هذا الكتاب لمؤلفه الدكتور شاكر عبدالحميد ليس دراسة تاريخية لتطور مفهوم وأدوات التعاطي مع علم الجماليات وتفضيلاته فقط، وانما هو بمثابة فتح النوافذ الداخلية/ جوا نية النفس كي نصل إلى الحدود القصوى من المتعة والانتشاء بالطبيعة والكون وأنفسنا، والتأمل الجمالي والتطهر من الخراب والأعطاب التي تصيب النفس البشرية جراء تراكمات صدأ الحياة اليومية. لقد بذل المؤلف جهدا كبيرا في استقصاء معنى ومفهوم المصطلح الذي يتعامل معه مثل استقصائه للمعلومة وتطورها ومسارها التاريخي. كما بذل الجهد الكبير أيضا في تتبع مفهوم التفضيل الجمالي وعلاقته بالعلوم الانسانية المختلفة، فلسفيا، أدبيا، فنيا، تربويا، وغير ذلك.
خصص المؤلف الفصل الأول للجمال ومفاهيمه. واستعرض من خلاله بعض المفاهيم والمقولات عن الجمال في الحقبة اليونانية والتي كانت تدور معظمها حول الادراك الحسي أو الحس الجمالي عن طريق الحواس أو الانسجام بين الأشياء أو ربطه بالأخلاق والخير والشر في محاولة للاجابة على سؤال: "ما الجمال؟".
ويشير المؤلف إلى أن أولى الصياغات المنتظمة هي تلك التي قدمها "بيرك" عام 1775م حول الجمال حين قال بأنه "الانفعال الذي يجيش في صدورنا".
يصف المؤلف الحالة الجمالية في أحد شروحاته (والجمال ليس متعلقا بالشكل المنفصل أو المنعزل عن مضمونه، لكنه يتعلق بالتركيب الخاص للمستويات المتنوعة من المعنى والتأثير الشامل، والاحساس الشامل بالحياة في تألقها وتدفقها الدائمين).
أما في تعريف علم الجمال معجميا، يرى المؤلف أن تعريف قاموس "ويبستر" لعلم الجمال هو أكثر دقة من بعض التعاريف الأخرى، وهو " المجال الذي يتعامل مع وصف الظواهر الفنية والخبرة الجمالية وتفسيرها".
لكن المفهوم الذي يفضله المؤلف عن مصطلح علم الجمال هو ذلك المفهوم المستنبط من نظرية الفيلسوف "بيردسلي" والذي يرى أن علم جمال هو علم بيني تقوم من خلاله فروع معرفية عدة- كل بطريقته ومناهجه ومفاهيمه الخاصة – بدراسة تلك المنطقة المشتركة المتعلقة بالخبرة أو الاستجابة الجمالية، بكل ما تشتمل عليه هذه الخبرة أو الاستجابة من جوانب حسية وادراكية وانفعالية ومعرفية واجتماعية.
ونظرا لارتباط علم الجمال بالفنون والآداب ارتباطا قويا، فإن المؤلف سعى إلى استقصاء مفاهيم الفنون عبر تاريخ تطوررؤية الفن ومفهومه، فهو يرى أن جمال العمل الفني لا يكمن – كما أشار "جومبريتش"- في جمال موضوعه، بل في جمال أسلوب التعبير عن هذا الموضوع.
ويضيف في تعريف الفن: أنه ليس هناك ما يمنع من أن تكون علاقتي بالموضوع الجمالي عموما، والفني خصوصا، ليست من قبيل "الكل أولا شيء" أي أن تكون علاقتنا بالموضوعات الجميلة عموما، والفنية خصوصا، علاقة منزهة عن الغرض فقط، ثم تستبعد حالات أو أنواع العلاقات الأخرى معها.
يؤكد المؤلف على العلاقة التي بيننا -متلقين- والأعمال الفنية – الابداع – ليست علاقة واحدة فقط هي العلاقة الجمالية، أو علاقة الاستمتاع والتأمل على مسافة معينة فقط، بل هي في جوهرها، علاقة موقفية تعتمد على "طبيعة التفاعل"، بيننا وبين العمل الفني في "موقف معين"، وهذه خاصية لا تعمل ضد الفن بل تعمل معه، وكلما كان العمل الفني قادرا على النشاط والتأثير في مواقف متعددة، تعددت تفسيراته وتأويلاته ومستوياته، وكان هذا العمل أكثر خصوبة وثراء. رغم كل الآراء والاتجاهات لتعريف الفن أو فهمه فإننا نقع في حيرة عند محاولة الاقتناع أو التمسح بمفهوم واحد على حساب الآخر، حين تتجلى التعريفات عن مفاهيم مبتسرة. ونحن نشارك المؤلف هذه الحيرة حيث يقول إن الفن ظاهرة يصعب تعريفها حقا، فأحيانا لا تكون هناك حدود واضحة بين ما يمكن اعتباره فنا وما لا يمكن اعتباره فنا، وما قد نعتبره اليوم فنا قد لا يصبح كذلك في فترة أخرى وفقا للاهتمامات الشائعة والأيديولوجيا وأساليب الحياة التي يعتمدها الناس أكثر في حياتهم.
رصد الدكتور شاكر عبدالحميد المصطلحات وتطورها ودلالاتها عبر تتبعه لتشكل المصطلحات تاريخيا وعبر الاتجاهات المختلفة التي تعاملت معها حسب تخصصها.
لذا استخدم المؤلف مصطلح "التفضيل الجمالي" لما للانسان من دور بشكل إرادي أو لاإرادي باختيارات جمالية في حياته اليومية والعملية. ويرى أن التفضيل الجمالي هو نوع الاتجاه الذي يتمثل في نزعة سلوكية عامة لدى المرء تجعله يحب، (أو يقبل على أو ينجذب نحو) فئة معينة من أعمال الفن دون غيرها.
وهو يشير عموما إلى أن عملية التذوق وما يصاحبها من حساسية وأحكام جمالية وتفضيل جمالي عملية تتغير متأثرة بالخبرة سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى الجماعة، وأن هذا التغير قد يكون نحو الأفضل، أو نحو الأسوأ اعتمادا على النماذج الجمالية التي يتعرض المرء لها، واعتمادا على الأذواق السائدة في المجتمع، وعلى عمليات أخرى كثيرة بعضها تربوي، وبعضها اجتماعي، وبعضها اعلامي.
ويمكن تعريف الخبرة الجمالية على أنها حالة معينة من الاندماج مع مثير أو موضوع جمالي، لا لسبب إلا مواصلة التفاعل معه، نتيجة ما نشعر به من متعة واكتشاف وارتياح أو قلق، بتأثير من هذا التفاعل.
من خلال استعراض مناطق الخبرة الجمالية مثل المتعة والتقمص والمسافة النفسية، مرورا بأبرز رواد هذه الأساليب في التفضيل الجمالي، يستخلص الدكتور شاكر عبدالحميد حالة الخبرة الجمالية على أنها حالة من التفاعل الجدلي والحركة البندولية بين الاقتراب (أو التقمص أو الاندماج) والابتعاد (أو المسافة).
بهذا قدم لنا الدكتور شاكر عبدالحميد مفاتيح الولوج إلى علم الجماليات وتفضيلاته المختلفة وذائقته المرهفة.
وتطرق الكتاب إلى أن الاهتمام المنظم بالفن والجمال يعود إلى بدايات الفلسفة اليونانية عامة، والى أفلاطون وأرسطو خاصة.
فبينما أكد أفلاطون على أن المحاكاة الفنية، وبخاصة في التراجيديا والشعر التراجيدي، تعمل على تأجيج الانفعالات القوية، وتضلل الباحث عن الحقيقة فتبعده عنها، فإن أرسطو قال إن الفنون عموما لها قيمتها العالية، لأنها تصحح النقائص الموجودة في الطبيعة، وأن الدراما والتراجيديا خصوصا لها أهميتها لأن لها إسهامها الإيجابي في التطهر من الانفعالات السلبية المتطرفة، ومن ثم تقوم بدور أخلاقي إيجابي. والتراجيديا في رأيه كذلك وسيلة للوصول إلى المعرفة من خلال عرضها للحقائق الفلسفية.
أما بعد ذلك وخلال القرن الثالث الميلادي فقد ربط أفلوطين في حديثه عن الفيض بين الفن والدين وبين الجمال والخير، وأكد أفكار التناسب ووحدة الأجزاء داخل الكل، وانتهى إلى نظرية مثالية صوفية وحد فيها بين حقيقة الوجود والخير والجمال، وصور من خلالها شوق النفس الانسانية المستمر إلى الاتصال بهذه الحقيقة المطلقة والتشبه بها.
في العصور الوسطى تحول الاهتمام من القضايا الميتافيزيقية إلى القضايا المنطقية واللاهوتية بفعل التأثير الطاغي للكنيسة حينئذ، وأصبحت الأفكار الجوهرية متعلقة بالمشكلات الدينية، بينما صارت قضايا الفن قضايا فرعية، وتناقش في ضوء التصورات الدينية فقط. وحافظ "لجميل" على مكانته لكنه كان محاطا بهالة من القداسة، وقطعت كل صلاته القديمة بالفن، وتم إحلال صلات جديدة بدلا منها تربطه على نحو وثيق بالمقدس الديني.
حيث ربط القديس توما الأكويني بين الجمال والحب والايمان. وذلك لأن "الجميل" يؤمن بالحب ويثيره في النفس، والحب إذا ارتبط بالايمان والصدق يقود نحوالحقيقة.
بعد ذلك أصبح هدف الفن هو الجمال، وأصبح الجمال قيمة ترتبط بالنسب المتوافقة أو المتآلفة التي يتم استخلاصها من الكون والعالم ثم وضعها في الأعمال الفنية.
استعرض الكتاب آراء بعض الفلاسفة المنظرين للفن وجمالياته والذي كان أحدهم "هيوم" الذي أشار إلى أن العديد من خبراتنا يمكن اختزالها إلى ترابطات خاصة بين أفكار بسيطة، وأن خبراتنا السابقة تلعب دورا مهما في عمليات الترابط هذه، وأن الميول الأخلاقية تقوم على أساس مبادئ خاصة بالتعاطف والانفعالات الموجهة نحو الآخرين.
"هيوم" ومعيار الذوق:
أكد "هيوم" وجود تنوعات عدة من الذوق في العالم، مثلما توجد تنوعات عدة للآراء، حتى فيما بين الناس الذين عاشوا في المكان نفسه، وخضعوا للأنظمة الاجتماعية والسياسية والتعليمية نفسها، وهذا صحيح – في رأيه – عبر الأمم وعبر العصور. وتوجد داخل كل مخلوق، كما يقول "هيوم"، جوانب قوة وجوانب ضعف، كما أنه يمر بحالات من القوة والضعف وجوانب أو حالات قوة الأعضاء أو الحواس فقط هي التي يمكنها أن تمدنا بمعيار حقيقي للذوق والعاطفة.
ويقول "هيوم"، وعلى نحو يثير الدهشة، نظرا لقرابة ما طرحه منذ ما يزيد على مائتي عام، مع كثير من الآراء الحديثة في نظريات القراءة والتأويل واستجابات القارئ. "ان نفس المهارة والبراعة اللتين تمنحهما الممارسة للعملية الخاصة بتنفيذ أي عمل، هما أيضا ما يتم اكتسابه بالطريقة نفسها، بالنسبة للعملية الخاصة بإصدار الأحكام عليه". وكان يرى أن الشيء المهم بالنسبة للفن هو ملاءمته، أي المتعة التي نستمدها منه، وأن يتعلق هذا الفن كذلك بانفعالاتنا أو عواطفنا المرتبطة به في المقام الأول قبل أن يكون مرتبطا بالطبيعة الداخلية اللازمة له، وأن هذه الانفعالات لا ينبغي أن تحمل أي مرجعية مباشرة لما يقع خارجها، وأيضا أن تكون حقيقية خاصة عندما يكون الانسان واعيا بها، وأن التفضيلات الجمالية هي بمنزلة التعبيرات عن ذوق المتلقي، أكثر من كونها إفادات عن الموضوع الفني. ويجد "هيوم" في هذا التنوع الكبير في الأذواق ما يؤكد وجهة نظره هذه.
"كانط" وحكم الذوق الجمالي:
تمثلت الخطوة العظيمة لكانط، مقارنة بالسابقين عليه أو المعاصرين له، في أنه ذهب إلى ما وراء التحليل الإمبيريقي للا حساس الجمالي، متجها نحو التحديد الخاص لعلم الجمال، باعتباره مجالا خاصا للخبرة الانسانية يماثل في أهميته وتكامله المجالين الخاصين بالعقل النظري والعقل العملي (أي المجال المعرفي والمجال الأخلاقي).
وقد جادل "كانط" قائلا: "إن حكم الجمال أو الذوق ينبغي أن يكون شيئا عاما وصادقا بالضرورة بالنسبة لكل البشر، فإن الأساس الخاص به لابد أن يكون متطابقا لدى جميع البشر، لكنه أشار أيضا إلى أن المعرفة هي فقط القابلة للتوصيل، ومن ثم فإن الشيء الوحيد أو الجانب الوحيد في الخبرة الذي يمكن أن نفترض أنه مشترك أو عام بين جميع البشر، هو الشكل، وليس الإحساسات بالتمثيلات العقلية. وقد اعتبر بعض الباحثين هذه الفكرة الإرهاص الأول للمذهب الشكلاني أو الشكلي المعاصر في الفكر النقدي والفني المعاصر. بالإضافة إلى ذلك، نظر "كانط" إلى "الجميل" على أنه رمز للخير، كما أنه تصور النشاط الجمالي باعتباره نوعا من اللعب الحر للخيال. وتعد البهجة الخاصة بالجميل والجليل بهجة خاصة بالملكات المعرفية الخاصة بالخيال والحكم، وقد تحرروا من خضوعهما للعقل والفهم، أي تحرروا من قيود الخطاب المنطقي، وقد أثرت هذه الفكرة الخاصة بحرية الملكات المعرفية تأثيرا كبيرا فيمن جاء بعد "كانط" من الفلاسفة الألمان وخاصة "شلينج" و "هيجل".
إن الحكم التأملي لا يستمد – كما أشار "كانط" – من الخارج، لأنه حينئذ سيكون حكما محددا أو معينا أو حتميا أو طبيعيا، إنه ينتمي أكثر إلى مملكة الذات والوجدان والشعور، واليهما ينتمي كذلك الحكم الجمالي.
وقد ميز "كانط" في "نقد الحكم" بين أربع لحظات أساسية أو حالات أو خصائص أساسية لحكم الذوق أو الحكم الجمالي نذكرها بإيجاز فيما يلي:
اللحظة الأولى: حكم الذوق وفقا للكيف:
الخلاصة – بالنسبة لهذه اللحظة – هي: الذوق هو ملكة الحكم على موضوع ما أو أسلوب من أساليب التمثيل الداخلي لهذا الموضوع من خلال الشعور الكلي المنزه عن الغرض والخاص بالارتياح أو عدم الارتياح. وموضوع مثل هذا الارتياح – أو الاشباع – هو ما يسمى بـ "الجميل".
اللحظة الثانية: الحكم على الجميل وفقا للكم: ينتهي إلى أن: الجميل هو ما يمتع بشكل عام (مشترك) دون حاجة إلى وجود مفهوم عقلي محدد خاص حوله. اللحظة الثالثة: أحكام الذوق في ضوء العلاقة الغرضية الخاصة التي توضع في الاعتبار:
حكم الذوق حكم غائي، لكنه حكم غائي بلا غاية، أي حكم بلا غرض عملي محدد. والنتيجة هي أن: الجمال هو الشكل الخاص بغائية موضوع ما، وأن هذه الغائية يتم إدراكها دون أي تمثيل داخلي أو خارجي لغاية معينة.
اللحظة الرابعة: الحكم على الجميل في ضوء الجهة الخاصة بالرضا أو الإشباع الخاص بالموضوع: (أي من حيث الإمكان أو الضرورة):
إن هذا " الحس المشترك" والذي من خلاله لا نفهم المعنى الخارجي ولكن الأثر الناتج عن اللعب بقوانا المعرفية، هو الشرط المسبق الذي يمكن أن يقوم في ظله حكم الذوق ويرتقي. وهذا الأثر الانفعالي، وليس التصور العقلي، والعام وليس الفردي، هو جوهر الحكم الجمالي عند "كانط". والخلاصة هنا هي: الجميل هو ما يتم التعرف عليه دون أي مفهوم عقلي على أنه موضوع للاشباع أو الارتياح الضروري.
والفن الجميل في رأي "كانط" هو فن العبقرية، والعبقرية هي موهبة (أو هبة طبيعية) تمنح القاعدة (أو القانون) للفن. والموهبة ملكة فطرية خاصة بالفنان وتنتمي بذاتها إلى الطبيعة. ومن ثم فإن العبقرية هي استعداد عقلي فطري تقوم من خلالها الطبيعة بإعطاء القاعدة أو القانون للفن.
ويقول "كانط" كذلك "إن الجمال الطبيعي شيء جميل، في حين أن الجمال الفني تصوير جميل لشيء ما". والذوق في رأيه ليس ملكة خلق أو إبداع، بل هو ملكة حكم فقط، وان ما يلائم الذوق لا يكون بالضرورة "عملا فنيا"، وانما قد يكون مجرد أثر صناعي، أو نتاج نفعي أو عمل آلي ميكانيكي صرف.
ويخلص "كانط" إلى ضرورة اتحاد الذوق والعبقرية في العمل الفني، مادام من الضروري أن يتوافر كل من "الحكم والمخيلة" في الفن. فالفنان العبقري يحتاج إلى ملكات أربع هي: المخيلة والفهم والروح والذوق.
"هيجل" وتجسيد الفن للمطلق:
نظر "هيجل" إلى الفن باعتباره محدودا نتيجة للطبيعة الحسية الخاصة بوسائطه. فهو في رأيه غير قادر على النهوض أو الوصول إلى الإدراك الكامل للوعي الذاتي او الروح. والفن هو أحد الأشكال الكلية للعقل، أو هي غايته القصوى، وما الفن سوى خطوة سابقة في طريق العقل نحو الحقيقة.
ويرى "هيجل" أن الجمال في الفن يرجع إلى اتحاد الفكرة بمظهرها الحسي، والنظر إلى الفكرة ذاتها يكون الحق، والنظر إلى مظهرها الحسي يكون الجمال. "أما الفن فيرتفع بالكائنات الطبيعية والحسية إلى المستوى المثالي، ويكسبها طابعا كليا حين يخلصها من الجوانب العرضية والمؤقتة، فالفن يرد الواقعي إلى المثالية ويرتفع به إلى الروحانية، والفكرة إذا تشكلت تشكلا دالا على تصورها العقلي تتحول إلى مثال".
"الجمال في رأي "هيجل" هو: الفكرة التي تعبر عن الوحدة المباشرة بين الذات والموضوع. وهذا الجمال لا يتحقق في أقصي درجاته إلا في الجمال الفني، لأنه ينبع من الروح (أو الانسان)، بينما الجمال الطبيعي هو أول صورة من صور الجمال، لأنه الصورة الحسية الأولى التي تتجلى فيها الفكرة".
ويقول "هيجل" بالنسبة للتذوق الفني – إن العمل الفني لا يقصد منه مجرد استثارة انفعال أو آخر لأنه هنا لن يتميز عن أشكال أخرى من النشاط كالفصاحة والتأليف التاريخي والوعظ الديني. فالعمل الفني يكون كذلك – عملا فنيا- بقدر ما يكون جميلا.
"شوبنهور" وحكمة الفن التي تتحدث عن نفسها:
كل ما يعرفه الانسان – في رأي "شوبنهور" – يكمن داخل
وعيه، هذا على الرغم مما قد يفترض من وجود ذات عارفة، وثوابت خالدة، خلف هذا التدفق للخبرة. فالتحليل البسيط يكشف لنا عن أن الذات هي لاشيء دون وعي، وأن المادة لاشيء دون أحداث يتلو بعضها بعضا خلال الزمن، وأن ما يجعل هذين المفهومين (الذات والمادة) يكتسبان الحياة، ويصبحان مفعمين بالمعنى هو تلك القوة الكونية التي تبث الحياة فيهما، والتي يطلق "شوبنهور" عليها اسم "الإرادة"، إنها الشيء في ذاته، إنها ليست الذات القائمة بالإدراك، ولا المادة المدركة، لكنها الشيء الذي يتجلى كل من الذات والإرادة من خلاله. والجانب الجمالي في رأيه "ظاهرة من ظواهر الذهن" تعتمد على الخصائص المميزة للفرد الذي يدركها، لكنها ظاهرة تكون لافتة في اكتمالها وتوافقها (أو هارمونيتها)، والجمال محرر أو مطهر للعقل، فهو يسمو بنا إلى لحظة تعلوعلى قيود الرغبة، وتتجاوز حدود الإشباع، وهما (الرغبة والإشباع) من الشروط الملازمة والمألوفة في الحياة العادية. فمن خلال الفن تجد الإ رادة الانسانية، التي لا تهدأ ولا يقر لها قرار، حالة مؤقتة من الهدوء.
يشير "شوبنهور" كذلك إلى أن المتلقي ينبغي له أن يصغي أولا إلى الحكمة العميقة التي تبوح له بها الأعمال الفنية، إنه ينبغي أن يستمع إلى حديث العمل الفني اليه، قبل أن يتحدث هو اليه.
فالاستمتاع الجمالي إذن حالة مشاركة، أو تعاون بين العمل الفني والمتلقي. هذا هو الشرط الأساسي لحدوث الأثر الجمالي كما يشير "شوبنهور"، ومن ثم هو أيضا القانون الجوهري فيما يتعلق بالاستمتاع بكل الفنون الجميلة. أفضل ما في الفنون – كما يقول شو بنهور – تلك الجوانب فائقة الروحانية فيها، وبحيث إنها تمنح نفسها للحواس على نحو مباشر، إنها يجب أن تولد أو تحدث في خيال المتلقي، ورغم كونها تولد أو تنتج أولا من خلال العمل الفني.
محمد القرمطي( قاص من سلطنة عمان)