنمّ عن حقدٍ وظلم وقهر واستغلال ، تجعل منهما شخصين ثقيلين ، طاغيين حتى البشاعة ، وأنهما يؤسسان للعبودية والعنصرية في هذا المكان الذي بدا موبوءاً .. سلوكهما إزاء عائلتي ( عبد الملاك) و(مرعي) ضحيتي مرض (الكوليرا) تقول الكثير عن روحيهما اللتين تقطران حقداً وإسفلتاً ولعنات :
-يا جناب الكوو عيال عبد الملاك وعيال مرعي واقعين في عرضك .
-كيف واقعين في عرضي ؟
-محتاجين معاش من النادي
-ما عندناش معاشات) – ص404.
. (الأمير شامل) .. ابن عم الملك قائد التنظيم .
.» إنّ نضال الإنسان ضدّ السلطة ، هو نضال الذاكرة ضدّ النسيان» – ميلان كونديرا – ثلاثية الرواية – ص143.
(الأمير شامل) ، ابن عم الملك ،غير المرحب بهِ أسرياً ، في تواصل جادٍ مع مجموعة من الأحزاب المصرية الوطنية ، ليقود ( التنظيم) من أجل تحرير مصر ، من الاحتلال البريطاني أولا ً ، وبعدها الخلاص تماماً من أمراء الأسرة المالكة الذين يرتمون في أحضان المحتلين الإنجليز ، ويسهلون عليهم كل وسائل الطغيان والاستبداد والظلم.. تقويض المكان ( نادي السيارات) هو أحد أهداف التنظيم ، فهو المكان الموبوء الذي تحكم من غرفهِ الخانقة المعبأة برائحة الخمور والفساد ، وأبشع أشكال الفواحش والرذائل: (توحدنا جميعاً على مطلب واحد هو جلاء الاحتلال البريطاني واستقلال مصر)- ص410.
و(عبدون ) ولقاء تحدٍ مبرمج مقصود مع رأس الشر والظلم( الكوو) ، أولى خطط التنظيم ، بغية الإيقاظ والتحريض والتمرد الذي لابد أن توقدَ نيرانه في نفوس الخدم والعاملين ورؤساء العمل ، والجرأة والشجاعة التي تحلى بها (عبدون) تجني ثمارها ، وهو يزرع الوعي واليقظة في الآخرين الذين يجمعهم المكان (نادي السيارات).. والسيد الخادم(الكوو) لا بد أنْ يدرك مساويء القوانين الجائرة والظالمة التي يتلذذ في تطبيقها ، وفي مقدمتها ( الضرب) عقوبة لمنْ يقصّر في عملهِ.. أو يرتكب أي خطأ .. وصوت (عبدون) يعيد جمع ما تشظى من الأرواح المنهكة بسبب الرعب والخوف ، وقسوة العقوبات: (ربّنا طلب منا أن نقاوم الظلم ، وندافع عن الحقّ) –ص432. و(الكوو) في ذهول يصغي لصوت (عبدون) وسط مفاجأة وذهول الجميع أيضاً.. لا يصدق أحد أن جناب ( الكوو) يمكن أن يتنازل عن قرارٍ اتخذه ،ولكنها هذهِ المرة (تاريخية) بحسابات النادي، وصرخة (عبدون) تهز أركان المكان ، وتصبغ جدرانه بعلامات الاستفهام ، تتلوها كلمات (الكوو) الباهتة : (خلاص أنا موافق .. من اليوم لنْ يضرب أي واحدٍ فيكم ، اللي يغلط فيكم نوقع عليه خصم أو عقوبة إدارية .. زيكم زيّ الموظفين في القصر) – ص437
. ( رايت) و( كامل ) .. ومفهوم الحضارة .
«الحضارة تعبيرٌ عن حالة تفوّق بايلوجي» – توماس باترسون -الحضارة الغربية – الفكرة والتاريخ ص20 .
وهي سلوك ، ومنهج ، ومفهوم وطريقة ( لتنظيم صورة الواقع ) وترتّب للإنسانية حطاها لصنع صباحاتٍ جديدة ، لا تحمل للإنسان إلا باقات الدفء .. والمستر ( رايت) العنصري ، الغارق في مستنقع حقدهِ يجهلُ أي تعريف للحضارة ، لا مفهوم لديه عنها ، وعن المبادئ ، والإنسانية، والتفوق ، وأحاديثه كلها ببلاغتها الخاوية، تؤكد عنصريته، وهو يتلذذ بنهج سلوك استعماري مقيت ، في الحديث عن الأفارقة الذين ذاقوا ويلات الاستعباد والظلم والمتاجرة بأرواحهم وأحلامهم، وجرح إنسانيتهم: (هلْ تتصور أنّ مئات الألوف من الزائرين الغربيين ، رجالاً ونساءً وأطفالاً ، كانوا يستمتعون بالفرجة على الأفريقيين وهم محبوسون في الأقفاص) – ص440
و( كامل ) بألمٍ دفين ، وجرحٍ غائرٍ ، وحسرةٍ حارقة ، يستنكر بشاعة القول والفعل معاً ، ليعيد الكرة ساخنة موجعة إلى قلب (رايت) وهو يقرّب لهُ المعنى والتعريف الصحيح للحضارة التي سقطت من حسابات مفكري وفلاسفة وكتّاب غربهِ منذ زمن ، برؤى فاضت بها قرائحهم : (كولن ويلسن) و( ألن غنسبيرغ) و(غوركي) و(وأراغون) و(إلوار) و( ويتمان) وغيرهم من عمالقة الفكر والإبداع والأدب: ( هل تسمح مبادئ الحضارة ، أن يتمّ اصطياد البشر ووضعهم في أقفاص) – ص441.. و( رايت) هزيل خائب ، وهو يتشدق بمفاهيم حضارة ساقطة .. ويتجاهل كرامته المفقودة ، وهو ( يقدم ابنته إلى الملك ليضاجعها) من أجل مصالحه ومنافعه الدنيوية ، يتنازل عن شرفهِ ، فمن أين يأتي لهذا العنصري الهمجي الفهم الصحيح للحضارة ؟؟
(صالحة) .. وحياة زوجية فاشلة .
ابنة المرحوم (عبد العزيز همّام) .. تلميذة المدرسة الذكية ، ورصيدها عقل راجح ، وحنان ، ودفء أسري ، المدللة في أسرتها ، وضمير أبيها الغائب .. وحياة جديدة خائبة ، ومشروع زواج فاشل ، بدافع مصالح وأنانية أخيها الكبير ( سعيد).. زواج من ذلك الرجل الذي بدا لها أول مرة جذاباً.. حياة قصيرة بائسة مع الزوج تاجر الجمال ( عبد البر) الذي اتضح من الليلة الأولى أنه عاجز جنسياً ، ومدمن مخدرات .. وأن عدم خبرة ( التلميذة) ، وتعليمات وإرشادات( عائشة) جاءت عكس ما كانت تحبّ ( صالحة)، ولم تجنِ من محاولتها مساعدة الزج العاجز إلا الضرب والإهانة والطرد:
-عاوزة تفضحيني يا بنت الكلب !
لطمني بقبضته على وجهي ، أحسّست بدوخة وغثيان ، ولم أعد أرى بوضوح ، خطر لي أنْ أهرب ، ضربني مرة أخرى ، وركلني في بطني ،أحسست بألم رهيب) – ص455
و(كامل) يرى أن أخته (صالحة) قد تسرعت باتخاذ قرار الزواج ، وأنها تتحمل مسؤولية ما حصل لها ، فقد كان رأيه أن تكمل أخته دراستها ، وتحقّق حلم أبيها في أن تصبح أستاذة في جامعية .. الحياة مع ( عبد البر) مستحيلة ، والتهاون والانصياع لرغبات (سعيد) الأناني لا يأتي إلا بالمزيد من المشاكل ، وحرية ( صالحة) هي الأهم ، وقبل كل شيء ، ولا تكون كاملة إلا بالطلاق من ( عبدالبر) تاجر الجمال الذي كشفت الأيام عن وجهه الحقيقي:
-عاوزك تعتبري ما حصل مجرد تجربة سيئة وتنسيها .
-خايفة عبدالبر يرفض يطلقني !
-راح يطلقك غصباً عنه ) – ص 486.
. التنظيم يٌقلقُ الملك .. ويهينه .
بمحاولةٍ جريئة ، محفوفة بالمخاطر ، من ( التنظيم) ، بخطةٍ محكمةٍ ينفذها ( كامل همّام) يتم فضح فساد الملك ، فالكاميرا التي قامَ ( كامل) بتركيبها في الثريا ، التقطت للملك صوراً مشينة ، فاضحة ، وهو يعاقر الخمر ، ويلعب القمار حتّى الفجر ، تحيط بهِ (عاهراته) ، وزّعت هذهِ الصور بذكاءٍ ، آلاف النسخ ملأت شوارع القاهرة ، وأسفل كلّ صورة كتبت عبارة ( يسقط الملك المنحل الفاسد) .. الصور أثارت الرعب والقلق في محيط نادي السيارات ، قوّضت بنيان الأمان فيه ، والبحث عن الجاني أصبح همّ رئيس النادي ، ورئيس الخدم ، وكل الرؤساء والموظفين والخدم : ( لوّح مستر رايت بيدهِ في وجه الكوو ، وصاح بصوتٍ غاضبٍ : – ليسَ شأنك مَنْ يوزعها ، المهم كيف التقطت ؟ أنت مسؤول عن هذهِ الجريمة ، لا يمكن لأحدٍ أن يصوّر مولانا الملك بهذهِ الطريقة إلا باتفاق مع شخص داخل نادي السيارات)- ص499.
و(كامل همّام) المصري الوطني الغيور ، بينَ شجاعةِ وجرأة الفعل في فضح رأس السلطة – الملك ، ووخز الضمير ، ووجع الروح لوْ أنّ التهمة وقعت على رأس أحد العاملين أو الخدم الذين يتحملون مشاق العمل ، وقسوة الأوامر ، والتهديد بالعقوبات ، وكل صنوف الإذلال والقهر ، من أجل قوت أولاده ، وعيش مستقر لعائلته : ( لا يوجد دليل ضدي ، كلّ شيء في صفي ، وبرغم ذلك تطاردني مخاوف ، أكثر ما أخشاه أنْ يتمّ إلصاق التهمة بأحد العاملين) – ص516. .. وأمام نجاح العملية ، والخطة بإتقانٍ ، وصلت فضائح الملك ، وأخلاقه الفاسدة إلى كلّ فردٍ في جميع المحافظات ، صور الملك الفاضحة يتداولها الناس في كلّ مكانٍ ، والضربة كانت قاضية للملك .. وحاشيته – ظله المريب ، ولمْ يبق أمام ( الكوو) الظالم ، و(رايت) العنصري اللعين إلا أن يطفئوا نيران غضبهم في الانتقام من العاملين ، ومن جميع الخدم ، ومحاربتهم في قوت أولادهم ، فالعقوبة هذهِ المرة ، تجاوزت الضرب الذي يهون على الخدم من قطع ( البقشيش) الذي هو بمثابة موردهم الأساسي الذي يكفلُ لهم عيشاً آمناً : (الكوو يطبق على العاملين عقاباً جماعياً ، منع عنهم القشيش ، مما سيؤدي إلى تجويعهم بمعنى الكلمة ، مرتّب العامل في نادي السيارات لا يكفي احتياجات أسرته لمدة يومين .. وقد أخذ من مدير النادي الإنجليزي تفويضاً مطلقاً ليوقع على العاملين ما يشاء من عقاب) – ص519 .. ما حصل لحاكم البلاد الأوحد – الملك ، وهو يتجرع كأس الفضيحة أمامَ شعبٍ صبور ، ومن أين ؟ من مكانه الموبوء الذي يحكم من خلاله مصر .. من ( نادي السيارات) ،وساعته تدقّ دقات الخطر ، حينَ فقد الملك الثقة في هذا المكان .. وربما بقية أعضاء النادي الدائمين من الأمراء الفاسدين وطبقة الإقطاع : ( أريدك أن تقنع مولانا الملك بأن يعود إلى السهر في النادي..
-مولانا الملك ما زال متأثراً مما حدث ) – ص532.
كلّ محاولات ( الكوو) أن يستعطف ( الملك) ويحمله على العودة ( الميمونة) إلى النادي ، ينوّر صالة القمار ، ويفتتح الكأس التي تدور بالرأس بالمزيد من أفعل الفساد والبذاءة .. ووجوده ضروري أيضاً كي يلغي تماماً حضور الأمير ( شامل) ، ويضع حداً لتجاوزاته ، وإساءته المتكررة للذات الملكية ، والتحريض على رأس الحكم : ( إنّ عداء سموّ الأمير شامل للعرش مسألة معروفة ، لكن الذي جعله يتجرأ ، ويقول هذا الكلام في نادي السيارات أنّ جلالتك لمْ تعد تسهر في النادي) – ص538.. و( الأمير شامل) رابضٌ في تفانٍ في نبض المكان – مصر ، واجتماعي من طراز رفيع ، علاقاته الإنسانية ، وهذا الدفء والصدق الذي يلمسهُ من الطيبين من شعب مصر ، تجعله أكثر قرباً منهم .. يتميز كثيراً بأخلاقهِ وإنسانيته عن بقية أفراد الأسرة المالكة ، وعلى رأسهم( الملك ) ، بالإضافة إلى الصفة الدائمة له ، وهي كراهيته للظلم والقهر والاستبداد ، وحلمه أنْ تتحرر أرض مصر وشعبها من طغيان الملك ، وظلم الإنجليز المحتلين معاً .. موقفه النبيل مع ( كامل) وحرصه على أن تعيش (صالحة) حياة آمنة مستقرة ، هو الذي دفعه للتدخل في قضية اجتماعية ، وهي طلاق (صالحة) من تاجر الجمال (عبد البر) : ( يا سيد عبد البر ، غداً سوف يتصل بك سكرتيري لإتمام الطلاق ، وبالنسبة للتكاليف سوف ندفعها لك) – ص583… و(صالحة) بعدَ أن استلمت ورقة الطلاق ، مقرونة بآلاف التهاني والتبريكات من العائلة والجيران والصحاب ، ترسم الطريق ، بدفقات ضوءٍ يلقيها عليها ( كامل) و( ميتسي) إلى إكمال دراستها .. إلى الجامعة ، لتبدأ مرحلة جديدة مهمة في حياتها التي سادت فيها المخاوف والإخفاقات .
. الاتّهامات تطولُ أعضاء التنظيم .
و(كامل همّام) على رأس قائمة المتهمين بالانتماء إلى ( التنظيم) الذي تقومُ أيديولوجيته على الإطاحة برأس الحكم –الملك ، ومن ثمّ السعي إلى تحرير مصر من المحتلين الإنجليز، يتم إلقاء القبض على ( كامل) الذي يعني لهُ نهاية عديد الأحلام ، وعلى رأسها مستقبل العائلة ، ورعاية ( الأم) و( صالحة ) ومن ثم العلاقة التي بدت قوية ، وهي ما بقي لهُ من أمل ، مع ( ميتسي) .. ولمْ ير الآن إلا الظلام يكحل عينيه بالحزن واليأس ، والمخبرين الذين يحيطون بهِ ، ويشلون كل تفكير لهُ ، ويقطعون الطريق على كلّ حلمٍ : ( ما أن تحركت السيارة حتى وجدت أحد المخبرين يمسك برأسي بكفه الضخمة ،بينما شرع الآخر في وضع غمامة على عيني ، حاولت المقاومة ، فتلقيت وابلاً من الصفعات واللكمات) – ص608
و(القلم السياسي) هو مَن يملك كل هذه الصلاحيات ، في الاعتقال ، والاستجواب ، وطريقته التعذيب بكل أشكاله وفنونه الأكثر بشاعة وامتهان ، للحصول على اعترافات المتهم و( التعذيب سلوك معتاد في القلم السياسي) .. لكن رغم قسوة هذا التعذيب ، فإن (كامل) المصري الوطني ، نفى عن نفسهِ أي صلة تربطه بالتنظيم: (ظللت صامداً ، أنكرت معرفتي بالتنظيم ،تحملت دفعات متوالية من الضرب ، لم أعد أعي ما يحدث حولي ) – ص624.. ولم يخف (كامل) على نفسهِ ، بل على ( أمّه) وأخته ( صالحة) ، فمن وسائل تعذيب القلم السياسي المهنية التي لا تمت بأي صلة إلى المواطنة والإنسانية ، هي جلب ( زوجات) المتهمين أو ( أمهاتهم) أو ( أخواتهم ، ويتم اغتصابهن أمام عينيه ، كي يحصلوا على الاعترافات والمعلومات التي يريدون : ( ما تنكسفيش يا زهرة.. أنا مجهزلك مخبر صعيدي جامد حيبسطك ، خذوها وقلعوها للولد عبد الصمد وهو يقوم بها ، اتفرّج عليه يا سماحي عشان تتعلم ) – ص626.
وحينَ تمّ اعتقال المضربين من العمال والخدم (عبدون) و( بحر) وآخرين ، وتعرضوا للضرب المبرح ، وجدَ ( الكوو) نفسه أنه يسجّل انتصاراً ساحقاً ، زادهُ زهواً وغروراً ، وسط هذهِ العاصفة من الشماتة والنفاق والجبن الذي أبداه بحماسٍ كاذبٍ بقية الخدم ، ولمْ يبق أمام (الكوو) وهو يحقق هذا الانتصار التاريخي كما يراه ، إلا أن يرفع العقوبة عن هؤلاء الخدم ، ويعيد إليهم ( البقشيش) :
– أنتَ أبونا يا جناب الكوو !
– إحنا خدامينك تحتَ أمرك !
– أفضالك علينا وخيرك مغرقنا !
– من الليلة أنا رفعت العقاب ، البقشيش حيرجع لكم زيّ الأول ) – ص632.
ومن (مآثر) ( الكوو) غير الحميدة ، إهانة الخدم المضربين ، والسخرية منهم ، وجرح رجولتهم ، بإلباسهم عباءات نساء ، تشفياً وحقداً وثأراً ، كيْ يصبحوا عبرة .. ودرساً قاسياً لغيرهم مّمن يفكرون في التمرد والاعتراض على قوانين النادي : ( أنتم مش عملتم رجال ؟ أنا جبتكم النادي وأنتم لا بسين طرح زي النسوان ..
النهار ده ما لكوش شغل ، حتفضلوا قاعدين هنا ، لغاية آخر النهار ، عاوز كلّ الناس تتفرج عليكم بعباءاتكم الحلوة ) – ص637.
عائلة ( عبد العزيز همّام) .. والروح الوطنية الصادقة.
«على الروائي أنْ يسردَ الحوادث التي يفترض أنّها تاريخ» – هنري جيمس !!
شعور عائلة ( عبد العزيز همّام) ينمّ عن إخلاص ، وشجاعة ، ووطنية عالية .. و(كامل) المصري الوطني هو الشفاء الأكيد للنفس من أحزانها وآلامها وقلقها بثباتهِ ، والترياق المريح من كلّ هذهِ المخاوف والأوهام : ( كامل محبوس لأنهُ وطني شجاع ، أنا فعلاً فخورة بهِ ) – ص 639.. انتصار العائلة ، وشموخها هو الوجه الآخر لانتصار الوطن – مصر ، وهو تعبير باذخ البلاغة ، راقي الأسلوب ، فاتن في لغتهِ ومفردات عشقه لمصر.. إدانة التعسف والاضطهاد الظلم ، هي لحظة صنع الفرح ، ولقاء ( كامل) و(ميتسي) على الحبّ (شراب المحبة ، قبل كل شيء) –كما يقول أندريه مالرو .. على وثاق الزوجية ، هو بداية فرح العائلة ، وتحررها الموصول بتحرر مصر وفرحها ، ليرتدي ( نيلها) العاشق – المعشوق ثوباً جديداً ، وهو يفيض بنسماتٍ عبقة ، شافية لروح كلّ مصري ذاق ويلات الملك وعائلته وحاشيته وأسياده الإنجليز: ( بدا كامل سعيداً ، وبدت ميتسي مرتبكة ، وهي تتلقى التهاني ، بينما لم تتمالك أبلة عائشة نفسها ، فرفعت رأسها ، ووضعت يدها أمام فمها ، ثم أطلقت زغرودة عالية ، بدا وقعها المبهج غريباً على جوّ السجن الكئيب المقبض ) – ص641.
. نهاية ( الكوو) .. تباشير لنهاية الظلم والاستبداد .
في الفنّ كلّ سلطةٍ إلى نكران» – أندريه ريتسلر- الجمالية الفوضوية –ص10.
والرواية أبو الفنون في حكاية الواقع ، الذي يبدو خياله واقعاً أيضاً ، والروائي ( مكتشف) ويجيد البحث والتنقيب في رماد هذا الواقع.. وإذا كان الفن ( ابن الحرية) فالطبيعة الإنسانية ساعية دوماً إلى الحرية ، بلْ إلى حرية الحرية ، ومن ( القوة إلى الحق) – كما يقول إدوارد برت .. والحقّ تبدو شمسه ساطعة ، بدلالٍ وزهوٍ ، حينَ ينتهي الظلم ، الذي لم ينته في ( نادي السيارات) بنهاية الخادم ( الكوو) فحسب ، بلْ في القصاص من مصدره الجاثم على صدور الغلابة والبسطاء والطيبين من شعب مصر .. من سارقي أتعابهم وحقوقهم ، وهادري كرامتهم ..نهايته هي دفقة ضوء جريئة في طريق منتزعي الحرية والكرامة والحياة الآمنة من (الملك) وأسياده المحتلين الإنجليز : ( صرخ الكوو مستغيثاً ، فأطفأت البطارية وساد الظلام ، ثم دوت طلقات نارية ، هرع الحراس إلى الجناح ، وأضاءوا النور ، فوجدوا الكوو ، قاسم محمد قاسم ، كبير شماشرجية الملك ، وقد اخترقت رصاصة جبهته ، وانفرجت شفتاه ، وراح يحدق في الفراغ ، كأنه اندهش مرة أخيرة إلى الأبد ) – ص644.
. الرواية اكتشاف .
«نادي السيارات» الرواية – الضدّ .. موقف أخلاقي ،وتأمّل للوجود الإنساني ، وفتح صنابير الضوء في دهاليز التاريخ !!
الروائي الكبير علاء الأسواني ، ليسَ مؤرخاً ، بلْ مكتشف واعٍ ، وهو (باحث وشخص ينقّب داخل مجتمعه) – بتعبير بلزاك !! وهو يربضُ في أرضية هذا المجتمع الذي رآه ضحية سلطة غاشمة.. لا بدّ أن يرفع صوته بكلمة : لا !! عبر الرواية ( الكيمياء الإلهية) !! ومهارة الروائي الكبير في روايته ( نادي السيارات) في إضفاء أوصاف على أبطاله ، وهي في الأصل أحلام – كما يقول توماس مان .. وهذه الأحلام هي ( مصدر خيالٍ متحرّر) –بتعبير أندريه بروتون .. جعلت القارئ أسير هذا الخيال – الواقع، وهو يحسّ ويشعر ، بلْ يرى هؤلاء الأبطال (الشخصيات) فاعلة في المكان ، تعيش معنا ، في زمنٍ ممتد ، وربما في اللازمن ، جعلنا الروائي أيضاً ، وعبر لغتهِ التي بدت ( كونية في وضوحها) – حسب تعبير فلوبير ، أن نشعر بهذهِ الشخصيات ، نرى صورها ، ونتابع أفعالها ، وحركاتها ، وأخلاقها ، وتعدد صورها ، وكلما ازداد وضوحاً في التعبير ، جاءت الفكرة صادمة ، مغيّرة ، موقظة ، واللغة أكثر عذوبة.. لنرى هذه الشخصيات ( سينمائية) أو ( مسرحية) ، ونحن نعيش معها بكل مشاعرنا وأحاسيسنا ، ولا نبدو متفرجين أبداً ، بلْ مشاركين ضمن حغرافيا مكانٍ صارَ زمناً جارحاً ..!!
يهتم الروائي الكبير علاء الأسواني بالشخصية المصرية ، كمحلل لإبعادها الإنسانية ، ومكتشف للحظات الإخفاق والانتصار في أحلامها المؤجلة والمصادرة .. كلّ روايات الأسواني تحفل بغابة مكتظة من الشخصيات ، قريبة لنا ، يسهلُ الإمساك بها ، وتتبع خطواتها ، ونهر أفكارها ، وهي الروايات الوحيدة التي لا يتوه قارئها في ملامح وأفعال أبطالها ، بلْ يتابع بمتعةٍ ، كلّ حركةٍ باهتمام ، وكأنه يعيش وسطهم ، ويرصد حركاتهم ، من دون الحاجة إلى كاميرا .. في ( نادي السيارات ) لا تكتفي أحداث الرواية المثيرة بما تلعبه الشخصيات الرئيسة مثل ( الكوو) أو ( كامل همام) أو ( صالحة) و( رايت) ، بلْ تتعدى ذلك إلى أهمية الدور الذي تقوم بهِ الشخصيات الثانوية أيضاً مثل ( عبدون) أو (بحر البارمان) أو (ميتسي) و(حميد) و( بوتشللي) و( عائشة) و(علي حمامة) .. لتبدو كلّ شخصيات الرواية فاعلة ، بما فيها الشخصيات (ما بعد الثانوية) مثل ( عم سليمان) البواب ، و(سماحي) و( فايقة) و( أم سعيد) و( الشيف ركابي) و( المتر شاكر).
أمّا الإغواء وهو اللعبة التي ( تضيف دائماً قليلاً من النكهة إلى الحياة) – كما يقول باولو كويلهو .. والجنس الفاضح الذي احتل صفحاتٍ في الرواية ، متمثلاً قي شخصية (عائشة) الماهرة في فنّ الإغواء وألاعيب الجنس ، وابنتها ( فايقة) وريثة هذه الألاعيب بامتياز!! بالإضافة إلى أفعال الصبي الطائش (محمود همام) وصديقه ( فوزي) مع عجائز متصابيات أمثال ( روزا) و( داجمار) و( تفيدة) .. وهو هنا يمثل الجانب المثير والمستفِز من المكان ،والأسوأ في زمن الملكية ، ويمثل الجنس أيضاً أحد مصادر السلطة والتحكم ، بدءا ً من الملك ، ومروراً بعلاقة (عائشة) و( علي حمامة) وانتهاءً بأفعال ( محمود همّام) الفاضحة التي تجاوزَ بها سنّه ..!!
النضوج المبهر الذي يلاحظه القاريء على شخصية (عبدون) و( بحر البارمان) لا يبدو نشازاً ، فمصدرهُ كتاب الحياة العميق بمفرداته ..وجمله .. ومعانيه المصوغة بحبر المعاناة اليومية للمواطن المصري زمن حكم الأسرة الملكية ..وإذا ما بدا عليهما القليل من ملامح ثقافية ، فهي من ذبذبات فكر الكاتب ورؤاه ، ليجعل للتحريض والتمرد والثورة جذوراً وأساساً في جغرافيا المكان ..!!
الأكثر بلاغة ً ، هو موت ( الكوو) بفضيحة جبنهِ ، ونهايته المنطقية جداً ، وهي تجيء على أيدي (الخدم) الذينَ كان يضطهدهم ، ويذلهم ، ويقسو عليهم ، ويساومهم على رزقهم وقوت أسرهم .. وقد قالت الرواية بأبجدية صاخبة : لا !! للعبودية .
قتل ( الكوو) ودخول ( كامل همّام) السجن كلّ ذلك موصول بثورة الشعب التي لمْ ولنْ تنتهي إلا بنهاية حكم الملك ..!!
هذا السرد الخرافي الذي فاضت بهِ قريحة روائي متميز في أعماله ، جاءَ عبر لغة سلسة دافئة (فهرست روح المؤلف) بحق حسب تعبير جون هولبرن .. بساطة شديدة العمق ، وتعبير إيحائي شديد التأثير ، كلاهما جاءا مطابقين .. متوافقين مع انفعالات ومشاعر وأحاسيس الشخصيات ، ومستوى تفكيرهما أيضاً .. فاللهجة الدارجة المصرية جاءت كوسيلة للتأثير في القاريء ، وجعلت من الحدث والمشهد ملموساً .. ليست مقحمة بلْ هي من نسيج الحدث ، وما تفكر بهِ الشخصية ، وارتقت برؤية الكاتب والأبطال معاً..!!
وضع العناوين والترقيم لا يبتعد عن التكنيك وهو الأهمّ ، يربط بين هذه العناوين الفصول عنصر الدهشة الذي برع الكاتب في استخدامه ، بدا العملُ كتاباً بفسفور حروفٍ معبّرة ، وشاشة مرئية تعرضُ مسلسلاً جاذباً ، كلّ حلقة مكملة لما بعدها من الحلقات ، كلّ ذلك جمعتهُ رؤية راقية ، بضوء فكري باهر ، أداتها لغة تلقائية بسيطة ، بعيدة عن زخارف البلاغات الخاوية .. وقد بدأ (الفرح) عند نهاية الرواية ، وليسَ (الحزن) حسب افتراض العبقري – إمبرتو إيكو ..!!
عِذاب الركابي
كاتب وشاعر
Athabalrekabi22@yahoo.com
*»نادي السيارات» – رواية – علاء الأسواني – الشروق / القاهرة 2013.
عِذاب الركابي