القصيدة لدى لوران غسبار هي وجه آخر لحركة الكون الكبرى يتخللها نسغ الحياة… الشعر لديه حال في الطبيعة وانبثاق القصيدة شبيه بانبثاق الحياة، حركة الشعر هي نفسها حركة عبور السحب وحركة ظل تلك الفراشة التي شاهد ظلها على سطح مياه شاطئ البحر الأحمر. إنه يقول بالحلول ولكن ليس على طريقة فلاسفة العصور الوسطى حيث الله يحل في العالم وإنما هو أقرب إلى اسبينوزة ولكن بتميزه حيث حركة الشعر وحركة الحياة واحدة. هنا بعض من تأملاته التي كتبها في شكل يوميات هي نصوص شعرية وفكرية وسردية في الآن…
ليالي الشتاء الشفيفة في صحراء يهودا ذات كثافة وسماكة عسير كنههما، ليال تمنحك الاحساس كما لو أنك تتلمس بأناملك وتجس نبض جسد لا يحده أي حد؛ كما لو أنك تجس بالنظرة وبالأنامل وبالروح ناموسا خالدا، وإيقاعا فريدا يوحد حجارة هذه الصحراء بالأعشاب ويوحد جسدي بشعاع النجوم الشديدة البرودة. إنه صوت ثلوج الليالي الصافية في شتاءات طفولتي.
احتشاد الأشياء الهشة والحارقة هذا له حيوية نحس أبديتها، هسيس لا يكاد يدرك يسري في العشبتين وفي حصوات الحديقة الثلاث. داخل ذاك المجال الذي ألونه بالرغبات، بالانتباه الدقيق المجهري، بتأمّلاتي وبالكلمات الضمآ في ضياء حاد. كلمات تتبدى كما هي في غالب الأحيان أكثر تجريدية وأكثر تعميما من أن تعبر عن جزئيات وتفاصيل حركة نمو الشعيرات النباتية، كلمات تغمر في نفس الوقت المجال الذي تتشربه دفعة واحدة-عزلة الإحساس والنار التي تؤججه.
نهارات متناثرة موزعة. وحركة مجداف تشق بحرا بلون القصدير فترى انعكاسات المياه المترجرجة والخادعة للبصر وتلمح استثارة سمك الشيمر المندفع والمنجذب في تيار هوائي. حضور كل شيء لا نظام ولا فوضى. شجرة التين وحجارة الجدار الجافة. ذاك الملمح الإنساني، تلك السحنة أو تلك الغيمة أو طائر الدخلة ذاك. كل الكائنات تتجلى هنا في انبثاقها الأولي عصية عن المحاكاة متوترة الحركة ومتغايرة بشكل حاسم. توهج وفير ومتماثل. أغمض عينيا برهة فألمح في الظلمة التراقص اللانهائي لتغيرات المشهد، وجوه تتصل وتنفصل عن بعضها. تداخلت علائق الأشياء. انحلت أوضاعها لتبرز أصولها من جديد شيء آخر يتهيأ وينحل، كل هذا يجري في سيلان متواصل. كل جزئية هنا هي حقيقة دقيقة بشكل مطلق في مكانها وزمانها. وكل ومضة لماء البحر هي فقط ما تكونه. أعيد فتح عيني على اتساعهما فتغمرهما حرارة سريعا ما تتلاشى بنعومة. ذهني وأصابعي يجسان بسعادة ذاك التآكل الثابت والذي لا يقاوم. هذا المكان وهذه الأشياء ألمسها وأسميها وأضمها إلى مجالي الخاص، إلى بموسيقى جسدي، وإلى تأملاتي، وشيئا فشيئا يصير عالما يتنفس. هل هو أنا من ابتدعه؟ أم أنني عثرت في لحظة ما على زاوية الروح، على مواقع الكواكب أم على خلايا عصبية موزعة فوق سطح مثل غابة من النوطة الموسيقية؟ تلك التقاطعات والروابط والتشابهات التي تحدثها في الأعماق قوة الانتباه وقوة الرغبة هل هي واقعية أم هي متخيلة؟ سؤال بلا معنى. وأين تقع مخيلتي؟ وتحديداتها أليست خارج الواقع وبالتالي فهي غير موجودة؟ أليست هي بالأحرى إثبات لنفس
الحركة ولنفس الطاقة التي ترتجف في خلاياي وفي كل جزء من العالم؟ وعمّا كانت تبحث إن لم يكن عن الدروب حيث تحدث تلاقي وعن مجالات حيث تستطيع الإقامة ويمتد اللهب عن شرر حركة ما؟
إذ كل هذا يتحرك ويتنفس ويصنع الضوء وهذا الفرح في أقل تقدير حقيقي.
الامتداد الذي لا يحدّ في كل فجر والذي يدخل والذي يدخل إلى الحديقة دون أن يتحرك أي شيء في العشب العاري لضوء الحصى. أحيّي الصباح الأبدي وأنكفئ على الحركة المحدودة ليديا.
جسدي يرتعد رغم أن هناك شيء في داخله لا يتحرك أبدا.
الشمس في الغروب والجير يمنح ضوءه ببطيء. إنها لحظات ذات حرارة تكاد تلمس وذات ثراء مرئي لا ينسى،
عالم بأسره صلد وكثيف يهوّء المسام الرئوية. وفي كل جزيئة من الوعي نشعر بلذة زاخرة لذة انفتاح يصعب العدول عنه.
(سأغويها وأقودها إلى الصحراء)
في عزّ الفرح الربيعي في هذه الظهيرة تلفنا فجأة ريح طين صفراء ورمادية تنفذ للغرف ولأفواهنا وتحت الجفون والشمس مثل قطرة زئبق مدهوسة ورئاتنا تمتلئ بالوحل. لأجل الحياة لابد من اجتراح الإرادة،
حديقة أحجار تتميز تماما عن تلك التي يبدعها التّأمّل في شرق بعيد. هذه الحجارة، ها هي هنا بلا نظام و بلا فوضى؛ هي تتجلى للحظة، حجارة جامدة و زاخرة بالحركة وهي متناغمة مع حجارة أخرى لا تنتهي. لو أتقدم خطوات لبلوغ القمة المواجهة التي تقع إلى الشرق فسوف يزوغ بصري وتمتصه الوهاد الشاسعة؛ بيد أني أظل مكاني. ها هي الشمس وقد غربت من وراء ظهري ومع ذلك ما يزال الضياء يتنامى وكل شذرة معدنية ترسل ذبذبة، والعين التي تبتغي إدراك منبع هذه الذبذبة تتيه كما لو أنها داخل الفضاء الشاسع. يصاعد الضجيج والهواء يصير مرئيا حتى أننا نستطيع لمس الموسيقى التي تندفع بنعومة في التجاويف.
في الخامسة صباحا ومن صوب منطقة العيساوية تصعد أول قبضة من ذاك الأخضر الذي نلمحه في قلب اللهب المضطرم. عقب ذلك وسريعا يهجم شيء كهبوب الريح او مثل مياه تعلن حضور هذه الأشياء العارية فوق السطح الرمادي.
وخلف الجدار الواطئ ذي الحجارة الجافة ثمة وادي الجوز المكتظ بالقطن والأعشاب النادرة تلتمع بتأثير قطرات الماء التي تسيح و تنهمر في العين والقطة تبرز مخالبها في قماش لا مرئي.
غيوم من عصافير الدوري تضطرب فوق روث الدواب الذي يغطي الدرب.
وشيئا فشيئا يبدأ الضوء يأكل حواف الأشياء.
شجرة تين أكثر عراء من الروابي تنفلت من جوانبها سهام مياه خضراء
حشرات من نار تتعرج بين الأعشاب الشيطانية الجافة والحادة. لا ركن ضليل ونحن نصغي للشمس وهي تنحت الحجر. أثوال نور تطن وهي مقتلعة من الأرض الحجرية. وإنه لترجيع مديد لأرض عارية تتكسر تحت أقدام الجبال التي ما تزال في الظلمة.
من أين تأتينا هذه القوة اللعينة التي تدفعنا إلى تعتيم ما تبقى لنا من ضوء؟ في الحقيقة فان المشكل لدينا لا يتمثل في تجنب الحقد ونبذ الكراهية ولكن في كيفية الحب.
خدوش في برسلان المساء صيحة الخطاف المتماهية مع خط سهم انطلاقها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقتطف من الفصل الأول من كتاب FEUILLES D’OBSERVATIONS الصادر في 1970 عن دار غاليمار.
ملاحظات سريرية لوران غسبار ترجمة خالد النجار