إعداد وتقديم: صدام الزيدي*
المشاركون في الملف:
قادري أحمد حيدر، عبد الباري طـاهـر، محمـد عبد الوهـاب الشيبــاني، عبد الحميد الحسامي، صلاح الأصبحي، عبد الحكيم باقيس، آمنة النصيري، حميد عُقبي، أحمد الأغبري، وجدي الأهدل، عبد الله علي الزلب.
الكلمة هي البدء وإن انكسرت أمام الموت المتجول بين دروب اليمن شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، فمن لم يمت هناك في مواجهة قتال شرسة، يموت في لحظة قهر وسط طابور طويل للماء والزيت والدقيق ومتاهات الفاقة التي لا نهاية لعتمتها وضراوتها…
على مدى خمس سنوات، انقسمت البلاد واتسعت المقابر وكبر الأنين واتشحت الجدران بصور الضحايا بينما تنامى خطاب الكراهية وأمسى غول الطائفية والسلالية والعنصرية يمشي في الشوارع والأسواق ويطل برأسه من على المنابر وفي الأروقة والدهاليز، في بلدٍ كان اختار الديمقراطية خيارا لتجاوز محمولات إرثه القديم، يوم التأم اليمن (شماله وجنوبه) صبيحة 22 مايو 1990؛ الوحدة التي تمضي الآن إلى مآلات مربكة في مشهد معقد وأكثر سوداوية وانفلاتاً….
يوميّاتُ التشظّي…
في صنعاء، تواصل مؤسسة «بيسمنت» الثقافية ونادي القصة اليمني «إل مقه» أنشطة ثقافية شبه منتظمة، بجهود طوعية في معظم الأحوال، وتشرق مبادرات ثقافية أخرى كـ»صالون نجمة» و»منتدى كيان» و»منتدى الحداثة والتنوير» وبين فترة وأخرى يعاود اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين- فرع صنعاء، أنشطته، بين ندوات وتكريم وصباحيات، أما اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين (الاتحاد الأم) فهو في حالة سبات، ويكاد دوره حاليا ينحصر في بيانات نعي تنشرها صفحته على «فيس بوك».
في عدن نشأ ما سمي بـ»اتحاد أدباء وكتاب الجنوب» وتشهد عدن أنشطة ثقافية متناثرة هنا وهناك كما هو الحال في تعز وحضرموت.
مؤسسة السعيد الثقافية بتعز، نالها ما نالها من دمار، حيث التهمت النيران والقذائف ما فيها من أثاث ووثائق وأرشيف ومكتبة في خضمّ معركة ضارية ما زالت مستمرة، هناك. ومؤخراً، دعا الشاعر أنور داعر البخيتي إلى تظاهرة أدبية في بيت الثقافة بصنعاء بعنوان «المؤتمر الأدبي الأول للأدباء اليمنيين الشباب» تضمنت قراءات نقدية وشعرية (في وقت ما زال الأدباء الشباب ينتظرون منحهم عضوية اتحاد الأدباء منذ نحو عقد من الزمن)، لكن المؤتمر بدا كما لو أنه مجرد هامش انفعالي، ولم يشهد حضوراً واسعاً. قبل ذلك، نجحت مبادرة للشاعر صدام كعبابي في إقامة ما أطلق عليه «مهرجان الشعر اليمني- دورة الشاعر يحيى الحمادي».
في مجموعات أدبية تفاعلية على «واتس آب»، تنفذ مؤسسات ومبادرات ثقافية، أنشطة تعليمية وأدبية، وكنتاج لهذه «الجروبات» تخرج إصدارات إبداعية إلى النور، حين يقود الشباب مشهدا موغلا في عزلته وانكساراته. غير أن نافذة مواقع التواصل الاجتماعي هي النافذة الأخيرة في مشهد منهار، (ومع ذلك، انقطاعاتها متوقعة بين لحظة وأخرى)، بالنسبة إلى الموجة الأحدث من الشبان، على وجه الخصوص، الذين أفاقوا على صباحية للحرب دامية، ومشهد إبداعيّ تطوِّقه العزلة وتغيب عنه المؤسسة الثقافية (الرسمية) بينما توقفت المجلات والملاحق والصفحات الثقافية وبؤس حركة نشر الكتاب، وغياب الدوريات من الإصدارات والكتب والمجلات الثقافية التي كانت تصل قبل اندلاع الحرب.
ومن بين مجلات بصيغة (PDF) تصدرها مؤسسات وجماعات تنشط في الواتس آب وشبكة الإنترنت، تصدُر شهريا مجلات مثل «سما» و»أبجديات» و»أقلام عربية»، والأخيرة احتفت مؤخرا بصدور العدد 40. ترأس الشاعرة سمر عبد القوي الرميمة، تحرير «أقلام عربية»، التي قالت لـ»نزوى»: «بدأ منتدى أقلام عربية عام 2014 ثم موقع أقلام عربية الإلكتروني في عام 2016، وبسبب الوضع العاصف وإغلاق الصحف الرسمية والمجلات الثقافية، كان الأمر مخيبا لآمال الكثير من الشعراء والكتاب، ففكرنا بعمل مجلة أدبية ثقافية، بدأنا بإنجاز أول عدد في 8 صفحات ثم 12 صفحة ثم 16 صفحة ثم 24 ثم 32 وها نحن الآن نقترب من الـ 60 صفحة، وهي أعداد أنيقة الإخراج وغنية في المحتوى. نصدر العدد في تاريخ 20 من كل شهر، وخلال ثلاثة أعوام أصدرنا 40 عدداً إلكترونياً وبشكل محدود تصدر المجلة ورقيا».
من جهته، أوضح الروائي الغربي عمران رئيس نادي القصة اليمني، أن النادي لا يتلقى دعما من أية جهة. مشيراً إلى أنه بسبب تراكم ديون الإيجار على النادي، «تم نقل أنشطته إلى قاعة اتحاد البرلمانيين السابقين.. أما الجوانب المالية فهي بتبرعات وتفاعل طوعي من الأعضاء».
ويضيف الغربي لـ»نزوى»: «أنشطتنا تقوم على الإدارة الجمعية لتسيير النشاط وتتنوع بين الفنية والتراثية والقراءات وتوقيع الإصدارات الجديدة وقد كرّم النادي في السنوات الخمس الماضية، 20 شخصية ثقافية وإبداعية، وفي نهاية كل عام نحتفي بنجم السرد اليمني، ومن بين النجوم: نادية الكوكباني وصالح باعامر وبسام شمس الدين. هناك ورش فنية في الكتابة تقام بين فترة وأخرى
وأنشأنا موقعا إلكترونيا للنادي، وبداية هذا العام 2020 أطلقنا مجلة شهرية إلكترونية».
أما شيماء جمال، رئيس مؤسسة بيسمنت الثقافية بصنعاء، فاكتفت بالقول إن «الشغف وحده هو من يقف وراء انتظام نشاطات بيسمنت». ونشير هنا إلى أن مؤسسة بيسمنت كانت وما زالت النجمة الأولى المضيئة في سماء المشهد الثقافي اليمني؛ تنتظم فعالياتها بشكل احترافي برغم التحديات والتهديدات، التي تضيق ذرعا بضوء «بيسمنت» الجميل، وسط الغابة المقفرة.
في الرباط المغربية يواصل الشاعر اليمني أحمد الفلاحي، إصدار مجلة «نصوص من خارج اللغة» التي تضم هيئة تحريرها أدباء يمنيين وعربا. تصدر مجلة نصوص عن «شبكة أطياف الثقافية» بالرباط، وقد احتفت بالشاعرين عبد العزيز المقالح وعبد الودود سيف وملفات يمنية، كما احتفت بأسماء عربية وعالمية مثل: صلاح فائق؛ مفتاح العماري؛ حاتم الصكر؛ شريف رزق؛ سليم بركات؛ أورهان ولي؛ عبد الله راجع؛ شيركو بيكه س؛ أنسي الحاج؛ خالدة سعيد. كما قدمت المجلة ملفات شعرية للاحتفاء بالشعر اليمني والشعر: التونسي؛ العراقي؛ المصري؛ المغربي؛ التركي؛ السوري؛ الكردي، والليبي.
في القاهرة، تطبع مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر لكتّاب من اليمن، وكان هناك مشروع «المائة كتاب» الذي وقعه وزير الثقافة بحكومة عدن مروان دماج مع رئيس مؤسسة أروقة الشاعر اليمني هاني الصلوي، صدرت عدة كتب ضمن المشروع قبل أن يتعثر، على ما يبدو.
مبدعون كثر في اليمن، تشردوا ونزحوا داخل البلاد وخارجها، وهناك طابور طويل باتجاه الموت ألماً وجوعاً؛ يقف فيه كثير من أهل الأدب والفن بانتظار الموت، لا علاج ولا منقذ، وقد اتسعت دائرة الأنين في اللحظة العاصفة….
وفي ذروة الشلل الثقافي، أقيمت بصنعاء وعدة مدن يمنية وعالمية، جداريات «فن الجرافيتي» داعية إلى الحب والسلام والتعايش، وراسمة أوجاع اليمنيين، على كثرتها. ونذكر هنا كمثال «جداريات هيفاء سبيع في سنغافورة بينالي»، حيث منحها المتحف الوطني للفن بسنغافورة أواخر 2019 الرسم على جدرانه كأول فنان يمنح هذا التشريف في تاريخ المتحف. على جدران المتحف الوطني بسنغافورة، أنجزت «هيفاء سبيع» تسع جداريات، قدمت للعالم صورة جرافيتية عن عذابات أطفال ونساء اليمن (ضحايا الحرب). وفي مدن فرنسية وعالمية، يواصل فنان الغرافيتي اليمني مراد سبيع (الحاصل على زمالة صندوق حماية الفنانين بجامعة إيكس مارسيليا- فرنسا) رسم مآسي الحرب اليمنية وتجاعيدها. ونفس التفاعل تشهده جدران صنعاء وعدة مدن يمنية، حيث نفذ الجرافيتي «ذي يزن العلوي» في الآونة الأخيرة حملة/ جداريات «صنع في اليمن»، بمشاركة رشيد قائد وخولة المخلافي.. ونشير إلى أن فن الجرافيتي بدأ في اليمن مع اندلاع ثورة فبراير 2011 وكانت هناك مبادرات جرافيتية بقيادة الفنان مراد سبيع.
مثّلت الجداريات في بداياتها فعلا غريبا بالنسبة إلى الشارع اليمني، لكن هذه الغرابة لم تأخذ وقتا طويلا حتى تفاعل المجتمع معها لتسليطها الضوء على قضايا الشارع مثل الحروب الأهلية وتجنيد الأطفال والفساد والكوليرا… إلخ.
في سنوات الحرب، أشرقت إبداعات يمانية على المستوى العربي.. ففي 2019 مُنِح شاعر اليمن الكبير عبد العزيز المقالح، جائزة أحمد شوقي مناصفة مع أحمد عبد المعطي حجازي، في الدورة الأولى للجائزة التي ينظمها اتحاد كتاب مصر، وفي 2017 فاز الشاعر جلال الأحمدي بجائزة محمد عفيفي مطر في دورتها الأولى، وفي 2018 فازت الناقدة والأكاديمية آمنة يوسف محمد، بالمركز الثالث عن «فئة النقد» في جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي- الدورة الثامنة. في 2019 فاز الروائي حبيب عبد الرب سروري بجائزة الرواية العربية «كتارا». في 2019 فاز الروائي الغربي عمران بالمركز الثاني- جائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع في دورتها الأولى، فئة «الرواية للكبار».
يكاد اليمنيون لا يتذكرون متى أقيم آخر معرض دولي للكتاب بصنعاء أو بعدن، مما دفع مبادرات أهلية في الآونة الأخيرة لتنظيم معارض مصغرة للكتاب بين حين وآخر، في محاولة لإنعاش مشهد منكسر وحزين، بينما تستمر يوميات التشظّي، على أمل أن تشرق روح يمانية في نهاية نفق مظلم، وإن بعد حين…
يحاول هذا الملف، كسر العزلة التي حجبتها الصورة المتداولة لأشلاء اللحظة اليمنية (الراهنة) المحتشدة بالضياع والشتات، حيث تنام آلهة الإبداع في بيت مهجور.
أعتذر، سلفاً، عن أية أخطاء خارجة عن الانتباه والتدقيق، بين ثنايا الملف. كما أشير بمحبة وعرفان إلى ثلة من كبار الأدباء والكتاب والنقاد اليمنيين، قاسموني عناء لملمة محاور هذا الملف، الذي «يأتي في سياقه الابداعي والمنطقي وجراحات تلك البلاد (بلادنا الأولى)، ومآسيها التي بحاجة إلى أكثر من ملف وإلياذة وملحمة»، وفقاً للشاعر الكبير سيف الرحبي رئيس تحرير «نزوى»، عندما اندلعت (مع نهاية العام 2019 المنصرم) فكرة (عبر البريد الإلكتروني) للاحتفاء بجراحاتنا الأولى….