جميلة عمايرة*
عليك ان تعترف ياسليماني أنها ليست المرة الاولى .!
هذه ليست بالمرة الأولى، أجل.. اعترف وأقر. فالاعتراف سيد الأدلة ، والاقرار نصف الطريق لحل المشكلة :
ليست المرة الأولى التي اتهجأ بها حروف إسمي كطفل ولا أعرفه ولا أعرفني!.
أكتبه حرفا حرفا : س ل ي م ا ن ي ، أتأمله بعد ان اكتبه وأتهجاه كطفل يتلعثم بالحروف .
أراه كما لو كان لشخص آخر بعيد ومجهول. يا إلهي .!
هل هذا اسمي؟ وفي اللحظة التي ولدت بها ولد معي؟ هل يخصني انا وحدي دون سواي أم ان هنالك ثمة سليماني آخر اجهله ولم اره بعد ؟
لا أتبين ملاح وتفاصيل وجهي الجديدة، هل هذه تعود لسليماني الذي كنت اعرفه منذ زمن طويل
ام لرجل آخر أراه الآن امامي لأول مرة ؟ الوجه لا يشبه وجهي الذي اعرفه منذ وعيي الاول ،
ثمة تجاعيد واضحه بشكل لا يمكن إنكاره أو اخفاؤه . وهذه « الصلعه « التي تشبه بطيخة كبيرة من
اين جاءت وظهرت على حين عفلة ومتى ؟ منذ سنوات قليلة بدأ شعري بالتساقط دون أن انتبه أو اعير الامر
اهتماما حتى اكتملت الدائرة وانغلقت فبرزت هذه « الصلعة « مرة واحدة بوقاحه سافرة « «.
لكن هل تعود لي انا ، هل انا صاحبها، ام هي للرجل الآخر الماثل امامي الآن ؟ الأمر مربك وشائك ويضعني في حالة من التوتر والقلق والضياع.
أنا لا اعرفني .! ياالهي في علاك !.
ها. من أنت ؟
من أنا ؟
قبل هذ وفي البدء : لمن يعود هذا الاسم ؟ ومن هو هذا الرجل بملامحه التي لم اتعرف اليها قط !
اسمي بأحرفه الذي ينفرش بأحرفه السبع فوق هذا الوجه ويرسم ملامح باهتة وشاحبة لدرجة ان لا أعرفني
ولا اعرف لمن يعود هذا الاسم هل هو لي حقا ؟
عيناي ،عيناي بهذه النظرات الغريبة التي لم تكن لي يوما ، ولم اعتدها قط . احدق طويلا بالمرآة كل صباح ،
احدق وانا احلق ذقني وشاربي، احدق وانا ارتدي ملابسي، احدق وانا احدق بي ، احدق بهذه العيون بنظراتها التي لم آلفها قط .
أحدق بهذا الوجه الذي أراه امامي : أتأمله بقوة ولا اعرفه. لا اتبين ملامح صاحبه ، ومن اين ظهر الآن ووصل مرآتي ؟ اين كان يختبئ؟
المرآة ، المرآة أجل . المرآة خائنة ومزيفة ، من هنا بدأت، المرآة تكذب كثيرا وتخدعني . المرآة تضللني
إلهذا تحبها المرأة كثيرا؟ لا اعرف،لا اعرف شيئا . خشيتي من هذا الرجل الغريب الذي يربض فوق مساحة مرآتي
ويحتلني ، فيحيلني لشخص لا اعرف اسمه او اتعرف لملامحه ، ولم يسبق لي ان التقيته او عرفته!.
لا أزال واقفا امامها ، امام المرآة وكأني أستنطقها أستعطفها وأتوسلها بأن تكشف لي عن ستارتها الثقيلة لمرة واحدة فتريحني.
أحدق بها ثانية وثالثة ورابعة برجاء.
يا الهي كم هو مؤلم ان ارى نفسي امامي ولا أعرفني .
احد ما لا أعرفه يدعوني بإلحاح وانا لست على ارض او فضاء .
احد ما يدعوني بإلحاح لرحلة الغياب ، وأنا من أنا ؟ أنا لا أحد.!
المرآة ذاتها تذكرني بي ، كأنما مسحت الغباش عن زجاجها الصقيل فصارت أشيائي القديمة مرئية امامي!.
أراني سليماني الطفل وله من العمر سنوات عشر .
سليماني الطفل البكر لوالديه بعد احتباس مؤقت لثلاث سنوات لرحم الأم .
سليماني الذي كبر فجأة وصار رجلا وهو ما يزال طفلا .! اذ ولد شقيقه الثاني وعمره عاما واحدا فقط .
فتحولت لطفل كبير مرة واحدة بلا العاب وبلا لباء أم يقوي اسناني وعظامي ويشد بنيتي فنشأت قصيرا وهزيلا .!
انت كبير لا تشارك الأطفال لعبهم .
اللازمة التي ترددها امي وجدتي وابي كل ساعة فحفظتها عن ظهر قلب ، كأنشودة المدرسة في طابور الصباح.
سليماني اكمل دروسك سريعا وتعال ساعد امك . تنادي جدتي .
اقراني لم اعرفهم سوى بالمدرسة ولا التقيهم خارجها .
سليماني اذهب للسوق عند عمو ابونبيل « واحضر لنا حاجيات البيت التي كتبتها لك على ورقة صغيرة بيضاء
واذا صادفك احد من رفاقك بالمدرسة او اقاربك اياك ان تتلكأ معه وتحادثه .
سليماني اذهب وساعد أمك في اعمال البيت قبل ان ينهض شقيقك.
سليماني اذهب لبيت جدك واخبرهم ..، سليماني « انزل على البلد واذهب للبريد المركزي وتفقد صندوق البريد
ربما هناك طرود ورسائل من عمك االذي يدرس في المانيا ، وفي طريق عودتك
ومن مطعم « هاشم « اشتري لنا علبة حمص وفول وربطة خبز، لا تنسى.
سليماني اكنس باب البيت ورشه برذاذ الماء ، واسقي « الزريعة « ورتب المقاعد وصفها متقابلة بانتظام .
في المساء سيجيء اصحاب والدك فالسهرة الليلة عندنا ، ولا تنسى اعداد القهوة .
سليماني لا تنس ارتداء سترتك الطويلة ، فربما تمطر وانت عائد من المدرسة وتبتل ثيابك ، عليك ان تمر في
طريقك للسوق كي تخبر عمك الفران اننا بحاجة لعشرين رغيف خبز غدا صباحا ، ثمة مأدبة سيقيمها والدك احتفاء بسلامة شقيقك من « الحصبة* «.!
سليماني قبل ذهابك للمدرسة مبكرا اذهب لمنزل عمك المطهر» ابو عماد « واطرق بابه ثلاث طرقات متتالية ، وحينما يظهر امامك اخبره ان والدك يهديه السلام ، واننا ننتظره عند الساعة العاشرة كي يجيء « ليطهر « شقيقك . «اظن بأن هذا صوت جدتي « صوتها الذي لا يزال يطرق سمعي كمطرقة قديمة.
سليماني اذهب وانشر « الغسيل « قبل ان تبرد اشعة الشمس كي تجف ملابس شقيقك ، سنحتاجها ثانية في المساء.
سليماني ياااااااااا س ل ي م ا ن ي . يا سليماني .
من أنت ؟
انا سليماني محمود سليماني الذي استطاع النجاح في كل عام بمعدل جيد ، وتمكن من الالتحاق بالعام نفسه بكلية التدريب المهني في « وادي السير» بمنحه وتخرج منها بدبلوم صناعي بتفوق على اقرانه جميعا دون أن يكلف والديه شيئا!
انا سليماني محمود سليماني الذي عمل موظفا صغيرا بمعمل نسيج واقمشة «اتذكر اول راتب استلمته بقيمة خمس
وثلاثين دينارا « فقط ، اضعه في جيبي كاملا حتى وصولي البيت فأناوله لابي غير منقوص . يمنحني خمسة دنانير
هي مقدار أجرة الذهاب والاياب للمصنع الذي يقع في مدينة « سحاب « شرق العاصمة ، خمسة دنانير طوال الشهر وحتى استلام الراتب التالي .
بقيت في المعمل مواضبا ونشيطا حتى تمت ترقيتي لمدير مسؤول عن خط الانتاج الاول وحتى تقاعدي قبل خمس سنوات ونصف السنة .
انا سليماني الذي استجاب لرغبة والده وتزوج قريبته دون ان يراها لمرة واحدة قبل الزفاف ، فأنجب بنتا ، كبرت وحيدة حتى التحقت
بالمدرسة بالصف الاول دون ان اتمكن من انجاب سواها حتى ذلك الوقت! .
تصدت « جدتي» قبل والدي للموضوع اعني المشكلة ، واخبرتني بأنني ان لم انجب» ولدا» فهذا يعني انني لم انجب قط !
امي اكدت هذا الكلام ورددته على مسامعي كل صباح ومساء بقلق وخوف كبيرين.
وابنتي هذه من انجبها يا امي ؟
هذه ليست بِخلفه تحسب لنا يا سليماني ، فهي لن تتمكن من البقاء بجانبك طويلا .» بكره رح يجي
ابن الحلال ويخطفها على سنة الله ورسوله ياسليماني « ، ثم انها لن تحمل اسمك ، اسمك يابني . ستبقى سليماني وسنبقى نناديك بهذا الاسم
حتى مجيء « الصبي « الذي سيحمل اسمك ويشد من أزرك ، وترفع رأسك عاليا به امام الجميع ، « فالصبي عزوة يا ابني «وهو فقط من سيرثك بعد عمر طويل .!
انا سليماني الذي رزقه الله واستجاب لدعواتهم فأنجب ولدين اثنين ليرفع رأسه « رأسكم انتم» احسب ان رأسي مرفوع دونهما «
عاليا كما قالت امي وابي وجدتي والحارة برجالها ونساءها وقاطنيها.
انا سليماني الذي صار الناس ينادونه فجأة بـ « ابو غالب « ولا غالب الا الله ايها الناس لو تفكرون .
غالب اين هو ؟ منذ سنة تخرجة التحق باحدى الشركات الهندسية في امريكا وبقي هناك بعد ان اخبرنا بزواجه من زميلته ، ولم يحدث سوى ان زارنا مرة يتيمة.!
اما شقيقه فمنذ ان وصل في اجازة قصيرة من عمله في الخليج وصادف عيد ميلادي الأخير اثناء تواجده فأحضر لي هدية زعم انها ثمينة وكانت هاتفا جوالا يدعى بالهاتف الذكي ، أخبرني انه سيدربني على طريقة استعماله بعد ان وضع صورتي على شاشته الكبيرة وغاب.!
انا سليماني الذي لم يعرف الحب قط برغم زواجه وانجابه البنين والبنات ، في الواقع ابنة وشقيقين.
مر الحب من جانبي كسيل من عل ذات صباح، كنت غافيا وغافلا عنه فلم يتوقف او يلتفت نحوي او ينادي باسمي او
يرمي بإشاراته القوية في طريقي فأنهض لأحدق به واستوقفه لاحتفي به كما لو كان صديقا وصل بعد غياب طوبل وأسقيه ماء القلب ،
كأنما يعرف ان هذا ليس من شأني .
أنا الذي عشت لكم ومن أجلكم وبين ايديكم ، انا الحاضر دائماوطوع امركم.
انا سليماني الرجل الذي يوصف بـ «المعقد» والذي لا «يضحك للرغيف السخن» كما يقول الجميع .
اعرف هذا جيدا، لطالما ردده امامي كثيرون بالمنزل والعمل والحي الذي سكنته منذ ان كبرت وتزوجت ، لكني لا آبه لما يقولونه ربما لانني لا آخذه على محمل الجد.
انا هو الرجل الذي قال عنه الشاعر « اضاعوني واي فتى اضاعو/ ليوم كريهة وسداد ثغر*».
انا هو ذاك .
والآن ما يهمني هو الآن . من أنا؟ ومن هذا الذي يحدق بي بكل صلافة ولا يمل؟!
قبل قليل ، اعني .. أعني قبل سنوات قليلة مرت ، قبل عام ، قبل هذا اليوم ، قبل الماقبل .. كنت اعرفني . اعرفني باسمي ووجهي وملامحي وعينَي .
اما الآن فمن انا ومن اكون ؟ كيف اعرفني وانا لا اشبهني ، لااشبهني باسمي الذي كبرت معه وعشت
عمري كله به رغم العواصف والمفاجآت ، رغم عبثية الاقدار ، رغم ضيق ذات اليد والصعاب التي مررت بها ومرت بي وكادت
ان تطيح بي اكثر من مرة ، أنا الذي اختبرتني الحياة كثيرا الا انني لم آبه بل بقيت باسمي الذي كنت اعرفني به .
ماالذي حدث في غفلة عن كل شيء ؟ ومن سرقني مني؟
اكرر الاسم اكثر من مرة ، فيمر من سمعي ويسيل كدمعة معترضة دون ان يتوقف او يتمهل متعثرا بي ليثير شيئا ما موقفا ما كلمة ما دون جدوى.!
انا الرجل الحائر المرتبك الضائع التائه الذي يقف على الحافة من كل شيء :.
الحافة من اسمي ، الحافة من ملامحي الباهتة ، الحافة مما حولي ومما يحيط بي ويطوقني كقيد من الجهات كلها.
الحافة بين حياتين : سليماني الذي كنت اعرفه سابقا، وهذا الرجل الماثل امامي بصلعته التي تشبه البطيخة والذي اجهل من يكون . حياة لا تشبهني قط
حياة يجيدها الآخرون ببراعة.
ايتها المرآة من انا ؟ من هذا الرجل الماثل امامك بصلعة تشبه البطيخة وبملامح مجهولة وكأنها ملامح شخص
طالع من زمن قديم وسحيق . هل ستدليني علي انا الرجل الذي نسي أن يعيش ففقدتني بالزحام؟
من أنا ؟ وكيف لي ان اهتدي لاسمي ووجهي ؟
من أنت ياهذا ؟
المرآة صامتة جامدة كحجر صلد لا يلين مرت عليه شتاءات كثيرة وهو راسخ لا يتحول او يتبدل في مكانه.
«ليت الفتى حجر»* ليتني كنت أنا ذاك الفتى الحجر.!
ولأول مرة طفرت الدموع من عيني سليماني بجزع ، واخذ ينتحب بصوت مرتفع.!
رن هاتفه الجوال وهو لا يزال يحدق بالمرآة ، رن رنينا متواصلا ملحا اكثر من مرة ، رن كما لو كان أحد يتوسله بأن يرد .
لم يستطع الرد .
أخذ يحدق بالهاتف وهو يرى صورة رجل لم يتمكن من التعرف اليه ، تنفرش صورته على شاشة الهاتف وتحدق به بعينين جاحظتين وباردتين.