يكاد يكون هناك اليوم ما يشبه الاجماع على أن أصل الخراب السياسي الراهن في العالم العربي والاسلامي – وهو حقيقة جلية فيما يعيشه من اقتتال أهلي وانسداد آفاق التحول الديمقراطي. وتخفيض مفهوم المواطن الى مفهوم المولى والمحسوب والتابع _ هو رفض العرب والمسلمين مفاهيم الحداثة والتحديث ، وأن مصدر هذا الرفض هو الايمان بمبدأ هو في الجوهر تيوقراطي يرفض التمييز بين الزمني والروحي وبين السياسي واللاهوتي ويغذي بالتالي مشاعر العداء الدائم للحداثة.
إظهار هشاشة هذه الاطروحات ونقدها هو موضوع الكتاب الجديد لبرهان غليون أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون. وهو الكتاب الصادر هذا الشهر عن دار لاديكوفيرت الباريسية بعنوان الاسلام والسياسة ، الحداثة المغدورة. والكتاب الذي يستخدم التحليل التاريخي والاجتماعي يبدأ بنقد الفرضيتين اللتين تقوم عليهما هذه الاطروحات. الأول فرضية عدم التمييز داخل العقيدة الاسلامية بين ما هو سياسي وما هو ديني والثانية التي تقول بجمود العقل المسلم واستمرار تعلقه بالتراث ورفضه تمثل قيم الحداثة ومفاهيمها وبالتالي معاداته المتواصلة لها.
فبالرغم من المظاهر. كان للمسلمين فضل السبق كما يقول الكتاب في التمييز بين السلطة الدينية التي رفضوها منذ البداية كسلطة وصاية على ضمير المؤمن وبين سلطة الدولة ، بالرغم من أن الدولة استمرت في التعامل مع الدين كمصدر للاحكام الفقهية والقانونية.
وبالرغم من المظاهر أيضا ، ليست القيم المستمدة من حضارة القرون الوسطى ونزعتها الروحانية هي التي تتحكم بسلوك جمهور المسلمين ومجتمعاتهم اليوم وتحدد طبيعة سياساتهم العملية. ولكن بالعكس من ذلك تماما. إن الذي يحرك المسلمين ويدفعهم لبذل الجهد والكفاح والتنازع هو التعلق بالقيم نفسها التي تحرك جميع الشعوب المعاصرة الأخرى، أعني قيم العدالة وتوسيع دائرة الحريات الشخصية وتحقيق المساواة واحترام كرامة الفرد وحقوقه.
وعلى النقيض من هذه النظريات والتفسيرات السائدة والمعمول بها اليوم في الأوساط العلمية الغربية وقسم كبير من الأوساط العربية ، يبرهن كتاب : الاسلام والسياسة ، الحداثة المغدورة ، أن الخراب الذي يعيشه العالم العربي الاسلامي اليوم ليس النتيجة الطبيعية للايمان بدين ، ولا التعبير عن استمرار الاعتقادات الاسلامية والتراث العربي ومقاومتها للحداثة. ولكنه الثمرة المباشرة والحتمية لهذه الحداثة حسب الصورة المشوهة التي عرفها بها هذا العالم وطبقتها النخب التي تواترت على حكما. فهذه الحداثة التي ليس لها من الحديث الا الشكل والمظهر الخارجي هي التي دمرت الأسس المعنوية والأخلاقية العميقة التي كان يقوم عليها الاجتماع العربي الاسلامي التقليدي من دون أن تتوافر لها الشروط والامكانيات التي تسمح لها بأن تتحول من نبتة يابسة لا روح فيها الى منبع جديد ومتجدد للقيم الانسانية ومصدر لمراكمة المكاسب والموارد المادية. ولذلك ما كان من الممكن لها أن تزهر وتنجب الوعي والنظام الذي يساعد الشعوب عل تجاوز المشاكل العديدة الموروثة والاندراج في سيرورة الحضارة المعاصرة بفاعلية.
فمقابل النزعة الانسانية التي رافقت تطور الحداثة الغربية سيطرت على نخب المجتمعات العربية الاسلامية الحديثة نزعة تقنية مريضة نزعت عن الانسان قداسته وحولته الى عامل تابع للعوامل التقنية والاقتصادية ، بل حولت الوعي الانساني نفسه الى عقبة لا يمكن ضمان التقدم التقني والاقتصادي إلا بالسيطرة عليها والتحكم بها إن لم يكن باختزالها واجهاضها. ومقابل التأسيس المتدرج والثابت للحريات الفردية والجماعية وبناء النظم الديمقراطية ، تميزت حداثة المجتمعات العربية بتقديس السلطة الاستبدادية وتعظيم النظم الشمولية ، وسادها النزوع الى استبعاد الفرد من دائرة القرار بل الى الانتقاص من وجوده وكرامته ، وابقائه تحت التهديد وفي مناخ الخوف الدائم. ومقابل التنمية المستمرة للموارد والتراكم المنتظم عن طريق الاستثمار للمصادر المادية والبشرية. اكتفت النظم العربية والاسلامية الحديثة باستغلال الثروات الطبيعية واستهلاك الطاقات والقوى البشرية والموارد المتوافرة ، قبل أن تجعل من النهب والفساد القاعدة الفعلية التي تحرك اقتصاداتها الطفيلية.
هكذا لم تعرف المجتمعات العربية الاسلامية الحداثة بالمعنى الحقيقي للكلمة ولا وقفت في أي وقت ضدها، ولكنها عرفت بالعكس نموذجا مسخا لحداثة فقيرة ومنقرة روحيا وماديا. وهذه الحداثة المشوهة هي التي تستنهض المعارضة والمقاومة لا بسبب ما تعد به من ازدهار تقني وعلمي ومن تقدم اخلاقي ومن حريات شخصية وحقوق انسانية ، ولكن بالعكس بسبب ما تبعثه من احباطات وما تختلقه من انسدادات وما تثيره من المخاوف الأكثر عنفا وما تفجره من النزاعات الأكثر دموية. إن ما تعيشه المجتمعات العربية الاسلامية من فوضى وخراب اليوم هو تعبير عن انفجار أزمة هذا النموذج الفاسد والفج ، غير القابل للحياة ، للحداثة. والنتيجة أن المسؤول عن هذا الخراب وتلك الفوضى ليست الحداثة ، كما يعتقد الكثير من الاسلاميين. كما أنه ليس التراث كما يعتقد معظم العلمانيين. ولكن غياب الفكر النقدي عن الممارسة التاريخية الحديثة العربية الاسلامية سواء أكان ذلك في ميدان الحداثة أو في ميدان التراث. وبالتالي تشيؤ الحداثة والتراث معا. فمن دون مرافقة الحداثة والتحديث بالفكر النقدي المستقل والحر، ما كان من الممكن أن يكون الدخول فيهما الا على سبيل الاقتداء الأعمى والانخراط القطيعي. ومن دون مواكبة الخروج من سلطة التراث بالروح النقدية المماثلة جاء التجديد الفكري قطيعة مع التاريخ. وبالتالي استلاها محضا وتمثلا لمذاهب وايديولوجيات جاهزة من دون تمحيص ولا تقويم. بسبب ذلك جاءت الحداثة تحديثا رثا ومراكمة لمنتجات وبضائع جديدة أجنبية مقطوعة عن مساراتها وقيمها. أي استهلاكا لا بداعات الآخرين ، لا بناء لهياكل انتاجية وسيرورات ابداعية كما جاءت القطيعة مع التراث في صورة تمزمق للروابط مع الماضي وقتلا لروح التواصل الجماعية ، التاريخية والجغرافية ، أي تحطيما للمرجعيات الثقافية العميقة وتهديما للهوية ، بدل أن تكون إعادة استثمار للتراث ولما يمثله من رأسمال تاريخي في عملية تجديد التواصل داخل المجتمعات وترميم الجسور المفتوحة نحو كل الحضارات.
فليس من الغريب إذن أن تقود هذه الحداثة الرثة ، والمتناقضة والمتنافرة في كل وجوهها الى الانفجار ومن وراثه الى تعميم الاقتتال والحرب في كل مكان.
من هذا التحليل يخلص الكاتب الى القول : ليس هناك مخرج ولن يكون هناك مجال للتغلب على الفوضى الضاربة اليوم الا في إعادة صهر هذا النموذج الفج والمتوحش من الحداثة وانشائه نشأة جديدة ، يكون فيها للانسان موقع القلب ويكون فيها اختراع الانسان وتكريمه. منطلق كل سياسة وغايتها. وأداة هذا الصهر ليس شيئا آخر سوى الفكر النقدي. فالنقد هو الذي يفرز، كما تفرز النار في المصهر ، المعدن الخبيث من الطيب ويقضي كما يفعل الكي على جميع أشكال الكذب على النفس والادعاء والخديعة والغش والمكابرة والرياء التي جعلنا منها قناعا يخفي عنا وجهنا الحقيقي ويمنعنا من معاينة نقائصنا، ويساعدنا على التهرب من مسؤوليتنا. وليست النظريات التي تفسرا لخراب القاتم بخرافة الطابع التيوقراطي الأصيل للاسلام الذي يجعله يرفض أي فصل بين الزمني والروحي ولا يقبل بأقل من بناء الدولة الدينية الا محاولة من بين محاولات عديدة ظهرت وسوف تظهر في المستقبل لانقاذ هذه الحداثة الرثة من النقد وتجنيب النخب التي صاغت نموذجها ضرورة المراجعة النظرية لسياساتها. ومن وراء ذلك اخفاء المسؤوليات الحقيقية فيما وصلت اليه الأوضاع العربية والاسلامية.
الحداثة المغدورة
صدر الكتاب عن دار لاديكوفيرت، باريس (مايو / أيار 1997)