«ما العيب في أنْ أكون حبشيّة؟؟». ذلك ما كانت أوبيتيت تهمس به لنفسها. لقد اكتشفتْ – بمحض الصدفة – وبعد عام على قدومها للسودان – أنّ كلمة «حبشية» ذات شحنة تحقيرية جارحة، حين يستخدمها السودانيون. كانت قد لاحظتْ أنّ السيدة السودانية، التي تعمل خادمة لديها في حي أركويت بالخرطوم، لم تنادها باسمها «أوبيتيت» قطّ. وظنّتْ أنّ مردّ ذلك لكون نطق الأسماء الحبشية ثقيل – نوعاَ – على السودانيين. غير أن صديقة لها أخبرتها أنّهنّ – السودانيات – يتعمدن مناداتهن بـ«الحبشية» إمعاناً في التحقير. ولم تفهم لماذا؟ ما العيب في كون الواحدة حبشية؟ّ!!
بدأتْ تنتبه لطرائق سيدتها الشابّة في إلقاء الأوامر. هناك لاحظت فعلاً تعاليا جارحاً لم تفهم له سبباً. حتى أنّها لاحظتْ أنّ جيران السيّدة، تخدمهم سودانية شديدة السواد، لكنّها لا تلاحظ تحقيراً في طريقة معاملة سيّدتها للسودانيّة حين كانت تأتي مرسلة، أو حتّى طريقة معاملة مخدميها. وحين سألتْ عددا من الإثيوبيات والإرتيريات العاملات وجدت أنّ ذلك – تحديداً – موجّهٌ إليهن فقط. أخبرتها سارة، وهي مقدّمة طلبات في مطعم مصريّ بالخرطوم أنّ الجميع يعاملونا بذات الطريقة.
سيّدتها الشابة اسمها سناء. لديها ولدان في السابعة والخامسة. زوجها مهندس معماري أنيق ومسالم. دائماً تلاحظ أوبيتيت أنّه ينهي النقاشات والخلافات لصالحها. كي تخرج منتشية بنصر كاذب.كان منتصر زوج سناء يعامل أوبيتيت بلا مبالاة. وغالباً لا ينتبه لوجودها إلاّ لماماً.مع ذلك كانت تشعر كأيّ حبشية أنّه يخترقها بنظرات محدّدة، حين يتواجد أيّام الإجازات، فيما هي تمسح أو تنظّف، أو تقوم بالأعباء المنزلية.وهو أمر – في سياق خططها القادمة – ذو دلالة.
لم توجّه سناء إساءةً مقصودة إلى أوبيتيت أبداً. لكنّ شيئاً لا يمكن التعرّف عليه كان يجرى في علاقات السيّدة سناء والحبشية. حتى أنّ واحدة منهن لم تكن لتنكر ذلك الشيء.أوّل بادرة كانت حين رتبوا أغراضهم للسفر إلى مدينة عطبرة. كانت والدة منتصر مريضة، وعليه أنْ يقود أربع ساعات ونصف إلى هناك. سناء تريد أنْ يكون لديها حبشية تخدمها أينما ذهبت، بالذات في حال كان للوضع علاقة بالتباهي أمام أهل زوجها، وأمام زوجات أشقاء منتصر. كانت أوبيتيت تفضّل البقاء في البيت،أو الذهاب عند خالتها في الجريف.لكنّ سناء أصرتْ على أنْ تصحبهم إلى عطبرة. في النقاش الذى استرقت عبارات منه، كان منتصر يفضّل ترك الحبشية. لكنّه – كالعادة – جعل سناء تحصل على نصرها الموهوم.
في الطريق، كانت تلاحظ – وهي في المقعد الخلفي، مع الولدين – أنّ منتصر ينظر في عينيها طويلاً، في مرآة السقف.أوّل مرة طوال عام، منذ بدأتْ الخدمة معهم تكون برفقتهم لأربع ساعات ونصف. وتكون عيناها الفاتنتان في مرآة سقف سيارته طويلاً. كانت تعمدت أنْ تلبس أجمل ما عندها، ضمن شروط اللبس في السودان، التي لا تلائم – في نظر أوبيتيت – إلاّ فتيات الأورمو المسلمات الريفيات. ذلك لأنّ شيئاً تجاه سناء وغطرستها بدأ يتصاعد. ولو كنّا في أديس أبابا أو غُندار أو بحر دار – تقول في نفسها – لقدّمتْ عرضا لسناء في اللبس والموضة، كي تخجل من طريقتها المتخلّفة في اللبس، هذه السودانية الموهومة، تقول في نفسها «ذات المؤخرة الممتلئة، والكرش المتكوّر».
حين توقفوا في شندى، مدينة ريفية ركيكة، لم تطلب أوبيتيت شيئاً لتأكله. طلبت فقط قارورة ماء. كان منتصر – بطيبته – يترجّاها أنْ تأكل شيئاً. ولكنّها رفضتْ بمسكنة شديدة، وقلّة حيلة. كانت تعرف أنْ سناء ترمق زوجها بغضب مكتوم. فيما بعد سمعتها تتحّدث إلى بنت خالتها، وهي داخل الصالة: « عمل للحبشية راس وقعر…بحنّسها عشان تاكل قال»…بعد تلك العبارة قرّرت أوبيتيت أنّ شيئاً ما، لا تعرفه الآن على وجه التحديد، يجب أنْ يحدث. وعلى سناء أنْ تتأكد من وضعها، قبل أنْ تطلق لسانها.
كوني حبشيّة لا يعني أنّني خُلقتُ خدّامة. ولا أنّني وضيعة – بالفطرة – ولا موضعاً للاستحقار. لقد حصلتُ على بكالوريوس الأدب الإنجليزى في جامعة أديس أبابا، في «سيدس كيلو». لكن الوظائف مشكلة في بلدي. والعيش نفسه في بعض الأحيان مشكلة. ضمن التسعين مليون نسمة، في أرض ثلاثة أرباعها جبال، ليس هيناً أنْ تحصل الواحدة منا على عمل. لكنّ هذه السمينة، بمؤخرتها الضخمة تظنّني جاهلة ووضيعة. فقط لأنّني «حبشية».حسناً، سنرى من هي الحبشية في هذا البيت.
ذاك السبت، كانت تعرف أنْ سناء ستذهب للتسوق، مع بنت خالتها. منتصر والولدان في الصالة. يلعب الولدان، فيما هو يتابع شيئاً على التلفاز. لبستْ أوبيتيت قميصها الواسع والقصير. تأكدت من كحلها، سرّحتْ شعرها ضفيرة واحدة، وخرجتْ تمسح الصالة وتنظّف الأثاث. لم ترتدِ حمّالة للثديين. تركتْ نهديها يجولان حرّين في القميص الواسع، وهي تعرف سلطانهما. كما تركت لهواء مكيف الصالة أنْ يداعب ساقيها الأملسين وصحنيْ ركبتيها. سيحدث شيء ما، في مكان ما، عند المهندس منتصر، وهي ستقوم – فقط – بالمسح، والانصراف، مسكينة إلى غرفتها.
تعرف أنّ تلك معركة ليست لاجتذاب منتصر لذاته. ولا لأنّها تحبّه. ولكنها معركة سيكون فيها هو الضحية، دون أنْ يدري. في المساء كان يتحدّث إلى أحدٍ في هاتفه، في الحديقة الصغيرة. كانت هي تستحم، حين قرّرت أنْ تلتف بالبشكير، فقط، وتخرج مسرعةً، خجلة، مسكينة لتجري أمامه إلى غرفتها. لقد سمعته يقول جملاً متقطعة. ذلك يعني أنّ شيئاً حدث أربك فصاحته. ليست هي على كلّ حال. في الصباح، حين كان يهمّ بركوب سيارته، كانت هي ممسكة بضلفة باب الشارع حتّى لا ترجع، وهي حركة ظلّت تقوم بها لمدة عام، لكنّ هذه المرة كانت ابتسامته لأجلها فقط، وعيناه في عينيها… لقد بادلته ابتسامة ودودةً، لا قصد من ورائها. لكنّ في اليومين اللاحقين كانت سناء عكرة المزاج، لئيمة معه، ومفتعلة للمشاكل لأتفه الأسباب. فيما كانت أوبيتيت تزداد مسكنة، وقهراً ظاهريّا.
يوم احتاج السبّاك ليضرب له، يعلمه أنّه أنهى عمله،أخذ هاتفها وتحدّث إلى منتصر. ذاك اليوم حفظت رقم هاتفه في سجلاتها. سناء لا تعرف ذلك. على الأرجح لأنّها لا تقرأ الإنجليزية. تستبعدُ أوبيتيت أنْ يسألها منتصر شيئاً. لا رقم هاتفها، ولا أنْ يوصلها إلى بيت خالتها في الجريف أيام إجازتها، كلّ أسبوعين. سيحاول شيئاً مختلفاً لأنّه شخص مميّز. لن يقترب منها ولا من غرفتها، ولن يحاول لمسها، حتى ولو اشتعلت نيرانه جحيماً. ذلك لأنّه رجل نبيل، أولاً…وثانياً لأنّ همّه ليس الجنس. هذه الجاموسة البدينة لا تعرف مَن هو…تعرف فقط كيف تربي مؤخرتها، وتستنزفه ماديّا ومعنوياً.
كانت تلاحظ نظراته إلى عينيها. في كلّ مرّة تلتقي نظراتهما تمنحه ابتسامتها الوادعة، الدفيئة.لم تضبطه قطّ ينظر إلى جسدها. كانت تعرف ذلك. لكنّها أرادت أنْ تلفته إليها. في الواقع كانت تحتاج أنْ تعرض شيئاً لأجلها هي، أكثر من جرجرته إلى ميدان جسدها. في المشاوير القصيرة اللاحقة، كانت دائماً في موقعها في المقعد الخلفي مع الولدين.وكانت مرآة السقف مكان التجلّي. يقولان كلاما كثيراً، دون أنْ تشعر سناء ذات الحنّة المرسومة في أغلى مراكز التجميل، وذات الثياب الباهظة، وزبونة الحمام المغربيّ، بأنّ روح زوجها ذهبت بعيداً جداً، وقريباً جداً، في ذات الحين.
لم ينقضِ شهران – بعدُ – حتّى جاءتها سناء تحمل رزمةً من الأوراق النقدية. طلبت إليها أنْ تغادر. سنسافر إلى الإمارات في إجازة طويلة. من الأفضل أنْ تغادري دون أنْ يعرف الولدان ولا منتصر. لن تأخذ مالاً ليس حقّها. تركته في وسط السرير وغادرت. في بيت خالتها كانت موقنةً أنّ شيئاً سيحدث. لم تخبر خالتها. ليس حدساً. شيء لا تعرفه. غيبيّ موغلٌ في غيبيته. تزعم أوبيتيت أنّها نفذتْ إلى جوهر روح منتصر، إلى معدنه الأصليّ .وهو شيء عجزتْ عنه سناء؛ لقصور وسطحيّة تلازمها.
في اليوم السادس،كانت سيّارة تقف أمام بيت خالتها. بيت الحبشيّات في الجريف. ستخرج إليه. قال: «ألبسى شيئاً لائقاً..أريد أنْ أتحدث معك». لم تبدِ دهشةً..ستفعل للرجل النبيل هذا ما يريده؛ فذاك ما يستحق. قال كلاماً لم تعد تتذكر بعضه. كانت عيناه ثابتتين على وجهها. ترفع إليه بصراً ودوداً من حين إلى آخر. لم تطلب إلاّ الماء القراح. قارورة صغيرة فقط، رغم إلحاحه في أنْ تطلب شيئاً، أيّ شيء. كان صوته ثابتا،ً راكزاً، أميناً وممتلئاً بالثقة. عيناها فاضتا بالدموع. تحبّ النبل من حيث هو. شهقتْ حين سألها «هل تتزوجيني؟»…شهقة الحبش تعني «نعم»…كان يكرّر السؤال وهي تشهق، ودموعها تفيض. إلى أنْ انتبهت فأومأتْ برأسها أنْ «نعم».
في حفل زفافهما البسيط، المختصر، كانت تعرف أنْ المرأة المنقّبة في العباءة السوداء، هي سناء. رمتها بنظرة مستطيرة، ابتسمتْ لها.لا شيء موجع هاهنا. فأنا مجرّد حبشية تسرّبتْ إلى روح رجل نبيل.
عبد الحفيظ مريود*