يدرك متابعو حركات الوعي الثقافي الفكري العربي والإسهامات الجادة التي أضافها محمد جابر الأنصاري إلى رصيد الأبحاث التنويرية التوعوية العربية في الربع الأخير من القرن العشرين. يبني الأنصاري مشروعه على دعائم مفصلية، حساسة من تاريخ العرب الحديث ملماً بالجوانب الإنسانية والمحطات التاريخية والمنعطفات التي أفرزت الكثير من الحركات الفكرية الثقافية والإجتماعية والسياسية التي كان لها أثرها الواضح على بنية المجتمعات العربية.
وبغض النظر عما أحدثته هذه الحركات من تصدعات واهتزازات خلقت أنواعاً من الإرباكات المعيقة لحركات التقدم والتطور الحضاري للأمة، إلا أن الأنصاري يرى أن: «الحضارة العربية الإسلامية هي الحضارة الأولى بين الحضارات التاريخية الكبرى التي جمعت ووفقت للمرة الأولى في تاريخ البشرية بين العنصر الهلنستي الروماني (الأرووبي الغربي) وبين العنصر الفارسي ـ الهندي(الآسيوي – الشرقي) في نسيج حضاري واحد»(1). تعكس هذه الرؤية مدى التناغم القومي والفهم العميق لفكرة الإئتلاف التي نظَر لها وسماها في بعض مناحيها «التوفيقية» وقسمها إلى فصول شملت القسم الثاني، والثالث، والرابع، في صفحات مسهبة من كتابه (الفكر العربي وصراع الأضداد). وفي نسق تصاعدي متتبع، راصد تشكلات البنى والأنماط وطرائق الحياة الثقافية والفكرية والسياسية والإجتماعية في العالم العربي، وما يجري فيه، وما يدور حوله في عوالم أخرى، يدفع الأنصاري بأفكاره المتبلورة بعد إشباعها بحثاً ودراسة ومعالجة. فالربط المنهجي لحلقات أبحاثه يتوخى عرض الأفكار والإتجاهات مجردة في سبيل «إفادة الناس» في ما يخدم حياتهم، بغض النظر عن أجناسهم وانتماءاتهم ضمن ما سماه «التفاعل الثقافي»(بين الغرب والمشرق). إذ يرى في «تغافل بعض الأوساط الجامعية» عن التركيز على «الزمانية والمكانية» في شخصية المبدع ودراسة العلم أو الفكر المحض سلوك «لا خير فيه» إذا لم يعوِد ذلك الناس على «إرساء قواعد حياتهم على أسس بينة فيما يختص بعلاقة الماضي والحاضر، فيما يختص بتطلعاتهم الجديدة نحو المستقبل»(2). وقد شغل ابن سعيد المغربي حيزاً كبيراً من اهتمامات الأنصاري نظراً لما تعكسه آثاره الثقافية من إيجابية حضارية للثقافة العربية. وهو الرحالة- الأديب – الشاعر» أحدث تحولاً «في التفاعل الثقافي بين الشرق والغرب» قبل أن تبدأ ظاهرة الإنقطاع الثقافي بينهما في العصور المتأخرة»(3). ولا يقتصر عرض الأنصاري لسيرة حياة ابن سعيد من الناحية الثقافية الأدبية فحسب، بل يتعدى ذلك ليرينا النكبة التي حلت بالعرب والمسلمين بعد الخروج من الأندلس. ولم يعتمد لتأريخ تلك المرحلة على الروايات العربية – الإسلامية فقط، بل نسقها مع الروايات المؤرخة للغزوات الأسبانية في ذلك الوقت. يدل هذا على التجرد الموضوعي والدقة والأمانة في تقديم الحقائق من دون إعمال الهوى أوالمنفعة. لعل ما يعطي لكتابات الأنصاري تميزاً وفرادة تركيزه على إبراز الجوانب الأكثر حيوية، والأكثر انحيازاً للتجديد والإبتكار في المواضيع التي يعالجها سواء كانت لأسماء معروفة، أوغير ذلك. وهي قلما تكون مواضيع انتقائية نخبوية وفي هذا إضافة نوعية أخرى لجهوده وأبحاثه. فابن سعيد المغربي وما اشتملت عليه حياته الثقافية والأدبية من شعر ونثر وترحال إسم قد لا يكون في ظاهره لافتاً بالمقارنة مع أسماء أخرى جايلته، أو اقتربت سماتها وخصائصها العصرية من سماته وخصائصه. فالمغرب الذي ينتمي ابن سعيد إليه كان شريان ونبع الحياة الثقافية، الفلسفية والعلمية المزدهرة في العصر الإسلامي الموحدي والمرابطي في الأندلس. والإنطلاقة التي بسطت نفوذها على الحياة الثقافية والفكرية والثقافية والعلمية في العالم، التي صنعها فلاسفة ومتصوفون كابن طفيل وابن رشد وابن عربي، وشعراء كالرصافي وابن زهر الحفيد وابن سهل، ورحالة كابن جبير وابن البيطار ضمت أيضاً «أعظم مصنفيه في الأدب والتاريخ والجغرافيا»(4)، وهو ابن سعيد المغربي. إن اهتمام الأنصاري لا يأتي في سياق الإحتفاء التكريمي لشخصية لها مكانتها بين شخصيات كالتي ذكرناها. وليس لأن هذه هي المرة الأولى التي يتم تناولها من جانب الباحثين، لما تختزنه من سعي وانجذاب نحو تثبيت ظواهر الإختلاف والتحول عن السائد والمكرس وتبني أيديولوجيات التجاوز والحوار والتفاعل. وفي رأي الأنصاري فإن: «أهمية ابن سعيد متمثلة في إصراره العنيد على العمل الثقافي الدؤوب رغم الإنهيارات السياسية الكبرى في عصره»(5). والإهتمام بدراسة فكر ابن سعيد قائم على الإلتزام بتجسيد المدى الواسع والإنتماء العميق لهذه الشخصية لبيئتها ومجتمعها وتفاعلات عصرها الذي شهد قطيعة ثقافية بين الشرق والغرب، وعلى القدرة الهائلة التي واشجت ذائقة العصر الأندلسي النقدية، التي حضت على الإبتكار الدقيق. وتعتبر هذه السمة المميزة للحقبة الأندلسية عن سائر الحقب الإسلامية الأخرى. وقد حظي ابن سعيد باهتمام المستشرقين ليس بالمفهوم الذي يحيل إلى التأليب والمؤامرة على النحو الذي أشيع فيه فهم الإستشراق الخاطىء. وهو فهم يميل إلى تكريس الإستشراق على أنه أحد الوجوه المكملة للإستعمار. ويتقاطع في جوهره الثقافي مع عمل الإرساليات الأجنبية، التي تأخذ بشكل أو بآخر وجهاً تبشيرياً دينياً لإعادة صياغة الذائقة الدينية وفق ما يتناغم ويخدم مصالح الغرب. والمجال هنا ليس لتثبيت هذا الفهم أو دحضه ولا هو مجال لبحث الإستشراق، بل لأن الحديث عن علم من أعلام الحقبة الأندلسية التي بلغ فيها التفاعل الثقافي الشرقي – الغربي أوجه، ولأن مفكراً كالأنصاري تنبه لهذه الناحية وركز عليها عند ابن سعيد متخذاً عنوان مؤلفه عن هذا المفكر الأندلسي من أفكار واستنتاجات الدارسين المستشرقين. فعنوان كتاب «التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق» هو عنوان يؤالف بين عناوين عدة اختارها باحثون ودارسون اهتموا بدراسة أدب وأعمال وآثار ابن سعيد. وقد بدا الأنصاري ميالاً نحو اعتماد فكرة تسمية علي بن سعيد الذي دمج كتابي «المغرب» و«المشرق» كما سماها ابن سعيد فجعلها تحت عنوان «فلك الأدب المحيط بحلى لسان العرب» المحتوي على كتابي «المشرق في حلى المشرق والمغرب في حلى المغرب». إلا أن الدكتور زكي محمد حسن محقق القسم المصري من الكتاب يظن أن المستشرق آنجل بالنثيا هو صاحب تلك الفكرة حين يقول:» وقد أدى التواشج والصلة الدانية بين «المغرب والمشرق» إلى أن عدها المستشرق الإسباني آنجل جنذالِذ بالنثيا كتاباً أدبياً واحداً ينقسم إلى قسمين المغرب والمشرق»(6). ويؤكد الأنصاري ميله هذا بقوله:» ثمة سبب جوهري لاعتبار السفرين كتاباً واحداً: فهما يقومان على المنهج ذاته ويهدفان نحو تحقيق غرض واحد ويكملان بعضهما في مجال تقديم إطار موسوعي شامل للعالم الإسلامي مغربه ومشرقه».(7).هذا الإعتماد بحد ذاته يفصح عن نزعة الأنصاري لاقتفاء الأثر البعيد المنال، ومجانبة السهل البسيط الذي يقع في المستنتج العادي، وهو سلوك في الغالب ما يقود إلى التنميط والتقليد والتخلي عن هم البحث المعرفي التجديدي. وهذا ما نراه واضحاً في العنوان الذي اختاره في إطار سعيه لتلمس الجوانب المضيئة، التحديثية التجديدية في أدب ومآثر ابن سعيد.
ويعمد إلى اتباع مذهب التنقيب والنبش النقدي الذي هو في الأصل عمل التحديثيين ومذهبهم. وبتركيزه على استعادة أهمية الدور النقدي الذي سلكه ابن سعيد في عصر الموحدين الذي لم يقدم مذهباًعلى مذهب، أو شاعراًعلى آخر، هو تركيز على ضرورة أن يتنبه المهتمون والدراسون والشعراء والأدباء إلى أن مسيرة الإبداع شرطها التنوع والإختلاف. وهذا ما أشار إليه الدكتور إحسان عباس في دراسته لتطور المذهب الأدبي العام في الأندلس، حين اشتدت المنافسة بين ما سماه الأندلسيون «طريقة المحدثين» وما سماه العرب «طريقة العرب». وهذا ما أشار إليه ابن الأنصاري أيضاً حين استنتج في «موقف عام» وهي فقرة من بحثه عن ابن سعيد.
أن الأخير يرى في مقدمة كتابه «المرقص» وفي مقدمة «الرايات» أنه «لا فرق بين القديم والجديد، وأن فرص الإجادة مفتوحة أمام المحدثين كما كانت متاحة للقدماء. وأنه لا مجال لتفضيل عصر على عصر، ولا مصر على مصر، فظروف الزمن الحاضر تفضل الإنسان عن تقاليد ومنازع كانت لآبائه وتضطر للتلاؤم معها بشيء جديد من عنده». وفي هذا السياق النقدي يخلص الأنصاري إلى أن ابن سعيد يتخذ هذه المواقف النقدية انسجاماً مع مذهبه النقدي العام ـ ألا وهو مذهب المحدثين ـ وانسجاماً مع نزعته المغربية الأندلسية ـ».(8).
ينشىء الأنصاري خطاً تصاعدياً كثير الحلقات والمنعطفات، ويربط أفكاره النقدية بخيط رفيع يتلاءم وقلق المثقف الذي يرى نفسه نداً للمعطى والقائم المطلق سواء كان ثقافياً، أم إجتماعياً أم سياسياً أوغير ذلك. ويدرك أن العمل الثقافي مشروع تحكمه الكثير من المعايير والمناهج والمصطلحات، كالتراتبية، والحتمية والمغايرة، وما إلى ذلك من تنويعات وتسميات. إلا أن الأهم من كل هذا هو «اللا جدوى» التي تمثل المبعث والمحرض الأول على الفعل الثقافي وغير الثقافي، وتمثل المعنى المفقود الذي يقيم المبدع على تخومه من دون ولوجه أو الوقوع فيه. وهو الحلول المطلق لمتعة الكتابة أو «العمل الثقافي» ما إن يفرغ الفاعل من عمله. ولعل خاتمة قول الأنصاري في تقييمه ابن سعيد المغربي هي خير دليل على ما يتصف به الرجلان من رهافة ودأب تنكباً للمسؤولية الإنسانية. ويلفت الأنظار إلى حياة هذا الأديب والشاعر والرحالة الكبير المتقطعة القلقة الهائمة التي قضاها متنقلاً في البلاد يكابد ويقاسي الجروح النفسية وسواها بحثاً عن المعنى، ولكن من دون «جدوى». ويخلص إلى أن ابن سعيد: «أصر على مواصلة رسالته الثقافية رغم ضخامة اللاجدوى، ووجد في انتمائه الأعمق إلى «دار الإسلام» وحضارته ـ مشرقاً ومغرباً ـ ما يعوضه عن ضياع داره وموطنه. وكانت رحلاته المشرقية المتتابعة رمزاً لذلك التفاعل العميق والوحدة المتصلة في دار الإسلام والعروبة»(9).
لا يختلف سعي الأنصاري في تعرضه للتجربة الثقافية الأدبية عن سعيه وتجربته كمفكر وباحث في الشؤون السياسية والفكرية من النواحي العضوية التي جعلها نقاطاً مركزية يبني عليهاعمارته، ويوسع في دوائرها أبحاثه. فمنهاج البحث عن صلات جديدة غير مطروقة من سواه لربط المتواري والمنسي من تجربة ابن سعيد المغربي بتجارب أقرانه التجديديين التحديثيين هو نفسه الذي ينهجه في تجربته في البحث السياسي الفكري. يطمح من خلال ذلك إلى اكتشاف أشكال جديدة متطورة للدولة العربية الحديثة. وللبحث عن كيفيات وسبل ووسائل عمل تجعلها متصلة بالماضي اتصالاً ثنائياً تستشرفه، وتستلهمه دون استطابة الإقامة فيه. فالدولة القطرية العربية الحديثة «فشلت» (برأي الأنصاري) في أن «تضع أولويات تاريخية ومستقبلية لبناء دولة راسخة مكتملة النمو»(10). إن حصيلة التراكمية التاريخية العربية الطويلة المسار اشتبكت في صنعها عوامل كثيرة متنوعة وأهمها «الزمان والمكان والتكوين الجمعي» وبمعنى آخر هي: عوامل الجغرافيا والتاريخ والتركيبة المجتمعية العامة المتوارثة، الممتدة إلى عمق الحاضر المعاش في مختلف مظاهره وأعراضه التي يعانيها عرب اليوم»(11).
إن التنبه لأهمية الإمساك باللحظة التاريخية وتوجيهها وفق مجموعة المصالح القومية المشتركة هو الأمر الأكثر ضرورة لبناء دولة متماسكة بمفهوم الأمة الحديث. إذ ذاك تنتفي الأهواء والعصبيات، ويتم التركيز على دوافع استنهاضية بنائية عوضاً عن ترك المشهد السياسي العربي بجميع مظاهره ينحدر نحو الإنكفاء والعزلة و«البكائيات القومية»، ومشاعر الإحباط والحيرة وجلد الذات. بما يفاقم من وطأة الأزمة بدل معالجتها»(12).
إن القراءة الخاطئة لواقع المجتمعات العربية من جانب الحركات والقيادات التي تدعي الأحقية في الإمساك بالسلطة، وقيادة المجتمعات إلى حالة التكافؤ والوعي والحرية هي سبب حقيقي وأساسي في فشلها لتحقيق ما تدعي. إذ أنها تقدم مجموعة الشعارات السياسية «الأيديولوجية» على ثوابت القيم والوعي القائم على الحس القومي المرتكز على المشاركة العملية، والتناغم الوجداني لما يخدم سائر المصالح القومية المشتركة. هكذا حركات مهما ادعت العمل من أجل مصالح شعوبها فإنها تظل على جفاء وقطيعة تاريخية مع جوهر هذه المصالح ما لم يتم الأخذ بعين الإعتبار التاريخ الثقافي والسياسي والجغرافي لهذه الشعوب، الذي شكل لها قوة معرفية حضارية، يتم التعبيرعنها في الحياة الآنية الحاضرة وفي المستقبل المرتقب. ويعبر الأنصاري عن رؤيته المطابقة لذلك في سياق حديثه عن «النهضات الحقيقية في تاريخ الأمم»: «… وليس صحيحاً أنه لا ثقافة بلا أيديولوجيا، وإنما الصحيح أنه لا أيديولوجيا فاعلة ومتماسكة دون ثورة معرفية تتقدمها وتقودها»(13).
لا يلغي بناء الدولة الحديثة «الخصوصيةالتاريخية» للمجتمعات.إذ أنه من البديهي أن لا يكون النظر في الإلتحاق بمنظومات التحديث والعمل المديني «cosmopolitain» هو ضرب من ضروب التجاهل، أو التعمية، أو قفزاً في فراغ. ولعل من أسباب التخبط الذي تعانيه الدولة القُطرية العربية تجاهل خصوصيات شعوبها. وهو سلوك تسبغ الأنظمة عليه شعاراتها المختلفة مما يتيح لها حرية افتراس هذه الشعوب تحت عباءة «التصفيات الأيديولوجية العمومية في توصيفات للواقع العربي، لم تؤد إلا إلى المزيد من تغييبه، فضلاً عن تصورات «الطوبى» ـ من تراثية وتحديثية ـ التي لا يساوي بعدها عن الواقع إلا جهلها إياه»(14).
لم يول منظرو «أيديولوجيا القُطرية» الخصوصية العربية اهتماماً تستحقه وأغفلوها على أنها منجز تم استهلاكه في حينه. وأنها معطىً شكلته قيم ذات دلالات آنية لم يكن لديها القدرة على الإستمرار في الزمان والمكان. واستقدموا لأجهزة دولتهم أطراً وآليات عمل وقوانين لاتمت إلى واقع الأمة التاريخي بصلة. جرى ـ هكذا وبطرفة عين ـ تهميش ملايين وطمس ذاكرة جمعية دون مراعاة إسهاماتها الحضارية الكبيرة، ذات الأثر الإيجابي على سيرورة «التراكم الحضاري» عبرالتاريخ. ويشير الأنصاري إلى أن مصطلح الخصوصية سرعان ما يثير التباساً في الفهم، ويحمل على غير محمله، حيث يفهم منه البعض أنه دعوة للإنعزال عن الآخرين، وللتطهرية الحضارية والفكرية، أو للتمييز الشوفيني والإنغلاق والإستعلاء القومي»(15).
ومن نافل الرأي الفصل بين الأزمات التي تعاني منها الدولة القُطرية العربية،واعتبار التعثر والفشل الذي تلاقيه اليوم نتيجة «الإستعمار» أو ما يتصل بهذا المصطلح من تسميات تروق لدعاة هذه الدولة. فإن إنكار مثل هذا الزعم الذي نشاطرهم في شك فيه ـ يصب في خانة مصادرة حق الإختلاف، وهو السبيل الأمثل لتحقيق الحرية. وضمن هذا السياق فإن من حق دعاة مشروع «إعادة فهم الواقع العربي والمشروع الثقافي العام» المشاركة الفعلية في رسم ملامحه وإعادة صوغه في سياق يتناغم ويتلاءم وينصهر مع ضرورات واحتياجات الواقع التاريخي والراهن الحضاري ـ المستقبلي، بما ينسجم مع مكونات مجتمعية خلقت ذاكرة موحدة. ويرى الأنصاري في هذا السياق أن: «الأزمة السياسية العربية أزمة متصلة يجب عدم حصرها في أزمات السياسة الراهنة، التي لا تمثل سوى فصولها الأخيرة والمستحدثة» وأن «إشكالية الدولة هي من إشكالية المجتمع المدني والديمقراطية حيث تمثل العجز المزمن للمجتمع المديني العربي عن توليد فاعليته (عصبيته) السياسية الذاتية المعبرة عن إرادته وقيمه وتطلعاته»(16).
لا يدعو الأنصاري إلى القطيعة مع الدولة القُطرية العربية واعتبارها نموذجاً تم استهلاكه وتفريغه من مضمونه، رغم الفشل والهزائم التي مني بها هذا النموذج وهي ـ من دون شك ـ كثيرة. ولا يؤسس للتغيير ذهنية تأليببة تتخذ الريبة والمؤامرة مشروعاً لها، ينتج في أقصى حد له إزاحة سلطة ما، أوالإنقلاب عليها. بل «العضوية» المتصلة بقوى التلاحم وأسباب تكويناته المجتمعية الداعية إلى الحوار والإعتراف بخصائص المجتمعات العربية، وتسهيل فرص لها للتعبير عن نفسها هي إحدى النقاط المركزية التي يؤسس عليها كتابته في هذا المجال. فالذوبان والإنصهار وإلغاء «الكيانات المصطنعة» هي الهدف المشروع الذي يجب تحقيقه. ويجاهر الأنصاري برؤيته الطامحة إلى تكوين مجتمع عربي موحد، مندمج في فكرة قومية واحدة، في وطن يتنوع لكنه لا ينفصل. ويدعو إلى ذلك متيقناً من حدوثه كمصير حتمي ليس من خيار حقيقي للعرب سواه. إذ أنه ثمة ضرورة لتوسيع أفق النظرة العربية للوعي القومي «المثالي» والواقع «القطري» المعاش، وأن «التاريخ العربي الإسلامي» لا يتعارض مع هذا الواقع ولا يتخطاه. كذلك إن «الوعي» العربي لهضم المفاهيم ذات العلائق «العضوية» المتصلة اتصالاً تاريخياً هو مقدمة وركيزة أساسية لبناء دولة بالمعنى الأعم الأشمل. ولتفادي «التضحية بها كما حدث في مراحل سابقة من التاريخ العربي الحديث والمعاصر».
وبحسب الأنصاري فإن «التحدي الصعب، والمطلوب تبينه في هذا الصدد يتمثل في تحقيق التوفيق بين استكمال بناء الدولة وتغييرها ديمقراطياً في الوقت ذاته.أي القيام بالبناء وتغييره أو ترميمه في وقت معاً. وهما مرحلتان متمايزتان زمنياً في تجارب الدول الأخرى التي بنت ورسخت كياناتها أولاً، ثم انتقلت إلى مرحلة التغيير الديمقراطي»(17).
لا يخفى دأب الأنصاري عبر محاولاته النقدية لتفكيك البنى والتركيبات المكونة شكل الدولة العربية منذ الماضي البعيد حتى اليوم، والظروف والعوامل التي مرت بها في مراحل كثيرة متنوعة اتخذت مع الزمن شكل النمو العكسي على الريبة والخدر. وهذا ما قاد المجتمعات العريية ونخبها الفكرية إلى النأي بنفسها عما يجري. وهذا ما أفسح المجال أيضاً في وجه تيارات الدولة القطرية ذات الكليشيهات الأيديولوجية التي لم تعرف نفاذاً إلى وجدان الإنسان العربي وحسه القومي أن تأخذ طريقها نحو الصعود.
إن من شأن هذا التعاطي السلبي من جانب النخب العربية الثيوقراطية والبيروقراطية تعميق الفجوة التي أنتجت المزيد من الأزمات على المستويين الثقافي الفكري، والسياسي الإجتماعي ـ الإقتصادي، مما زاد في حالة القطيعة بين الجانبين. وقد أفرز هذا السلوك جانباً غير صحي في علائق المجتمع العربي وتشكلاته كافة، مما عزز ونمى الشعور بالعداء بين أبناء المجتمع الواحد، وأسهم بشكل ملحوظ في تصدع البنى الإجتماعية، لا بل ودفع بها في الكثير من المحطات والمراحل للإختلاف في ما بينها. وقد كان أشد ما في صورة ذلك الإختلاف. أشكال الإقتتال الدموي التي كانت تأخذ بتنويعات المجتمع العربي وإثنياته العرقية والمذهبية الدينية المختلفة. فالفجوات التي عاشها ويعيشها العرب في الماضي البعيد والقريب، وفي العصر الحديث ـ هي بفضل القطيعة بين الساسة وشعوبهم، مما أدى إلى حال فصام أنتج كيانات «هزيلة» يتربص كل منها بالآخر. ليست اهتمامات الأنصاري بهذا الجانب الفكري السياسي، والثقافي ـ الإجتماعي للمشكلة سوى تشخيص دقيق وحيوي لمحاولات الفصل بين النظرة الساعية إلى «تقديس الفكرة» لعجزها عن تقديم الحلول الإجتماعية ـ الإنسانية ـ وفي ذلك يتم تنحيتها وعزلها عن واقعها، مما يعطيها الحق بعدم القيام بمهامها وأدائها واجباتها ـ وبين المصير المرتجى للشعوب العربية، الذي يتطلب تحركاً ميدانياً وتماساً دائماً مع كل ما يخدم مصالحها ويرفع من شأنها. يتم كل ذلك في مساءلة دقيقة من جانب الأنصاري لربط هذه الإهتمامات بـ«واقع التاريخ» أو بمعنى أدق: «رفع الواقع التاريخي» إلى درجة «مثالية» عملانية مستمرة. ويتخذ من المجدد الإسلامي الإصلاحي الحديث محمد عبده و«حجة الإسلام» الإمام الغزالي نموذجين ـ في الفكر السياسي والديني العربي الإسلامي ـ يعبران بشفافية عن تلك «الفجوة ـ القطيعة» بين الإنسان العربي ونموذج الدولة القُطرية العربية. ويقول الأنصاري في هذا المضمار: «لا يستطيع الدارس ظواهر الحالة السياسية عند العرب أن يغض النظر عن امتداد خيط واحد متصل من حس الأزمنة في نسيج الحياة السياسية للعرب ماضياً وحاضراً، منذ القدم إلى يومنا هذا، وكأن السياسة «كعب أخيل» في الجسم العربي، وفي بنيان الحضارة العربية-الإسلامية الغنية بعطائها الروحي والعلمي والإنساني، في ما عدا عطاء السياسة واختباراتها ومحنها، وفي ما عدا الشأن السياسي والإنجاز السياسي الذي يبدو أضعف جوانبها على الإطلاق»(18).
وهذا ما دفع بالغزالي إلى القول في وصيته لإبنه المريد: «لا تخالط الأمراء والسلاطين، ولا تراهم لأن رؤيتهم ومجالستهم، ومخالطتهم آفة عظيمة،…»(19). وهذا ما دفع أيضاً بالشيخ محمد عبده إلى «الإستعاذة بالله من السياسة وشؤونها وحتى لفظها وجذرها، ومن ساس ويسوس، بعد خيبة أمله فيها من واقع التجربة»(20). وفي نفس السياق يربط الأنصاري فشل العرب في تحقيق الدولة الحديثة بفشل مماثل في تاريخ أشار إليه إبن خلدون وعبرعنه «بنقد لاذع»: «إن من عوائد العرب الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الإنقياد للسياسة،…فهم متنافسون في الرئاسة، وقل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه أو أخاه،…وقلما تجتمع أهواؤهم» فتصبح الأحوال» كأنها فوضى من دون حكم»(21).
إن طبيعة المجتمع العربي ذي التنوع والتعدد الحضاري ـ الذي من المفترض أن يكون مصدر غنى وإضافات نوعية تعكس القدرة الهائلة للمخزون الحضاري الكبير، المجذر تاريخياً، لم يستطع ساسته والقيمون على زمام الأمور فيه الإستفادة منه، أو حتى العمل على منحه مهيئات حضارية وآليات فكرية وعملية لتحقيق ذلك. فـ«الإزدواجية الثلاثية» ـ كما سماها الأنصاري موافقاً في ذلك برهان غليون الذي جعلها: «بين انتماء عام للعقيدة والحضارة، وانتماء متحدد للقبيلة أو الطائفة أو المحلة، وانتماء بحكم واقع الحال للكيانات السياسية القائمة «ظلت حالة تفكيكية تناحرية على حساب البعدين: «الحضاري الشامل، والسياسي الوطني أو القطري»(22).
ومع أن هذه الظواهر توازيها ظواهر إنسانية في مجتمعات أخرى غير عربية، كـ«الدائرة الحضارية الصينية التي حافظت على وحدتها السياسية معظم عصور التاريخ»، إلا أنها لم تعرف التوحد والإنسجام في المجتمعات العربية. حيث «ظلت تعددية متفلتة وغير متسقة ضمن سلم أولويات يصهرها في بوتقةعامة واحدة»(23). يتضح من خلال ذلك عمق الفجوة القائمة بين الدولة العربية الحديثة، والتجربة الإسلامية في «العصر الراشدي» التي أسقطها الفكر الإجتهادي من بؤرة اهتمامه. إلا أن هذا الفكر، وعلى الرغم من تنكرا لأولويات في نظام الحكم والدولة الإسلامية كمبدأ «الشورى» لكنه لم يفلح في الخروج من تحت سطوة «المثل الإسلامي الأعلى «الذي ظل» رادعاً من الناحية الأخلاقية والمبدئية تجاوزات السلطة في الواقع ، والذي ظل على انفصام خطير مع هذا المثال، ولم تردم الفجوة الكبيرة بينهما. وانحصر معيار القبول الإسلامي بأي حكم واقعياً في أمرين: القدرة على منع الفتنة من الإنتشار، وتطبيق الشريعة الإسلامية في كل المجالات (وهنا المفارقة) ما عدا السياسي، إلا في ما يخصها، ومع ذلك صارت القاعدة المتبعة لدى الفقهاء في العصور المتأخرة، لانرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا علينا، وندعوا لهم،…»(24).
لعل أخطر ما في المشهد العربي العام هو حال الفشل الذريع الذي حل بالدولة القُطرية ودعاتها القوميين. وعلى مدى ما يزيد عن النصف قرن ـ تحديداً في أعقاب خروج الحكم الأجنبي ـ تفاقم الشعور لدى الكثير من شرائح المجتمع العربي بأن «العرب لا يحسنون حكم أنفسهم، وأنهم يحتاجون إلى من يهيمن عليهم من الخارج». هذا الشعور هو شعور عام يضم في صفوفه بعض النخب السياسية العربية، تم الترويج له ـ طبعا ًـ من قوى معادية للعرب». يكشف هذا الواقع عن أزمة حقيقية لم تعد مجرد معركة قادمة لا محالة، تنذر طلائعها بانعكاسات ليست في صالح المجتمعات العربية فحسب، بل هي واقع يراكم انهياراته على مساحات شاسعة من المشهد العربي اليوم. يشي سعي الأنصاري في سياق هذا المنحى المتصاعد الوتائر، الذي يغلب عليه الطابع الفجائعي الكارثي الذليل بمحاولة حادة في وضع اليد على الجرح البليغ في الجسد والروح العربيين. والأسئلة الكثيرة التي تختنق بها الجماهير العربية في أنحاء الوطن العربي كافة تكاد تكون هي الأسئلة نفسها لدى النخب السياسية، ولكن من منظور معاكس متسائل عن أسباب كم التساؤل الهائل في الفكر الجمعي العربي. وهنا ينزاح الغطاء الصخري الصلد ليرينا عمق الفجوة السحيق الفاصل بين ربائب الدولة القطرية المتمثلين بهذه النخب وما أفرزته من مشاريع فكرية وسياسية وثقافية «فاشلة». ويرينا أيضاً ـ الواقع المتضارب، المتماثل مرة على «الحدود» بالمعنى الجغرافي، ومرة على الواقع الديموغرافي، السوسيولوجي، الذي يشتمل على تصنيفات إثنية ـ عرقية أغلبها يتمحور حول تأكيد الذات، وإثبات الهوية. يتفق الأنصاري في رؤيته هذه مع بعض أفكار منظرين سياسيين،ودينيين، وثقافيين، من مثل: قسطنطين زريق، وبرهان غليون، والفضل شلق وغيرهم. فالأنصاري يرى: «إن السلطة في أزمة، والمعارضة في أزمة، والدولة في أزمة،وكذلك الثورة في أزمة، سواء من حيث الوعي السياسي أو الأداء السياسي. وإذا كان من هم في موقع السلطة والقوة أكثر مسؤولية من غيرهم عما يحدث، فإن هؤلاء قد تم تغييرهم في الكثير من أقطار الثقل العربي وغيرها وحلت محلهم عناصر وطنية وشعبية في قمة السلطة والدولة من دون تحسن يذكر»(25). وهذا ما تحدث عنه أيضاً مفكر عربي آخر هو قسطنطين زريق حين ألمح إلى أهمية «معركة الحضارة» قبل معارك السياسة، وكذلك فعل الفضل شلق حين علل الأمر بأن كثيراً من العرب «المحدثين أسقطوا من وعيهم التاريخي الحقبة السوداء الطويلة التي تكونت خلالها هذه التركيبة المجتمعية بمعوقاتها الحضارية والسياسية. واقتصروا بالحديث على حقبة الأمجاد الأولى بشكل رومانسي مضخم أدى إلى تضخيم كبير في تصورهم ذاتهم في العالم الحديث، وإلى تغافل عن كثير من النواقص ونقاط الضعف الأساسية اللاصقة بهم، والأقرب إليهم من أيام المجد البعيدة»(26).
المراجع :
(1) كتاب «الفكر العربي وصراع الأضداد» (ص17) محمد جابرالأنصاري.
(2) التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق (محمد جابرالأنصاري).
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه.
(8) المصدر نفسه.
(9) المصدر نفسه.
(10) تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطرية(محمد جابرالأنصاري).
(11) تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطرية(محمد جابرالأنصاري).
(12) المصدر السابق.
(13) المصدر السابق.
(14) المصدر نفسه.
(15) المصدر السابق.
(16) المصدر السابق.
(17) المصدر السابق.
(18) المصدر نفسه.
(19) أبوحامد بن محمد الغزالي، أيها الولد(بيروت:[د. ن]،1959).
(20) تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطرية(محمد جابرالأنصاري).
(21) أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (المقدمة) دارمكتبة الهلال 1983.
(22) برهان غليون، نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة (المركز الثقافي العربي).
(23) تكوين العرب…مصدر سابق.
(24) نجم الدين الطرطوسي: تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك. تحرير رضوان السيد (بيروت) دار الطليعة.
(25) المصدر نفسه.
(26) الفضل شلق، إشكاليات التوحد والإنقسام: بحوث في الوعي التاريخي العربي (بيروت، المركز الإسلامي للبحوث1987).
غسان علم الدين شاعر وباحث من لبنان