حمد الصبحي*
قد تكون الخطوة الأولى، خطوة خاطئة، يتبعها،الضحك، في نهاره الطويل، ويتبعه الحلم وسيلاٌنه، وقد تكون هذه الخطوة مطعونة بالأمل، وكأننا في إنتظار الشمس، إنها رحلة مضٌنية، في الحياة وفي مفاصلها، في أيامها وأحلامها، وانكساراتها وتشظياتها وهزائمها، إنها الحياة إذا تكوٌنت في مفترق الطرق، هكذا يمكن إذن أن نتحدث عن زمنين، عن مسافتين،عن عالمين، عن مكانين، بكل ما يجمعها من مفارقات وحيوات وأحلام ترزح تحت المغيٌب وعلى تراب الظهيرة، بين جدار الظلمة، خرجت الكلمات، طارت على أزميل يحفر الأحلام، نهضت من قبضتها ومن رمادها ومن منازلها وكوابيسها.
يمكن الحديث عن مبارك وزمنه، عن غرفته «العقيدة» التي خرجت بضربة حظ من خط النار إلى رماد البترول، لتكون وجهٌ وقِبلة الحجر، إنه الزمن إذا لعب بالبيضة والحجر، واليد إذا امتدت إلى آخر العالم لتكتب النجاح على خبط الأجنحة المجروحة وتسكب الدمع في الشارع، جاء مبارك في هذا الزمن، زمن العقيدة، الأقرب إلى خيال المآتة، مصادفة، لم يسبقه التخطيط في أن يكون على خريطة هذا السوٌاد، جاء كغيره بحثا عن زاوية صغيرة وعن هامش، ليجد نفسه في غرفة مغلٌفة بالكذب، من جنوب الجبال حتى ماء النيل، الكل هنا يقتات من البترول بكلمات على الورق، الكل يكتب على النهار القادم بالأمل الكبير، الصحراء تضخ براميل البترول، وفي المدينة تكبر الرؤية والعبارة، وتصنٌع الأحلام كتصنيٌع أطفال الأنابيب للمستقبل المدهش ومبارك بين ظلمتين ونهارين، نلتقي في هذا الزمن على إنه الأجمل، زمن آخر، لا نرى فيه إلا الحلم، والبياض، وكأن الحياة تغرق بماء الفردوس.
عن مبارك أكتب
عن الصديق أكتب
عن الشاعر أكتب
وأترك الصحفي في غرفته المهجورة ليسدل النهار ستارته الأخيرة.
أكتب عنه وعن زمنه وعن الأيام وعن الأحلام، أكتب.
أكتب على ورقة بيضاء لقتل الأمس المطعون بالأمل،
أكتب عن الرحيل المباغت، عن الفاجعة التي تلحق بنا.
أكتب عن رحلة الأمس وظلها عن خطوة يتبعها سيلُ الضحك عن ليال مخبأة في قلب مبارك.
يمكن الحديث عن الصديق مبارك بين زمنين، زمن مضى بكل أحلامه ومرحلة حبلى بالحساسية الجمالية، التواقة إلى الكتابة الجديدة، مثقلة بالأفكار وكأنها في إنتظار الشمس، وهي كذلك، مرحلة تأرجحت بين أن تكون أو لا تكون، زمن كانت الأرض ترزح تحت وطأة الحلم المشدوٌد، سنوات مثقلة بالعزلة والشتات، تحلم بكسر الأرض وأعادتها إلى سيرتها الأولى، خض التاريخ في غرف الولادة، من هنا خرج مبارك ليكتب مشروعه الأول على صدر «العقيدة»، يحلم بولادة اليوم الجديد، وبالكتابة الجديدة في أفقها الكبير، والخروج من الأمس المجوٌف والمفرغ من المعنى، يتوسل بمشروعه النهار وبياضه.
لم يكن هذا المشروع إلا تيه الأيام، ومسافات بين الغرفة وارتفاع الجبل الذي طالما فكر أن يصعده ليرمي بحجرة في مياه الأرض الراكدة، نعبر معه هذه المسافات بين نافذتين، المنتدى الأدبي الذي كان ينفض الغبار عن وجه الأسلاف وعن مغامرة مدفونة في البيت الأبيض الذي لم يتسع لقصيدة نزار قباني، كان مبارك يحمل حلمه كأزميل بين هذه المسافات ليجمعها على صفحات المجلة، التي كانت حينها مقرا للكلمات الجديدة، لم يكن وقتها قد ولدت بعد الكتابة الحديثة إلا في قصيدة سيف الرحبي التي خرجت من رحم الغربة والشتات، كانت محاولات مبارك وعبر صفحات المجلة، هي ما تشبه النواة، لكن حتى هذه المحاولات قبرت ودفنت وأرشيفها لم يعد له مكانا في هذا الزمن، ردمته المرحلة قبل أن يغيُبه الزمن.
من هذه التجربة التي دفعت أرحامها بقصيدة مبارك وبتجربته في «مدارات العزلة» و»شارع الفراهيدي»، ليوثق تجربته الكتابية، أجهض مشروعه بفعل مخبأ في جب الأمس، ليجد نفسه في طريق آخر ليس أقل ثقلا من هذه التجربة، ربما أكثر مرارة، يكون هذه المرة في مستطيل الجريدة التي رفعت ذات يوم، في صدر صفحتها الأولى بأنها توزع الذهب على موظفيها» لم يكن هذا العنوان الكبير إلا رسالة لقبض المال، محاولات مبارك لم يكتب لها إلا الفشل أيضا في هذه الجريدة، ليذهب بعدها إلى محطته الأخيرة، في مجلة لا يقرأها النهار إلا في ظلمته.
أكتب عن مبارك الصديق، الذي التقيت به بين هذه المسافات، وتيهها، التقيت به في ظهيرتها وليلها البارد، نقرأ الوجع والخسارات، نقرأ البلاد حرفا، حرفا، حتى تخرج الكلمات مذبوحة، نكتب على ما تبقى من الليل وعلبه الفاسدة، مشيٌنا كثيرا في ضواحي الأيام وتشبثنا بالحلم كالقابض على الجمر، بكينا بين جدران الظلمة حتى سال دم الضحك.
ماذا حدث يا مبارك
ترحل ..
وأنت الوصي على ماتبقى من أيامنا
ترحل…
وأنت تكتب عن كل الأصدقاء الذين يخطفهم الموت مبكرا.
ترحل اليوم عنا، وعن أيامنا
وتتركنا أمام هذا الرحيل ندمع، ونكتب عن رحيلك، قبل أن نكتب عنك، وعن مادفنه الزمن، لم نعرف شيئا بعد عنك وعن أيامك إلا على الجدار الأزرق، هذا الجدار الذي علقت عليه قصيدتك، لنقرأها الآن، نقرأ عذاباتك في ردهات المستشفى وغرف العناية ونشم روائح الأدوية في كل قصيدة، ها أنت الأن تلوٌح بقصيدتك»
هأنذا أدفع الثمن لمن
لا أدري لمن
لكنني أدفعه باهضاً
من على هذا السرير
المتواطئ
مع سورات الألم
التي لم تعد تحتمل
منسيا من وطن أحببته
وأصدقاء لا حيلة لهم
سوى التلويح من بعيد»
هل أنت رحلت؟
لا، لأننا ننتظرك
كلماتك
على الجدار الأزرق
ننتظر رسائلك الصغيرة
وأنت ترد بجملتك المعهودة
كم هو العالم جميلا
هذه الجملة، الآن أتذكرها
أتذكرها وإن ثقبت ذاكرتي
بوجع الأيام
العالم جميل يا حمد
هكذا كنت تقول
كنا نضحك على مولدنا
ونلعن اللحظة الأولى
التي قذفتنا إلى هذا الجحيم
هل تتذكر هذا، حتى في آخر
زيارتي لك في المستشفى السلطاني
وأنت تتوجع، تتحدث عن الأمل والحياة
هل تتذكر يا صديقي
عندما كنت أقول لك
بأن الحياة لم تعد حياة
وأننا نتشبث بقشة الأمل
وكيف أن العالم لم يعد جميلا
أتذكر عزلتك وهي أبعد من «شارع الفراهيدي»
وأبعد من «الوطن الجائر
وأبعد من «مداراتك»
ومن بوحك الذي تتقاذفه أمواج «الحيل»
آه يا صديقي
حتى في ذبحتك الأولى
عندما زرتك بصحبة صديقنا الشاعر
عبديغوث كنت تقول بأن المساء
قد حان يا أصدقائي
ماذا لو كانت هذه المحاليل المالحة
هي ماء ليلنا البارد
كم كنت قويا في الوجع
لا تتألم ونحن نتألم
هكذا حتى في آخر زيارة
وأنت ترقد على سرير المرض
تتحدث عن أمل أن يكون اللقاء القادم
في مغارة بحر عمان بصحبة سالم علي
وتتذكر صديقنا علي السيابي
الذي غدرت به الحياة
كان قد خبأ لي زجاحة نبيذ
ملفوفة بعشبة يابسة
نتذكر أيامنا وسنواتنا الخمسينية
التي مرت عبثا
نتذكر الفتيات المسقطيات
نتذكر مجانين مطرح
نتذكر أول أغنية وطنية مع مشروبها الفاسد
نتذكر أحلامنا الصغيرة
كيف كنا نهربها على السطوح
نتذكر العشبة الخضراء
من صديقنا علي الذي رضع في
مراهقته نهد جدته
آه ياصديقي
لم أكن أعرف بأن مسقط
التي تسكن قلبك ستفارقها
كنت تتحدث عن مسقط حتى في مراكش
مع سعيد زويتي
هكذا كان يحدثني عنك آخر الليل
تملأ كأسك وتكتب عن حنين الوطن
عرفت المدن العربية بقصائدها
قرأتها بقلب كبير
ولحبك للكلمة
سميت أبناءك بأسماء الشعراء والكتاب
غسان
لبيد
منيف
وهكذا ترى أولادك
أحفاد الشعراء والكتاب
والمناضلين
يحفرون أحلامك
لم تقل يوما بأنك مستاء حتى من أضعف قصيدة
ولم تنعت حتى الشاعر الفاشل إلا بكلمة حب وتقدير
الآن فقط نفتقد رسائلك الملوٌنة في الليل و الصباح
و قد حجزت نافذتك الزرقاء لترى العالم
هذا العالم الذي أحبك
والآن يكتب عنك بأنك شاعر الحب والإنسانية
وأنت الذي لم تهنأ بهذا الحب إلا في الكلمات
كنت قويا، شجاعا، تقاتل مرضك حتى في النوبات المتكررة
في غرف الإنعاش تكتب، في غرف الغسيل تكتب
وأنا الآن اتأملك إنك تكتب قصيدتك بفرح
وتحمل قلب الأرض التي تحبها.
هكذا رحلت في صمت كما هي حياتك التي عشتها في صمت دون ضحيج، ترحل دون أن نشيٌعك وخذلك الوطن أن يمشي وراء جنازتك.