الكتابة النسائية نوع أدبي مرتبط بشدة ببناء الهوية ولا يمكنه الانفصال عن مسألة الجنس. عندما نتحدث عن الكتابة النسائية، فإن جملة من الأسئلة تطرح على الفور: كيف نُعَرِّفُها؟ هل توجد فعلا كتابة تسمى نسائية؟ هل يتعلق الأمر بأدب مكتوب من لدن النساء أو بأدب كتبه الرجال عن النساء؟ هل يتعلق الأمر بالطبيعة الأنثوية التي ينظر إليها باعتبارها أدنى أو على العكس بالجنس، وهو مفهوم يدافع عنه أنصار الأنوثة حتى انتهى بهم الأمر إلى فرضه على المستوى الاجتماعي والثقافي؟ ليس دائما من السهل التمييز بين «أنا» المؤنث و«أنا» بالمعنى الواسع. تحديد الكتابات بإقامة الحدود بين الجنسين يغذي أبحاثا هامة منذ سنوات عديدة. بقدر ما يحمل البحث عن إقرار هوياتي في طياته مخاطرة اختزال الأدب في نوع من التقصيب حيث توجد أجزاء الجسم كلها قد قطعت وعرضت وصنفت إلى حد أن النفَس الذي يحرك الكل ينتهي به الأمر إلى التلاشي والاختفاء، بقدر ما تمثل آثار النساء خصوصيات الكتابة النسائية. تمثل الكتابة النسائية أيضا جنسية مزدوجة كان فلوبيرت يسميها «الجنس الثالث»، حيث توجد الحدود بين الأجناس إما متجاوزة أو بدون مفعول. الكتابة النسائية بتنوعها وبعلاماتها الخاصة، تشكل مقاربة مختلفة عن العالم الإنساني وعما يروج في داخله. لا يتعلق الأمر بتجارب محكية أو لمحات من السيرة الذاتية. اللغة النسائية ليست لغة سجن الـ «أنا» (ضمير المتكلم)، إنها رؤية للـ «أنا» الذي يطبع الكتابة الذاتية بطابع خاص.
ماهي النظرة النسائية؟ كيف هو العالم تحت النظرة النسائية؟ كيف تنظر المرأة إلى الآخر؟ كيف تعبر عنه؟ وكيف تمثله وكيف تعلق عليه؟ ما هو تعريف الكتابة النسائية؟ ما الذي تعتقده النساء الصينيات الكاتبات بخصوص هذه الكتابة النسائية؟ هذه بعض الأسئلة من بين أخرى عديدة لا يتوقف العالم الأدبي الصيني عن طرحها.
تظهر هذه الأسئلة جيدا بأنه يوجد اليوم ما يبعث على الارتياب في التأويل الذي يقدم على الفور النماذج الذكورية باعتبارها كونية. هذا لا يعني بأن الكتابة النسائية أكثر تقلبا قياسا بالكتابة الذكورية، فهي ليست لا أشد تركيبا ولا أكثر إشكالية. يتعلق الأمر بالأولى بنظرة مختلفة. إذا كانت شَّانْغ نِيشَان مؤلفة رواية «فتاة كلاسيكية» وتشَانْغ جِينْجِين مؤلفة رواية «توزيع الأدوار» تتساءلان مع نفسيهما عن درجة انتمائهما للشرط النسوي، فإن تَّشَاي يُونْغ مِينْغ تستخف من تعريف الأدب النسائي بناء على المفهوم التراتبي للتمييز القائم على الجنس:
لست نسوية، أتحدث إذا عن أدب “نسائي” ممكن. مع ذلك، فإن المكان المُحَيِّر الذي يحتله الأدب النسائي يتأتى من كون أنه يوجد بالفعل مفهوم تراتبي للتمييز بناء على الجنس. النقد الذي يتناول “الشعر النسائي” لا يتجاوز نفس التمييز بالمعنى السياسي للكلمة. بحسب تجاربي الخاصة، كما قالت كاتبة أمريكية، «وحدها الأعمال التي تعالج بوضوح مشاكل الجنس المؤنث تناولها التحليل» [1].
جاء الأدب النسائي إلى الوجود بفضل حركة «الأدب الجديد» (1917) تحت تأثير رواية «بيت الدمية» لإبسن (1828 – 1906). رواية بينغ شين (1900 – 2000)، «عائلتان» تعد العمل الرائد في الموضوع بلغة البَيْهَوة (لهجة صينية). هناك أربع مراحل وثلاثة مواضيع يتعين تمييزها من بعضها البعض: حقوق المرأة، المرأة والثورة، المرأة والرجل. تحدد هذه المواضيع الثلاثة خصوصيات كل واحدة من المراحل الأربع المذكورة. المرحلة الأولى (1917 – 1927): حقوق المرأة، المرأة كائن إنساني، إقصاء الشيئية عن المرأة، وهي مرحلة تشكل فترة ازدهار الـ «أنا» (ضمير المتكلم) وانتشار الذاتية الرومانسية ومعالجة المشاكل الاجتماعية. يسمى هذه الإنتاج الأدبي «بيت الدمية» (1879) باسم رواية هنريك إبسن التي استلهمت كنموذج، وهي مرحلة «الكتابات الإشكالية». كاتبات هذه المرحلة هن: بِينْغ شِين، لُو يِين، تِشن هُونْغ زْهِي، فِنْغ هُوان يُون، شِي بِينْغ مي، سُو شِيُويِه لين، لينغ شوهوا، باي هُوي. تتسم كتابتهن بتوسل أسلوب رقيق جدا، عاطفي وشاعري مع ميل واضح نحو اليوميات الحميمية والرسائل التي تستعمل الـ «أنا». الشخصيات النسائية تريد أن تعيش بشكل مختلف.
المرحلة الثانية (من نهاية العشرينيات إلى 1940): المرأة والثورة. يتعلق الأمر في الواقع بصراع بين الحب والثورة. كان يتعين الاختيار، لأنه من المستحيل الحصول على الإثنين معا وفي نفس الوقت. وهو ما عالجته بوضوح دينغ لينغ في روايتها «ربيع 1930 في شنغهاي». على المرأة أن تختار، إما أن تضحي بالثورة من أجل الحب أو تضحي بالحب من أجل الثورة. بهذا المعنى فإنها لا تختلف عن نظيرها الرجل، المرغم هو الآخر على الخضوع لضرورة الاختيار. شيه بينغ يينغ كتبت تقول: «معيشي في هذه الحقبة الكبيرة، أنساني كوني امرأة، لم أعد أفكر أبدا في المشاكل الشخصية، كل طموحي كان ينحصر في التضحية بوجودي من أجل الثورة» [2]. الالتزام الأدبي يخنق كل الفوارق في كتابة تتحكم فيها الأيديولوجيا.
تطور مستوى التقنية السردية، بدأ يتجلى مع نهاية العشرينيات. بدل الأسلوب الرومانسي ظهر سرد واقعي، موضوعي، مجرد في غالب الأحيان من الغنائية. حل العالم الخارجي محل الفضاء الداخلي، تنازلت ذاتية ضمير المتكلم بصيغة المفرد «أنا» عن مكانها لضمير المتكلم بصيغة الجمع «نحن» وللأحداث التاريخية. الوعي السياسي والإيديولوجي انتصر على الوعي الأدبي. في خضم هذا الالتزام الثوري، لم يعد هناك فرق بين الرجال والنساء. وأن ما يهم في المكتوب هو أن يعكس صورة الطوباوية الأرضية. «الشمس تسطع فوق مياه نهر سنغان» من تأليف دينغ لينغ و«القوة الأصيلة» من تأليف تسَاو مينغ تقدم أمثلة بليغة في الموضوع. انتهى الأمر بالـ «أنا» المتوجه نحو الخارج الثوري إلى الانصهار في «نحن».
ولكن في السنوات الأخيرة من العشرينيات، لم تكن النساء الكاتبات تشتغلن جميعا من أجل تحقيق الطوباوية. خلال الأربعينيات، في المدن الكبرى التي كانت تحت الاحتلال الياباني، كان البعض منهن مثل زْهَانْغ أيْلينغ وسُو تْشِينْغ في شنغهاي لا زلن يدافعن بشراسة عن التعايش الصعب بين الرجال والنساء. أصدرت سو تشينغ في 1944 رواية عبارة عن سيرة ذاتية «عشر سنوات في بيت الزوجية». غادرت البطلة زوجها كما يحدث ذلك في رواية «بيت الدمية» لتعيش حياتها لذاتها. أعيد طبع هذا الكتاب إحدى عشرة مرة في بضعة أشهر. تفاصيل صغيرة كاشفة: المشاكل بين الرجل والمرأة، تظل على الرغم من الثورة، الموضوع الرئيسي بالنسبة للقارئ الصيني. كذلك الأمر بالنسبة لرواية الكاتبة يُو رُو «الحب البعيد» التي حققت نجاحا كبيرا في المدن التي كانت تحت مراقبة الحزب الوطني. تدور أحداث الرواية حول امرأة مثقفة في حالة تمرد على حياتها الرتيبة وعلى عالم الـ «أنا الصغير». امرأة لم تتوقف عن الهروب بحثا عن حياة توفر لها طموحا حقيقيا ومثلا أعلى مرتبطا بالجماهير.
بعد ذلك بقليل، من بداية الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات، سيحكم الأدب الملتزم بالصمت على كل ذبذبة مهما كانت للكتابة النسائية. إنها المرحلة الثالثة وهي مرحلة فارغة أو تكاد.
رواية تْسُونْغ بُو «الفاصوليا مُونْغ»، رواية يَانْغ مُو «أغنية الشباب»، رواية رُوزْهِي جُوان «زهرة الزنبق» التي نعتت في وقتها بأنها ذات أسلوب برجوازي صغير هي من بين الإصدارات القليلة جدا التي أثارت الانتباه في هذه المرحلة. الجوقة الضخمة لضمير المتكلم الجماعي «نحن» أغرقت الصوت النسائي الذي لم يعد يسمع إلا قليلا.
المرحلة الرابعة (من 1978 – إلى الوقت الحالي): تنعب بـ «الحقبة الجديدة» وهي المرحلة التي سجلت ميلاد ضمير المتكلم «أنا» من جديد. بدأ الحديث مرة أخرى عن كتابة نسائية، بحيث أن الكاتبة تشانغ جي، مثلا، دافعت عن فكرة مفادها أن المرأة ليست جنسا ولكنها كائن إنساني، وكان لكتاباتها صدى واسع. إلى جانب تشانغ جي، نجد دَاي هُو يِينْغ صاحبة رواية «أيها الرجل، الرجل»، شيانغ مؤلفة «تضحية القلب»، لو شينغر صاحبة «أيها الطائر الأزرق» وشانغ نيشان مؤلفة «فتاة كلاسيكية».
في الواقع، لا يبتعد الأدب النسائي في الحقبة الجديدة، لا عن الذاتية الرومانسية ولا عن الواقعية الملتزمة. ولكن الذاتية التي يقول بالانتماء إليها لا تقف عند حدود الدائرة الرومانسية لضمير المتكلم «أنا». عالم الـ «أنا» أكثر تعقيدا، عالم متشظ ومطمور. الـ «أنا» لا يواجه فقط المشاكل التقليدية، زواج، عائلة، مكانة اجتماعية، حقوق المرأة، بل يحتك أيضا بالمحرمات في المجتمع، خاصة العلاقات الغرامية المثلية. رافقت هذا التطور بشكل مواز ظهور شخصية «المرأة البطلة». بدأت الكتابة تكتسي بعدا ذكوريا قويا. هؤلاء النساء لم يعدن يعشن من أجل الثورة، لا ينخرطن في المعركة الأيديولوجية باسم الوطن؛ إذا حصل وأن انخرطن في شيء فذلك لإسماع صوتهن، لكسب مكانتهن في المجتمع. يتطلعن إلى مجتمع يعيش في ظل المساواة.
حملت تيارات متوالية هذا الأدب إلى واجهة المشهد. أولا، منذ 1979، واجهت تشانغ جي [3]، بروايتها «علينا ألا ننسى الحب» (1979)، موجة نقد عنيف وهو نقد لم يفقد من حدته وعنفه شيئا إلى اليوم. مست هذه الرواية نقطة حساسة: بعد فترة طويلة من إضفاء طابع سياسي على الحب وعلى الزواج، كيف يمكن أن نعيش بشكل طبيعي مع الحب؟ في بلد مثل الصين الذي ينظر فيه إلى الطلاق نظرة سلبية بشدة، ومع ذلك فإن حالات الطلاق في ارتفاع متزايد. كيف تعيش المرأة الصينية هذا التحول؟ كيف ترتب أمورها إزاء التعاقدات الاجتماعية؟ في روايتيها الأخريين «الزمرد» (1984) ثم «الفُلك» (1982) تقف الكاتبة (تشانغ جي) عند الإكراهات التي تواجهها المرأة العازبة، وبأي طريقة يضطرها حبها إلى تجاوز ذاكرة تاريخية مؤلمة. نفس الموضوع تمت معالجته بعمق من لدن زهَانْغ كانْغ كانْغ [4]، في روايتها «شفق القطب الشمالي».
واجهت الكاتبتان معا المشكل الأساسي الذي تواجهه النساء الصينيات في الوقت الحاضر، الحق في الحب والحق في الطلاق، أي استقلالية المرأة. هذا هو الجانب الأساسي في الأدب النسائي الصيني المعاصر. صحيح أن هذا الموضوع كان حاضرا أيضا بقوة في الكتابات الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين، ولكن معاودة تناوله اضافت إليه بعدا جديدا لم يكن حاضرا عند كاتبات المرحلة السابقة. لا يتعلق الأمر بزوجين شابين قضمت رتابة الحياة اليومية حبهما لبعضهما، مثل ما نجده في رواية لو شيون «اختفاء الحزن» (1925)، ولا بحالة فتاة يعذبها الحب وتحترق بنار رغبة لقاء الحبيب، مثل ما نجده في اليوميات الحميمية للآنسة صوفي (1928) للكاتبة جينغ لينغ (1904 – 1986)، وهو الكتاب الذي جاء ليعلن نهاية المرحلة الأولى من الكتابة النسائية، ولا بحالة الفتاة المغرمة بالزهرة الثورية في رواية «مانلي» للكاتبة بُو يِين (1898 – 1934). الفتاة التي تعيش في «حقول الحياة والموت» (1935)، للكاتبة تشياو هونغ (1911 – 1924)، لم تعد تشكل النموذج بالنسبة للكتابة النسائية.
في هذه المرحلة الجديدة صار يتعين على الصينيات الدخول في مواجهة مزدوجة مع «الأنا» (أحد الأنظمة الثلاثة للشخصية في النظرية الفرويدية) ومع المجتمع. لم يعدن يطالبن بالحق في الحب فقط، ولكن أيضا وعلى الخصوص بالحق في الطلاق وكذلك بمكانة تضاهي تلك التي يتمتع بها الرجل في المجتمع. هذا المطلب المتعلق بالمساواة يطبع بقوة الكتابات النسائية في العقدين الأخيرين.
تشانغ جينجين (1953 -) كانت أول كاتبة تباشر التحدي بروايتها «على نفس خط الأفق» (1981). المكانة التقليدية المخصصة للمرأة كانت هي أن تكون «مساعدة طيعة داخل المنزل». ولكن اليوم مع دخولها إلى الحياة المهنية، كيف يمكن التوفيق بين الواجبات العائلية والزوجية والضرورات المهنية؟ تصف الرواية هذا الصراع الذي انتهى به الأمر إلى تفكيك الحياة الزوجية. الجانب الثاني في الكتابات النسائية لهذه الفترة: المطالبة بالحق في الحصول على مرتبة في المجتمع تساوي المرتبة التي يتمتع بها الرجل. في العالم الروائي للكاتبة تشانغ جي (1937 -) تنتهي معركة النساء بحل مستنير. يجد القارئ ما يطمئنه في انتصار الشخصية النسوية في حياتها الصعبة. أما في كتابات أخرى مثل «جنون الذئاب»، على «طول القناة الكبيرة»، «توزيع الأدوار»، فإن مشكل المرأة في المجتمع الصيني يظل مشكلا معقدا بشدة.
تمت معالجة نفس الموضوع بشكل مختلف من لدن تْشين رونْغ (1936 -) في روايتها «عندما نصل إلى متوسط العمر». ترزح المرأة المثقفة تحت ثقل الإكراهات الاجتماعية والعائلية. لا يمكنها أن تتنفس بحرية. ما يثير السخرية لدى هذه الشخصية النسائية المثقفة والمستقلة التي تظهر في روايتها الأخيرة «سئمت من تكرار الطلاق»، هو كون أن البطلة، دائما مثقفة، تعيش من دون حب، لم تعد تشعر بأي شيء. تعيش في غياب تام لكل شكل من أشكال المشاعر. نجد أنفسنا بعيدين تماما عن النهاية السعيدة والقارئ لا يرى ما يمكنه أن يوفر الحل للمشكلة.
نفس النهاية نجدها في روايات وَانغ أَنْيي (1954 -) [5]. الوعي النسائي الذي يطالب بالاستقلال ينتهي به الأمر بالضرورة إلى تحقيق النصر المنتظر، ولكنه يخرج منهزما في مواجهته للدورين الآخرين، دور الأم ودور الزوجة، في رواية «سباق الأيل في وسط الشارع».
تنتمي هذه الوجوه النسائية بحسب بعض النقاد إلى النموذج التقليدي، نموذج المرأة البطلة التي انخرطت وهي فتاة في الجيش في مكان والدها وأبلت البلاء الحسن في المعارك قبل أن تعود من جديد لممارسة مهامها في المنزل. نقف على هذه الحكاية في تأليف قديم بعنوان: «تقاسيم قصائد للغناء بين الأمس واليوم» وهو كتاب يعود لعهد أسرة نانشاو التي حكمت في القرن الخامس الميلادي ويتحدث عن شخصية نسائية تتوفر فيها كل الخصال الحميدة المطلوب توفرها في امرأة من عقل ووفاء وإخلاص وتفاني في خدمة العائلة. الروايات النسائية في الثمانينيات، لا زالت تستلهم هذا النموذج لامرأة «تلبس قناع كائن إنساني لا جنس له» [6]. في الروايات التي ذكرت سابقا وفي روايات أخرى كثيرة من هذه الحقبة، تظهر الشخصية النسائية بمظهر «المرأة الخارقة للعادة»: امرأة ذكية وواعية تماما بضرورة اقتسام الفضاء الاجتماعي مع الرجل وتتكلم نفس لغته. تترجم الكتابة هذه الإرادة في تحقيق المساواة: إنها كائن محايد جنسيا أو ذو طبيعة ذكورية. لم يعد الأمر يتعلق بالصورة التقليدية للوجه المحجب جزئيا.
إلى جانب الشخصية النسائية المثقفة و«المحايدة جنسيا»، نجد صوتا آخر يرتفع إلى السمع، صوت امرأة ترفض أن تعتبر كشيء خاضع لسطوة الغير. لا يتعلق الأمر بالمقارنة مع الرجل ولا الدخول معه في صراع من أجل مكانة اجتماعية. الحل هنا يوشك أن يكون حل الحد الأقصى. عندما يتعرض كائن بشري للإذلال إلى أقصى حد في مواجهة محاولات تشييئه واختزاله في كائن مجرد من ملكة التفكير، هل له الحق في اختصار حياته وليس فقط مواجهة محاولات التطويع؟ يتعلق الأمر بامتلاك حق المرء في تقرير مصيره الخاص به. تمت معالجة هذا المشكل في رواية تسونغ بُـو (1928 -)، «من أنا؟» نوجد الآن في البدايات الأولى للثورة الثقافية. منيت الشخصية النسائية «واي مي» وزوجها «مونغ وين» بهزيمة نكراء على يد الثوار. في المعتقل منعوا من إطالة شعورهم أو كان الحراس يحلقون لهم نصف رؤوسهم ويعفون النصف الآخر. «مونغ وين» لم يعد في مقدوره تحمل كل هذا الإذلال المتواصل وقرر الانتحار، أما زوجته «واي مي» فأصيبت بالجنون. سؤال مؤلم ظل يقض مضجعها «من أنا؟». كانت ترى هياكل عضميه، أفاعي، حشرات، عقارب تقرض أجساد آدمية، تقرض، في الواقع، الخاصية التي تقوم عليها إنسانية الإنسان … انتهى بها الأمر هي الأخرى إلى الانتحار في نهاية المطاف.
في روايتها «يا رجل، رجل» (1980)، تنتقد دَاي هُو يِينْغ بعنف الإيديولوجيا التي باسم الخير، تسحق النفس الإنسانية، مما كان سببا في إثارة سجال قوي حول النزعة الإنسانية في العالم الأدبي الصيني مع بداية الثمانينيات.
تعد تيي نينغ المزدادة في1957 ببكين، الكاتبة الأصغر سنا ضمن الجيل الأول من كتاب ما بعد الثورة الثقافية وتهتم حصريا بمعاصريها. بأسلوب بارد وحاد، تعرض مشاهد صراعات بين التقاليد والعقل الحديث، العالم المتحضر والعالم البري، الرغبة في الاستقلال والحياة في ظل التبعية. تشبه إلى حد ما جان جاك روسو، في حساسيتها لسيرورة الحضارة التي ترى فيها مصدر محن ترزح تحت وطأتها النساء. وحدهن الشخصيات الروائية النسائية اللائي لم تلوثهن الحضارة بعد، مثل شانغ كْسُو في رواية «يا شانغ كسو»، دازهينْيانغ في رواية «أكوام تبن القمح» في إمكانهن تذوق معنى الراحة والطمأنينة. حال مشابهة خضعت للدراسة في رواية «باب الورد». يتعلق الأمر بشخصية نسائية «سِي قْوِين» مستعدة، مهما كان الثمن، لتحمل أعباء العائلة والاندماج المهني في المجتمع، ولكن مجهوداتها لم تسفر عن أي نتيجة أخرى غير تحولها إلى امرأة باردة وقاسية.
هذه هي الخاصية الأساسية التي ميزت الأدب الصيني في هذه الفترة. ذاتية الـ «أنا» تقوم على التاريخ والذاكرة والأحداث.
هناك سمة مميزة آخرى: الواقعية، ما ينعته النقد بـ «الواقعية الجديدة»، أو «كتابة الصفر». تذكر في غالب الأحيان بهذا الخصوص أسماء الكاتبات فَانْغ فَانْغ، شِي لي وشُو مين.
أصدرت شُو شِياو بِين (1951 -) في 1989 رواية «بحث عن مريضة بالجنون». وصفت فيها الأوهام الهذيانية لفتاة وهي رواية أحدثت عند صدورها رجة قوية في صفوف النقاد من أتباع النقد الكلاسيكي. في رواياتها اللاحقة، «البستان الثمل»، «برج الحوت»، «القصة القديمة لامرأة مع ثلاثة رجال»، ذهبت بعيدا في كتابتها التي تتسم بأسلوب غامض وتأملات عميقة. يبدو أنها تركز على ما هو مجهول وخفي في القلب الإنساني، في مصير الشخصية وفي الحضارة التي تعيش فيها.
ولدت تشي زجيان (1964 -) بمدينة مُوهِي بإقليم هِيلُونْغ جِيَان. هذه المنطقة الواقعة في شمال الصين وفرت لها فضاء روائيا رحبا ومناسبا. تدور أحداث رواياتها غالبا في هذا الفضاء الشتائي الفارغ والبارد الذي تؤثثه حكايات الفلاحين والتقاليد ومشاهد الحياة اليومية التي تتوالى على إيقاع جريان هادئ ورتيب لنهر طويل، ولكنه هدوء خانق. أعمالها الأكثر شهرة: «عند جذع الشجرة»، «رنين الجرس عند الغسق»، «حكايات قرية في القطب الشمالي»، «سفر نحو النهار»، وهي روايات تقترب في أسلوبها وفي طريقة معالجتها للأحداث من كتابات شياو هونغ وهي كاتبة من الثلاثينيات (1930).
شُو كُونْ تستغل نفس العرق المعدني، ولكن بشكل مختلف تستعمل الأسلوب الشفوي والشعبي المليء بالفكاهة والسخرية. ربما هي طريقة لكي يحافظ الراوي على مسافة معينة مع واقع الأحداث. هذا التباعد يجعلنا نستحضر بيرتولد بريخت (1898 – 1956) الذي كان يتطلع إلى إيجاد مسافة فارغة بين الممثل والمشاهدين. يلاحظ ذلك على الخصوص في «الطلائع»، «الكلمة البيضاء» و«تجليات».
هناك جماعة أخرى من النساء الكاتبات يشتغلن بالأساس على الخطاب الشخصي. يتعلق الأمر بخطاب مطبوع بالتشظي، يستلهم التجارب الشخصية الأكثر حميمية ويقوم على الحوار الداخلي لـ «أنا» منغلق على ذاته ويعيش في عالمه الخاص به.
إذا كانت كتابة كَانْ شُويِه تعتبر «شبه شخصية»، فإن كتابة تْشُن رَان (1962 -) [7] تشكل عالما شخصيا بشكل تام. في روايتها «مرض القرن» حاولت هذه الأخيرة استكشاف حياة الطلبة في الوقت الحاضر وسبر مزاجهم. في 1990، انكبت بروايتها «قطيعة تامة مع الماضي»، على تجارب نساء يقمن في المدن الكبرى. تصف بأسلوب مباشر ودقيق الحياة الداخلية للنساء المثقفات العازبات. يعرض الـ «أنا» في الرواية أحاسيس النساء العازبات والجروح التي تسبب لهن فيها زواجهن الفاشل وضجرهن من الحياة داخل المجتمع. نجحت تْشُن ران في إبداع «كتابة شخصية» في هذه الرواية. يتحول السرد في السيرة الذاتية إلى خطاب حميمي بشدة، حميمية موزعة بين الراوي والمؤلف. إحدى رواياتها الأخرى «الحياة الشخصية» هي عبارة عن حوار داخلي رهيف بشدة للـ «أنا» المتمرد على ذاته وعلى العالم الخارجي. الشخصية الرئيسية نِي أَوْأَوْ، هي فتاة تميل لحياة عزلة، عنيدة وحساسة جدا، لا تعيش إلا في عالمها الداخلي. ترفض بشكل تام العالم الخارجي، تعادي كل وعي جماعي وكل دلالة يمكن أن يحملها ضمير المتكلم الجماعي «نحن»
تصف نفسها بـ «الكائن العاجز في عصر عاجز». السرد الدقيق والهذياني عن تجارب لهذه الفتاة الشابة يجعل من الكتابة، كتابة شخصية جدا ومزعجة للنقد على الخصوص. تغرق الرواية في عالمها، عالم الحواس والرغبة، رافضة الكذب ورافعة لكل الأقنعة عن حياتها الخاصة.
هذه الكتابة الخصوصية تأخذ منحى شخصيا بشدة (تصبح أكثر فضائحية) عند لين بَاي [8]. في روايتها «حرب اليد الواحدة»، تحكي الروائية عن الحياة العاطفية لفتاة تدعى دْيُومِي التي عانت بشكل فضيع في عالم يتحكم فيه الرجال، تنقلب نحو ذاتها وتنغلق في عالمها الخاص، تعشق نفسها. هذا النوع من الحب غير العادي، الوصف الطبيعي لتجاربها الجنسية وعذابها النفسي أثارت انتقادات حادة وصخب كثير في الساحة النقدية. مع ذلك، فإن المؤلفة تكتب في مستهل الرواية قائلة:
«حرب اليد الواحدة تعني أن يدا تقاتل نفسها بنفسها، أن الذات لا تتوفر إلا على جدار واحد كملاذ وأن الزهرة تدمر ذاتها بذاتها. حرب اليد الواحدة تعني أن فتاة تزوجت ذاتها».
الشخصيات الروائية عند لين باي هن فتيات مناضلات، توجد في حالة صراع دائم مع الرجال الذين يحتلون مركز المجتمع، في صراع مع الحياة اليومية المبتذلة بشدة في نظرهن. في رواياتها «لا يمكن الانفصال عن الحبيب»، «احكي»، «الغرفة»، «الرصاصة تخترق التفاحة»، تدور رحى هذه الصراعات في العالم الخصوصي للفتاة وبعنف داخلي لا يحتمل. إنها تراجيديا النساء في الوقت الراهن، تراجيديا الـ «أنا» وجها لوجه مع ذاته وفي مواجهته لتجاربه الحسية. تُلتقط هذه التراجيديا في آنيتها وتتطور في دوامية السرد.
روايات شَان رَان ولِين بَاي تشكل عالما من التجارب الشخصية. إنه عالم الـ «أنا» وجها لوجه مع ذاته. منظور الراوي مستبطن، العالم الخارجي لا يعدو أن يكون ذريعة للسرد. زمان الحكاية يجد له موقعا في هذا الفضاء الداخلي، ويتعلق الأمر بزمان خارج الزمان. تصبح الذاكرة ذاتية بشكل حاد، وهو ما يفسر هذه الكتابة المتشظية والمتناثرة. أليس هذا العالم هو أيضا الطوباوية التي أنشأها الـ «أنا» النسائي؟
هذا التشظي السردي يميز كذلك كتابات هَاي نَان [9]. في روايتها «أحبائي» تتخلل السرد حوارات، ذكريات عن الأموات، رؤى لـ «أنا» في حالة فوضى. لا وجود عندها لنساء يلقى بهن في القبر بسبب الحب الخياني، النهاية الروائية التقليدية. موت الشخصية لا يأتي كنتيجة لعلاقاتها الغرامية. هذا الجانب الرومانسي في الروايات الصينية الكلاسيكية وروايات العشرينيات (1920)، والذي يتطابق مع نموذج الروايات الغربية الكلاسيكية (روميو وجولييت لشكسبير، الموت في حالة حب لتيوفيل غوتيي أو غادة الكاميليا لألكسندر دوما)، اختفى عند الكاتبات الشابات الصينيات في الوقت الحاضر. لم تعد المرأة تثق لا في الدموع ولا في الوعود، تعيش حياتها لذاتها. تتبع مشاعرها من دون أن تترك نفسها عرضة للإهانة والإذلال. الروعة كل الروعة في لقاء. العلاقات الغرامية تقوي عقلها، إنها كما تريد لنفسها أن تظهر.
نشرت زْهَاي يُونْغ مِينْغ في 1984، قصيدة شعرية طويلة بعنوان «المرأة». نجد فيها امرأة تكتفي بذاتها. مشهد طبيعي لا ينضب «لا حكاية إلا حكاية النفس، لا غنى إلا غنى النفس» (سان جون بيرس). في 1985، نشرت قصيدتها الطويلة الثانية، «قرية جَنْغَان»، حيث يتجذر قلق الشباب في التربة القديمة والزمان المتكرر. في أعمالها الشعرية الأخرى، «المرأة»، «رسم الموت» (1987)، «ما ننعته باسم الكل» (1988)، «ألوان في ألوان» (1989)، يعود بإصرار رمز الليل الذي هو خزان العلامات القمينة بتجسيد هذيان نفس المرأة، استبطان العالم يمر عبر تقمص وتجلي الـ «أنا» الأنثوي. يجسد في نفس الوقت المسافة بين الـ «أنا» (ضمير المتكلم) و«الأنا» (أحد الأنظمة الثلاثة للشخصية بحسب النظرية الفرويدية)، وحده تقمص القول الشعري يمكنه أن يجعلهما في حالة تواصل. لا يلج الـ «أنا» ابدا إلى الأعماق البعيدة إلا عندما يكتب. الصور الخارجية لا تعدو أن تكون حينها إلا ظلالا للصور الداخلية.
يمكن أن نربط بهذه الحساسية امرأتين شاعرتين أخريين: يتعلق الأمر بكل من تَانْغ يَايِينْغ بديوانها «صحراء الرمال السوداء» ويِي لِي بديوان «غرفة نوم امرأة عازب». الأولى كما الثانية لديهما وعي قوي بانتمائهما إلى جيل نساء الوقت الحاضر، وهو ما يجعلهما تختلفان عن تشانغ جي وعن نساء جيلهن. نموذج القصيدة الصينية القديمة هوامولان (امرأة شجاعة تلبس قناع رجل، مستقلة أو تطالب باستقلالها)، يصبح نموذج امرأة تسكن في عالمها الداخلي، عالم الحب والتجارب الحسية. إنها امرأة قبل كل شيء. إنها في طريقها للبحث عن لغة تكون خاصة بها وبعيدة كل البعد عن اللغة التي يهيمن عليها حضور الرجال.
نوجد اليوم في حقبة حيث مآسي الحياة تغيرت، حقبة مطبوعة بشكل واضح بتجارب المنفى، بالكتابة المتنقلة، اللغة كما الكتابة هي فضاء عائم بالنسبة للذي يكتب لأجل قارئه الداخلي ومراوغ بالنسبة للـ «أنا» الأشد حميمية والأشد بعدا. يتعلق الأمر بتجربة منفى مزدوج، منفى داخلي ومنفى خارجي على مستوى الذاتية والكتابة. يمكن أن نحدد كتاريخ لبداية هذه المرحلة نهاية السبعينيات (1970).
في التسعينيات (1990)، تناولت الكاتبات الصينيات اللائي غادرن البلاد موضوع المنفى المزدوج من زاوية مختلفة. عندما لم يعد لآلة الدولة لبلدهم الأصلي وجود في فضاء حياتهن، عندما يوجد «الخصوم» السياسيون والاجتماعيون والأخلاقيون اللائي كن يقاومن بكل ما أوتين من قوة بعيدين حتى تتاح لهن إمكانية مواجهتهم جسديا، عندما تتلاشى الحدود الوطنية، كيف يعشن حياتهن الجديدة؟ كل واحدة منهن توجد مباشرة وجها لوجه مع ذاتها ومع مشكل المحيط اللساني. هذه المواجهة المزدوجة هي الاختيار الأشد قساوة. لا يتعلق الأمر بالمقاومة البطولية للعالم الخارجي. كيف يمكن معرفة من الآن فصاعدا، بأي شكل سيكون المخرج من هذه المواجهة بين الـ «أنا» و«الأنا»؟ المنفى الخارجي يؤدي إلى منفى آخر، أشد خطورة، منفى في داخل الـ «أنا» (ضمير المتكلم).
يصبح هذا المنفى لا يطاق عندما يمس حتما مشكل اللغة. اللغة التي تم ابتكارها وصيغت وفق الحدود السياسية والقومية لم تعد ملائمة للتعبير عن تجربة جديدة من هذا النوع. تحاول النساء الشابات الكاتبات قلب ديكتاتورية هذه اللغة المحصورة بالبحث عن علاقات جديدة بين الدال والمدلول. ولكن الحدود لم تختف، كما نعتقد ذلك عادة، إنها هنا، بين بلدها والبلدان الأخرى، بين لغتها الأم واللغات الأخرى، بين الـ «أنا» و «الأنا». المنفى الخارجي يترتب عنه حدوث منفى داخلي. إنه ثمن الحرية. هؤلاء الكاتبات يدركن بأن الشعور بالحرية هو في نهاية المطاف خفة لا تطاق، لا تطاق لأن لغتهن الأم تعاني من هذه الحرية، تعيش في المنفى، في لقاء لغة أخرى أو لغات أخرى، ويترجم هذا في الكتابة بانزياح خطير. اللغة لها حدودها الخاصة بها وهي مرتبطة بشكل وثيق بحدود الدولة. كيف يمكن أن تحافظ على ذاتها في هذا المنفى، عند حدود عدد من الفضاءات الثقافية؟
لِيُو سِيُولا معروفة بروايتها «ليس أمامك اختيار آخر». عاشت أولا في لندن قبل أن تنتقل للاستقرار في الولايات المتحدة الأمريكية. ألهمتها لندن رواية غير عادية «هُونْدُون جِياليجْ لينْغ» [9] دونت فيها تأملاتها عن هذه الحرية التي طالما تلهفت لمعانقتها عندما كانت في الصين، عن التاريخ الثقيل لبلدها، عن اللغة التي لم تستطع التخلص منها. تناول النقد عن هذه الرواية باعتبارها ما بعد حداثية. وراء السخرية والفكاهة، تستشف خيبة أمل كبيرة إزاء فكرة الحرية ونقد حاد للتقاليد الصينية. شخصية هْوانْغ هَاهَا غادرت الصين لتلتحق بلندن، تنازلت عن ذاكرة الثورة الثقافية ولكن من دون أن تفلح في نسيانها. لا تشعر بالارتباط بأي بلد، ولكنها في حاجة للغة الصينية، لغتها الأم. الأسوأ في كل ذلك أنها لا تستعمل إلا كلمات اللغة العامية، الكلمات الأكثر فحشا من تلك التي تستعمل في شوارع بكين. كانت تعتقد أنه بإمكانها أن تصبح مواطنة كونية، ورغم أنها سقطت في حب شاب إنجليزي، لم تكن لها من رغبة إلا تلك التي تتعلق بقراءة رسائل العائلة التي تبعث إليها بها من بكين ولا تتوقف عن الحلم بـ «رجل بكين» الذي يعود تاريخه إلى ما يزيد عن 690 ألف سنة والذي تم اكتشافه في 1927 بمنطقة زْهُوكُودْيَان، على مقربة من بكين واختفى في الثلاثينيات (1930) خلال الحرب الصينية اليابانية. سمح هذا الأسلوب الشعبي للروائية باختبار مرونة اللغة الصينية.
في قصتها القصيرة «حلم جنة عدن» (1992)، لا تتردد لِيُو سِيُولا في خلق صراع بين الحب والحضارات. ترفض البطلة أن تكون خليلة أديم وتفضل الذهاب بحثا عن الحب الذي حلمت به في شخص أعطته من الأسماء زْهِي (الذي يعني الظهور). هل يتعلق الأمر بروح أو بإله؟ ليس لذلك أهمية كبيرة بالنسبة لنا. ما هو مؤكد هو أنها ليست لا امرأة ولا رجلا، كائن محايد جنسيا على الأقل في الرواية. ينتهي الأمر بالفتاة بالتحول إلى صخرة في حُجْر أمها. رمزية معاصرة جدا للكائن الإنساني الذي يتحول إلى جماد.
صورة الصخرة هذه، تظهر في كتابات يُويُو: «الصخرة تصرخ صرخة حادة» (1991)، «لا شيء يقال» (1991)، و«صخرة طائرة» (1993). الصخرة الطائرة مقدسة، لا تخضع لقانون الجاذبية. تطير في الهواء، تسافر مع الـ «أنا» المؤنث في الحب. فجأة يتمزق الـ «أنا» في حالة غضب شديد وحاد لتبدأ رحلة السقوط المروع. سقوط الـ «أنا» والتحليق بدون جاذبية يشكلان وجهان متناقضان. مصير المرأة شكل موضوع وصف رصين ودقيق. في روايتها الأخرى «هُوانْكْسِي هُوكْسِي» (1993)، تحكي يُويُو عن الارتباك السيكولوجي الذي يتسبب فيه المنفى. أين أوجد؟ برفقة العائلة؟ اللغة الإنجليزية التي يسمعها الـ «أنا» تجعله يفهم بأنه يوجد خارج سياق لغته الأصلية، إلا أن اللغة الصينية التي يسمعها في نفس الوقت تعيده إلى سياق ثقافته الخاصة. يتأرجح الـ «أنا» هكذا، بين سياقين لسانيين. اللغة التي يسمعها تبعث فيه حنينا عميقا، هل يتعلق الأمر بالصينية المندرينية، أو بلهجة من اللهجات؟ الـ «أنا» لا يعرف، وإن كان يفهم كل كلمة إلا أنه غير قادر على إدراك معنى الخطاب. يوجد في حالة فريدة: لا يتوفر لا على علامات استدلال ولا على مرجعية لحفظ هويته. المنفى الجغرافي (الخارجي) يرافقه منفى يصعب تدبيره، منفى اللغة. هوية الـ «أنا» تضيع في هذا المنفى المزدوج. أين توجد هذه الهوية؟ لا توجد لا في الـ «أنا» ولا في مكان محدد. لا توجد في أي مكان، إنها في يد الـ «أنا» الذي يوجد على استعداد للرحيل في أية لحظة، ويقول مع نفسه «في إمكانك الذهاب إلى كل مكان مع عائلتك في اليد» [11] تحدث غَاو كْسِينْغْ جِيان (حائز على جائزة نوبل، 2000) عن العذاب الذي يعاني منه الكتاب الصينيون في المنفى. عندما سئل عن العلاقة التي يقيمها مع اللغة، كان جوابه أنه يوجد في حالة تفاعل مع اللغة: يتكلم اللغة واللغة تتكلم معه في نفس الوقت. عند الكتابة، يتحدث لغته الخاصة ويخضعها لإلهامه واللغة بدورها تقوم بتكييفه [11].
هناك زمان الـ «أنا»، «زمان مؤنث» كما يقول بعض النقاد، والزمان التاريخي. بينهما، بين الواقعي واللاواقعي، يترك الـ «أنا» أثرا لا يدرك. «أنا» أول يعيش في الذكريات المرتبطة بالحياة العائلية أو في تلك التي ترتبط بحياته اليومية؛ «أنا» آخر يتساءل باستمرار عن صحة شذرات الذاكرة هذه، عن حقيقة الحكاية، مع الاحتياط من السقوط في ثنائية المرأة / الرجل. إنها حرب اليد الواحدة، عالم الشخصية الواحدة. خطاب الآخر هو خطاب الـ «أنا». يتفكك الـ «أنا» ويتحول إلى آخر.
بدأت يَان جِيلِينْغ (1959 -) في نشر رواياتها في الثمانينيات (1980). أكثر هذه الروايات شهرة هي تلك التي كتبتها قبل شد الرحال إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهي على التوالي: «الدم الأخضر»، «كلام حميمي لمُجَنَّدة»، «مرج مؤنث». إذا كانت رواية «الفتاة شِيَاو يُو»، التي كتبتها في الولايات المتحدة قد أثارت ضجة كبيرة في صفوف الكتاب الصينيين في المنفى، فإن روايتها الموالية «فتاة ضاعت من السعادة»، كان لها أثر قنبلة. بأسلوب ملحمي، في مجتمع عركته العنصرية وسوء الفهم، تحكي المؤلفة للمرة الأولى الحياة الفظيعة للعاهرات واليد العاملة الصينية في المهجر. في رواية «العالم الإنساني» يترك الأسلوب الملحمي المكان لكتابة سيكولوجية ويتحول السرد إلى حوار داخلي، إلى بوح لمريضة خاضعة لعلاج نفسي. زاوية السرد خاصة بالنظر إلى أن الراوي فتاة ترعرعت في الغرب وأن النظرة التي تلقيها على الرجال الصينيين الذين تحكي عن معاناتهم باعتبارهم رجالا هي نظرة جديدة. قصة عالم ذكوري تحت نظر «أنا» أنثوي الذي تتعايش فيه ثقافات مختلفة.
بدأت هُونْغ يِينْغ (1962 -) بكتابة الشعر في 1981، وسبع سنوات بعد ذلك، انطلقت في كتابة الرواية. تقيم في لندن وتعيش دائما منغلقة على ذاتها في عالمها الداخلي للـ «أنا» (المتكلم) الذي ليس مع ذلك، هو عالم لـ «الأنا» (أحد الأنظمة الثلاثة للشخصية بحسب النظرية الفرويدية). «”أنا” ليس هو “الأنا”»، كما تنص على ذلك الكاتبة في كلمة التذييل لمجموعتها «لندن، الموعد الحميمي الخطير». الـ «أنا» كما يقول رامبو هو الآخر. «الأصبع الوسخ والسدادة» (1994) هو نص عبارة عن شذرات. الـ «أنا» هو شخص يتشكل من مجموعة من الفتيات الغارقات في صراعات لا تنتهي، إما مع عائلاتهن أو مع الرجال. الراوي فتاة قررت فراق أبيها ومغادرة البيت. انطلقت على الطريق من دون أن تكون لديها أية فكرة عن المكان الذي تقصده. تلتقي برجل يرتدي معطفا من فرو القطط، تمارس معه الجنس من دون أن تدري لماذا. الحب الإذلال، الجمال الانحطاط، الإغراء والاشمئزاز تتداخل مع بعضها وتتشابك، تقتل بعضها البعض. استيقظت من سباتها عندما وجدت نفسها شاهدة على مقتل امرأة حامل. الشبكة العائلية تعرقل حريتها. تجد نفسها مكرهة على حضور مشهد فضيع: عملية خصي قط، رمز الرجل في الرواية. منعتها أمها من الكتابة، بل ذهب بها الحال إلى حد أن أقدمت على تمزيق مخطوطها. ما يقرأه القارئ هو فقط ما نجا من الكارثة. يفسر هذا كون أن القصة هي عبارة عن شذرات متناثرة.
الزمان الحساس لا يتطابق هنا مع زمان التاريخ، حتى نستعمل عبارة جوليا كريستيفا. الزمان النسائي (زمان الأحداث الانعزالية) وزمان التاريخ (الأفق الاجتماعي للتجارب) تشكل لحمة السرد. سرد متقطع، عبارة عن شذرات، بعيدة كل البعد عن أن تكون خطية. يحتفظ الراوي بمسافة كافية بينه وبين الأحداث ويصف مشكل الـ «أنا» بأسلوب نيئ ومباشر.
نقف في جهات أخرى، في حكايات أخرى للأحداث العاطفية، على هذه المسافة التي تفصل الـ «أنا» عن الأحداث. شكل هذا الجانب موضوع كتاب «دراسات حديثة عن يو هونغ» (1994). يتعلق الأمر بتحقيق قادته الشاعرة الشابة والباحثة عن جدتها الكاتبة يو هونغ. يوميات حميمية، صور، إلخ، تتخلل السرد وتتحول معها حكاية الاستكشاف إلى شذرات. من هي يو هونغ؟ المحررة المتقدمة في السن التي قضت كل حياتها في البحث عن الحياة، والتي قررت في النهاية إخفاء كل أثر لجسدها المادي ولعملها. لم يعد لها من وجود إلا كظل.
هذا الأدب الذي يتجاوز حدود التسلسل الزمني والثقافي يرسم لوحة في نفس الوقت شخصية واجتماعية للتجارب النسائية. يتعلق الأمر بكتابة جديدة حيث الـ «أنا» المؤنث يشكل، على نفس مثال أفق الرجل، فضاء مفتوحا، مع تجاربه الخاصة المنبثقة من الذاكرة الحقيقية أو من حقيقة الذاكرة. الحدود بين الحكاية الحقيقية وحقيقة الحكاية لا توجد أبدا في حالة ارتباك. الكتابة متشظية، ذاتية، داخلية. المشاكل التي يصادفها الـ «أنا»، لا تأتي فقط من الصراع بين القيم التقليدية والعقل الحديث، ولكن أيضا من التعارض بين الـ «أنا» و «الأنا». بهذه الطريقة يتساءل الكتاب الصينيون عن معنى الـ «أنا» وكذلك عن معنى وجود الـ «أنا».
الكتابة التي تستلهم كنموذج السيرة الذاتية أصبحت اليوم جنسا أدبيا مفضلا، تتميز عن تلك التي سادت في العشرينيات والثلاثينات (1920 – 1940). رواق الشخصيات لم يعد منظما ومهيكلا حول مواضيع مثل التمرد على النظام القديم، البحث عن النور في الظلمة، إلخ. التضاد بين الكتابات الروائية من الداخل ومن الخارج لا تقوم مقام النموذج. العالم الخارجي هنا في حالة غياب أو لا يوجد إلا من وجهة نظر الـ «أنا». هذا العالم الذاتي للـ «أنا» المخنوق من قبل الصور الداخلية، ليس فقط فضاء محتفظ به لكتابة الذاكرة، الحياة الذاتية تشغل نفس القدر من الفضاء قياسا باشتغال الذاكرة.
في 1994، نشرت أَي تْشِيَاو مينْغ (1953 -) مذكراتها الروائية «زواج الأقارب» وهي رواية أخذت على عاتقها وصف طفولة شبيهة بمعاصريها وفي نفس الآن مختلفة عن طفولة الآخرين، لأنه في الحقل الاجتماعي حيث يعيش الـ «أنا» تجاربه الخاصة. قصة عائلة متشظية أمام نظر الـ «أنا» في السنوات الحمراء، قبل وخلال وبعد الثورة الثقافية. ما يميز هذه الرواية عن باقي الروايات الأخرى من نفس النوع، هي هذه الكتابة المتشظية، الخاضعة لإيقاع نظر الـ «أنا» الذي يسمح بإدراك مع الراوي كل ما يحس به الـ «أنا». الراوي ليس شحيحا بخصوص الوصف المتعدد للفضاء الواقع تحت نظر الـ «أنا»، محيط المنزل، مراوغات فكر الـ «أنا» إزاء الآخرين. ما يترجم قوة الرواية يتمثل في نظرة الـ «أنا» وهي نظرة تتجاوز المحيط الطبيعي والمحيط الإنساني، لتصل إلى الأعماق الغائرة للـ «أنا». يتعلق الأمر بشكل جديد من أشكال كتابة السيرة الذاتية.
إذا كانت أَي تْشِياو مِينْغ تعيد بناء عالم الـ «أنا» عن طريق كتابة متشظية، فإن كتابة تْشَانْغ تْشِي جْيُون تظل مرتبطة بالطبيعة وتتسم بالبساطة. في روايتها التي تتناول فيها سيرتها الذاتية «البيت الأحمر». تبرز بطريقة نيئة ولكن لا تخلو من رهافة حس، تجاربها كامرأة صينية من أصول فقيرة. غالبا في كتابات السيرة الذاتية المخصصة للسنوات الحمراء، يعرض الراوي التاريخ الخارق للعادة لعائلة نبيلة وغنية عانى أفرادها بشكل فضيع بعد الثورة. عدد كبير من الكتابات حاولت رصد ظاهرة إفقار ثورة البروليتاريا للناس، خاصة أولئك الذين لم يكونوا ينتمون للطبقات الشعبية، مثل المثقفين أو النبلاء القدماء إلى حد جعلتهم يتحولون إلى متسولين بكل ما في الكلمة من معنى. رواية «البيت الأحمر» تحكي، على العكس، حياة فتاة فقيرة سليلة أسرة عمالية، وهو مسار كان يوفر كل عوامل الارتقاء الاجتماعي في العقود الثلاثة التي تلت سنة 1949. كانت تنتمي إذا، إلى الطبقة المحظوظة ومنطقيا كان ينتظرها مستقبل زاهر. وصفت الحياة في صورتها المبتذلة ولكنه ابتذال لا يعني لا الرفاهية ولا غياب التوترات. مهما كانت أصوله لا أحد يمكنه أن يفلت من مخالب التفقير في مجتمع شمولي. التوترات لا تأتي فقط من الصراع بين الـ «أنا» الذي يتطلع إلى الحرية وشمولية المجتمع، ولكن بشكل خاص من الصراع بين الـ «أنا» المؤنث والمجتمع المحافظ حيث الرجل وحده معترف له بالوجود.
الـ «أنا» في رواية «المنزل الأحمر» هي فتاة تتصف بطبعها القوي، وقوة الطبع هذه كانت وراء فشل زواجها الأول والثاني، وهو أمر محتقر في مجتمع لا ينظر للطلاق بشكل إيجابي، خاصة الطلاق الذي تطالب به المرأة. ولكن بفضل هذا الطبع نفسه ستنجح في إيجاد مكان لها في المجتمع، وتنجح كذلك في تجاوز كل المحن. يتعلق الأمر بدفاع ذاتي للـ «أنا» الذي ليس بالنموذج الروائي التقليدي: ضعيف، شعريا رومانسي وحالم. بالنسبة للـ «أنا» في هذه الحالة بالذات، يتعلق الأمر بالحياة أو الموت. يجب أن تولد المرأة قوية ومقاومة. الرومانسية رفاهية زائدة عن الحد، بالتالي لا يمكن أن تسمح لنفسها بمثل ذلك.
يظهر هكذا وجه جديد للمرأة الصينية. لا تعيش في انتظار الرجل. لا تشمئز من الوقوف في وجه المعايير الرجالية. لا تتبع الرجل. إلا أن الرجل الوحيد القادر على تحمل قساوة الحياة، والذي كان قد ساعد العائلة على تجاوز السنوات القاسية، هو أخوها. فتى كان عرضة للإهمال من قبل محيطه والذي قرر وضع حد لحياته في نفس اللحظة التي بدأت فيها أحوال العائلة تتحسن. إنه الرجل الوحيد الذي أحبته. لهذه المأساة معنى قوي: عالم الرجل ابتعد، ضاع في المجهول. الحكاية تتسم بالرصانة والحياد. بفضل الرصانة التي وصفت بها ثقل وقساوة الحياة التي يستمد منها «أنا» الأشخاص العاديين كل قوته. إنها القوة الحيوية للكائن الإنساني. القوة الوحيدة التي في إمكانها أن تنتصر على معاناة الوجود.
هذا، في حين أن جيل النساء اللائي ولدن في الستينيات (1960) يعمدن إلى الغوص في العالم الحميمي للـ “أنا” الأشد عمقا ويعشن في حوارهن الداخلي. مِي تْشُو، امرأة كاتبة من التبت لا تكتفي بالحوار الداخلي، مثلها مثل معاصراتها، ولكنها تنفصل عن العالم الذاتي. فهي لا تستعمل حتى ضمير المتكلم في السرد، هذا الـ «أنا» الحاضر في كل مكان اليوم. في روايتها «قبيلة الشمس» (1997) [13]، يحكي الراوي قصة حياة، قصة حب وموت في سياق صراع بين قبيلتين في التبت. قصة ملحمية ولكن خارج الزمان، لأن الزمان لم يحدد في الرواية. يوجد في التبت قبيلتان بينهما عداء مستحكم ينحدران معا من سُونْغَزَانْغَانْبُو وهو تقمص حسب تقاليد التبت لبوذا. منذ بداية الرواية يفقد القارئ مفهوم الزمان:
قالوا له من أين أتى.
أشار بأصبعه إلى الوراء.
بما أنهم لا يفهمون لغته، استخلصوا من إشارة أصبعه أنه جاء من السماء.
صنعوا نقالة وحملوا الرجل الآتي من السماء إلى القبيلة [14].
من «هو»؟ من أين أتى («هو»)؟ من «هم»؟ السطور الأولى من الرواية لا تحمل جوابا لهذه الأسئلة. يكتفي الراوي بتكرار اسم أسطوري: «زَنْبُو»، الرب الأول في تاريخ التبت. التواصل بين الـ «هو» والـ «هم» مستحيل واللغة باعتبارها الأداة التي تأسس لبداية الإنسان، تصبح في هذه الحالة عاجزة تماما. وحده المعتقد يهم في مثل هذا النوع من اللقاءات. السطور الأولى تستند إلى عقيدة قديمة في التبت قدم ثقافة هذا البلد. عقيدة توجد خارج اللغة، شكل آخر من أشكال التفكير والفعل والتواصل وفهم المحسوس. يمثل هذا شيئا يستعصي عن الإدراك، شيء لا مادي ولكنه حاضر بقوة في أعماق القلب.
يقبلون (هم) بوجود هذا الغريب (هو) بينهم، معتقدين بأنه مرسل إليهم من السماء. التواصل مع السماء صعب، لأنهم لا يعرفون هل تسمعهم أم لا، ما يدركونه تماما هو أن هذا الغريب “هبة” أرسلتها السماء لقبيلتهم.
يخلط السرد منذ بداية الرواية، الحكايات الأسطورية والعادات والتقاليد القديمة والغيب ويغوص بالقارئ في عالم مليء بالألغاز المحيرة. سؤال بقدر ما هو أساسي بقدر ما يتجدد بشكل لا يعرف التوقف عن ميلاد العالم.
قصة الحب وتاريخ القبائل يتشابك في فضاء لا وجود فيه للزمان التسلسلي، السرد متقطع. أحيانا يتعلق الأمر بوفاة أبواي الابن الوحيد جِيَاكُويُو، الفتى النبيل الذي عاش إلى سن السابعة عشرة حياة لا مبالاة تامة؛ أحيانا هناك حفل زواج قضت فيه العروس ليلتها الأولى مع المكلف بتدبير شؤون البيت؛ وأحيانا نقف على حدث هرب جِيَاكُويُو بعد وفاة أبويه ليقيم في كنف عائلة فقيرة ومجهولة وهي الإقامة التي ستتوج بزواجه من ابنة هذه العائلة بطلب من الأب. لماذا قضت الزوجة ليلتها الأولى في ضيافة المكلف بتدبير البيت؟ من خلال جملة كاشفة لأخت جِيَاكُويُو الكبرى، فإن هذا الأخير كان يشبه شخصا ما. من هذا الشخص؟ ليس هناك ما يمكنه أن يساعد على إيجاد جواب واضح، ليظل الأمر على حاله، لغزا محيرا. لماذا خر رب الأسرة الفقيرة التي كان يقيم عندها جِيَاكُويُو باكيا في وسط الليل قبل أن يتوسل الفتى ليتزوج بابنته؟ يظل هذا الحدث هو الآخر لغزا محيرا في الرواية. من أين جاء هذا الخاتم المنحوت من الصخر الشمسي الذي يتناقل جيلا بعد جيل في أصابع ورثة ينتمون لنفس السلالة الدموية؟ خاتم له «بريق الذهب والفضة وفضائل اليَشْب» [15]. خاتم مصنوع من الدم تتناقله الأجيال، جيلا بعد جيل منذ الأزمنة الغابرة. إنه خاتم شفاف، ولكن هذه الشفافية تفرز لغزا عميقا. خاتم يقرأ الغيب وينبئ بالأفراح والأتراح:
«وهجه الذهبي يلمع مثل الشمس، تشع أنواره في كل أرجاء القصر المحصن في يَاسِينْغ. منذ مئات السنين وهو يقرأ الغيب ويأتي لقبيلة يَزْهِي بأنباء عن أوقات الرخاء وأوقات الشدة. عندما يكون نوره ذهبيا تعرف القبيلة رياحا ملائمة وأمطارا نافعة وأن البشر والحيوان يعيشون في سعة، وعندما يميل بريقه إلى اللون الداكن ويتكدر، فإن ذلك يوحي بأن القبيلة مقبلة على أوقات عصيبة» [16].
إلى أين ذهبت شْيَان سَا، الفتاة الصغيرة التي فقدت أباها وهي في الثانية من عمرها ثم عشيقها وهي في العشرين والتي، بعد أن طردتها القبيلة، ستحتمي بالمغارة التي قضت بها جدتها أيامها الأخيرة قبل وفاتها؟ من هو هذا الشخص الشفاف، ذو اللحية البيضاء الذي لمحته الفتاة أما مدخل المغارة؟ لماذا بعد ظهوره بوقت قليل، لم تجدها أختها الصغيرة في مكانها هي التي اعتادت أن تأتيها كل أسبوع بالطعام وتضعه عند مدخل المغارة؟ كل هذه الأمور محيرة حقا وألغاز لا يقف لها المرء على جواب.
هذه القصص التي تتعلق بالأجيال والقبائل تدور في زمان حيث الحاضر والماضي والمستقبل تختلط مع بعضها البعض. لا يتوفر القارئ على علامات استدلال يسترشد بها لتحديد الحقبة التاريخية التي دارت فيها أحداث السرد الروائي. المرجع الوحيد هو الحب. هل تريد الكاتبة أن تقول إن كل قصة حب هي قصة خالدة؟ قصة تتكرر دائما بوجوه مختلفة. لا شيء في الرواية يظهر منه أنه قادر على إلقاء الضوء على هذه الألغاز، ما عدا الموت. الموت الحاضر دائما وأبدا، الموت هو رفيق الحب، الوجه الآخر للحب. تكتب المؤلفة قائلة:
«في سماء الغرب فقط يمكن لسكان التبت الموت بهدوء، لسبب وحيد هو أن سماء الغرب تنادي هذه النفوس الفاضلة، هذه النفوس لا تموت، بل تتسامى وتتحول إلى سامْسارا خالدة [17]. موت الجسد لا يعني نهاية الآلام» [18].
هذه الألغاز ليست جزءا من الحبكة الروائية، بل تتجذر بعمق في ثقافة التبت إلى حد أن الرواية تصبح لوحة لعادات وتقاليد، صورة لعالم ذهني بعيد جدا وقريب جدا في نفس الوقت.
مسألة الزمان تشغل مكانا هاما في الأدب النسائي الصيني حاليا. من الواضح أنه يوجد تناظر مرتبط بالحقبة بين اللغة والمجتمع والمواضيع الأدبية. هناك توجه يرمي إلى عدم تحديد تاريخ للأحداث. الزمان التاريخي غائب وهو شيء لم يكن ليقبله الفكر في الخمسينيات والستينيات. هناك تنازل بشكل ما عن الزمان التاريخي، الزمان الملحمي.
فرض الأنا نفسه في السبعينيات، في مرحلة أولى عند الشعراء الشباب الذين كانوا يتلمسون طريقة للتناول بما لديهم ويعيدون إبداعه انطلاقا من الداخل. يتساءلون: «أين توجد أزمنتنا الضائعة؟». الماضي والحاضر والمستقبل تعبر عن ذاتها كما هو الحال عند بسط قطعة قماش، بدون تعبير في السرد. إنه زمان ذاتي، يدير تسلسلات صور وترابطات تحت مراقبة عين نقدية. الذاتية تتحكم في التقطعات عقلانية كانت أو لا عقلانية.
هذا الزمان السردي مرتبط بشكل وثيق بالحاضر. يسمح للذاكرة بالتحول إلى متخيل، يسمح للحكاية الحقيقية (الأحداث) بالتحول إلى حقيقة حكائيه (كتابة تخييليه). هذا الزمان السردي لا يقصي الزمان التاريخي – ذاكرة التاريخ – بل يقلب علاقة التبعية. بدل قياس وتحديد تاريخ الحدث وهيكلته، فإن الكاتب يبحث لكي يتواجد في مُشْتَمَل، أي أن يكون، في نفس الوقت، في كل مكان وفي نفس المكان. هذا واحد من جوانب حداثة الكتابة الذاتية الصينية. نقف هنا على محاولة لفتح هامش للحرية حتى تكتب الذات عن ذاتها في عالم مغلوط تاريخيا.
الزمان المتخيل عند الكتاب الصينيين هو وزن يحدد إيقاعه الزمان التاريخي وزمان داخلي وزمان متوسط. الزمان التاريخي هو زمان الحدث حيث الـ «أنا» باعتباره راويا، يقوم كمرجعية سيرية، في داخل ماض أعيد بناؤه وتحيينه بالكلمات. الزمان الداخلي هو الزمان حيث الـ «أنا» ليس بمُؤَرِّخ. يبتعد من الحكاية الحقيقية لكي يكون مستقلا عن الحقيقة التاريخية، عن الأحداث المتناقلة. بعيدا عن الشكلانية التعميمية للنشيد الشعبي الصيني الكبير، يحتك الـ «أنا» بحقيقة خاصة وغير مؤكدة. بين الماضي والحاضر والمستقبل تختفي الحدود التسلسلية. مفارقة تاريخية. هذه هي الحال التي وقفنا عليها عند الكاتبات الصينيات اللائي أشرن إليهن فيما سبق من هذه المحاولة.
هذه المراحل الأربعة للكتابة النسائية تسمح باستخلاص تطور الذاتية في الكتابة الصينية. تبدأ هذه الأخيرة باستيقاظ الـ «أنا» مع الكتابات المخصصة للمشاكل الاجتماعية. ارتفاع الأصوات المطالبة بحقوق المرأة والمساواة الاجتماعية. الـ «أنا» الذي يوجد في حالة يقظة الآن ينخرط بعد ذلك في الثورة. يفقد حينها وجوده الذاتي بانصهاره في الجوقة الوطنية وذلك على امتداد ثلاثة عقود. لن يتمكن من استعادته إلا في السنوات العشرين الأخيرة. باختصار، من الداخل إلى الخارج بخصوص حقوق المرأة في حدود العشرينيات، إلى العالم الخارجي الثوري وإلى اختفاء الـ «أنا» في الثلاثينيات وحتى السبعينيات، ومن داخل الـ “أنا” من جديد إلى العالم الخارجي الإصلاحي أو الإنسان، من السبعينيات إلى الثمانينيات، ومن العالم الخارجي إلى الداخل الأشد عمقا للـ «أنا» منذ نهاية الثمانينيات.
المراجع
1. زهاي يونغ مينغ: بخصوص “ضمير الليل” و”الشعر النسائي” مرة أخرى، مجلة شيتانسو، عدد 1، 1995، ص 129.
2. شيه يو: دراسات في الكتابة النسائية، 1990، ص 325.
3. زهانغ جي، ولدت في بكين سنة 1937 خريجة الجامعة الشعبية في بكين، نشرت في 1978 قصتها “الطفل جاء من الغابة”. أهم أعمالها المنشورة: امرأة بالغة الحساسية، هناك شاب، من يعيش أفضل؟، الأجنحة الثقيلة.
4. زهانغ كانغ كانغ ولدت سنة 1950 في هانغ زهو، حصلت في 1966 على شهادة السلك الأول من التعليم الثانوي. اشتغلت ثماني سنوات في إحدى الضيعات التابعة للدولة، قبل أن تبدأ نشر أولى أعمالها في 1972. من مؤلفاتها: الخط الفاصل، الحق في الحب، ليس ببطل، الصيف.
5. وانغ أنيي، ولدت سنة 1954 في فوجيان، قضت طفولتها في شنغهاي. في سنة 1969 رحلت للاشتغال في قرية بشمال إقليم أنهوي. بدأت في نشر أعمالها سنة 1975.
6. يراجع وانغ أنيي سيهي، موجز تاريخ الأدب الصيني المعاصر، شنغهاي، 1999، ص 350.
7. شين ران، ولدت في بكين سنة 1962، أنهت دراستها في مدرسة المعلمين العليا في بكين.
8. لين باي، ولدت سنة 1958 في قوانغشي. قضت سنوات طويلة في الريف بصفتها شابة متعلمة. درست بجامعة يوهان. اشتغلت كأمينة مكتبة ومحررة وصحافية قبل أن تصبح كاتبة.
9. هاي نان، اسمها الحقيقي سو ليهوا، من إقليم يونان. شرعت في نشر أعمالها الشعرية الأولى في 1982، قبل أن تبتعد عن الشعر وتنصرف لكتابة الرواية.
10. ليو سيولا: هوندون جياليجيلنغ، هونغ كونغ، 1991.
11. مجلة اليوم، عدد 2، 1993، ص37.
12. لقاء مع غاو كسينجيانغ، مجلة حوار عدد 2، نيس (فرنسا)، 2001، ص 102.
13. مي تشو: قبيلة الشمس، بكين، الطبعة الثانية، 1998.
14. نفسه، ص 5.
15. نفسه، ص 13.
16. نفسه، ص 13.
17. توالي تعدد الميلاد والوجود
18. مي تشو، سبق ذكره، 1998، ص 290.
هامش:
j المصدر: مجلة Perspectives chinoises، عدد 74، 2200، ص 44 -54.
عبد الرحيم الرحوتي