تثير قراءة «شامان» للروائي العراقي المغترب بدبي شاكر نوري ، إحساسا بارتباك ملتبس لا يفتأ ينبهم من صفحة إلى أخرى، مخلفا في النفس مزيجا نادرا من الإعجاب والمتعة. فكأن الرواية تخفي تحت انسيابية صفحاتها انطباعا لذيذا غير مستبين بالعدم والفقدان: خبر ما يُتشوق إلى سماعه من غير ان يتم، حدث ما يُنتظر وقوعه دون أن يقع، حق ما مغتصب يُتاق إلى استعادته بلا جدوى، شيء ما ضائع عبثا يُبحث عنه ! على مثال ذلك « الزمن الضائع» الذي استنفد مارسيل بروست عبقريته وأفنى حياته بحثا عنه من غير أن يعثر عليه، لأن وجوده محايث لأغوار ذاته الديماسية. بل هو تماما الانطباع الذي يتأكد فعلا بانغلاق نص الرواية على صدى قول المؤلف – السارد، بعد أن باء البحث عن شامان بالفشل : «تيقنتُ أن شامان موجود في كل مكان (…) شامان يعيش في كل واحد منا أينما كان (…) سأظل أبحث عنه في أعماق ذاتي» ( ص 233).
لذا، فإذا كنتَ من الذين تروقهم الروايات التي تتفنن في تصوير مساعي الإنسان الخائبة – ليس هذا فحسب، بل وإذا كنتَ أيضا وخاصة ممن تستهويهم تلك الروايات التي تتأنق في تباهيها بين نصوص العالم بأنها ليست مبتدعة من عدم أو على غير مثال سابق.
وفي تلبيس الواقع بالخيال ، وفي تحبيك الأحداث المحكية على خلفية ديكور استثنائي يجاوز حد العجب، وفي كهربة اللغة بهيرميسية الشعر، وفي تعليق زمنها الداخلي بناموس العود الأبدي للأشياء، وسوى هذا وذاك من أساليب السرد الرائق الشائق، فلا شك في أنك واجد ضالتك في رواية «شامان».
بل وأنك ذلك القارئ النموذجي الذي كان شاكر نوري يراهن على وجوده وهو عاكف على توليف فصولها التسعة والعشرين في خلوة صوفية !
قارئ نموذجي أنت إذن ! وبهذه الصفة، يُفترض فيك أن تكون لك كفاية موسوعية تخولك أن تستحضر، في أثناء قراءتك للرواية، ما سبق لك ان قرأته من روايات. فلا عجب، والحال هذه، من أن ذهنك ستتبادر إليه فورا رواية سابقة تشترك رواية شاكر نوري معها في الإحالة على نفس الحدث الذي، على رغم هامشيته النسبية في بناء الحبكة الدرامية، ماكان ممكنا لدينامية السرد أن تتحرك بدونه. يتعلق الأمر في هذه الرواية السابقة باضطرار عبدة زنجية إلى الهجرة إلى القاهرة مع أسرة مشغلها، وهو حاكم إمارة الشارقة الذي انقلب ضده ابن عمه بمساعدة الإنجليز. ولأنك قارئ نموذجي، ذو خبرة بالمتن الروائي العربي، فسرعان ما عرفت أن المقصود بهذه الرواية ليس سوى «ريحانة» لميسون صقر (منشورات دار الهلال، القاهرة ، 2003). وفي رواية «شامان» يتعلق الأمر كذلك باضطرار أمير سعودي إلى الهجرة إلى باريس بعد أن قتل والده في أعقاب انقلاب دبره ضده ابن اخته.
هي إذن – قلت في نفسك – محض علاقة أنيكدوتية هذه التي توجد بين النصين والتي قد لاتكون خطرت ببال شاكر نوري نفسه. فهي مثلا ليست علاقة تناصّ جعلت روايته تتخلق في رحم رواية ميسور صقر. فوحدها الصدفة، لا أكثر ولا أقل ، ما جعل إحداهما تمت بصلة ثانوية واهية إلى الأخرى.
التناص؟ ستكون هذه الكلمة السحرية قد طرأت على ذهنك مثل بارقة شاردة. كيف لاوصاحب « شامان» مقتنع – كما أنت تماما، لا عجب من هذا !- بأن نصوص العالم تتداعى فيما بينها في توارد حر وتلقائي خارج إرادة مؤلفيها؟ فهو لا يخفي ولاءه المطلق لأحد تعاليم جوليا كريستيفا و رولان بارث الأساسية، وهو أن أي نص، مهما أوحى بأنه أصيل وادّعى بأنه مبتدع من فراغ، ليس سوى كتابة جديدة لنص آخر سابق. لكن … أنى لك – ستتساءل- أن تعرف كنه هذا النص الذي سبق رواية « شامان» في السلسلة الزمنية !
إن ما يثير الاندهاش والانشداه حقا هو أن الرواية اختارت بسبق تعمّد وتدبّر أن تشهر هذا النص الآخر بكل جرأة، معفيا إياك من عناء تخمينه. ألا يغازل «شامان» «موبيك ديك» في استعرائية سافرة نادرة؟ أما وجه الندرة هذه، فهو أن شاكر نوري – خلافا لمعظم الروائيين الذي يحرصون على إخفاء الأصول النصية التي يستوحون منها رواياتهم، تفاديا لتهمة السرقة والسلخ- لا يتورع عن الإيحاء، بكل زهو وخيلاء، بأن روايته قد انكتبت في كنف رواية الكاتب الأمريكي هيرمان ميلفيل ( 1819-1891) الشهيرة: « Moby Dick » ( 1851)، فهو يجهر بانتمائها الجنيالوجي إلى سلالة «موبي ديك»، التي تنتسب إليها كذلك رواية « The Old man and the sea » («العجوز والبحر» 1952) للكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي (1899 -1961). إنها سلالة الروايات التي تصور فشل مغامرات الإنسان في مصارعته للحيوان، على خلفية فضاء طبيعي موحش لا حدود لرحابته وقسوته، أكان بحرا أم غابة أم سماء أم صحراء إلخ.
تتعدد في «شامان» المواقع التي يومئ فيها المؤلف إلى «موبي ديك». فهو مثلا يعترف، متخفيا وراء السارد، بأن رواية هيرمان ميلفيل هي روايته الأثيرة التي تؤانسه أينما حل وارتحل :» (…) حاملا معي كتابي المفضل: رواية « موبي ديك» أعيد قراءتها مرات ومرات، متأملا المحيط الأطلسي حيث دارت أحداث هذه الرواية العظيمة. كلما قرأتها، اكتشفت فيها أشياء جديدة» ( ص 93)
وحين سأله الأمير إيهاب :» يجب أن نرتاح قليلا. ماذا ستفعل أنت؟» أجابه :» سأقرأ قليلا.
– ماذا ستقرأ؟ روايتك المفضلة؟
– أجل. موبي ديك»( ص 200)
فما كان من الأمير، بعد أن قرأ عليه السارد فصولا من الرواية، إلا أن شرع يتقمص شخصية آخاب الذي خابت محاولته اصطياد موبي ديك، حوت الأطلسي، بحر الظلمات، مثلما فشل هو في القبض على شامان، صقر الصحراء:» – هل أنا آخاب آخر يطارد شامان كما طارد هو موبي ديك؟»
فيرد عليه السارد مواسيا إياه:
«- آخاب ، بطل رواية « موبي ديك»، يبدو سجينا لفرديته وذاتيته، ينصب نفسه ظهيرا مطلقا للحقيقة.
– هل تعتقد أنني أشبه آخاب؟
– أنت لست سجينا لفرديتك وذاتيتك. بينما آخاب كان» ( ص – ص – 204-205)
وعندما كانا ينتشيان من نبيذ سوفينيون، فهما لا ينسيان ترنين كأسيهما في صحة رواية ميلفيل:
« انتشى هنا وبدأ يصيح:
– نخب آخاب !
– نخب موبي ديك !» ( ص 219)
وقد بلغ هيام المؤلف – السارد بهذه الرواية « العظيمة» حدا جعله يفكر في كتابة رواية عن صديقه الأمير « أجمع فيها شامان مع موبي ديك، الصحراء بالبحر، آخاب بالأمير إيهاب، إسماعيل بيوسف البازيار» (ص. 220)
بطبيعة الحال، سيوجد بين القراء ذوي النوايا غير الحسنة – أولائك الذين يكتفون بتصفح الكتب بحثا عن فضائح ما – من سيؤول هذا الإعجاب برواية « موبي ديك» بأنه اعتراف ضمني استباقي من لدن شاكر نوري بالسرقة الأدبية يلتمس من ورائه ظرف تخفيف عنه !
وبطبيعة الحال كذلك، وحيث إنك قارئ نموذجي بامتياز، تخوله خبرته الأدبية وذائقته الجمالية أن يتفطن إلى ما يومأ له إيماء في ما بين السطور، فإن تلك الإشارات إلى رواية ميلفيل – وهي إشارات متعددة تنبض بذكاء ودهاء ينمان عن وعي عميق بمفهوم التناص وبرهاناته – سرعان ما ستؤولها من حيث هي دعوة مبطنة لك لتمعن نظرك فيها. إنها بحق بنيات نداء مشفرنة تستحثك على أن تقدّر بالحدس والتخمين كيفية تناصّ « شامان» مع « موبي ديك»، لا سيما أن الأمر هنا يتعلق بشكل خاص من التناص. ذلك أن شاكر نوري، بقدر ولائه لتعاليم جوليا كريستيفا ورولان بارث كما تقدم، يجهر كذلك بولائه للعالم الفيزيائي أنطوان لا لافوازيي، الذي يعتقد جازما بأن « لا شيء يخلق نفسه بنفسه من عدم لينقطع فيما بعد أثره، بل كل شيء يتعرض للتبدل باستمرار».
التبدل؟ هي ذي الشفرة السحرية التي يتعين عليك كذلك تفكيكها لتنفذ إلى « شامان» ! ذلك أن الرواية لم يخلقها المؤلف من فراغ ، بل على مثال رواية « موبي ديك» بالذات، التي خضعت ( هل في غفلة عنه؟) لتبدل مكيافيلي يجعلها، بعد أن تظاهرت بتناسلها من صلب رواية ميلفيل، تنزاح عنها، تحقيقا للتفرد، بقدر ما تنحاز إليها من غير تفرد. فالتناص هنا إذن موقوف التنفيذ أو متقلص الأثر.
هكذا إذن ستعمد إلى عقد لا مقارنة دقيقة بين النصين – تجنبا لأحكام قيمة قد تضمر تفضيل إحداهما على الأخر – بل مجرد مقايسة تقنية ظاهرية بينهما كفيلة بإبراز صيرورة ذلك التبدل الذي عطل سيرورة سريان التناص في الفضاء النصي الشامل لرواية « شامان». ستلاحظ مثلا أن شاكر نوري اختار لروايته عنوانا على مقاس عنوان رواية ميلفيل: كلمة واحدة تبدو في كلا الحالتين بريئة في واحديتها، واقفة على الحياد في دلالتها. لكنها في واقع الأمر تنبض بالتوتر لكون الحبكة الدرامية لكل من الروايتين تنخزل فيها.
كما ستكتشف أنهما تشتركان في الإيحاء بجو نفسي ضاغط خانق مفعم باليأس والإحباط لدى بطليها، الأمير إيهاب من جهة وآخاب من جهة أخرى. فالأول فشل في العثور على صقره المدعو شامان، الذي ضاع منه ضمن ممتلكات أخرى على أثر الانقلاب الذي أطاح بعرش والده، والثاني فشل في القبض على حوت شرس ضخم يدعى موبي ديك لكي ينتقم منه، لأنه قضم إحدى رجليه.
ثم إن الروايتين تتوافقان في كونهما معا مستودعين موسوعيين لإفادات علمية، دقيقة وضافية، عن كل من صقور الصحراء وحيتان البحار: هيئاتهاو أصنافها وطباعها وأحوالها وعاداتها ونزواتها وشيمها إلخ. وكذا المصطلحات الخاصة المتداولة بين صياديها وأدوات صيدها ومواقيتها والحيل المستعملة فيه إلخ.
وإذا أضفت إلى هذا وذاك ترميز كل من الروايتين إلى حالة عدم الرضى الفادحة التي تدفع الإنسان إلى البحث المضني عما يحقق تعاليه على ذاته وتجاوزه لوضعه البشري من غير أن ينجح مسعاه، فستكون قد استنفدت أوجه التماثل بينهما النسبي غير المطلق، التي كانت، لو تعددت وامتدت نصيا، ستجعل التناص تاما غير منقوص.
ثم ها أنت ستعاين كيف أن رواية « شامان» ، بعد أن أوحت بأنها مدينة بوجودها، في حدود ما، لرواية « موبي ديك»، سرعان ما ستعطيك انطباعا عكسيا قويا بأنها لا تنفك تشير إلى قطع كل صلة بهذه الرواية، لا سيما أن أوجه التباين بينهما كثيرة. ويعزى هذا التباين إلى أن نص « شامان» ، تبعا لاستراتيجية استبدالية، شن على رواية « موبي ديك» غارات تحويلية تحريفية خولته، من جانب، أن يبني متخيله الحكائي الذاتي بمعزل عنها، وجعلت هذه، من جانب آخر ، ترتد إلى الوراء، فاقدة كل سلطة عليه.
من خلال مقايسة دقيقة نبيهة، سيسترعي انتباهك أن ميلفيل يهدي روايته إلى مواطنه، الروائي ناثاييل هاوثورن (1804-1864)، الذي بلغ إعجابه به وبرواياته حد هذا البوح بأن « التعرف عليك أقنعني، أكثر من التوراة، بخلود الإنسان إلى الأبد من غير فناء» ، والذي كان يغبطه على « سلاسة أسلوبه ورقته». أما نوري، فيهدي روايته إلى « صديقي المبحر ضد التيار دائما، أبو بدر، الأمير طلال آل رشيد، أطال الله عمره، أهديه روايتي، استوحيتها من قصة حياته أثناء صداقتنا المديدة في باريس».
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هوية المهدى إليه، التي قد تبدو عديمة الأثر، تكشف في الواقع عن أمر لا يخلو من أهمية، وهو أن كلا من ميلفيل ونوري يراهن في روايته على غاية مختلفة: فإذا كان الأول يسعى، ولو بغير إرادة منه، إلى مضاهاة أسلوب مواطنه، فإن الثاني سيبذل جهده من أجل أن تكون روايته ضد التيار، أي ضد إغراء النيابة عن صديقه في كتابة سيرته الذاتية، « لأنني لست الشخص المناسب لإنجاز هذه المهمة». ( ص 34) فهو يربأ بنفسه عن تسخير موهبته الأدبية وقريحته الإبداعية لمجرد تدوين حياة شخص آخر، حتى ولو كانت حياة صديقه ! « لأنني ببساطة لست مولعا بالسير الذاتية بقدر ما أنا مولع بما اصنعه منها» ( ص 34).
ماذا يسعه أن يصنع منها؟ إذا أجبت عن هذا السؤال المضمر، فستكون قد أجبت عن هذين السؤالين: ما الذي يحدث حين يتم رصد واقع ما ( حياة شخص مثلا) بالمقلوب؟ ما الذي يغري روائيا ما ( شاكر نوري مثلا) بتبئير اهتمامه لا على وجه حدث حقيقي ما (son endroit)بل على ظهره (son envers)؟
تستهل « شامان متخيلها الحكائي بقول السارد – المؤلف :» هكذا بدأ كل شيء من مقهى غويا بباريس لينتهي في الصحراء». ( ص 21) وتختمه بقوله:» سألت النادل، فأجابني بأنه سافر إلى بيروت وترك باريس». ( ص 231) وبين المقهى الباريسي وبيروت، وقعت أحداث استثنائية لا لأنها خارقة للعادي والمألوف، بل لأن السارد تولاها بخياله وأخضعها لمفاتن التخريف والهلسنة. هو ذا تماما ما صنعه من حياة صديقه ! أما إسماعيل، السارد في « موبي ديك» فهو يروي قصة آخاب كما هي، أي من غير أفاويه الاستيهام وبدون توابل الاستخيال.
هكذا بدأ كل شيء إذن: يصل السارد ذات يوم إلى مقهى غويا الراقي الذي اعتاد أن يتردد عليه منذ أعوام خلت. فجأة تناهت إلى سمعه نقرات تحدث صوتا نشازا: « لولا تلك النقرات لما انتبهت لهذا الرجل الوقور في جلسته وهندامه». (ص 25) كم يحلو لي أن أشبه هذه النقرات المتتالية بخبطات القدر المحتوم التي توهّمها بيتهوفن في الحركة الأولى للسامفونية الخامسة ! لا سيما أن انتباهه لذلك الرجل « الملغز المدهش» ومعاشرته طيلة سبعة أعوام لم يكونا من غير أثر في حياته، ما جعل قدره الشخصي يرتبط طوال هذه المدة بقدر الرجل الذي يقول عنه :» شعرت بأن هذا الرجل من الأشخاص الذين يريدون تجاوز قدرهم». ( ص 34) وهل كان يمكن له سوى أن يستجيب لقوة سحره وجاذبيته باكتساب مودته: « كأننا خلقنا لصداقة ليست عابرة» ( ص 34) والتضامن معه في محنته التي سرعان ما باح إليه بها بكل عفوية بعد أن وثق به وارتاح إلى لطف مؤانسته في أوقات إنشاد الشعر والانتشاء والسلوان؟
هو رجل لا كالرجال ! حين كان شاكر نوري، طوال سبعة وعشرين عاما ( بين 1977و 2004)، يعيش بوهيميته في باريس ( هل هي محض صدفة أن يفيد لقبه – نوري – الغجري؟)، كان هو يداري لوعة الاغتراب عن إمارته السليبة بأن يعتبر نفسه « مواطنا كونيا في برج بابل». ( ص 36) اسمه طلال آل رشيد، أمير سعودي كان سيتولى حكم إمارة جبل شمر بحائل بعد والده محمد الطلال آل رشيد، لولا أن هذا الأخير قد تم اغتياله عقب انقلاب غاشم عليه، ما اضطره إلى الرحيل، بعد تشتت أسرته، والاستقرار في فرنسا طيلة أكثر من خمسين عاما. ولأن « كل ما هو غير مكتوب لا وجود له» ( ص 45) تحويرا لقول فيرجينا وولف « Nothing has happend as long as it has not been written about » فقد انتذر شاكر نوري على نفسه، وفاء بالصداقة التي ربطته بالأمير، أن يدون قصته لا في شكل سيرة باهتة مملة، بل في هيئة رواية لاكالروايات: رواية مذهلة آسرة يتلبس فيها الواقعي بالمتخيل، وتزدوج فيها الأهواء الذاتية بالتأملات الميطافيزيقية، ناسجا له صورة افتراضية تكشف عن لواعجه ورغباته ونزواته الحميمة أحسن مما كانت ستكون لو عرضها في صيغة أوطوبيوغرافية خالصة، صورة لا يمكن للقارئ إلا أن يتواد ويتعاطف معه.
كل شيء بدأ من مقهى غويا الحقيقي، الموجود في « نويي سورسين» أحد أرقى أحياء باريس، والمطل على شارع شارل ديغول، حيث كان الأمير يبوح للمؤلف بقصته، لينتهي في صحراء مستوهمة اندلقت صورتها في تمام بذخها الرائع والمروع لا من الإدراك الحسي للسارد – المؤلف، بل من مخيلته المهتاجة بالعجب العجاب:» هل كان هذا يتطلب هيجان الذهن أثناء الحكي؟»( ص 23)
بلى، قلت في نفسك ! ولأنك تعرف أن شاكر نوري حكّاء ماهر، وأن له فوق هذا خبرة عميقة بتقنيات الحكي السينمائي ( فهو حاصل على الدكتوراه في السينما والمسرح من جامعة السوربون التي عمل بها أستاذا للسينما العربية !)، فقد خمنت أنه وظف بإتقان تقنية الـ (Cross fading) تحقيقا لهذا المرور الافتراضي من فضاء المقهى إلى فضاء الصحراء، أي من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال. لكن لهذه التقنية في رواية « شامان» وجها آخر : فإذا كان المقصود بها في الكتابة السينمائية هو بث الشواش و إشاعة الضبابية في مشهد معين يترتب عنهما تدخل مشهد آخر في النسيج الحكائي يلغي نهائيا وبالتدرج المشهد السابق، وذلك بغاية استعادة حدث ماض، فإنها تعني لدى شاكر نوري حلول فضاء محل فضاء آخر من غير إقصاء ذاك لهذا يشكل نهائي، لا سيما أن ثمة علاقة كنائية قوية تربط بينهما من خلال تركيز كل منهما على شخصية الأمير المحورية. فالأمر إذن يتعلق بمجرد توقف مؤقت للسرد الكرونولوجي سرعان ما سيستأنف جريانه المنطقي العادي. والحاصل هو أن الرواية، من مطلعها إلى مقطعها ، تقوم ، بتصميم محكم ومدروس بحساب، على مبدإ هذا التناوب العجيب بين الفضاءين- المقهى والصحراء – ما يغريني بتحوير قول المؤلف – السارد:» هكذا بدأ كل شيء من مقهى غويا لينتهي في الصحراء»( ص 21) ليتحول إلى: « بدأ كل شيء من مقهى غويا لينتهي في الصحراء ليعود إلى المقهى ثم يرجع إلى الصحراء ليستأنف في المقهى قبل أن يؤوب إلى الصحراء ….» وهلمّ دورانا مدوخا في حلقة سردية مغلقة !
ولعلك تكون قد تفطنت إلى أن شخص الأمير – بعد أن تغير اسم إمارته في الرواية من « إمارة جبل شمر» إلى « إمارة جانين»، التي لا وجود لها حقيقيا في الخرائط – قد تأثر هو الآخر بذلك العبور الاستعاري اللانهائي بين الواقع والخيال، حيث عمد المؤلف إلى تخييله كذلك باستبدال اسمه الحقيقي، وهو ( الأمير) طلال آل رشيد، باسم مستعار، وهو ( الأمير) إيهاب، بل أيضا وخاصة إلى أسطرته من خلال إضفاء أبعاد تراجيدية عليه. فهو مثلا لا هم له غير الانتقام ممن قتلوا والده : أمنيتي هي ألا أموت في فراشي (…) فقد حمّلني والدي مسؤولية لا تزال تؤرقني ليل نهار: استعادة إمارة جانين من أيدي الغزاة. ( ص 43) كما أنه عرضة باستمرار لانفعالات ورغبات ومشاعر قوية لا طاقة للإنسان العادي بها، ما جعل السارد يصفه بـ ئالممسوس»: تهز الآلام المبرحة كيانه ( …) وعيناه تتوقدان بوهج يحمل الغموض والأمل والحلم، حتى راودني الشك، وأنا أستمع إليه، إن هذا الرجل ممسوس وبحاجة إلى علاج سريري اختلطت في ذهنه عوالم الواقع والخيال ورغبات جهنمية آتية من أعماق ذات معذبة ( …) يواجه شرخا لانهاية له في خراب وانهيار وضياع» ( ص – ص 85-86) ومع ذلك، « ظل متشبتا بحلمه ( استرجاع إمارته) الذي يشبه الأحلام في التراجيديات اليونانية» ( ص 120)
ماذا كانت النتيجة ستكون لو أن شاكر نوري كتب رواية يحكي فيها بالتفصيل ظروف المؤامرة على عرش والد الأمير واغتياله وتشتت شمل أسرته وغربته في باريس وتعاطيه للخمر والجنس والقمار؟ لا شك في أنها كانت ستكون رواية فجة مفتقرة إلى الأصالة أو ، في أحسن الأحوال، رواية ميلودرامية تستجيب لانتظارات ذوي الانفعالات bon marché . كانت ستكون رواية ذات نسبة عالية من النثرية والنيوءة ! لهذا قال، بحق وصواب، على لسان سارده إنه مولع بـتصنيع السير الذاتية بإعدادها وتشكيلها، أي إخضاعها بالضبط لوساطات ثلاث تسعفه وحدها على إنتاج أثر فني جميل ينتمي إلى حقل الأدب، وهي التخييل أستعيد قصة الأمير وأضفي عليها من خيالي الكثير (ص 220) والهذيان: «وهل يمكن لي أن أتعامل مع قصته بدون هذيان ؟» ( ص .220) والأسطرة:» وجب عليّ أن أضفي عليها كل ما هو أسطوري». (ص 216).
هكذا أمكن له أن ينصب ديكورا يكون على قد البحث الملحمي الوهمي الذي سينذر له الأمير إيهاب نفسه ووقته وثروته، وكذا في مستوى النزوات والأهواء التي تحركه. وهل هناك أحسن من الصحراء فضاء لاحتواء كل هذا لكي تكون، من جانب أول، مقابلا تناظريا لفضاء المقهى الضيق، ولتكون، من جانب ثان، دليلا آخر غير أخير على انزياح رواية «شامان» عن رواية ميلفيل من خلال استبدالها فضاء أوقيانوس، حيث تدور أحداث « موبي ديك»، بفضاء الصحراء، ولكي تكون، last but not least، ذريعة تخوّل شاكر نوري أن ينضم بجدارة إلى كوكبة المبدعين المولعين بقراءة الصحراء شعريا وكتابتها روائيا؟ كوكبة تضم عربيا إبراهيم الكوني وعبد الرحمن منيف وصبري موسى الخ، وتضم عالميا أونغاريتي وكونراد ولوكليزيو وبوزاتي الخ.
كل شيء بدأ من مقهى غويا حيث حكى الأمير للسارد كيف أن الثوار، صبيحة ذلك اليوم المشؤوم، هجموا على القصر الملكي واقتحموا غرفة الصقارين، مروعين الصقور بإطلاق الرصاص من بنادقهم، وقتلوا بعضا منها، فيما هرب البعض الآخر من النوافذ والكوّات «، (ص. 47) وكان من بينها صقره الأثير شامان. وكل شيء انتهى في الصحراء التي قرر الأمير أن ينظم فيها، حتى الرمق الأخير، حملات بحث «قد تمتد إلى أيام وأشهر وربما سنين، وليس أمامنا إلا أن نستعيد شامان. هذا الطير لا مثيل له»، (ص.133).
وحتى يكون فعلا لا مثيل له، فقد عمد المؤلف ـ السارد إلى منحه من الصفات ما يجعله نابضا بالمفارقة: فهو يزهو بين الطيور التي من جنسه بتعاليه عليها من خلال حيازته لقدرات وخصال تتجاوز نطاق الإدراك والخبرة. فهو مثلا «ذو مشاعر تعلو على الوصف، ترتبط بلب العاطفة وجوهر الزمان والعنفوان». (ص. 102) كما أنه «عزيز النفس والأنفة، شديد الإحساس» (ص. 76)، لا يمكن للمرء أن يطيل التحديق في عينيه «لأن ثبات نظراته يجعلك ترتعش أمام كل المعاني التي تنبثق من عينيه في الصلابة والمكر والدهاء». (ص. 82) لكل هذا، أصبح «أكبر شغف في حياة الأمير إيهاب، يساوي عنده كل مناجم الذهب وأملاك الكون». (ص. 135) بل أصبح يرمز إلى إمارة جانين الضائعة نفسها، بحيث يكون العثور عليه استرجاعا لها: «شامان رمز لمملكته الوهمية الافتراضية التي شيدها من الآمال الضائعة». (ص. 106) فالأمير «ليس مهووسا بالصقور بل مهووسا بإمارته التي يرمز لها بصقره شامان» (ص. 108). لهذا ليس غريبا أن يبلغ تعلقه به إلى درجة الوسواس: «يا إلهي ! كيف يمكن لرجل مثل الأمير إيهاب أن يتعلق بصقر تائه وإمارة ضائعة وهو يقطع شوارع باريس ببذلته الأنيقة وشعر رأسه خطه البياض؟» (ص. 100)، بل إلى درجة التذاوت معه: «تماهى مع شامان» ( ص. 139) على نحو أصبحت علاقته به «ليست علاقة بين سيد وعبد، بل بين أمير ونبيل، ملك وملك، أحدهما على الأرض والآخر في السماء» (ص. 194) إنها «علاقة سرية بينهما، لغة خاصة، إشارات وألغاز». (ص. 77) ورغبة من شاكر نوري في تقوية الأثر العاطفي لهذه العلاقة الوثيقة بينهما، فقد تصور أن كلا منهما رشم الآخر بعلامة في جسمه هي بمثابة وعد بالوفاء والإخلاص وعدم خيانة أحدهما للآخر، حيث أنشب شامان مخالبه في كف الأمير اليسرى، الذي بادله هذه العلامة بوشم علامة تحت جناحه الأيسر، «لا يمكن أن تزيلها لا أمطار آسيا ولا رياح الجزيرة العربية كلها». (ص. 88) «لا يزال الجرح في كفه اليسرى بارزا كوشم ملتصق بجلده، أثر لا يمحى (…) كما ترك هو الآخر علامته تحت جناحه الأيسر (…) كأنه يستشعر ضياعه» (ص. 225-226).
هل حقا وقع كل هذا في الواقع الملموس؟ إن الحقيقة الوحيدة هي الأمير جالسا في مقهى غويا يدخن غليونه، برفقة شاكر نوري منصتا إليه يروي فقدان إمارته ولجوءه إلى فرنسا، مغتربا في فنادقها الفخمة وكازينوهاتها الباذخة وشواطئها الزاهية، مستغرقا في مونولوغ داخلي متواصل يمني نفسه بأخذ ثأر والده المغتال واستعادة مملكته. وماعدا هذه الحقيقة، فهو من محض ابتداع مخيلة نوري شاكر الخصيبة المهتاجة. فلا وجود لصقر اسمه شامان. والأمير لم ينظم حملات بحث حقيقية للعثور عليه. والصقار يوسف البازيار، قائد هذه الحملات الوهمية، ومحقق المخطوطات حول الصقور نور الدين، والخيام المنسوجة من الشعر حيث يفترش الصقارون الأرض ويسندون ظهورهم إلى وسائد حمراء من الريش يدخنون التبغ ويحتسون القهوة ويأكلون الثمر الطازج ويلبسون الحرير ويتبادلون أبيات الشعر مرتجلة ويعزفون الناي، والأمير محلقا في أعالي السماء على جناحي شامان، والصحراء نفسها مجالا لهذا البحث المستوهم عن شامان إلخ، كل هذا وسواه مما تعج به فصول الرواية من أحداث وأشخاص وطيور وأماكن وكثبان رمل ليس غير افتراءات وافتراضات تفتق عنها ذهن المؤلف ـ السارد الطافح بالرؤى والهلسنات.
لقد أوحت له موهبته الاستخيالية أن يتخذ قصة الأمير الحقيقية مجرد منطلق وذريعة لإرخاء العنان للعب روائي باذخ نادر، باعتباره شرطا لازما وكافيا لكل إبداع حق. والمكر كل المكر هو أن شاكر نوري يُخضع هذا اللعب الروائي لنوع من التأمل الاستبطاني والفحص النقدي داخل نص «شامان» تماما، وذلك على نحو يبدو معه وكأنه (أي المؤلف) يستقيل من العالم الحكائي لروايته من أجل أن ينتج خطابا ميطا- حكائيا ينظر إلى هذا العالم ويؤوله من منظوره الذاتي.
ففي تصوره أن الوفاء بقصة صديقه الأمير لا يتطلب سرد أحداثها كما وقعت حرفيا في حكاية واحدة، لأن «حكاية واحدة لا تكفي. لذا عليّ أن أضاعف الحكاية». (ص. 23) وما هذه الحكاية المضاعفة سوى تلك التي انثالت من مخيلة شاكر نوري «المسحور بالكلمة والمكان» (ص. 31) «في متاهة ذهنية تمتزج فيها الأسطورة بالخيال»، (ص.9) لأن «حياة الأمير لا يمكن استعادتها إلا في المخيلة». (ص. 96) وهل كان بوسعه غير أن يذعن لفتنة الخيال؟ «فلا أحد يمتلك الجرأة لأن يقف ضد الخيال. حتى متلبدو الأحاسيس لا يمكنهم الوقوف أمامه» (ص. 127) لاسيما أنه يجعل «الحكاية تتفرع إلى حكايات، والقصة إلى قصص، والرواية إلى روايات، لا أحد يمكنه الإمساك بخيوطها أو السيطرة عليها». (ص. 169) إنه كالحمى «التي تحيل الحكايات إلى هلوسة، والمنطق إلى هذيان» (ص. 188) والتي تجعل «كل حكاية تجر حكاية أخرى، وهكذا» . . ( ص. 213) فالخيال إذن « نعمة روحية لانظير لها» ( ص .228) أسعفته على «إعادة بناء قصة الأمير من الأحلام، ولم لا من الأوهام» (ص. 215).
وأعتقد أن ما خول شاكر نوري إنتاج مثل هذا الخطاب التأملي حول أهمية الخيال في إبداع الرواية هو أنه جعل من نفسه شخصية روائية. فهو إذن سارد للحكاية بضمير المتكلم من داخل الحكاية نفسها (intradiégétique). لكن ليس على منوال بعض الروائيين الذين يتدخلون بمنتهى الطيش والسفسفة والرعونة في النسيج النصي لرواياتهم ليدلوا مثلا بآرائهم حول موضوع ما أو ليبرروا سلوكات شخصياتهم أو ليبثوا مواعظ أخلاقية مبتذلة ! إنه بالأحرى سارد متورط في الأحداث من غير حياد ولا موضوعية. أليس هو الصديق الحميم للأمير إيهاب الذي يناجيه في لحظات يأسه وحزنه، وينادمه على الشراب، ويأتمنه على أسراره وهواجسه وأحلامه، ويشاركه في حملات الصيد الافتراضية بحثا عن صقره؟ أليس هو القائل: «جذبني إلى عالمه وأصبحت حياتي حياته، عزاءه الأول والأخير»؟ (ص. 121).
كل شيء في مقهى جويا غويا بدأ إذن، وفي الصحراء انتهى على نغمات ملؤها الخيبة والأسى والإحباط. هكذا شاء شاكر نوري أن تنغلق روايته على صدى هذه الحقيقة: شامان مجرد وهم. «فإلى متى نطارد الوهم يا ترى؟ ألسنا غارقين في وهم البحث عن شامان؟» (ص.144) «أليست فكرة حمقاء أن يفكر الأمير باستعادة شامان؟» انقشع الوهم إذن، ولا مفر من مواجهة الواقع: «هل يسعدني أن أعود أدراجي إلى الواقع الفظ، القاسي، غير القابل للتحمل؟» (ص. 210) وهل أمامه خيار آخر غير هذا؟ لذلك «وبعد مرور كل هذه السنوات، نفد صبري. وكما انخرطت في عالم الأمير، أردت الخروج منه» (ص ـ ص 228-229). وقد خرج منه فعلا مثلما قد يكون خرج الأمير نفسه من عالمه هذا، هاجرا باريس نحو بيروت، حيث يقيم أهله مغتربين.
هما إذن فضاءان يتناوبان على طوبوغرافية الرواية: المقهى حيزا واقعيا يتردد عليه المؤلف ـ السارد ليستودعه الأمير إيهاب قصته، والصحراء حيزا افتراضيا حيث تخيل حملات مطاردة الصقارة لشامان الخائبة. وهما أيضا حركتان تداولهما المؤلف ـ السارد، مرة ها هو في المقهى فضاء محدودا محصورا يوحى بالاختناق، ومرة ها هو في الصحراء فضاء لا حد لرحابته. لكنهما أيضا لغتان لا تنفكان تتبادلان المواقع تناسبا مع خصوصية كل فضاء وكل حركة: تارة لغة تقريرية تتكفل بسرد قصة الأمير كما وقعت، وتارة لغة انفعالية تتولى هذه القصة كما لم تقع، أو بالأحرى كما وقعت في الوهم والخيال. وشتان بين اللغتين ! وتستحوذ الثانية، أي لغة الوجدان، على أكبر مساحة في نص الرواية، أي ما يزيد على أكثر من ثلثيه !
كم مرة أمكن لك أن تضبط شاكر نوري متلبسا بغواية ، لغة الشعر، أسمى اللغات مستقطرا من حبيبات الرمل صورا جذابة واستعارات فاتنة، هي وحدها الكفيلة باحتواء الصحراء جمالا باهرا وهيبة مروعة ووحشة مؤنسة وصمتا ناطقا ! بالفعل، يحلو له بين فينة وأخرى أن يرصع جسدانية النص بشذرات متوترة تنبض بهيرميسية الشعر وغنائية الهذيان وحميمية الوجدان، شذرات معبأة بقوة استكناهية تسعفه على الغوص إلى أعماق الطبيعة الصحراوية الديماسية بحثا عن جواهرها، وبقوة استكهانية تؤهله للتنبؤ بأسرار ظواهرها وأحوالها.
كم يلذ لك ـ لو كان الأمر ممكنا ـ أن تستشهد بمقاطع كثيرة من «شامان تقول حوشية الصحراء أو خداع السراب أو فتنة الواحات أو بهاء رقصات الصقور
في السماء أو سيمفونية الرياح أو دوخة الزوابع أو لغز الخطوط والأشكال التي يخلفها هيجان الرمل على جسد الكثبان إلخ ! كل هذا في وجازة رهيفة ناعمة تروم تكثيف عالم الصحراء في رواية، والرواية في فصل، والفصل في مشهد، والمشهد في شذرة، والشذرة في استعارة، والاستعارة في طيف، والطيف في حرف !
لنر مثلا كيف أن السارد ـ وهو الذي خبر «أجساد النساء العارية على رمل الشاطئ ليتشبعن بالشمس» (ص. 92) ـ يتخيل كثبان الرمل، ذات الأشكال المثيرة للغرائز، في هيئة «نهود الصحراء العذراء» (ص: 174)، ويشببه الصحراء نفسها بـ«عباءة الأنبياء» (ص. 89). أما الرياح فقد «بثت الرعب في كل حبة رمل ونفختها حتى حولتها إلى متاهة، غور، ساعة رملية، جرس، أغنية، صدى. (ص. 172) كما أنه يرهف سمعه لالتقاط «أصوات الصمت» المطبق. (ص. 17) وحين يشتد عليه الحر وتتشوش عليه المرئيات، فإن «البشر يظهرون له مثل تماثيل شمعية تتحرك». (ص. 19) وحيث إن شامان يتخيل له راقصا شاديا في كل مكان.
فإن «أنشودته ـ وهو يشق جبال الثلج بجناحيه ويشكل بحركاتهما الكثبان الرملية التي لم تتوقف عن أخذ الأشكال تلو الأخرى ـ تتناهى إلى سمعه من بطن الوادي مثل طائر رسول يتبارى مع النجوم، يسبقها، يجمع كل أضوائها لينير كتل الظلام التي تلف الصحراء التي تبرق وتنذر بما هو آت» (ص. 127) إلخ
ولعلك ستنوّه بمهارة شاكر نوري في تدبير هذه التركيبة المانوية العجيبة للرواية، التي تعارضت فيها المقهى مع الصحراء، وتواجد فيها السارد بين «هنا» المقهى و «هناك» الصحراء، وتقابلت فيها لغة النثر مع لغة الشعر. علما بأن رهانه من هذه التركيبة كان هو أن يجعلك، أنت القارئ النموذجي، تحس إحساسا عميقا بالخفقان الدرامي للرواية كما بكثافتها التخييلية، وأيضا وخاصة ببلاغة الصمت.
ذلك أن الأهم هو ما لا ينقال في ما وراء الكلمات، هناك حيث يرن قويا عاليا صوت رواية «شامان» المتميز، جاهرا بأنها، بقدر ما انكتبت في كنف رواية هيرمان ميلفيل، ظلت تضاعف فرص وإمكانيات مفارقتها.
قلت محدثا نفسك: «كما خرج السارد ـ المؤلف من حياة الأمير، خرجت «شامان» من مدار «موبي ديك» ! بالفعل، تتعدد وتتنوع قرائن التمايز الواضح بينهما. فمن باب إجمال ما سبق التنويه به، هناك نص الإهداء، الذي يكلل الرواية بما هو أول إشارة إلى شروعها في الاستقلال عن رواية ميلفيل. كما أن الحيز الجغرافي لكل منهما مختلف، حيث الصحراء في مقابل البحر. والمحفل السردي في الأولى متورط بكل جوارحه في المتخيل الحكائي، بعكس ما هو في الثانية حيث يزاول هذا المحفل وظيفته بمنتهى الموضوعية والتجرد. وإذا كان بطل «شامان» الأمير إيهاب لم تبتلعه رمال الصحراء، حيث استأنف حياته في بيروت، فإن بطل «موبي ديك» آخاب انتهت حياته في قاع البحر، غارقا مع البيكود، الباخرة التي كانت تقله. وفيما كان الأول متعلقا بصقر ضائع في البراري يسعى إلى استعادته لاستحالة العيش بدونه، كان الثاني مهووسا بالبحث عن حوت ليقتله. وإذا كان ذاك يعتز ويعزي نفسه بالجرح الذي تركته على كفه مخالب شامان، كعربون على الوفاء والإخلاص، فإن هذا يتحسر بلوعة فادحة على حاله معاقا بعد أن قضم الحوت رجله. ولئن كان الصقر شامان، الذي لا وجود له إلا في مخيلة السارد، يرمز إلى إمارة جانين السليبة، فإن الحوت موبي ديك، وهو ذو وجود حقيقي، لا يرمز سوى إلى المكر والضراوة إلخ.
في ضوء هذه البيّنات وسواها كثير، هل يجوز إذن لكل ذي نية سيئة وحسد في العين أن يدعي أن رواية شاكر نوري قد انسلخت من رواية هيرمان ميلفيل؟ صحيح أنها تظاهرت أحيانا بمحاكاتها في بعض الجزئيات ذات الصلة بالبنية المضمونية خاصة. لكنها مرات عديدة أعطت الدليل المفحم على أنها اختطت لنفسها مسارا تختص به، لاسيما منه ما يتعلق بالوسائط الشكلية والجمالية المنتجة لتلك البنية. فرواية «شامان» مثلا تتوسل بالشكل الأوطوبيوغرافي في تعلقه الحصري بالمؤلف. ذلك أن شاكر نوري، في الوقت الذي لم يخف استنكافه من تدوين السيرة الذاتية لصديقه الأمير، لم يفلح في وضع مسافة بينه وبين حياته الفعلية في باريس طيلة أكثر من ربع قرن. فلا شك في أن كتابته لهذه الرواية في العام 2011، أي سنتين بعد رحيله عن باريس، كانت بالنسبة إليه فرصة مواتية لينكفئ إلى سريرته من أجل وضع تجربته في الغربة موضع سؤال جذري، مخضعا ذاته الحميمة لمحك التحليل والتأويل. بهذا المعنى، وعلى رغم تستره خلف قناع سارد مجهول الهوية واحتراسه من إعارته اسمه الشخصي، فإن روايته هي بمعنى ما، سيرة ذاتية لأحلامه وفانطازماته. فهي ليست في حد ذاتها موضوعا مستقلا عنه. فلا يمكن بأي حال فصلها عن اليد التي كتبتها، ولا عن الذاكرة التي تدفقت منها، ولا عن الرؤية الجمالية التي كيفتها.
كما أن المؤلف تصور لروايته توليفة زمنية هارمونية تنبني على فكرة «العود الأبدي» للأشياء، العزيزة على كل من فردريش نيتشه وميلان كونديرا: فكل شيء فيها يبدو وكأنه يستأنف ذاته، بعد إيهامه بانقطاع أثره، حيث يوحي الزمن حينا بالتفافه على نفسه، قبل أن يواصل حينا آخر انبساطه في ديمومة لا تفتأ تردد ذاتها. فعلى إيقاع حركة دورية، تكرارية سلسة، يراوح السارد بانتظام بين زمنية قلقة متوترة في فضاء المقهى وزمنية وديعة هادئة في فضاء الصحراء، ما يشوش بقصد السريان الأفقي للزمن. ذلك أن زمن «شامان» ليس تيارا سريعا متدفقا يدفع حبكة ما إلى الأمام ـ كما في الحساسية الروائية التقليدية ـ وإنما هو بمثابة ماء راكد تحدث تحت سطحه الخادع تقلبات وتحللات بطيئة لا يمكن إدراكها إلا بالقوى الباطنة. إن «شامان» هي بامتياز رواية الزمن الوجداني، ذاك الذي لا يعبّر عنه إلا بلغة تم فيها ضخ ماء الشعر.
– مرحى ! لقد أبليت في قراءة «شامان» بلاء حسنا !
– …….
– إذا أجاز لي أن أتدخل في صلب خطابك التحليلي للرواية، فسأشير إلى أن فكرة «العود الأبدي»، تلك التي انتبهت إلى أثرها القوي في النص، تعني كذلك معاودة المؤلف ـ السارد المنتظمة للصحراء من حيث هي فضاء يستنفد فيه، على إيقاع مشاهد وانطباعات بعينها، طاقته الانفعالية والتعبيرية. فكأنه يريد الذهاب إلى أقصى حد في قول ما يعتمل ديماسيا في وجدانه من أجل إفراغه وإفنائه حتى لا تبقى منه سوى ذكراه.
– ……….
– إذا فهمت مسعاك جيدا، فلعل الغاية من تحليليك المستفيض كانت هي الدفاع عن «شامان» وعن صاحب «شامان»، وتبرئة هذا من تهمة السرقة الأدبية. لكن …. أخبرني، هل سبق لك أن سمعت أو قرأت أن شاكر نوري وجهت إليه تهمة سلخ رواية «موبي ديك» حتى تنتدب نفسك محاميا عنه؟
– أبدا لم يحصل هذا، كل ما في الأمر هو أنني تخيلت ـ وهذا من حقي ـ أن من المحتمل أن يوجد بعض ذوي النوايا المغرضة والحسد في الأعين الذين سولت لهم أنفسهم الأمارة بالسوء أن يؤولوا إعجاب شاكر نوري برواية ميلفيل وإحالته المتكررة عليها في روايته بأنهما دليل على الانتحال، وذلك من غير أن يتأكدوا منه بالمقارنة بين النصين.
– وهذا ما تكلفت أنت عناءه !
– أثناء تحليلي ل «شامان»، لم يخالجني قط أي شعور بالعناء. كما أنني تجنبت عمدا عقد مقارنة بينها وبين «موبي ديك»، أولا تفاديا مني لإجراء مفاضلة بينهما، وثانيا اقتناعا مني بأن بين النصين علاقة تنّاص من نوع خاص، وهو التناص الاستبدالي أو التحويلي. فمن خلال مجرد مقايسة بينهما تنظر إلى «شامان» في مرآة «موبي ديك»، أمكن لي أن أثبت أن الأولى، بعد أن تظاهرت بأنها اندرأت من الثانية، لم تفوت أي فرصة لتتمرد عليها عبر سيرورة تحويرية شملت بعض العناصر والمقومات التي تنبني عليها. ولا أخفي عليك أن ما خامرني أثناء هذه المقايسة هو بالأحرى الإحساس بالمتعة لا بالعناء.
– لكن ما لا أفهمه هو أنك بنيت خطابك النقدي كله على التخيل، الذي اعتبرته من حقك ! فمتى كان النقد قائما على التخيل، لاسيما أنه يتوسل، قليلا أو كثيرا، بمناهج العلوم وأدواتها؟
– اسمع. رواية شاكر نوري تكاد أن تكون برمتها مفتتنة بالتخيل والافتراض والتوهم. فلماذا تريد أنت أن تمنع على خطابي النقدي نعمة هذا الافتتان؟ لقد كان بإمكاني ألا أفترض وجود ناقد أو نقاد اتهموا شاكر نوري بانتحال «موبي ديك»، وأن أقصر اهتمامي بالتالي على تحليل نص «شامان» مكتفيا بذاته. لكن هذا المسعى كان سيضيّع عليّ فرصة استعادة ذكرى ممتعة، وهي أنني قرأت «Moby Dick» مترجمة إلى اللغة الفرنسية قبل نحو خمسين سنة، وكان من جهة أخرى سيحرمني من مزاولة هوايتي الأثيرة، ألا وهي مراودة النص عن نفسه ليمتزج بأفقي التحليلي الخاص، اقتناعا مني بأن للناقد متخيله الشخصي كما أن للكاتب الروائي متخيله الشخصي. لذلك، تسليتُ ـ وهذا من حقي كذلك ـ باستدراج «شامان» إلى المدار الشخصي لخيالي، حيث تصورتُ أنها انكتبت في ما بين حركتين: انحيازها لـ «موبي ديك» وانزياحها عنه.
– يا للعجب ! قارئ نموذجي أنت فعلا ! هلا تقول لي ما هو اسمك؟
– لا يهم أن تعرف اسمي. فأنا قارئ افتراضي. أليس افتراضيا كل ما في هذه الرواية الجميلة أو يكاد؟
– (دار كتاب للنشر والتوزيع، الإمارات العربية المتحدة 2011، ط.1)
1