1-
لم نعهد في نقدنا العربي الحديث مقاربات مفصلة وجادة عن وجود (الشعري في السردي)، والكيفيات الممكنة لهذا الوجود.وسبب تلك الندرة أو الشحة في ذلك النوع من الدراسات، هو تصور خاطئ بالفراق التام بين الشعر والسرد.وقد تصل القناعة بالصلة بينهما حدود الاتهام بسطحية أو سذاجة السرد.
ولكن يتم الحديث عادة عن وجود (السرد في القصيدة)، ويأخذ اقتراض إجراءات السرد في النصوص الشعرية كثيراً من الاهتمام النقدي، فيبحث النقاد عن وجود عناصر السرد في القصيدة الحديثة،كونها تساعد على تعيين الحدث، وتعميق الرؤية من عدة وجوه، كوجود القص التقليدي،أو الاستعانة بحدث أو فعل سردي، أو الاتكاء على وجود الشخصيات والتسميات،وأحياناً بالارتكاز على الحوار في القصيدة،وسوى ذلك مما يتيح تأكيد إمكان تلك الاستعانة أو الاستضافة،مع الحفاظ على روح الشعر وإيقاعاته.
وفي وقت صعود النزعات والادعاءات بأن هذا هو زمن الرواية بمقابل انحسار الشعر وانتهاء صلاحيته الافتراضية! دأبت أغلب الدراسات السردية على نفي أية مسحة شعرية، أو استعانة سردية بالشعر أسلوباً أو إيقاعات أو تضمينات،إلا القليل الذي تفرض طبيعة النصوص السردية فيه أن يتناول الدارسون وجود الشعر وراء المتن السردي كمرجع،لا في بنيته أو تكوينه النصي.
هذه الرؤية تحمل معها نوعاً من قتل الأب النوعي.وأعني بذلك أن الشعر هو الأب الأول للفنون النثرية مسرحية وملحمة وقصاً في ثقافة العصورالبشرية والحضارات. لكن الفراق الأبدي بين السرد والشعر تكرس بدعاوى فصل الفنون، أو بتأثير بعض النظريات الجمالية الداعية إلى ما يسمى المجال الحيوي للنوع أو الجنس الأدبي.
ستقوم الحداثة وما بعدها بإعادة الصلة وهدم الحواجز بين الكتابة النوعية، ويعزز ذلك ظهور كتابات عابرة للأنواع تصالح الرسم والشعر مثلاً، أو المسرح والسينما وغير ذلك، أي باستعارة أو استضافة واقتراض إجراءات وآليات من نوعٍ ما لتدخل بعملية تناص نوعي في كتابة مجاورة.
2-
رواية الكاتبة العمانية غالية سعيد (جنون اليأس)-دار رياض الريس-2011 تسمح بإعادة المعادلة لعدالتها المفتقدة، أو رفض هيمنة السرد. ليكون الشعر عموداً فقرياً ليس مصاحباً للسرد، بل داخل في مجراه.فتعتمد الرواية نصوصاً من قصائد للشاعر عدنان الصائغ، لتكون أشبه باستراحات داخل النسيج النصي للرواية، لكنها لا تذهب بعيداً عن دلالات الحدث.
لا يوجهنا العنوان الذي انبنى على الإضافة (جنون اليأس) إلى وظيفة شعرية للعمل، أو تمثيل عتبة تشير إلى محتوى شعري أو وسيلة غير سردية.لكن سيتضح بالقراءة أن الشعر مستضاف في الرواية بشكل مكثف، وبدور وظيفي ليس تزييناً أو حِلية.إنه لا يؤدي دور الملصق كما في تقاليد فن الكولاج .هو تعميق للحدث أو إضافة شعورية لما يجري للشخصيات المحدودة في الرواية- الدكتور نديم وصديقه نافع وزوجته مليحة كشخصيات رئيسية، وزوجة الدكتور نديم وأسرته كشخصيات ثانوية .. كما أن الأحداث تجري في أمكنة ضيقة هي الشقة المتواضعة التي يسكنها نافع وزوجته، وعيادة الدكتور نديم وبيته الكبير، وأحيانا بعض الأسواق والطرقات وأمكنة النقل كوسائط لا انعكاس لها على بنية العمل، ونمو الأحداث. وإزاء ذلك تلجأ الكاتبة إلى تطعيم عملها بالنصوص الشعرية المقتطعة من دواوين الصائغ التي تضع لها هوامش تعرّف بمصادرها.
لقد أنقذ الشعر رتابة الحدث وإيقاعه البطيء.لذا كان الشعر في التحليل والقراءة يؤدي وظائف متعددة تنتظمها في المستوى الأفقي الوقفة أو الاستراحة التي يتوقف السرد بسببها، وتكون المساحة الزمنية متاحة للتوجه نحو مصادر أخرى لمجرى السرد.وذلك يتمثل في استثمار الوقفة أو الاستراحة لتعميق الوصف وما يحيط بالمشهد من أشياء لم تدع الأحداث أو الحوار لها مجالاً للتعميق والتوضيح.
3-
مساحات الشعرواضحة في الرواية. فهي لا تنحصر في الاستشهادات، بل تتمدد تلك المساحات الشعرية عبرالإفادة من روح الشعر وخطابه، لاسيما في الاسترسال العاطفي والصوري واللغوي.
ويمكن التمثيل بالإهداء الذي يتصدر العمل، ويعد من موجهات القراءة وعتباتها المهمة .تهدي الكاتبة روايتها :
(إلى الراقصين على حافة الجنون
قبل وقوعهم في نفقه المظلم)
ولا يفوت القارئ ما في العبارة المفتاحية هذه من بلاغة شعرية.أعني استخدام طرائق الشعر الاستعارية والتشبيهية والرمزية المغلفة بغموض يغري بالتأويل، وانتظار ما سيحدث في المبنى السردي.فالراقصون على حافة الجنون هم بشر
مغامرون بمصائرهم التي يمثلها نفق الجنون المظلم.هذه الكِسرة من الرواية قد تكون استباقاً لدلالات الرواية.لكن شاعرية الإهداء وبالغموض الذي يكتنفه تضع القارئ في حالة من فضول التعرف على ما سيجري، ولكن بوحي غير مباشر هو بعض آليات عمل الشعر وإيحاءاته.
وحين يتم القارئ فعل قراءة الرواية سيتعرف على دلالة تلك الشفرات التي ضمها الإهداء.فالشخصيات تغامر بحياتها في هستيريا مجنونة حقاً.الدكتور نديم المغترب المتزوج بمورين الأجنبية يحن لماضيه الشرقي والعربي تحديداً، وتطحنه الغربة كحالة بدأ يملها، فيكون تجسيد ذلك الحنين عبر لقائه بمليحة زوجة صديقه نافع الذي تعرف عليه بصدفة قدرية حين ساعده بعد حادث دهس تعرض له.ونافع بلا إرادة مستسلماً لغربته وفقره وضجر زوجته، التي لها أحلام فشلت في تحقيقها في الغربة وضاقت بفقر زوجها.ووجدت في نديم منفذاً عاطفياً وماديأً.
تتناول الرواية إذاً عدة موضوعات يمكن تلخيصها أدناه:
– الهجرة والغربة عن الوطن والحنين إليه
– الصلة بين الشرق والغرب
– العاطفة والمصلحة
– موقع المرأة ومكانتها في الحياة
-الإخلاص والخيانة من منظور إنساني
وكان على النصوص الشعرية الكثيرة والمتناثرة في ثنايا السرد أن تواكب تلك الموضوعات الحياتية من جهة، وأن توافق إيقاع السرد المتسم بالواقعية بحكم موضوعه، وأن تكون غير متعارضة مع موقع السارد الخارجي، فتعبّر المقتطفات الشعرية عن صلة ما بالسرد. وتعضد ما في التناول الواقعي للحبكة الروائية من استحقاقات،أبرزها المطابقة مع الوقائع والشخصيات، بينما يعمل الشعر على المماثلة والمشابهة مستتراً وراء بلاغته ومجازاته.
4-
خلال الوقفة أو الاستراحة حيث يتوقف السارد الخارجي- الموضوعي في الرواية، توظف الكاتبة الشعر المستجلَب بعملية التناص النوعي بينه وبين السرد الروائي في عملها (جنون اليأس)، ليؤدي وظائف متعددة.منها:
– تأكيد القصد أو المعنى الذي تريد توصيله:
توصف حالة الدكتور نديم سردياً كالآتي (لم يمنعه نجاحه الباهر الذي حققه من اتباع نمط حياة رتيبة تسير كل يوم على ذات المنوال، كأنه ساعة بيج بن..يذهب إلى العمل في الصباح ويعود منه في المساء ليقضي باقي يومه في منزله..)
ويأتي النص الشعري من بعد مباشرة كالآتي:
من أنت ؟
طاولة تتنقل بين الدوائرمملوءة بالتواقيع..
ها أنت في أول الصبح تصعد للرف
في آخر الظهر تهبط بين الأضابير
نحو صهيل الشوارع
منكفئا
يتبعك الندم-الظل
ويخدم التناص هنا الشعور بعزلة الشخصية ووحدتها ورتابة يومها والملل الممهد لمغامرته الجنونية مع المرأة لاحقا.
رغم أن النص السردي يحكي يوميات طبيب في لندن،والنص الشعري يلاحق مفردات يوم لموظف بسيط يقضي ساعات طويلة بين الملفات برتابة.
– استكمال الحالة الشعورية للشخصيات:
يبين السارد الخارجي إحدى أبعاد شخصية الدكتور نديم وهي إحساسه المرهف الذي يدفعه سريعاً للبكاء:
( أرجوك يا مليحة لا تغضبي مني.يحاول الاقتراب، تدعه يعانقها ويضع رأسه على كتفها ويبكي.فهو سريع البكاء وعيناه سريعة الدمع..)
أما نص الصائغ الشعري فيعمق إحساس القارئ بتلك الرهافة المفرطة، لما يمتلكه الخيال الشعري من قدرة على جلاء الصورة:
(لا أحتاج إلى حبر
لكتابة تاريخي
بل إلى دموع)
– النمو الذروي للحدث
يصمت السرد أحياناً عن تتابع الحدث لغاية ما، كالمحظور في حالة وصف الحدث الجنسي مثلاً:
( ..ترتمي بكل جسدها في حضنه وتطوق عنقه بذراعيها..وبخطوات مرتعشة يقودها إلى غرفة الاستقبال ليتمتعا بنشوة الحب العميق ولذة الجسد..)
أما النص الشعري فينقل التفاصيل اللاحقة.تتكفل الأبيات برصد ما ينعكس من انفعالات لذلك اللقاء الجسدي:
( …رغم العتمة أبصرت فحيح الرغبة في عينيها السوداوين ونصف الزر المقطوع..دنوت من الأزرار الأخرى
اندلق النهد شهياً من شق الثوب
انفرجت شفتاها….)
– إنجاز التداعي الحر والاسترجاع:
يسرد الدكتور نديم ما يعانيه في الغربة رغم ما هو عليه من غنى،مستذكراً طفولته ووطنه، وحاجته لمن يواسيه بلسانه ورغبته بأن يكون له ولد من سلالته العربية:
( أشتاق لخبز أمي اللذيذ،ولحينا الجميل وبيتنا وأهلي وأسرتي المتعاونة.قلبي مفعم بالمرارة لفراقهم، ولاعزاء غير الدموع)
لكن النص الشعري يختزل ذلك بصور تتداعى من الذاكرة والمخيلة، ويمتاز عن الفقرة السردية بحوار الذات، مما يمنح السرد دفقاً درامياً يعزز الحدث:
(..وأسأل من عاد من وطني:
هل أثمرت عند نافذتي
شجرة البرتقال
أعينوا الغريب على حِمله أيها العابرون
فقد نهش الحزن من لحم كتفي ومال
حنيني بوسع البلاد
فكيف سأحمله
وهموم المنافي ثقال؟)
– مطابقة المسرود:
يضطر نافع وزوجته مليحة عند وصولها لندن لاجئيْن للسكن في فندق رخيص، فتسرد فقرة طويلة في الرواية حالة دخول نافع الفندق تترصده عينا عاملة الاستقبال خلف أجهزتها، محاوِلة مغازلته لدرء وحدتها وخواء حياتها.تضع كمية هائلة من مساحيق التجميل :
( ترفع سماعة الهاتف وترد على المكالمات والاستفسارات القليلة التي تصل من خارج الفندق ومن النزلاء، وعند مرور نافع قربها، يرفع يده لها فترد عليه بابتسامة، في محاولة لإقناعه بالحديث معها..)
أما النص الشعري فقد اختارته الكاتبة بعناية ليطابق سردها تماماً.ففي النص المقتبس جزئية تخص الفندق، وأخرى تتحدث عن سيدة مشابهة للمرأة:
( ..وأمضي وحيداً بظل الحقائب فارغة تتعثر أو تتردد في عتبات الفنادق، تغمز لي -في ممر الحضور صالة الرقص-سيدة تتصابى وراء مساحيق أحلامها..)
– تعيين النهايات والمصائر
يسهم التناص مع القصائد في تحديد المصائر والنهايات ويقوي الإحساس بها. فيختم العمل كما تنهي شهرزاد حكاياتها، حيث يعيش الجميع بعد الأهوال بسعادة وسرور. فانتصرت مليحة وغاب بالموت زوجها الضعيف وعشيقها الذي لم يحقق أحلامها فتأكدت النزعة النسوية لدى الكاتبة بهذا الختام.
(أول يوم خرجت فيه مليحة من المصحة تزوجها باري وبدأت حياة مليئة بالأمل والعمل) (وكانت معه في ضحك وبهجة …)
أما النص الشعري الختامي فليس فيه نسقية اللغة الشهرزادية :
(أخيراً
وصلت قمة حياتي
لكنني لم أجد هناك
من الأيام والأصدقاء والعشب
ما يكفي)
فكأن الشعر يقترح نهاية أخرى ويكون الفرح ناقصاً بافتقاد ماضي مليحة.
5-
لا شك أن التناص بين السرد في (جنون اليأس) لغالية آل سعيد، وقصائد عدنان الصائغ المبثوثة في ثنايا العمل بكثرة لافتة، تؤدي وظائف أخرى كتعميق وجهة النظر، أو التعزيز الوصفي لاسيما للأمكنة، أو الأحاسيس الذاتية للشخصيات ومشاعرهم الخاصة، كالخوف والحب والألم وسوى ذلك.لكننا آثرنا الوقوف عند الوظائف الأكثر تردداً في الرواية.مع ملاحظة أن بعض التناصات لم تكن ملائمة للسرد السابق عليها. مثال ذلك استعانة الكاتبة بأبيات للصائغ تحكي عن جسر الكوفة كمسمى مكاني، بينما هي تأتي بالنص كاستطراد لجلسة بين نديم وحبيبته للعشاء في مطعم بلندن!
لقد جرى في فصول الرواية الأخيرة لا سيما في الفصل الثاني والعشرين -الأخير- تسريع للسرد وكأن الكاتبة أحست بضرورة تحديد خاتمتها بتعيين مصائر شخصياتها بموت نديم ونافع وصحو مليحة من جنونها،وزواجها من شخص يظهرفجأة.
لكن ما فعلته غالية آل سعيد في عملها هذا أنقذه من الرتابة التي تلحق بأغلب الأعمال الواقعية، كما انها تنبه إلى حضور الشعر هذه المرة في خط تصاعدي عبر عمل سردي وهو ما نطمح أن يتعمق في أعمال لاحقة إنصافاً للشعر الذي يراد إقصاؤه من مكانته لصالح الرواية.
حاتم الصكَر