إن ألفة المانيكان المرئية من خلال واجهات المحلات التجارية الكبرى «محلات الألبسة بصورة خاصة»، وحتى المحلات الصغيرة، مع تفاوت في الأحجام والألوان والقيمة والتنوع فيها، ربما لم تعد خافية على كل مشاهد، إذ خلف الواجهات البللورية الشفافة جداً، وفي هيئات شتى، يمارس المانيكان تحدياً للمتفرج، لأنه يستدرجه إلى الداخل، إنه ذلك الدور الخفي، أعني تلك الألفة المموَّهة، المخادعة، أعني الشرك المنصوب للناظر، لأن وراء كل التقاط بصرية ثمة حالة جذب، استمالة ما، مسعى للإيقاع بالناظر، كما لو أن «النسخة» المانيكانية المعروضة وهي في كينونتها البلاستيكية اللافتة، تحيل الصمت الممثّل فيها داخل حيّز قائم وراء الواجهة المسماة، إلى حركة موجهة صوب الناظر أو المقتني، للدخول، لأن ما هو معروض مانيكانياً يشي بغواية تلذذية، من شأنها الاعتراف بسلطة المانيكان وفذاذة الصانع، وشطارة « المالك» معاً، وهي نافذة، في تحقيق أهداف عملية، والتبشير بظهور سلالة مانيكانية باتت في عهدة تاريخ لا يخفى علينا، تاريخ السوق، وتحولات السوق، كما لو أن استعراضاً من نوع آخر، مستجد، ومفعَّل بقوى تقانية وبحثية سلعية الطابع وموجَّهة نفسياً، صار له شأن اعتباري، جمالي، لا يعود فيه البلاستيك» المؤنسن» والمختزل، أو الملعَّب» المحوَّر» فيه، بلاستيكاً، إنما في مزاحمة مع « الحيوان الناطق»، وصار له سجله الذاتي وعلامته الفارقة ومقامه، لكن كل ذلك لا يدع المتتبع لما يجري في العالم المانيكاني بعيداً عن مقاربة المتأتّى من هذا المانيكان وتكوينه منذ قرن ونصف القرن، وقابليته للتجدد، وقبوله بالدخول في مشهديات اللقطات المدروسة، ومنافسة الاستعراض الحي من خلال هيئات لا تخرج عن سياسة لها صلة بالماركة التجارية والداخلين في لعبة التصميم والترويج للعبة العلاقات السوقية، فتكون لدينا سلعة تتقدم من أجل سلعة أخرى، سلعة معروضة: مانيكانية تماماً، لا تغادر مكانها، ولا شأن لها كسلوك ذاتي، لأن لا ذات معتبَرة لها، كونها مجوَّفة من الداخل، ولا تستطيع أن تغيّر في هيئتها، فهي محكومة بتيمة استعراضية ثابتة في المكان، لا علاقة لها البتة بتحولات المناخ: حرارة أو برودة، إلا ما يتقرر في الداخل، عبر تأدية أدوار مقترحة، وثمة سلعة في انتظار الخروج من المحل التجاري المرسوم، الذي لأجله كان المحل نفسه، لأجله جيء بالمانيكان، ربما طُعماً ما، إنما أيضاً هو مسعى من نوع آخر: هائل ومخيف ويستثير انفعالات مختلفة لمواجهة الإنسان، وقد صير أشكالاً تناظره ولا تحاوره، وكل ذلك يضعنا في عهدة نظام ثقافي، في مجابهة خطاب تتصاعد وتيرة عنفه المرئي في رعب المتشكل، وتنوع المعروض، وما يجعل من دوسوسير نفسه مصدوماً بهذه القرابة بين دال غير معهود ومدلول غير مستقر وسط الحشد المانيكاني، وهو ربما أمكن وصفه بـ«الهوليودي» الجدير بالتنويه، وأفلمته الصامتة والبليغة معاً، في واقع فقد شفافية صورته كثيراً، وربما صار البديل البلاستيكي مطروحاً في الواجهة، بمثابة إعلام لمن يعلَم بما هو عليه موقعاً وثقافة!
إعلان ولادة المانيكان إذاً
ربما هوذا المانيكان الذي يحمل معه، في طريقة ولادته دفعة واحدة، في هيئة معينة، مفصحاً عن أن لا ثبات الزمن، وبالمقابل، عن حضور نهر ديمقراطس سريع الجريان، كما لو أن المانيكان صعد من الأعماق، ليضفي مسحة لا تخفي من الشعائرية المرسملة على المرئي، وتغييب الجسد المحكوم بحواسه الخمس، كما لو أن المانيكان، وهو يمارس ترجمة تحت الطلب، أي بتصرف مراقَب، وتبعاً للنص المعروض» أي خاصية الطلب التي يجب أن تتوفر في ذات المانيكان»، كما لو أنه يعلن عن ولادته شريكاً في صناعة الأذواق، في تغيير مسار الرؤية، وأن على الحاضر أن يبلّغ الغائب، بأن الغائب هو هذا الحاضر، هي اللحظة الممثَّلة في المانيكان، وما في ذلك من إطاحة بالميتافيزيقا ذاتها، هي لحظة غريزية تختزل الجسد في العمق، ولا يعود اللامرئي ومتَع الخيال فيه، إلا وفق دفعات أو دفقات أو جرعات مانيكانية، من خلال مؤثرات النظرة المشدودة إلى المانيكان، حيث حكمة الموجود العملية تبز أو تطارد في المكاشفة لاتناهي الوجود. إنها ساعة، لحظة، آنية الولادة الداخلة في زمن يصرَّف بمفعول مانيكاني، يجري توقيته في الداخل: ويمدَّد لاحقاً..
وبين لحظة وأخرى ثمة استمرار الدفق الشعوري المغذَّى من جهة المعروض المانيكاني الذي تبرز هيئته مؤثّرة، حيث لا يعود في الإمكان النظر في المعروض المانيكاني باعتباره معروضاً، لأنه- ببساطة- عرض معروض، هو السلعة، وثمة نموذج يتراءى من خلال طريقة عرض مدروسة بذوقية مبهرجة في المتن، يشير إلى نظراء له، أو أشباه، أو ما هو أكثر إثارة منه في الداخل، بما أن الخارج يؤدّي دوراً إيمائياً أحياناً، وتحديداً عندما يؤتى بسلع يصعب عرضها في الواجهة، نظراً لوجود حظر، أو منع رقابي، أو جهوي، على أرضية دينية أو عرفية، أو لأن ثمة هدفاً من هذا اللامرئي الدعائي، ضماناً لنفاذ فعل السر المتعلق بالمعروض، أو كونه يترجم بُعداً جسدياً، على تماس مباشر بما هو غريزي، ليلي الهوى، وهذا من شأنه الاستناد إلى سياسة الإغواء المضمرة طبعاً، وليكون الدور المسنَد إلى المانيكان، كيفية إيصال الأثر..
هذه الولادة العائدة إلى المانيكان مقرَّرة وفق إملاءات معينة، تخص المردود الربحي في الحال، أي ما يندرج في إطار التكلفة والتسويق، وما يحرّك سهم السعر المعروض باتجاه جانب ربحي يعزّز بقاء المانيكان في ذات المكان، طالما أن ثمة إيفاء بالمرغوب أو المنشود، من خلال متابعة عن قرب وعمل جردي يومي أو أسبوعي أو دوري، ومن خلال سجل خاص بالمانيكان، وليكون متحرّي أثره مفصحاً عما هو مراهن عليه، وهو: إلى أي مدى تمكَّن هذا المخلوق البلاستيكي، أي الكائن المانيكاني من أن يفلح في مهمته الموكَّلة له وهو في عين المكان؟ وهل قربت نهاية مدة صلاحيته استعمالاً؟ ويعني ذلك أن ثمة حياة محددة، في حيّز زمني، استهلاكي الصفة. إنه أداؤه المطلوب، وقدرته المودعة فيه، أعني بذلك إرادة المريد له: صانعة وطالبه والمروَّج له، في إطالة عمره، بالقدر الذي يشد الأنظار، أي: يكسب الزبائن حصراً، لأن لفت الأنظار ليس هو المطلوب، إنما هو الخطوة الأولى، حيث يقود النظر صوب الداخل، وما ذلك من شبهة معترَف بها، شبهة تصل اليقين الحسي المركَّب بيقين نفسي هو المنتظر، عندما يكون هناك إقبال على المغطي للمانيكان..
ولعل في إزاحة المانيكان جانباً من المفارقة التهكمية، لأن ليس هناك ما يُتحسَّر عليه، أو يتم نعيه، إنما هو المستوفى من خلاله تماماً، ولتكون دلالة التنحي ذات علاقة بجوهر الموضوع: كيفية صناعة الأذواق، تعميقها، تحويرها، تغييرها، تطعيمها، تبديدها عند اللزوم وحلول أخرى محلها بحلَّة دعائية جديدة، أو مواصفات مغايرة لوناً وشكلاً، وما يترتب على هذا التحويل في مسار «حياة» البلاستيك المجوَّف من الداخل، من إبراز قيم مستجدة، حيث خفَّته تخضع لمقياس أدائي: من جهة الحمل، وكذلك للتخلص منه، أي: تنسيقه، أو ربما تسفيره إلى جهة أخرى، مختلفة في موقعها عن الجهة الأولى، حيث إن المدينة تتفاوت في مواقعها، أي قيمها الفنية المؤجَّرة أو المتداولة سوقياً، كما لو أن ثمة إلحاحاً، هو أساس خطاب السوق في العالم راهناً أكثر، فحواه: إن المقدَّم والمرئي في المانيكان، هو محتوى المطلوب، وأن الجمال الذي يُتفنَّن في الحديث عنه، أو حتى في الإطناب فيه، ليس أكثر من هذا الذي يغذّي « غريزة» النظر، ليس أكثر من هذا المفهوم الجمعي لذاكرة بصرية تتولى مهمة قيادة الجسد قدر المستطاع، وأن ليس في وسع أي كان الإدعاء بأنه قادر على دخول ميدان المنافسة، والترويج لسلعة خارج تصنيفنا لما هو جمالي، أو ذوقي نفَّاث من خلال إشغال محيط النظر، وإلغاء ما عداه، كما لو أن الجسد الحي تم تفريغه من القوى الحية والمختلفة، أعني جملة حواسه، وملَكة الانتباه الذاتية، وعهِد به إدارة، وتحريكاً، وتفعيل مؤثرات، من خلال الاقتصار على العين في الدرجة الأولى، واللمس يستجيب لهذه الأداة: الحاسة، الوصية على البقية، كما لو أن دورة المانيكان الحياتية ما أن تنتهي تعلِم بضرورة ولادة من نوع آخر، يخضع فيها الطبيعي للثقافي المركَّز طبعاً، أعني ما يوجَّه كيمياء مقومات الجسد صوب سيمياء مغذيات الجسد هذا من الخارج !
من جهة أخرى يبدو على المانيكان صفة الازدواجية إنها من ناحية لا تختلف عن كونها دمية فعلية، ولكنها للفرجة، وعن بعد، وشريطة ألا تُمس، فهي من هذا الجانب تستجيب لفتنة النظر، وما يتبع النظر من استثارة مشاعر معينة، لها مسارها القاعدي والمتفرع، بما أنها تستند إلى حالات قد تكون متضاربة، أو رغبة تصعد إلى السطح سريعاً، أو مكبوت معين، يتمثل في المتجسَّد مانيكانياً، كما لو أن عيني الناظر، لحظة الانشداد إلى المعروض البلاستيكي وما يحمله، تستحيلان يدي طفل قبل كل شيء، وهما تجسّان الجسم، وتمارسان فيه دحرجة أو تقليباً، أو لهواً به، ولكنه من ناحية ثانية- وهذا هو الأهم، أو التالي مباشرة على الصفة الأولى، أكثر من دمية من جهة الخطورة، بما أن الدمية تقوم بدور الإلهاء للطفل، ووضعه في الحقل الحسي المرتبط بهيئتها، وأقل من الفاعل الحي إنسانياً، مهما تدنت فيه علامة السلبية في الحركة، كون المانيكان ثابتاً في المكان، ولكن القوام يرتكز إلى قاعدة توحي بالحركة، عبر لقطة موحية، مجازية، أو تحرّض الذاكرة البصرية على استجرار القوى الحسية والنفسية خلفها، على قدر انشغال الناظر إليه، إنه ما دون الفن بالتأكيد، لأن لا شيء يحفّز على الذهاب بعيداً جراء المشاهدة عمقياً، سوى صوب الداخل، إنه يشغل موقع الإيقونة المصممة لغاية مسماة، ولكنها إيقونة ضد الإيقونة، لأن المفهوم الطقوسي والشعائري مفرَّغ من حرارة المناسبة والاحتفاء…
عروض المانيكان
نعم، يمارس المانيكان دوراً استعراضياً، إنما من خلال هيئة محددة، إنه مشغول كما هو مسنَد إليه بعرض محمول، لكنه يفصح عن بدايته حيث مركز التجمع لأشكال وألوان منه، أعني بذلك تجمعاته، عندما يكون هو نفسه المعروض.
المشهد مقرَّب مما هو مسلخي، أو تيمة المجزرة التي تسفك دماء، وتحيل الطبيعي إلى مختل، عبر تنويع في الانقسام.
ثمة هيئات مانيكانية، هيئات تفتقر إلى التكامل في المجمل، حتى في الحالة التي يكون فيها بكامل سويته، غير مفتقر إلى أي ملمح، سوى أن ثمة ما يجنح به بعيداً، وهو قابليته للمساءلة حول ما يمثّله تماماً، كما لو أنه الرمز الشاكي من رمزه.
ثمة الوجوه الممسوحة، أو أنصاف ممسوحة، أو الرؤوس المنصوبة على قواعد دقيقة، أو أنصاف أجسام، أو أنصاف سفليات، أو دون أيد ٍ، أو دون أرجل مفصَّلة. ثمة علامة فارقة دائماً في المانيكان الأكثر تكاملاً، وهو أنه مهما بلغ الدقة في التفاصيل، لكنه يفتقر إلى الشبيه، لأنه موجَّه إلى مثال، لا يراد له أن يكون مثار سؤال أحد، رغم سهولة توجيه السؤال، وهو: هذا يشبه أو يذكّر بمن؟ لكنه سرعان ما يختفي، وهو يتسرب خارجاً، لأن محتوى المانيكان، يلقي بكل سؤال عن أصل ما، أو نموذج معين، يمثل أمام النظر جانباً، لأن ليس من موديلية في الصنعة أو التشكيل، ثمة نوع من الغموض الجاذب، أو الشبهة القابلة على تثبيت النظر، حيث يكون اللون العظمي أو البياض الشائه، قائماً، مع تلوينات رأسية بالأسود، إنما يبقى المانيكان في وضع تمثيلي منسوب إلى المجهول، وإن كان في الوسع توجيه الاتهام إلى أولي أمره، بوجود معايير محددة، وموجَّهة في القولية والإخراج والعرض وحتى اللقطة، بغية التسويق وتحقيق غاية ربحية.
لكن ما يجب التوقف عنده هو أن مجمل المعروض مانيكانياً يظل مثيراً لسؤال يتركز على الممحو فيه أو الجاري اختزاله، في أكثر الحالات وضوحاً، إنها رغبة أوليائية، تقانية، رأسمالية، معولمة، وخاصة راهناً، وترجمة حية لأجسام مفرَّغة من الروح، لكنها تقوم على وضع استحواذي، وضع، هو دور المانيكان، ومن يكون وراء ظهوره أو تجلّيه، عبر المتقدم أو المطلوب استعراضياً» في الموضة».
كأن المطلوب منه في مختزله أو تحويره أو إبراز بعض من قوام الغواية فيه، هو الإحالة بالناظر فيما هو مرئي إلى ما اللامرئي، أو المعتبَر مرئياً، أي من يكون القائم على وضع تصميم له، ومن يجعله ثلاثي الأبعاد فيما بعد، فيكون المرتجى ليس في أن يتنفس المانيكان، ويمارس حركات، إنما أن يجري احتباسه في هيئة معينة، إشارة إلى مقدرة مذهلة لدى القائم على «أمره» حيث تتوافر حيوزات مختلفة، لتحريك جموع المانيكات وتسفيرها خارجاً. إن الأثر الربحي الممرَّر عبر المانيكان يسمي الزمان والمكان الخاصين فيه، ذلك هو البعد السلعي وما هو أبعد من السلعية، وفي الوقت نفسه، يضعنا هذا المشهد الممثّل لكل مانيكان بُعداً مأساوياً، من خلال افتقار ما، لكنه مصمَّم هكذا، كما لو أن ثمة تخوفاً من حقيقة المصنَّع أو الجاري تشكيله، كأن ثمة اشتباهاً مسبقاً يتركز عليه، فيما لو منح القدر الأوفى من الوضع أو الكائنية، وكأن ثمة اعترافاً بخوف قائم، بعالم لاسوي في قلب المجتمع، كأن إخراج المانيكان بطريقة ثابتة، لسان حال تخوف من حدوث حركة أو تحرك يُخشى جانبه، ولكن الافتقار إلى الملامح وما فيه من حنين إلى أصل ما، يمثّل قفزة نوعية في عالم من السيطرة الزمكانية بالنسبة للصانع وما يتفكره أو يتدبره، عندما يكون الحيّز المعطى للمانيكان، هو كيفية إبقائه تحت السيطرة، من جهة الحمل بداية: كما لو أن وجود ثقل فيه، يعني الذهاب بالتفكير نحو الداخل، ووجود قوة رابضة تتربص بالحامل أو حتى بالناظر، وبالتالي، لتكون الخفة إشارة لماحة لكل مقتن ٍ مانيكاني، على الطمأنة تماماً.
أو من جهة الاختزال، وتبعاً للدرجة، دون الرأس: وما يعنيه وجود الجسم المفتقر إلى رأس من معنى أو دلالة، من سؤال حول الرأس غير المصمَّم، أو ربما المعروض كجزء مما هو مانيكاني في مكان آخر ربما في الجوار أو أبعد من ذلك، لأن المنشود ليس الحامل إنما المعروض من خلاله، وفي الوقت ذاته، لأنه تقديراً براغماتيكياً لهذا المشهد العالق، وهو جانب الاستئثار بما هو فني، إنما بعد إزهاق روح الفنية فيه، أي لا يكون المعروض المانيكاني أثراً فنياً، نحتاً فعلاً، إنما ما يحيل إلى نحت تنعدم فيه الذائقة الفنية، بما أن الذي يراد هو هذا الذي يظهره: زياً أو رباطة عنق، أو طاقية، أو حتى عقداً ما، أو ما شابه ذلك من جملة المواد المصنَّعة، أو تلك التي يجري تدفقه صوب السوق طبعاً.
إنها أضحيات مادية، لكنها رمزية لحظة التمعن فيها، على مذبح رغبات تترى، يحيط بها العالم بأمور السلعة هنا وهناك !
ولعل هذا الضرب من الدخول السوقي، إن جاز التعبير، ينطوي على بلاغة ارتدادية تعني المعني به، حيث يحيل كل ما يخصه خارجاً، كما أن ليس له علاقة به، كأنّي بالمانيكان هو الداخل في لعبة البيع والشراء، أو الحوار مع الذائقة البصرية للمشتري بالذات، وما في ذلك من مخاتلة والتفاف على الموضوع نفسه، أعني ما يغيّب الفاعل المباشر ويبقيه في حكم المجهول، فينعدم الوسط المرئي والذي يصل بين المعتبَر مقدمة والمسمَّى نتيجة، وهذا إخلال بمنطق الحياة اليومية التي اعتادها الأغلبية، ولكنه في الوقت ذاته تعبير عن مستجد، يتطلب في حال تلفظه تعميق المسافة بينهما، أي ما يترك مجالاً لقياس المسافة، إنما هو تداعي التاريخ المرئي للمانيكان، حيث يتوارى المسئول المباشر عن الأنظار في لعبة مبرمجة.
وفي أوج هذه العلاقة المتباعدة طرفينياً، يصعد المانيكان بحدثه، أي بتاريخ المادي، بوصفه التاريخ المقدَّم بسيمياء النظرة واستتباعاتها، ليغيّب في عالمه المجوف، والمتاهاتي رغم محدوديته تقديراً، ما هو مبحوث عنه، كونه المدلول العائم بداله، وكأن الدليل بات في وصاية ورعاية هذا المعروض والعارض في آن، كإمكان وظيفي، في نزاله مع المتفرّج..
لكن ما يجب أو ما يمكن أن يفهَم من خلاله دائماً، هو أن لا حول له ولا قوة، إنه مجوَّف، بمعنى أنه الكائن منزوع الكائنية، وأكثر من ذلك هو الكائن المفتقر إلى الحد الأدنى من الكائنية من خلال آلية التلاعب فيه، وهو في مهمته الموجهَّة يكاد ينافس الفني لكنه في اللحظة ذاتها يرتد إلى الوراء من خلال المرئي فيه، انطلاقاً من عجز ممثَّل فيه، هو تجسيد لرغبة الصانع أو صاحب السلعة التي تنتظره ليمنح زياً ما قواماً، لا يعدو أن يكون مصيدة بصرية..
المجوَّف نظير المسطَّح
أن يكون المانيكان مجوَّفاً فكونه مصنَّعاً ليكون نظيراً للمسطح، لئلا يحرّك في المشاهد تلك القوى النفسية التي تدفع به لأن يذهب إلى ما وراء المرئي، لكن المجوَّف هذا يترجم السطحي الذي يقابل هو الآخر ما هو إعلاني، أو يدخل في حمّى المتتاليات الدعائية، ولعبة الأضواء ونفاذها في الثغور المعمولة، تشديداً على ثنايا الجسد، مساماته، كما لو أن ثمة رغبة مبثوثة داخلها تتوق إلى حراك لعبي على هذه الشاكلة، خصوصاً وأن المانيكان يعدم الحي، كما أنه يوهم بوجوده، لتبقى هناك مسافة قادرة على تفعيل مشاعر متنوعة، لكنها من خلال الغواية الإعلانية محكومة بإرادة حسابية مراقبة..
ولعل ما يذهب إليه بودريار في كتابه( المصطنع والاصطناع- بيروت/ 2008)، هو هذا التكثيف للعبة الإعلانية، لهذا التتويه في النظر، والبعد الفيتيشي له، وفقدان الأمل جرَّاء الوضع اللوياثاني للمعروض وأخطبوطيته( تنشر الميديا المعنى وضده، وتتلاعب في كل الاتجاهات معاً، ولا يستطيع أحد السيطرة على هذه العملية..ص155) .
إن التجويف هو عمق قائم، ولكنه يدلي بدلوه على صعيد المكانة أو الدلالة العالقة في مكان يشغل سرَّاً ليس في وسع أي كان ببساطة مقاربته، وهو أنه منوّم أو باعث على الاستهواء، بما أنه مغلَّف أو محاط من الخارج، إنما الأكثر من ذلك هو أنه ذو نسابة موميائية في العمق التاريخي المقطوع الصلات تقديراً طالما أن ثمة أن لا حياة قائمة فيه، لكن الأصل المغيَّب والمتوثب في ذاكرة المتخيَّل هو إمكان وجود أحشاء، وقد تم التخلص منها، ليكون الفراغ المحصور معبّراً عن أن لا داعي للخوف، حيث تفصح تلك عن أثر حياة ما، فيكون منافساً دون منافسة. إنه ديكور دون محتوى، وهو متروك في ذلك التجويف لجملة من التهيؤات لمن يرغب، ولكنها تهيؤات لا تعني سوى المسكونين بما هو استهوائي ..
(يتبع البقية بموقع المجلة على الانترنت)
إن المسطح هو إيحاء بوجود أمان وإمكان القول الموجَّه إلى المقتني بأن لا ضرورة لبذل التفكير، والتردد في الخيار كثيراً طبعاً، بما أن الذي يشاع مانيكانياً هو نوع من الدوبلير، من تحمل العبء، والتوجه إلى الهدف المرسوم دونما قلق، لكنه المسطح الذي يُشهَد بالانزلاق، كما هو ساحة تزلج، يفتقد الداخل إلى المهارة المطلوبة، وهذا يدفع به إلى طلب المساعدة، وتحديداً لأن الوقت لا يسمح له كثيراً في الإطالة في التفكير، وإلا لما كان لهذا المجوَّف المانيكاني من معنى واقعاً .
إن خفة المانيكان هي قدرته على نقل المؤثر، على تقليص المسافة، حيث تكون الرغبات ذات تقانة معزَّزة من الخارج !
وربما كان التعبير الأوفى عن هذا المجوَّف وقرينه المسطح، هو أنه ترجمة دقيقة لمجريات الواقع، هو أنه من ناحية لافتة بمرئيتها يفصح عن الكائن الحي والناطق: الإنسان، وكيف يجري التمثيل به، لأن المانيكان مصنوع أو معلَّب على صورة الإنسان وليس سواه، وهذا التوجه المانيكاني يخاطَب به الإنسان نفسه حيثما كان الإنسان، أو امتدت نظرته، لأنه في ثباته يبث مؤثراته خارج النطاق البللوري أو الحيّز المعد له، من خلال الدفق الانطباعي، وتلك هي حيلة المجتمع الصناعي في أكثر تجلياته اختزالاً للقوى أو ضبطها، لأن المانيكان شاهد متحيز لصانعه، وإن بدا متلبساً بالجرم المشهود..
المسطح يناظر المجوَّف، حيث تُستحضَر أبعاد لا علاقة لها بالهندسة، إنما من جهتها بدور عارض هنا، لكنه ذو دلالة معتبرة، وهي علاقة الانزياح القائم على نظرة ساقطة على المرئي وهو في ثباته، على حركة توحي بانطلاقة ما لها، وها قد اتخذت هيئة معينة، هي الحد الأقصى لها، وكأن تخيل الحركة تالياً يكون في عهدة المتفرج المحكوم بما هو ماثل أمامه.
إن السطح الأملس في بعض مما هو مكشوف، وهو بتجليه التحنيطي يعكس رغبة الصانع أو القائم على الفعل الموجَّه، في أن يكون خالقاً، إنما هو الخلق المترجم لسلوك سلطوي، سلوك سيطرة تسميه، بقدر ما تعرّف به في اعتباره ممثّل عالم مختلف، هو عالم سوقي، سلعي، وأن ليس من قوة محتسبة في الداخل، إنما هو تحويل لها منذ البداية، بما أن المانيكان لا يعدو أن يكون أثراً من آثاره، وأن المعروض من خلاله يحيله إلى كائن مستعبَد من الدرجة الدنيا، وبالتالي فإن المشهد السيادي الضارب في عمق المكان يتجاوز الواجهة ويعم جنبات المدينة، كنوع من الشراكة مع مغذيات أخرى للسوق، كما لو أن هذا السطح المثْبت ومن ثم التجويف المفترض، يشيان بعنف غير مسبوق وقد تم التخلص منه، حيث تكون أحشاء الكائن الصنعي في مقام حشوة نارية جاهزة للعمل، للانفجار، وأنه هذه الحشوة تشير إلى الخارج، إلى تاريخ مشهديات كبرى مثَّلت الكائن الحي: المعارض، المتمرد، الثوري، حيث يتواجه السيد والعبد بوضوح صارخ ومهيب، أما هنا، ومن خلال المتحولات الكبرى على صعيد ضبط القوى في المدينة، وآليات العمل في السوق، فقد بدأ المشهد دون المشهدية، بدت الساحة التي كانت شاهدة عيان على وقائع حصلت وأرّخ لها، وكأنها عطّلت، وأهيب بالعبد الذي استشعر دفق قوى في ثنايا أحشائه على وشك الخروج ومجابهة من صيّره أو سماه عبداً بالحرف أو بالإيحاء، وحتى بالنسبة للسيد الذي كان لحظة تجلّي الفكرة الهيجلية- مثلاً- في رسم خطوط العلاقة التاريخية، وبلوغها الأوج ماركسياً، فإنه لم يعد يشار إليه بالبنان من باب التعظيم، أو كإشهار قوة، لأن ثمة تمييعاً أو تفكيكاً لميكانيزم العلاقة القائمة، لقد اختفى العبد بالاسم، مثلما أن السيد اختفى بالاسم، والساحة ذاتها بعمرانها الرمزي المتخم بعراء فضائي متخيَّل، تقوم على خرس ما، على تيه يعدم الجهات بدقة رغم وجود شبكة هائلة من خطوط الاتصالات الأرضية أو الطرق المعبدة والشوارع المنظَّمة، إلا أنها، ونظراً لهذه الدقة الهائلة، فقد ارتقت إلى مستوى التمثيل الأقصوي للعلامات، إلى إخفاء كل من السيد والعبد، حيث أوحي إلى العبد الذي كان بحرّية تحرك في ذات المكان، لكنها الحرية التي تثمل أو تنوّم طويلاً، حيث اختفاء أو إخفاء السيد المباشر هو الذي يتهدده دون إمكان المجابهة المباشرة، وأن ما هو معروض ومسموع ومخطَّط له، يكاد يبقي كل شيء على حاله من ناحية تجليات العنف الممشهد، وهو يتوارى ما هو قائم في متن المدينة وفي الأطراف، وحتى على امتداد الطرق السريعة ومنعطفاتها، عبر المشاهد أو اللقطات الدعائية التي تمثّل مواقع قوى للمكان المسكون، أي للمدينة، وأن هذا المانيكان نفسه داخل في التيار الحشدي المتناثر كمقوّم عنفي في بنيته، أي في التنويه إلى وجود سيد لا ينازَع، بقدر ما يكون مطلوباً، كما لو أن اللاوعي بمكوّنه اللاكاني يترجم هذه الخصلة في العمق النفسي، حيث تتعقد العلاقة، من خلال ما هو إلهائي أو نقاط استناد تصل ما بين المستهلك، والمدينة في مجملها ميدان استهلاك، وغالبية ساكنيها مستهلكون، وما يرغب فيه، وكل نقطة استناد تحيله إلى أخرى، بقدر ما تجرّده من القوة في المساءلة عن حقيقة المفعَّل والمسمَّى فيه…
ربما نكون هنا أقرب إلى طروحات جان بودريار، كما هو مذكور سالفاً، حيث نتلمس سيادة أو تسييداً لجملة من الفوقيات « الـ،هيبر»: ما فوق الواقع- ما فوق المجال، ما فوق المشهد الحسي…الخ، أي من خلال تذرير العلاقة، وإمحاء كل أثر لخاصية الوسيط: الدليل، لكن المعاين هنا هو وجود وسيط ما، وإن كان يفتقر إلى مقومات الوساطة، أو الحد الأوسط، إلا أن السير بحركية المرئي لا بد أن تقود المتحرّي بالنظر إلى هذا المرسوم ولو تخيلياً في الأبعد من المحصور في الواجهة البللورية، كما لو أننا إزاء خيط آرياني ما، يقينا من الوقوع في أسر التيه، رغم أن كفة التتويه راجحة بجلاء..
المجوَّف مانيكانياً يعاني من وضعية كسوف، رغم وضوح المجسَّم، إذ خلف الواجهة ثمة ما يشبه خطف النظر إلى الأبعد، أي صوب الداخل، حيث الدخول مباشرة، حيث يكون الدخول في علاقة سوقية، رغم أن المساومة غير موجودة، لأن ثمة سعراً محدداً للسلعة، لكن ذلك يكون بمثابة البداية طبعاً، وخصوصاً في مجتمعاتنا التي تفتقر إلى مقوّم الاستقرار، أعني إلى تلك الاعتبارات التي تعزل القائم على البيع، من خلال صندوق الدفع أو الحساب الآلي، وبوجود رقابة تشمل المكان بالكامل، أي عبر مفهوم « المشتمل، عن السلعة المعروضة، من خلال لاصقة سعرية ممغنطة، أو منّبهة، لا يجوز بالمطلق مسها، أي اللعب بها، إلا إذا أراد القائم على البيع التصرف من عنده، وهو هنا يكون مرصوداً بالمقابل، وهذا يظهر العمق السيادي اللامتناهي للآمر الناهي غير المرئي، ولكن ظله يغطي كل شيء في المكان، ربما شعوراً لدى المعني بالسلعة في مجتمعاتنا أن زمن استمراره مرئياً وبصورة مباشرة لما يزل يلهِمه شخصياً، وأن ظهوره المعلَن والدوري للقائم على البيع يمنحه فرصة بالانتشاء، بقدر ما يبقي الأجير أو العامل لديه في أهبة الشعور بأنه تابعه، أو في حكم معتبَر، مقرَّر مصيراً من خلاله، وكون عبارة» السيد» تحتفظ بمأثورها السلطوي والرعوي في الصميم.
المانيكان الثابت أو المثبت في المكان، وفي وضعية معينة مسجَّلة عليه حتى انتهاء صلاحية العمل به، لحظة إمعان النظر فيه، لا يعدو أن يكون رسالة موجَّهة، رسالة إلى لا أحد، وإلى « أي أحد»، من خلال محتواها اللامحتوى، ولكنه المحتوى الذي يبلغ درجة من الكثافة والثقل والضغط بحيث إنه يتحدى كل المأخوذين بالتأويل، والعاملين في حقل التحليل النفسي، إذ يقيم الخيالي بمعناه اللاشعوري أوده فيه، ويمارس بعثرة لخاصية الأنا، كرمى قوى تهدد من يسعى إلى تسميتها زمكاناً.
في حُكم المانيكان بطلعته ورقعته ورجعته، إن جاز التعبير، يكون الحكم النافذ في الأحياء، عندما يكون الفراغ المحدَّد في الداخل محمَّلاً بالدلالة، عندما يكون المغيَّب كثيف الحضور نافذ مفعوله العنفي، إذ الفراغ مخيف ومثير للشبهة، وفي الوقت نفسه، فاعل في إثارة دفعة مختلفة من الهواجس والتوقعات، كما هو الأبيض المطمئِن وما يضمره لونياً في العمق، لأن من المستحيل ترك الفراغ ذاك جانباً دون مقاربة كشفية ما، كما لو أنه ضربة مجانية أو اعتباطية. إن المجوَّف في اعتباره مضمَر رسالة، يكاد يوازي المراد قوله من لدن القيّم عليه، ومن هو مصممه وكيف يوجَّه من جهته، القول بأنه يسمّي الكائن الحي الناطق، سليم القوى، يجرّده من قواه المغايرة لما هو قائم بدقة متناهية أو محسوبة، كما لو أن هذا الذي يحمله أو ينظر إليه أو ينقله من مكان إلى آخر، إنما يعيش ذات الوضعية، أو يتمثله، باعتبارها صنعة مانيكان، أو كونه هو ذاته المانيكان الغفل من الاسم، رغم امتلاء الجسم من الداخل- طبعاً- بالأحشاء، واعتمال المشاعر أو الانفعالات فيها.
يمكن الحديث هنا في ضوء هذا المأثور المانيكاني المستحدث، أعني ذا العراقة لحظة تبين الرابط القويم تاريخياً بين ما هو بدئي فيه، كما لو مباغت وحدث مسجَّل في التاريخ، وما هو خلافه بما أن هذا الباحث والراصد في فسحة مضاءة ليس نغلاً، أو لقيطاً، ليس مستعاراً بطريقة ما، ليؤدي دوراً، إنما هو نفسه دور محرَّر من كائنيته، تعزيزاً لموقع يستفز ذات الكائن تاماً، وهو في جينالوجيته البادي ملتزم الحياد، يتقن دوره المنوط به، أن يفعّل أثره، كما أن المتوخى منه، هو أن يمارس سلسلة تحريفات لا تنقطع في السلوك الاعتباري اليومي للكائن الأكثر مسكونية بمتحولات الحياة، أن يكون في مقام الدليل الذي يشرده إلى جادة الصواب في كل آن وحين، طالما أنه موزع وبهيئات شتى في أكثر من جهة وموقع، بقدر ما يعزّز ثقة الناظر بما يراه إلى درجة نسيان أنه يرى ما هو منصوب أمامه، وما في الرؤية من لعبة مفخخة، حيث إن المجوَّف يتراءى وكأنه يبث خطاباً يتناسب وما هو مصنَّع عملياً، إلى عين المتفرج، أو المشاهد، أو حتى العابر، لأن ثمة شبكة موزعة من المانيكانيين، وفي « أعمار مختلفة» تجمع بين الجنسين، وربما يختلط الجنس أحياناً كنوع في عملية المتابعة أو المكاشفة، لأن ما هو عليه المانيكان، يوحي بقيمومة ثورة، ثورة لا تريق دم أحد، ولكنها المنتظَرة منذ زمان وزمان، والتي تتمثل في طريقة الإمحاء بين النوع والآخر،في تغييب التفاصيل المثيرة للشبق العنصري، أو المشهديات المدمجة بالرغبات الأكثر إثارة لقوى الحواس مغذيات الذاكرة، وما في المسألة من تطريب للحواس، أو طمأنة مزكاة للذين ينشغلون بأمور الجنس، أو الجندر، عبر مسح رؤيوي للقوام المفصَح عنه في الحيز البللوري التام الإضاءة.
إنه السليل التاريخي لأفكار وخيالات تتفرع إلى ورش ومكاتب تضم أرشيفاً هائلاً، تضع التاريخ في خدمة السوق، أعني تحيل ما هو تاريخي إلى مستل مانيكاني وتهيب بالناظر إلى الاندماج بالمرئي، والرهان عليه، من باب السلامة طبعاً.
هذه الهندسة فائقة الوصف حيث لا وصف على مد النظر، ليست أكثر من خلاصة شائكة وشيّقة وجديرة بالمقاربة البحثية لعناصرها المصغَّرة، لما هو متحرّك في قلب المدينة، وحيوية الخطاب الذي يظل يكرّر نفسه بصرياً لأهل المكان، وذلك من باب أخذ الحيطة والحذر مسبقاً، ليستمدوا الحكمة من المرئي، وتجنب ما يعتبرونه الكبت التاريخي بين جنبيهم..
عاش المانياكان، وليمت مثير الشبهات
المانيكان فاعل خدمي في أهبة الحداثة وما بعدها، في برودته المفترَضة، ولكنه ملقّن درس في الانضباط والمسالمة..
ثمة اقتصاد في المفصَح عنه ملامح وجهية وانثناءات وعلامات تمايز، توفيراً لجهد لا طائل من ورائه كما يبدو !
إنه يستقطر الأمكنة إليه، رغم مظهر الأسى الذي يجلوه، رغم وضعية المسالمة، حيث إن ثباته يجعله في موقع الأكثر تحركاً وتجوالاً في المكان، إذ بقدر ما تقع عليه الأعين، يكون خطاب مانيكاني، متعدد الشفرات، أي الدلالات، إنه يعلِم من لا يعلَم، بضرورة أن يعلم، إنما في المستوى الذي بلغه هو: إن الآخذ به محتل فراغ فقط، لهو كذلك، لكنه لا بد أن يشده إليه من جهة المكانة: ما الذي صيَّره هكذا؟ ما طبيعة الواجهة التي تريه للسابلة أو النظارة الخاصة؟ أما الآخر: الأكثر ضلوعاً في المشهدية التي تضيع الدال المباشر، فحسبه أنه يلخص مجتمعاً، ثقافة، إنه الترجمان الحيوي والوثاب لما هو فضائي، إلى درجة أن المانيكان محوَّل بنسخته ذات الصلاحية المحدودة في الزمن، إلى المستقبل، إنما أيضاً كصورة ناطقة بكليتها بصمت بليغ، والساعي إلى بث شفافية ذات إيقاع خاص، شفافية لها رهبتها المصانة، تعني أياً منا.
المانيكان يحول دون إثارة الشبهات، لأنه محوَّل لتعطيل ذاكرة الشبهة، لتهديد مبطن لمن يحاول الذهاب إلى ماوراء الواجهة، لأن ثمة اقتصاداً مدروساً له ساحته ومضماره، ولا يجوز لأي ذي نظر أن يتعدى حدودهما، كما لو أن الواجهة التي تحتضن المانيكان جبهة حرب متحركة، تخص عالماً كاملاً، رغم التفاوت بين جهة وأخرى، فلا يبقى هناك من فضول معرفي، إنما الباقي، وربما المتبقي، هو ما لا يعود فضولاً، فثمة عقلية تخومية تتقدم المانيكان وتزكّيه للنظارة المأخوذة بالصورة.
بما أن المانيكان يستجيب لنوع من المتوسط الحسابي، إنما المأخوذ به، على صعيد اللياقة الجسمية أو الجسدية لبعض آخر، إنها المادة الخام التي تحيل إليها ما هو حيوي، عبر التذكير به، دون مراعاة وجوده طبعاً، كما هو المرئي المانيكاني، لأن الرشاقة ذات النسبة العددية تجد بصمتها في الطلعة المانيكانية، أي إن السمنة لا تؤخَذ كمقياس ما في العرف المانيكاني، رغم انتشارها، وما في ذلك من تضليل في السياسة المروّج للقماش أو السلعة الممرَّرة مانيكانياً، حيث إن السوق، وعير الكم الملحوظ من المطاعم يحفّز على السمنة، عبر تركيبة الأطعمة المقدَّمة، ولأن ثمة عنصرية في المعتبَر المانيكاني من خلال اللون أو القامة، بحيث لا يعود في الوسع النظر أبعد من حدود المجسَّم مانيكانياً، وكأن هناك توجهاً على مستوى عالمي لجعل المرئي المدروس من زاوية معينة، زاوية معتمدة، هي مستقبل الإنسان المنتظَر.
عاش المانيكان، وليمت مثير الشبهات إذاً!
—————————————
إبراهيم محمود