نزار العاني*
سيدة مؤمنة بجلجلة الحروف، ويراودها حلم قيامة هذه الأمة من سباتها، واستعادة (كبرياءَ المُتنبّي.. وصوتَ حسَّانٍ.. وبشارٍ.. وإيقاع الحروف الحروف العربيّة)
في الواقع المعيش، ترى سعاد الصباح هادئة تحنو على رفيف فراشة، تزهو بعقلانيتها، تلعن الصخب والصراخ.
عملت لسنوات طويلة في «دار سعاد الصباح للنشر» نائباً للمدير العام الكاتب المتألق الراحل محمد خالد القطمة، واقتضى عملي أن أقرأ كل حرف كتبته «سيدة الدار» كما تعودنا أن نناشدها في خطاباتنا شبه اليومية بهدف سير العمل.
ولأنني حاضرت وكتبت ونشرت كثيرا من الدراسات التي تواكب تجربة د. سعاد الصباح الإبداعية، وقد لا أضيف جديداً على ما كتبت ونشرت سابقاً، فقد آثرت أن أختار جوانب شخصية تكشف عن سجاياها الإنسانية عَبْرَ محايثتي لنصوصها الأدبية والفكرية، ولمسيرتها العملانية في التأسيس لنظرة عميقة ورصينة للثقافة والأدب.
التأسيس
علاقة «سيدة الدار» بالشعر ترجع لأيام التلمذة الأولى لنوازع طبيعية وفطرية عززها العلم والدراسة وظروف الزواج من إنسان هيأ لها كل سُبل المضي على طريق جلجلة الحروف والأفكار والرؤى، والذي من باب وفائها له، والوفاء سجيتها الأولى، دونت سيرته في كتاب « صقر الخليج..عبد الله مبارك الصباح» واعترفت فيه قائلة: ( لم يقف أبداً ضد طموحاتي العلمية، ولا ضد كتابتي، ولا ضد ظهوري في المناسبات الثقافية، ويرافقني إلى أي مدينة في العالم حتى أواصل تعليمي… ولن أنسى فضله ما حييت. فهو الذي شجعني على مواصلة سبيل العلم والفكر والأدب ص 273/274). لقد تطابق خيارها مع قدرها.
وكانت القاهرة مهوى أفئدة العرب بعدما أطلّ صوت عبد الناصر آنذاك وتردّدُه أهراماتها، وكان عبد الله مبارك يصغي لذلك الصوت وتصغي معه زوجته، وفي القاهرة ولدت فكرة دار النشر في وجدانها العاشق للحروف، وكان التأسيس.
سيدة مؤمنة بجلحلة الحروف، ويراودها حلم قيامة هذه الأمة من سباتها، واستعادة (كبرياءَ المُتنبّي..وصوتَ حسَّانٍ.. وبشارٍ.. وإيقاع الحروف الحروف العربيّة)، فوهبت الدار عقاراً من ممتلكاتها، واختارت هيئة لترشيد الانطلاقة، لكن النتائج لم تلامس سقف أحلامها الواسعة، ومن قلب مشاعر الخيبة، ولد قرار نقل المقر إلى الكويت، وسامحت الذين تعثروا، وهذه سجيتها الثانية، كما أنها كتمت أسرار خلفية ماحدث آنذاك إلى يومنا هذا، وكان هذا الكتمان إسوارة من عقيق في جيدها، حين حافظت على سمعة القامات الكبيرة، وكي لا تكسر هيبة الثقافة وجلال قدرها في عيون الناس، ولعمري، تلك سجية ثالثة لا يملكها سوى الأصيل.
الرهان على المستقبل
الإيمان بعظمة الحرف، والقناعة بقيمة المعرفة، دفعا «سيدة الدار» إلى اجتراح جائزة الدار للشباب في مجالي الآداب والعلوم، والمبادرة الخجولة تلك في بداياتها، أمست لاحقاً منارة مضيئة سطع نورها وامتد من موريتانيا إلى اليمن، وكانت حصيلة طباعة الكتب الفائزة ثروة معرفية بحق، أضافت إرثاً متينا لمكانة المكتبة العربية، وتوَفّر لهذه النقلة التي سهرتُ على سقاية غرستها كل حظوظ النجاح، لسببين اثنين: الأول سمعة «مجلة العربي» التي تشرفتُ بكوني أحد كوادرها التحريرية، وذيوع صيت سلسلة «عالم المعرفة» وما يصدر عن «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» من دوريات، ودور دولة الكويت الرائد في الثقافة والفكر والفنون، والثاني يتعلق بالسخاء المالي الذي يجري إنفاقه كل عام، دون النظر إلى أي عوائد ربحية.
وهنا، لابد من شهادة حق للتاريخ، إذ أن سجية الكرم والسخاء الرابعة قيّضت لكثير من الذين فازوا بالجوائز الفرصة لتلمع في سماء الأدب، وأحدهم أصبح رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية، ولاتزال علاقتي بكثير ممن اشتهروا ماتزال سارية المفعول. نعم، سعاد الصباح شاعرة كبيرة، ولكن سجاياها أضواء تنير دروب المستقبل، ولولا هذه السجايا لما تورطت عن عمد بهذا الرهان.
تكريم الروّاد الأعلام ومشروع الكتب التذكارية
مشروع الكتب التذكارية عن القامات الأدبية والفكرية والفنية العربية الكبيرة وهي ما تزال على قيد الحياة، محطة لا بد من الوقوف عندها لبرهة من الزمن. «سيدة الدار» حين غامرت في تبنّي هذا المشروع الفريد من نوعه في تاريخ النشر والأدب، انتزعت من التاريخ لنفسها عنوة سجية خامسة هي مغالبة وقهر المستحيل.
لن أدخل في التفصيلات التي أحفظها في ذاكرتي حول الموضوع، وبعضها مذكور على موقع الدار على الإنترنت، ولكنني سأضيف إلى الشهادة غير المكتملة هذه بعض المتواري وراء الأكمة. فالمشروع في جوهره قومي المحتوى والهدف، سياسي الظلال، معرفي البنية. وأعرف أن «الجامعة العربية» رغبت في التعاطي مع هكذا مشروع وفشلت، فكيف لسعاد الصباح وفريقها وأحلامها إنجاز هذا المستحيل.
هذه الأمة مُبتلاة بنكران الروّاد الكبار، ولا تذكرهم إلا بعد رحيلهم، والأدعى إلى المنطق أن يتمتع الروّاد الكبار بسماع الثناء وهم أحياء، ومن هنا دخلت «سيدة الدار» العروبية الهوى والمآل كما تعترف ألف مرة في مقالاتها وقصائدها إلى الحيّز المُمْكن، لتراهن على تحقيقه، وقد تحقق.
خفايا تحقق المشروع تكمن في مئات الاجتماعات والمراسلات وآلاف الساعات من العمل، واستنفار الأقلام، والحث على البحث، ومشقة التنسيق والمواءمة بين الدراسات للإحاطة بالعَلَم موضع التكريم، والجهود المضنية لملاحقة تقنيات الطباعة المتطورة في بيروت لتخرج المجلدات في أبهى صورة، وعشرات آلاف الدنانير المبذولة في خدمة الثقافة، دون الدخول في بازار المنافع. وللتاريخ أيضا، أشير هنا إلى مابذله الدكتور محمد يوسف نجم من جهود في المشروع، وكانت ثمراته اليانعات على التوالي، تكريم أعلام من الكويت والبحرين وسورية ومصر والسعودية والمغرب ولبنانوتونس، في شتّى مآلات العرفان.
وسأعطي القارئ لمحة عن الكتاب التذكاري الذي أصدرته دار سعاد لتكريم الشاعر السعودي عبد الله الفيصل، فهو الوحيد الذي جئت به من الكويت إلى دمشق، ويعزى السبب إلى إسهامي فيه بدراسة طويلة.
مجلدان فاخران من الحجم الكبير والورق الأبيض الصقيل، ويربو عدد الصفحات على ألفٍ ومائتي كلمة، وتوثيق مئات الصور النادرة، وأسهم في إعداد البحوث والدراسات سبعة وعشرون ناقداً وباحثاً ومن بينهم بعد تجاوز الألقاب: عز الدين إسماعيل،عبد السلام المسدّي، صلاح فضل، عبد الملك مرتاض ونذير العظمة وصفوة من الأكاديميين أساتذة الجامعات السعودية.
أميران يقدمان للكتاب هما: سعاد الصباح وخالد الفيصل وكلمة وافية للمعد والمحرر عبد الله بن سالم المعطاني نيابة عن لجنة استشارية من خمسة خبراء، وفي ذيل المجلد الثاني والعشرين شهادة لكبار القوم ومنهم جاك شيراك وغازي القصيبي ومحمد عبده يماني. وأسأل: أيّ ثراء هذا؟ كتابٌ باقٍ يحيط بسيرة الشاعر الأمير لا مثيل له في المكتبة العربية، وعلى هذا المنوال بقية الكتب التذكارية لعبد العزيز حسين، ابراهيم العريض، نزار قباني، ثروت عكاشة، عبد الكريم غلاب، غسان تويني، صالح العجيري والحبيب الجنحاني.
أشتات متفرقات
سألني شاعر عُماني يعمل في وزارة التراث والثقافة في جلسة خاصة: هل تعيش الشاعرة سعاد الصباح في برجٍ عاجي متعالية وفي عزلة؟. قلت له: على العكس، فهي تعيش في قلب الحياة والعالم، لكن على طريقتها. وسأشرح له ذلك إن تصادف ووقعت عيناه على هذه السطور.
في الدار نُعد لها التقرير الصحفي اليومي الذي يضعها في صورة ما يحدث حولنا، مع علمنا أنها بدورها تلقي نظرة على الصحف. وكانت تمتلك ترخيصاً لصحيفة في مطلع تسعينيات القرن الماضي حين كان الترخيص للصحف والجرائد نادراً وعزيزاً في الكويت، وكادت أن تصدرها وتريثت، ثم أحجمت لكثرة مشاغلها ومسؤولياتها وتشعبها. من الأمومة إلى الأعمال والمجتمع والسياسة والقراءة والكتابة والأسفار والشعر والرسم والمقابلات والأمسيات الشعرية وووو.. وتلك سجيّتها السادسة، سجيّة الحس الزماني الشامل والتفاعل معه.
أذكر أن الصحفي المصري مفيد فوزي جاء إلى الكويت لإجراء مقابلات طويلة معها، ورغب في زيارة مقر الدار غير البعيد عن مكاتبها الرئيسة، فاصطحبته بنفسها وجاءا مشياً على الأقدام لتقدمه لنا، وتعرّفنا عليه. فضيوفها دائماً على الرحب والسعة.
وجاء إلى الكويت الإعلامي السوري الراحل د.مازن الصباغ، وحظي بزيارة طويلة لسيدة الدار، والرجل من الساخرين المهضومين، وقال لي فيما بعد، لقد شعرتُ بارتياح شديد في الزيارة، وتجاوزتُ البروتوكول ورويت لها بعض النكات، وضحكت عيناها الحزينتان.
وحضر إلى الكويت أستاذ عربي في جامعة السوربون وطلب مقابلتها وكانت «سيدة الدار» خارج الكويت، لكنها وجّهت باستضافته بشكل لائق والاعتذار منه. وهذا ما حصل.
الغضب والسكينة
على امتداد سجادة الشعر التي بسطتها سعاد الصباح ليتأملها عشاق الشعر، يرى القارئ الحصيف في تلافيف السجادة الكثير من خيوط القلق الوجودي العميق، وبعض النزق والرفض والتمرد والحزن الشفيف، والكثير من الغضب ( إغضبي أيّتها الأرض، فإنّ الأرضَ لا يفلحُها إلا الغضبْ )، وغضبها السافر يشعل الحرائق ( وأضرمتُ في كل نجمٍ حريقاً كبيرا)، حتى ليخال المرء أن هذه الشاعرة قد تثور حتى على هديل الحمام وتغتال الموج.
في الواقع المعيش، ترى سعاد الصباح هادئة تحنو على رفيف فراشة، تزهو بعقلانيتها، تلعن الصخب والصراخ، وحدث إنني طوال أيام واظبت على الذهاب إلى «القصر الأبيض» حيث تعيش، لأتفقد رفوف الكتب ومحتوياتها في الركن الذي منحنتا إياه، وأقضي الساعات ولا شيء في القصر سوى الصمت.
وجهان متناقضان متقابلان لا يتجاوران سوى في أعماق النفس المُبدعة،وفي قرارة الروح الأنثى الأسطورية. والتي تُمسك بهذين الوجهين هي السجيّة السابعة، سجيّة الوعي والإرادة.
المرأة والمروءة
عجيبة اللغة العربية. الكلمتان أعلاه في عناقٍ صوفي هامسٍ كالعاشق والمعشوق. كل حروف الجملة رهن اللثة والشفاه! ما أبعد نغمها وجَرْسها عن جملة الرجل والرجولة! الجملة الأولى هي المرأة الأم المهمومة بالملمّات والمعنية بالآلام. والمروءة سجيّة سعاد الصباح الثامنة. وفي هذا الشأن يعرف الناس عَبْرَ وسائل الإعلام صنيعها. وهناك أسرار لا يجوز الإفراج عنها، إلا إذا شاءت صاحبة الـحالة الاستثنائية في الحياة الشعرية الحديثة، كما وصف ابراهيم العريس سعاد الصباح، أن تكتب سيرتها الذاتية وتبوح بأسرارها. لكن لا ضَيْرَ كما أرى من الهمس مع كتمان الأسماء. فقط لنقول كم كانت هذه المرأة تحب الشعر والشعراء.
في إحدى سفرات «سيدة الدار» إلى لندن، يزورها شاعر عراقي مرموق، وفي جيبه مخطوطة شعرية مكتوبة بحروف الأسى والغربة والعذاب والعناء، وهي على ثرائها وسمو مقامها تعرف تماماً كيف تتهجّى حروف البؤس بعد أن ذاقت لوعة الفراق كأم، فتتلقف المخطوطة وتأمر بطباعة الديوان على عجل، وخفّف صدور الديوان قهر الشاعر العراقي وبدّد غربته وحاجته! إنها مروءة المرأة.
وتمرض شاعرة سورية معروفة في بيروت، ويصل صدى أنين آلامها إلى مسامع «سيدة الدار»، وتستيقظ حروف الشعر ولهيبها ولهفتها كي تعبر المسافات لتمسح بكفَ الحنان آلام الشاعرة، وتخفف عنها تكاليف الحياة التي سئم منها شاعرنا ابن الثمانين.
وحين توفي الشاعر نزار قباني، جئنا، الكبير خالد القطمة وأنا، من الكويت إلى دمشق في إجازة مع التغطية المادية الكاملة، لتقديم العزاء نيابة عن صاحبة الدار. مروءة.
وأعترف، وهذا قراري الشخصي، إنني حين غادرت الدار لأعمل في منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (الأوابك)، كنت مديناً للدار بسلفة مالية أنفقتها على زواج أحد أولادي، وطلبتُ اقتطاع السلفة من تعويض نهاية الخدمة. وجاء الأمر من صاحبة المروءة: كامل التعويض، والسلفة التي توازي راتبي لخمسة أشهر هي هدية للعريسين.
سجيّتان وخاتمة
ما تهيأ للدكتورة سعاد الصباح الكثير، وأنجزتْ أطال الله في عمرها على صعيد الكتابة ما لا يُعدّ ولا يحصى من المقالات والدواوين والكتب، وانكتب الكثير من الكتب عنها، وفي افتتاح مكتبة للقراءة برعايتها تحدثت في المحاضرة عن ستةٍ من هذه الكتب، وكان بودي أن أطرق باباً غير مطروق في متابعات النقاد لأدبها، وهو حول ما قرأته من شعرها المترجم إلى الفرنسية. فترت همّتي وتكاسلت، وهنا أسجل بشيء من الفخر، السجيّة التاسعة لسعاد الصباح وهي سجيّة الإصرار، إذ أنها لا تزال تكتب وتبدع.
آخر المطاف، أقف عند أعظم سجاياها في اعتقادي، وهي العاشرة، إنها سجيّة الإيمان. ولمن لا يعرف، سافرت سيدة الدار وجابَت أطراف الأرض، وهي التي تَسِمُ نفسها بابنة الكويت، وهي حقاً كذلك، لكن أحبّ مدن الدنيا إلى قلبها « مكّة المكرمة»، وأغبطها على هذه السجيّة، فهي تعتمر وتحجّ كثيراً، وأسمح لنفسي أن أقول على لسانها، الجملة بين قوسين، التي عنون بها الشاعر نزيه أبو عفش أحد دواوينه: في مكّة أشعر أن ( الله قريبٌ من قلبي).