إذا كان من الأهمية بمكان أن نطلق مصطلح "استراتيجية" بمعناه الدلالي (1) على كافة أبعاد التصوير والتخييل، فإنه من الواجب تحديد مسار هذا المصطلح الفني/ الثقافي في التجربة الشعرية الحديثة وفقا لرؤى ثلاث: أولها: إن "الاستراتيجية" أكثر تلاؤما مع مرحلة القصيدة الأجد "قصيد النثر" بما تفرضه من منظومات التصوير السريالى. وثانيها: إن الاستراتيجية أكثر دقة في التعبير عن وظيفة الابداع بوصفه تجريديا يحكمه قانون الحركة، والديناميكية، والتغيير المطرد، لا قانون الحركة "الاستاتيكية" أو السكون المنعزل، وثالثهما: إن مصطلح الاستراتيجية يمثل عصارة الجهود الفلسفية والفكرية والثقافية العامة والاجتماعية: منذ ضلوع التيارات السياسية والعسكرية القبيلة منها والجماعية في قوانين الحركة حيث التنقل والترحال، والصعلكة والحروب، والغارات والزراعة والصيد، وأعمال حرفية أخرى رصدتها الذاكرة الانسانية عامة.
إن العلاقة حميمة بين "الصورة" واستراتيجيتها، فهي المحركة لها، وهي المكونة لعناصرها تكوينا يمكن استقراؤها من ذلك الالتفات المحدق نحو عناصر الواقع حيث التجريد، والتقرير، والتعبير، وكلها أجزاء مهمة تغذي التصوير، وتدفع به نحو مفهومه الخاص الكامن في نقل الواقع المعاين من مستوى المعاينة الخارجية المحايدة الى مستوى المعايشة الداخلية الخاصة والمنفعلة (2)، أي بنقل خصائص الواقع من معطى الى تجربة، ومن رؤية الى رؤيا. ومن واقع الى حلم، ومن حقيقة الى وهم، وهي بذلك تفوض مشاعرنا، وتثير أحاسيسنا باستعادتها لكل المحسوسات الظاهرية والمعاني الجزئية والتفاصيل الثانوية التي لا تشكل أية أهمية أحيانا، وتسوغها بشكل وهمي متخيل، انها تزيف الواقع، وتجعل منه شيئا ميتافيزيقيا غير محسوس، تدفعها في ذلك قوة الحاسة الباطنية التي تسترجع الماضي والحاضر معا.
ومن هذا المفهوم وحده تدخل الصورة في كيان الاستراتيجية، وتتحول بذلك الى موضوع الشعر (أي مضمونه، وتمتزج به امتزاجا كبيرا، بحيث لا يبقى من المحسوسات والتفاصيل تلك، سوى خلاصتها وجوهرها الأصيل.
إن صورة الواقع بهذا المعنى تتحول الى صورة شعرية، حيث ما على الشاعر الجديد سوى التقاطها ونسجها في كيان ذاته لشاعرة ليخرج بها قصيدة نثرية محملة بهذه الرؤى.
من هنا فإن تغييب الواقع ومغايرته في هذه القصيدة النثرية يعنى كشفا بتعميق حضورها، ويغدو تزييفه تحقيقا لجوهرها (3).
فيصير الوهم بذلك أكثر حقيقة من الواقع، والغياب أشد حضورا وذلك فيما تفرضه القصيدة من حقائق معلنة ومغلفة.
وفي ظل هذا التغليف والاستتار تتحول هذه القصيدة معتمدة على الحلم الدائم وعلى المشاعر والأحاسيس الجديدة والبعيدة عن كل هيمنة إرادية، تخرج من سلطان الوعي المباشر الى اللاوعي، ومن المنطلق العقلي السائد الى المغاير، حيث الحقائق الأولى، والمواضيع الأولى البعيدة عن مراقبة العقل المباشر. وهذه كلها تجليات سريالية تقوم بفعلها في قصيدة النثر عامة، وعند الشاعر زاهر الغافري في ديوانيه: الصمت يأتي للاعتراف و "عزلة تفيض عن الليل" بشكل خاص (4).
وفي هذه القراءة سوف نقوم برصد وتحليل ظاهرة مهمة في تجربة هذا الشاعر وهي "استراتيجية التصوير بين بالواقعية والسريالية مستندين في تحليلنا ذلك على قراءة النص قراءة اعراضية تحتمل معاني متعددة مؤكدين جودة هذه التجربة القراءة لهذه الشيمة الفنية التي تمارس فعلها في تجربة الشاعر وتعيد خصوبتها من جديد، لتقرأ قراءة ثانية مختلفة عن تلك القراءة الأولى (5).
أولا: استراتيجية التصوير في بعدها الواقعي (احصاء):
اكتسبت الصورة عند زاهر الغافري وبخاصة في قصائده المبكرة الأولى بعدا واقعيا مستوحى من قناعاته لها، بأنها أكثر تجسيدا للواقع، وبأنها أكثر امتزاجا بالأحاسيس التي ينبض بها قلبه، وتفيض بها روحه، وقد تشكلت تلك الصور الواقعية على نحو أكسبها قيمة تعبيرية وجاءت على نحو معتاد ومتعارف بنماذجها الثلاثة:
التشخيص (6)، والتجسيم (7)، والمفارقة (8). كما يوضحها الجدول التالي:
إن أهم ما يمكن تمثله واستخلاصه من الجدول السابق، في ضوء استراتيجية التصوير في بعدها الواقعي، وفي ضوء ما تدفع به أفقيا تجربة زاهر الغافري عبر ديوانيه السابقين ما يلي:
أولا: تنامي حركة التصوير، واطرادها بين ما هو طبيعي انبنى عليه وجه الشبه كالنسيم، والضباب والقرية والصحراء والعاصفة، والظل وغيرها، وبين ما هو مفتعل (أي مركب: من مثل: البرابرة، الانتظار، الناسك، الهاوية، الخرائب، المنجل، وغير ذلك).
وفي هذه الجدلية بين الطبيعي /المفتعل تحولت حركة الثبات الاستاتيكية الى حركة ايقاع واسراع ديناميكية وكان نتيجة ذلك بروز الصورة في شكل لوحات متكاملة البناء والمشاهد.
ثانيا: اعتماد استراتيجية التصوير عند الشاعر على الأداة البلاغية التقليدية، فالشاعر غرق في استخدام تلك الأداة حتى الثمالة،وعزف على منوال "أداة التشبيه الكاف (كنهر، كقبلة، كعين،،،،) وبخاصة في ديوانه الأول، إذ ترددت فيه الكاف حوالي 39 مرة أي بنسبة 92% من اجمالي أدوات التشبيه الأخرى كما ترددت "مثل" حوالي 11 مرة بنسبة 6%.
ويأتي ذلك الاغراق كظاهرة سلبية في شعره، أيقظت حاسة قصيدة النثر، المتماهية لديه، وخدشت كيانها الشفاف المرهف، مما حدا به الى تجاوزها في الديوان الثاني، متيقظا الى فعلها السلبي في استراتيجية التصوير لديه وبذلك تجاوز حد تلك المحنة الفنية الى استراتيجية تنحو منحى سرياليا رامزا.
ثالثا: ظهور دلالة التصوير في بعدها "التشخيصي" وذلك بتحويل المفردات الذهنية والنفسية (كالوحدة، والوجد، والتيهان، والتبعثر، والندم) الى كائن بشري أو حيواني مشخص. واستحوذ ذلك على نسبة أقل من دلالتي التصوير الأخرى (المفارقة والتجسيم).
رابعا: استحواذ دلالة استراتيجية التصوير التجسيمية على النصيب الأكبر من بين الدلالات الأخرى، واعتمادها أكثر على عنصري الطبيعة المتحركة الانسان والحيوان (الفجر، القرية، الصحراء، الأرض).. ومثل ذلك الاستحواذ على بيان حركة ذات الشاعر في أوضح صورها. وعبر عن ذلك المعنى المجرد تعبيرا محسوسا دفع باستراتيجية التصوير الى آفاق أخرى سوف نناقشها لاحقا.
خامسا: جاءت جميع الصور تقريبا على سياقها التقليدي مركزة على وجه الشبه والذي يتراوح في أغلبية تلك الصور بين عناصر (الحركة، والوضوح، والتوهج، والجمال، والاتساع، والخصوبة) وكلها عناصر ايجابية تفاؤلية في معناها العام، مما يجعل التجربة منفتحة على فضاء الصفحة البيضاء المشوقة دوما بعيدة عن آفاق السوداوية والجنائزية، والميلودرامية، كما هي عند بعض أقرانه من الشعراء. (9).
سادسا: وضوح ملمح التصوير القائم على التشبيه، وبروزه أكثر من غيره بحيث كانت استراتيجية التصوير فيه على شكل جامد/ غير محسوس، مما جعل عنصر الحركة قائما عليها، وفي مقابل هذا الوضوح، خفتت ملامح التصوير الأخرى القائمة على الاستعارة والكناية والمجاز.
ثانيا: استراتيجية "التصوير" وأقسامها:
1- التشخيص أداة استراتيجية التصوير المهمة لدى الغافري:
يمثل حيز التشخيص أول مؤشر على وجود الذات الشاعرة عند زاهر الغافري على النحو الذي بيناه تطبيقيا في الجدول السابق، وأكدناه تنظيريا في الهامش رقم (7) من الهوامش التوضيحية اللاحقة. وهو اضفاء صفة المادة /الجسد على الروح والفكرة، ويتضح ذلك أكثر في إطار استراتيجية التصوير من خلال عزف الشاعر على مرتكزات أساسية يوضحها المقطع التالي من قصيدة "الطريق تعترف":
عندما لا تسقط الدمعة على
خد الأفق
كما تسقط المرة على الأرض
……………………..
هل تعود هذه الليلة أيضا
كما تعود الأنهار القديمة من
نومها
الاستراتيجية التصويرية هنا تظهر أفقا صريحا بين الذات ودلالاتها (الدمعة، الخد، النوم) بحيث قرن حالته الباكية الحزينة، الساقطة في متاهات اليأس – الثمرة، والأنهار، وأقر تشخيصها أحاديا على النحو التالي:
فالصورة على هذا النهج مداها واسع، وطبيعتها مشخصة (الأنهار، الخد، الثمرة وواقعها ملموس، وطريقها متنامي في دائرة مغلقة)، وهي بذلك تمد مخيلة القاريء بباعث أو مثير عن طريق التفاصيل الحسية الحيوية. ناهيك عن اللغة الضدية / التقابلية التي صاغها الفعل تسقط / لا تسقط، ووهجها السؤال هل تعود هذه الليلة؟ بصيغة التشخيصية ايضا.
لقد شكلت آلية التشخيص – هما يوضحها الشكل الدائري التخطيطي السابق قدرات الذات الشاعرة، وجعلتها أكثر قدرة على النمو والحركة محا، والتموج في النص الشعري، وهذه هي قمة مراحل التطور في التجارب الشعرية الخاصة والعامة، وهذا ينعكس على تجربة زاهر الغافري حتما حيث انتماء نصوصه الى جذور اجتماعية وثقافية عامة وإن كان انغراسها أقل عمقا في تربة الواقع بتناصاته وخصوصياته، مما يوقعه في عوالم التجريد المطلق أحيانا. من خلال طرحه لأسئلة بات من اليسير الاجابة عليها في محيط الواقع، وهي أسئلة متكررة، ومكثفة، يلح عليها كاستجابة لضروريات الذات المنهكة التي تفرضها استراتيجية التصوير وفق رؤى التشخيص وآلياته:
كما هو الحال في المقطع التالي من قصيدة "الصمت سلاحك السري:
هل كان ظلك نائما بعينين
مغمضتين ولسان يضيء كالشمعة؟
هل كان الجسد حديقة
الكلام، أو خاتما ضائعا في
دهليز؟
هل كانت المرأة جثة النوم؟
هل كانت يداك تتابعان
كالأعمى رقصة الهلاك (11)
إن طغيان حيز السؤال المطلق مكون من مكونات آلية التشخيص لدى الشاعر، فهو يخفي وراءها عباءة المرحلة الفنية والتاريخية التي ينتمي اليها النص: حيث دلالة التنفيس والتعزيز لحالة مكتئبة لاشك.
إن استراتيجية التصوير هنا غامضة لاعتمادها على اللاوعي، وعلى الشعور الذي يغدو فيه الزمن داخليا لا خارجيا، ماضيا لا مضارعا (كانت) ويشكل الاستفهام حوارا بينه وبين الجزء المفقود من ذاته (الجسد، اليد، العين) لا بمعنى الفقدان الحسي وإنما المعنوي، حيث انشلاله عن الحركة والتعبير، حيث قمع الواقع، وسلطته وهيمانه، والأجدر به في النهاية هو الصمت كما يوضحه عنوان الديوان والقصيدة معا، وهي حالة سلبية استسلامية انهزامية، برهنتها آلية التشخيص ووضحتها وفقا لهذا المعنى.
إذا كانت آلية التشخيص لعبت إذا كانت آلية التشخيص لعبت هذا الدور الايضاحي لاستراتيجية التصوير عند زاهر الغافري من خلال ما بثته من روح حية تدب في جسد الطبيعة المركبة بكافة أجز ائها الحية والميتة الديناميكية / والاستاتيكية فإنها من جانب آخر بقيت محصورة في إطار التشبيهات المكثفة كما بينها الجدول السابق، والاستعارات الجزئية المقتضبة، اضافة الى كونها مطابقة بين الروح الانسانية، وجسد الطبيعة، دون أدنى تفاعل بين المعنى والمبنى ما اضفت على كيانها روح هلامية، لا نعرف حقيقة أقصاها:
نقف كالأيتام / باحثين ربما
عن الأنهار
عن الطين، وعن سلم المغارة
عن طفولتنا التي أعرناها
للخريف (12)
قفز الخيال الجامح للشاعر هنا دون أي تفكير، وهو انفلات أوقعه في مغبة ايجاد العلاقة بين المعنى والمبنى، بين الأنهار واليتامى، بين الطفولة والخريف، بين الأنهار والطين. وتلك اشكالية ربما دوافعها كلاسيكية، ورومانسية بعيدة لازالت تختمر غمار فكره، وتكوينه، فهنا الصور جميلة، ورائعة، والشاعر يتدخل في صياغة الطبيعة، لكنه يتوه في ايجاد روابط هذه الصياغة حتى مع نفسه حينما كانت نتيجة أميرة الوقوف طفولة مفقودة في زمان غير زمانها (الخريف). وحدث هذا بفعل التشخيص أيضا.
ب- التجسيم بين التشبيه والاستعارة في تجربة الغافري:
إذا كان التجسيم يعنى بتداخل المعاني، وتجسيدها، وخلقها، فإنه يتسرب في تجربة زاهر الغافري بوسائل كثيرة بحيث لا ندرك قاعدته، نظرا لأنه يقوم كما لاحظنا في الجدول السابق على أداة التشبيه البلاغية، وطبيعي أن هذه الأداة تعمق مصدر احساسنا من جهة تجاه ما يقوم الشاعر بتجسيمه، تحدوه في ذلك استخدام "الاستعارة" التي تعد تعبيرا عن فعالية الحركة الخيالية المختزنة في مظهر التشبيه، فهو لا ينمو ويتسع وتتداخل أطرافه وتتشابك علاقته إلا بواسطة الاستعارة، التي هي مظهر متطور عن التشبيه، نظرا لما تثيره في الذهن من صور متخيلة لا توجد خارجة، (13) نلاحظ ذلك في المقطع التالي من قصيدة "جبهة الشاعر":
ستعرف اليوم أكثر مما مضى
أن الصمت أجنحة قابلة
للذوبان
أو بلدة نائية مغمورة بالثلوج
صرختك تصب في الأنهار
رموشها الطويلة
وبين عظامك تزهر عادة
أشجار الصبر والحقيقة (14)
تولف استراتيجية التصوير وفقا لآلية التجسيم في هذا النص واقعا أخر استمدت المشهد منه، فغدا (للصمت أجنحة، وللصرخة انهار، وللعظام صبر)، لقد صاغت الاستعارة عناصرها من جديد صياغة مختلفة عن ذي قبل، مستندة على حرارة الخيال ذات الشاعر ومرتكزة على كلمة واحدة أعطت كل هذا الانطباع (مغمورة) أو (نائية) بحيث لم تعد تفيد الصرخات الاستغاثية التي يطلقها الشاعر مستنجدا من واقعه ونفسيته المحطمة فيه، لأنه يقبع في بلدة نائية مغمورة بالثلوج لا أحد يعرف مداها ولا أحد يستطيع انقاذه، فما عليه سوى الصبر والصمت معا كما يتوضح من المقطع الأخير.
الصورة عند زاهر الغافري من خلال هذا المقطع النموذجي واقع مكتمل، وجسد حي يدل على وجود الروح فيه، ويؤكد نضوج حركة الحياة داخله، حياة ربما اكتسبت حياتها من تلامس خيال ذاته مع معناها على أقل تقدير على صعيد لعاطفة والفكر، وهما محور الهم لشعري/ الفكري/ الثقافي لدى زاهر، المكتنز بهواجس الرحيل نحو لمجهول في عالم تتداخل فيه مثل تلك لتداعيات، فلا يستطيع أن يجابهه إلا خلق استراتيجية للتصوير كمثل لتي فعلها في مثل ذلك المقطع الشعري.
التجسيم يعمق بناء اللغة في تجربة الغافري، ونلاحظ ذلك البناء في تلك السلاسة المحكمة التي لاشية فيها من صنعة أو أناقة أو تكلف:
لعل الأبدية بيتنا
يرث أسرار الصبر، فلا تفتح
الأبواب
التي أضعنا تحت ريشة الألم
(15)
تأتيك اللغة هنا سهلة (بيتنا، أسرار، الأبواب..) تنبني على مفاتيح الأفعال (الفعل المضارع يرث /يفتح) والضمائر في (أضعنا، وبيتنا)، كما أن التصوير فيها محكم، فعناصر التشبيه من مشبه به ووجه الشبه مكتملة. مما يعبر عن رغبة لدى الذات في الاحاطة بجميع معطيات الصورة الفنية وجعل الداخل انعكاسا للخارج وتجسيدا له الأبواب المغلقة /اسوار) الأبدية / بيت، الألم /ريشة).
ج: المفارقة سخرية القدر اللاذعة لدى زاهر الغافري:
إذا كان التناقض / التفارق / التضاد يمثل سر مسيرة الحركة، فإنه من الواجب استيضاحه على مستوى استراتيجية التصوير لدى الشاعر، وبخاصة في ديوانه الثاني "عزلة تفيض عن الليل، لأنه يمثل صيغة استثنائية في تجربته، كما مثله الجدول السابق. ويوضحه المثال التالي:
ما الذي فاجأنا
أيتها الابتسامة التي تشطر
الأفق
كخنجر يضيء ليل العالم
الصمت لسن العاصفة (16)
تكمن المفارقة بين (الابتسامة والخنجر) بين (الصمت والعاصفة) وهما عنوانا الدهشة والتعجب لدى الذات الشاعرة في صيغتها المتماهية، حيث وقوع عنصري المفاجأة والانشطار مما أوقعه باستراتيجية التصوير، وجعلا منها متأسسة من حركة وشخوص.
إن طاقة التصوير التي رسمتها المفارقة في المقطع السابق، تغدو بوتقة يذوب في حرارتها الخاص والعام معا (ذات الشاعر/ وواقعها) وينتج عن ذلك الانصهار أكثر من جمع بين عنصر بأخر أو نقيض بنقيضه كما لاحظنا، لأن الناتج هو تلك العلاقة الحاصلة عن امتزاج الثنائيات في صيغة جديدة هي صيغة الصمت المطبق الذي هو عصارة استراتيجية التصوير لدى الشاعر. ولهذا نجده لا يرى تحرجا من تكرار صفة العزلة التي ينشدها الشاعر عبر ديوانيه (عزلة… الصمت) وفي خواتم قصائد كثيرة فيهما مما حدا بالليل والانكفاء، والهدوء، والثبات، والغياب، والعزلة، من مفردات أن تشكل الصيغة الماثلة في استراتيجية التصوير لديه (لدى زاهر الشاعر). وتدخل كثيمات مهمة في تجربته بل تكون سمات مهمة لمعجمه الشعري بكافة تجلياته.
ثالثا: الكتابة الآلية مظهر سريالي
: "عزلة تفيض عن الليل" نموذجا:
مثل ديوان عزلة تفيض عن الليل نموذجا للكتابة الآلية عند الشاعر زاهر الغافري فغدا كمرحلة أكثر تطورا على صعيد التخلص من استراتيجية التصوير في بعدها الواقعي وضمن أقسامها الثلاثة السابقة الذكر، وأعتقد أن هذا النوع من الكتابة الشعرية فتح مجالا واسعا لديه في مجال التعبير الحر اللاواعي، فكما هو معروف أن الوعي يمارس أحيانا رقابة على محتوى الكلام، ويتدخل في طريقة ظهوره. ومن الملاحظ أن هذه الكتابة الآلية جاءت لديه كمعادل موضوعي للتخلص من رواسب التقليد الكلاسيكي في المكون لاستراتيجية التصوير، وحققت هدفها المنشود باعتبارها وسيلة لسبر التفكير وسبر الذات (ماضيا وحاضرا) وسبر العالم الانساني بشموليته عن طريق الفن الذي هو اللحظة المباشرة للروح المطلقة بشموليتها، كما يردها هيجل" (17).
إن التجربة الشعرية عند زاهر الغافري تطمح أن تبلغ الصوفية، انطلاقا من هذه الآلية التي تدفع بها اللغة الى حد الوقوع في مغبة التمزق كما رأينا في مظاهر الاستراتيجية الواقعية، فكان نتاجه منها كما وكيفا ظاهرا محسوسا، فهو يستخدم الكلمات والصور الموحية بكل ما هو يائس، منعزل، مفقود.. واعتقد أن تلك الكلمات تنطلق من اللاوعي، سيلا يجري تلقائيا بلا حدود، وبلا رقابة واعية.
غيابنا أثقل من الخطيئة
وجنوننا أكبر من أن يولد من
عيون النسر
الخريف سلاح الأعزل
وكاتم أسرارنا حين ننزل
الادراج
لكي نبارك السهرة (18)
الصورة هنا غامضة لاعتمادها على اللاوعي، وعلى الشعور الذي يخبيء عناصر العزلة، حيث (الأسرار، الغياب) وحيث الضمائر المتكلمة (نا) التي تفيد بالانتهاء والشعور بالخطايا دون تبرير (الخريف سلاح الأعزل). الزمن يعلن الأفول، والأوراق الصفراء تتقاذف مكونة تراكمات تقبع وسطها الأسرار. تلك الأسرار التي حدت بالشاعر أن يقذف بواقعه صوب الهجرة والسفر والترحال. غير طائق لتحمل مسؤوليتها، فكانت نتيجته هذه الذات المدمرة من الداخل التي تفيض عزلتها وتفصح أحيانا وسط جو معتم.
إن الصورة هنا سريالية والشاعر فيها يسمح باكتشاف ذاته، في حوار مع جزئه المفقود، فهو هنا وسيط سلطة مبهمة لا ندري ما هي.. إنه هنا يعتمد على العلاقات البعيدة والمتناقضة فيما بينها لأنه يريد الوصول الى منابع المخيلة الشعرية فجاءت استراتيجية التصوير لديه أكثر تحكما وأكثر تناقضا،وأكثر صعوبة في الايضاح إنه تحير العقل والحواس معا، وتشرك الأشياء بعضها ببعض.
لغة زاهر في هذا المقطع وغيره من مقاطع ديوانه الأخير أقرب الى اللغة "السيميائية" لغة التحولات، فهي تكون أجسادا لا حروفا تتغير من الداخل، وتغير علاقاتها ودلالاتها المعهودة مع الخارج:
ربما لأن عزلتا تفيض عن
الليل
لذلك تكنا الباب مفتوحا
فلم ندخل ثم سمعنا صرخاتنا
من بعيد (19)
هكذا نرى أن اللغة هنا تتكون من مصادر، وأفعال تتراوح بين ماضيها (سمع) حاضرها (تركنا)، ورغم شفافيتها إلا أنها لم تأت بالمعنى الضيق الحصري المحدد للعزلة، التي تفيض عن حالة الهدوء والسكون لليل، ولكنها أتت بصيغة الحركة (سمعنا صرخاتنا) لينبلج من ذلك الليل البهيم، ضوء وحركة، ومعنى، هي نتاج صرخات الشاعر في فضاء أعماقه المظلمة.
نصل مما تقدم أن "الكتابة الآلية" المتداعية مظهر من مظاهر السريالية في تجربة زاهر، وهو يعتمدها اعتماد الفنان، لا اعتماد الأديب، مستجليا حالة الأصالة في تجربته أصالة نامية متحولة مما يجعل لاستراتيجية التصوير معنى، ومغزى في ذات الوقت، فهو يرى أن للصور دورا خاصا لا يمكن اهماله، وبأنه يكاد مستحيلا التعبير عن حالات الفكر المعقدة دون استعمال الصور استعمالا جزئيا وواسعا.
والموسيقى لديه تلعب دورا في تلك الاستراتيجية: موسيقى منبعثة من الألفاظ متولدة من نسقها، فهو يدرك أن ترابط الأصوات في الكلمة يساعد على سبر المعاني الدقيقة الكامنة في الأحاسيس
الغامضة" (20)، وان الأشياء التي يلاحظها إنما تشكل بالنسبة له عوالم مشحونة بالغموض، فهو يعيش عالما واقعيا مفعما بالفرح والنشوة أحيانا، وبالحزن والكآبة أحايين كثيرة، ولهذا فهو يحاول أن يقيم علاقة تألف بينهما في شعره، علاقة تنبني على التحليل والرؤية المتطلعة، كما يوضحها المقطع التالي:
أنا الوحيد الهارب منذ عصور
أبحث لو كنت أبحث تحت ضلع
الليل
عن رعشة الأسطورة
إنني أسمع ظلك الآن
وهو يجر صوته في المرأة
ويتركني وحيدا
كأسير وقع فى كمين ولن يقوم
منه إلا بمعجزة (21)
تبدو هذه الأبيات لأول وهلة وكأنها مجاز خيالي، ولكنها تمثل في الواقع تسجيلا حقيقيا لوقع (أسمع صوته..)، ووقع الحركة (الهرب.. البحث هو وقع الترقب والخفوت (الكمين)، وقع الرؤية (في المرآة)..
إنها حركات ايقاعية شكلت خطي الذات الشاعرة في سعيها الحثيث وراء اقتناص لحظة الحلم، التي تتوق اليها بشيء من المغايرة والتميز، بحيث غدت تلك الروح الواقعية كشفا تحلله اللغة وتهدف الى تعميقه، فصار الوهم نتيجة لذلك أكثر حقيقة من الواقع والغياب أشد حضورا والحلم أكثر وجودا وامتلاء.
يمكن القول اجمالا بأن تجربة زاهر الغافري تجربة غنية بكثير من المواضيع، وهي على مستوى البنية الايقاعية تتردد بين قصيدة النثر، وبنية التفعيلة وهو تردد لم تسلم منه بعض النصوص في الديوان الأول "الصمت يأتي للاعتراف"، مما كان يعكس قلق تجربة الشاعر فيها وقد تجسد هذا القلق أيضا على مستوى المضمون الفني في اطار الهم الابداعي الذي اختطلت فيه دوائر (الصمت) بين قصيدة وديوان، مما حدا به الى تجاوز ذلك في الديران الثاني حين شكلت القصيدة الديوان نفسه.
ويتميز شعر الغافري بشكل عام بالبساطة في الفكرة ووضوح العبارة والشفافية في الرمز، كما توجد فيه (وبخاصة في الديوان الأول) ملامح غنائية، هي نتاج التزام الشاعر، بنظام التفعيلة، والاهتمام بالعاطفة الخاصة، والتعبير عن الوجدان الذاتي الذي يحاول أن يضفي عليهما بعدا موضوعيا عن طريق استراتيجية التصوير.
ولعل أشد ما تتكيء عليه تجربة زاهر الشعرية على صعيد المستوى الفني هو احساسها بالزمن مستقبلا (حلما) لا ماضيا (تاريخيا) ولهذا فهي تهجس بكل ما هو حركي متفاعل، وفق قوانين الزمن، والحركة واللون، والصوت، وما الى ذلك.. من هنا تعتلي ء تجربته بمفردات أحيانا تتكرر مثل (الصمت، الليل، العزلة، الانتظار، الكوارث الحجر) وهي نتاج حالته المفعمة بالغربة النفسية والتشتت والدوران في دائرة المكان بكافة آفاقها محليا وعربيا وعالميا وانسانيا.
المراجع والهوامش:
1- "الاستراتيجية" بمعناها الدلالي، كما تورده معاجم المصطلحات والموسوعات، تؤول الى مفهوم "فن القيادة بأجمعها" وهي مشتقة من كلمة "سترايتجوس" اليونانية، بمعنى قائد، وهي في الاعمال الحربية: الخطة العامة لاحراز هدف ما.
انظر تفاصيل ذلك: الموسوعة العربية الميسرة، مجموعة باحثين، ط 1 حـ 2 دارا لنهضة، لبنان، 1980، ص 140.
2- الصورة الفنية، د. جابر عصفور، ط 2، دار التنوير، بيروت 1983، ص 285.
3- الصورة في الشعر العربي، د. علي البطل، ط 3، دار الأندلس، بيروت 1983، ص 136.
4- صدر الديوان الأول عن "منشورات الجمل"، ط 1، كولونيا، المانيا 1991، ويضم أحد عشر نصا، أما الثاني فصدر عن "مطبعة الألوان الحديثة" بمسقط 1993، وهو نص واحد متكامل. مهدى الى أصدقاء الشاعر.
5- في مناهج الدراسات الأدبية حسين الواد، ط 1، دار سراس، تونس، 1985، ص 101، وفي ذلك إشارة واضحة الى جدليات قراءة النصوص قراءة تحليلية ناقدة، بين الحد والانعتاق، بين ماضيها التقليدي (حيث إن للنص معنى معينا واحدا، هو المعنى الذي يتعين على الشارح أن يظفر به) وبين حاضرها الحديث (حيث إن النص الأدبي لا يشتمل على معنى واحد معين، بقدر ما يشتمل على عديد المعاني، وجودة هذا النص تكمن في قبوله لكثير من التأويلات الكثيرة.
6- نقصد بمصطلح التجسيم،: اخراج المعاني والمجردات في صورة أشياء مجسدة جامدة، فيجعلها بادية جلية وهو يرينا المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون.
7- التشخيص: هو أن يبرز المعاني والأفكار المجردة فيكسبها صفة الأشخاص /الكائنات الحية، أو يشخص مظاهر الطبيعة الجامدة فيجعلها تدرك وتحس وتتجاوب مع الانسان في مشاعره وأحاسيسه.
8- المفارقة هي أن يأتي الشيء بعكس ما حقه أن يكون، وهي تخلق صورا متناقضة في منطق العقل، ويكون لها دلالات نفسية معنوية.
انظر تفاصيل مصطلح المفارقة على المستوى الدلالي والوظيفي: في كتاب: تطور الصور الفنية في الشعر العربي الحديث الدكتور نعيم اليافي، ط 1، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1970، ص 190.
9- نعني بذلك تخصيصا لبعض ملامح تجارب قصيدة النثر في عمان أمثال تجربة الشاعر سماء عيسى، الذي يرتبط بالشاعر بروابط روحية، يظهر من خلال اهداء الشاعر زاهر الغافري له: ديوانه الأول الصمت يأتي للاعتراف" بأكمله، واهداء سماء لزاهر بعض من قصائد ديوانه "نذير بفجيعة ما". كذلك تجربة الشاعر عاصم السعيدي التي تناولناها من قبل. ورصدنا هذا المظهر بالذات انظر جريدة عمان.
10- قصيدة الطريق تعترف ديوان الصمت يأتي للاعتراف. السابق، ص 8 وما بعدها.
11- قصيدة "الصمت سلاحك السري": الديوان السابق، ص 13، ص 62، ويتكرر هذا التكثيف من الأسئلة ليس في هذه القصيدة وحدها،وانما في قصائد أخرى في الديوان من مثل الطريق تعترف: ص 7: وقصيدة "لمعان الفأس" ص 50، وقصيدة "ماء الكلام" ص 68.
12- عن قصيدة "عزلة تفيض عن الليل الديوان السابق نفسه، ص 20.
13- "التصوير وألوان المجاز" س. هـ بورتون: ترجمة محمد حسن عبدالله. مجلة البيان الكويت، عدد 191، فبراير 1982.
14- قصيدة "جبهة الشاعر" الديوان الأول السابق، ص 55.
15- قصيدة "عزلة تفيض عن الليل" الديوان السابق، ص 36 ومابعدها.
16- قصيدة "ظل المرأة" الديوان الأول، السابق، ص 26.
17- الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر، د. عبدالحميد جيدة، ط1، مؤسسة نوفل، بيروت 1980، ص 131.
18- قصيدة "عزلة تفيض عن الليل" ص 54 وما بعدها.
19- القصيدة نفسها، ص 8
20- الرمز والرمزية في الشعر العربي، د. محمد فتوح أحمد، ط 6 دار المعارف القاهرة 1984، ص 53.
21- قصيدة "ظل المرآة" الديوان الأول، ص 25.
محسن الكندي (اكاديمي من سلطنة عمان)