في إطار البحث في مشروع نظرية لنقد الخط العربي، كان لابد لنا، باديء ذي بدء، من متابعة ما كتب عنه منذ نشأته الى يومنا هذا. وهذا أمر متعذر من الناحية العملية بسبب غياب بعض المصادر التاريخية أو فقدانها. ولكن الميسور منها، وهو غير قليل ، يسعفنا في تكوين فكرة عما غاب او فقد . ذلك أن أغلب من كتبوا في هذا الموضوع يرددون ما كتبه الأسبقون ، وينقلون عنهم نصوصا طويلة ، حقي لتكاد تتشابه نصا وأسلوبا. وهي على العموم كتابات انطباعية ،لا تتأمل ولا تتوغل في باطن العملية الانشائية لهذا الفن . أما القلة القليلة من الكتابات الجادة فلم تتعرض الى هذا التحليل ، ولم تخرج عن الإعجاب ، وأحيانا الانبهار، بمعطيات هذا الفن الذي يعد بحق أصفي الفنون العربية وأكثرها أصالة . وهذا ها جعلنا نطمئن الى أن دراسة من هذا الطراز، لا وجود لها في مكتبتنا الخطية ، لا قديما ولا حديثا، وهو اطمئنأن يحمل في طياته وهبة المولوع في حيدان بكر ، بلا علامات ولا إشارات تسعف على تلمس الطريق الصحيحة.
ولذا اعتمدنا منهجا يقوم عل دراسة العناصر الأولية المكونة لهذا ألفن ء لفرض التعرف على طبيعتها وخصائصها وطاقاتها التي تنعكس على المصورة النهائية ، من حيث هي عناصر مجردة والخروج بالنتيجة الى مجال التطبيق الممكن لها. لأن الكلام العام مملى الخط العربي يبقى في حدود المنظر في ما هو كيان متكامل قائم بالفعل ، مؤسس على عناصر مختلفة ، فيها ما هو مجرد، وفيها ما هو فني مرتبط بمعايير فكرية أخرى. بعبارة أخرى ء يبقى الكلام في حدود التعامل مع كيان منجز، كما لوكنا ننظر الى صورة فوتوغرافية جميلة ونبدي راد فيها، دون التساؤل عن حالات المظل والضوء، ون اوية النظر، والمحاليل الكيمياوية ، والموجات اللونية ، والتحكم الشخصي للفنان في هذه العناصر التي جاءت متكاملة في الصورة التي نراها.
النظر الى الخط العربي بهذا الشكل يثير فينا أحاسيس مختلفة تتحكم في تكوينها ثقافتنا العامة ومزاجنا الشخص ؟ وذلك ما يبقى مغاليق هذا الفن محكمة وكأنها خلقت هكذا منذ الازل.
في السطور التالية محاولة للاقتراب من أحد هذه العناصر، والنظر فيه كحالة مجردة تصر في الخط كما تصر في غيره. وهذا العنصر الأول الذي سنبحث ´فيه هو (الخط ) بمدلوله الهندسي ، من حيث هو خط يبدأ بنقطة وينتهي بنقطة . ذلك أن فن الخط العربي يقوم على هذا العنصر أساسا. وقد أخذنا قيمة وأحدة من قيم هذا العنصر، وهي طاقته الحركية ، لننظر الى أي مدى تخدمنا هذه الطاقة في بناء لوحة خطية ، وما هي حدود واتجاهات هذه الحركة التي تؤثر على الصورة النهائية للوحة الخطية .
عند تجريد أشكال الحروف مما يلحق بها من عناصر الدلالة كالنقاط ورؤوس الحروف ، ومن العناصر التزيينية الأخرى، مثل حلي الحروف التي لا تدخل ضمن القيمة الجوهرية للحرف( شكل 1)، لا يبقى لنا من الحرف إلا شكله العام الذي لا يختلف عن الأشكال التي تكونها حركة الخط الهندسي المجرد باتجاه ما. وهي أشكال هندسية معروفة ، مستقيم ، منحني، وحالاتهما.
وتكون الأشكال المتبقية بعد التجريد أشبه بالهيكل العاري لبناية في طريق الإنشاء، مهيأة لاستقبال أي مشروع تكميلي محتمل . وهذا المشكل وان كان لا يعطي شكل المحرف المقصود، إلا أنه يوحي به ، ويشير اليه . وبما أنه الهيكل الأساسي لبناء الحرف ، فهو بهذا الواقع ، مركز التعامل مع الوضع المستقبلي له . بمعنى أخر، إنه مشروع كينونة الحرف الذي يتحدد على أساسه شكله الدلالي ، والهيئة الجمالية التي نريدها له . (شكل 2).
ويمكن للدلالة ان تتحقق بأبسط الأشكال ، دونما حاجة الى التزويق والتزيين . وهذا ما نراه في الكتابة البسيطة التي توصل رسالتها الى العين ، وتنتهي مهمتها عند هذا لحد. ذلك أن الدلالة لا تشترط الجمال ، لأنها ليست قيمة في ذاتها،إنما هي إشارة أو إيماء أو تلميح Ji معنى. الممنى هو الذي يحتمل أن يكون جميلا أو لا يكون ، في حين أن الجمال شرط لازم للفن ، من جانبه الحسي لا المجرد ، والحواس هي الكفيلة بتصنيف مستوياتها وفق الحالة المعرفية .
إذن فالجمال مسألة أخرى، ليست من شروط الدلالة ، وانما من شروط الفن . ولكن إذا تحقق الوضع الدلالي ضمن جو جمالي ، فانه يضع أحاسيسنا في مرتبة أعل ، ويجعلنا إزاء قيمة إضافية للدلالة ، تجعلها أكثرأثارة وتأثيرا، وهذا هو ما يعنينا في الخط العربي.
فاذا جردنا شكر المحرف من عناصر الدلالة والجمالية ، يبقى لنا وضعه الهندسي ، كما قدمنا، وهذا الوضع الهندسي بحد ذاته ، ينطوي عل قيم جمالية وايمائية بمقادير مخطفة نريد هنا أ ن نتحدث ممنها، خارج ء استقرت عليه مفاهيمها في علوم الحساب والهندسة وفنون العمارة والتصميم أي بما تتيحه هذه الخطوط المجردة من إيحاء يمكن الاعتماد عليه في الخط العربي.
بهذا الاعتبار نكون أعدم نوعين من الخطوط : المستقيم والمنحني. وأمام واقعين لهذه الخطوط : الشكل والحالة . فأشكال المستقيم ثلاثة هي:
ومساره مختلف عن الخط المستقيم وحالاته كثيرة كالحالة الثعبان والحلزونة والدائرية وغيرها .
والخط المستقيم بأشكاله وحالاته,أقسى من الخط المنحني ,وأصلب,في حين يكون الخط المنحني أكثر ليونة وعذوبة,وأكثر احتواء على الطاقة الحركية.
فإدا أخذنا الطاقة الحركية لأشكال الخط المستقيم,نلاحظ أن شكلين من أشكاله,وهما الافقي والعمودي,ساكنا سكونا تاما وذلك بسبب كمون هذه الطاقة فيهما وعدم ظهورهما بشكل محسوس,فهي لا تستثار بمد الخط نفسه باتجاهه المرسوم مهما كان طول هذا الامتداد,وانما تستثار بخروجه عن مساره,أو مجاورته مسارا مختلفا عنه.
فالخط الأفقي المفرد,ساكن ما لم يرتبط بخط من غير نوعه(كالعمودي أو المائل أو المنحني),سواء كان هذا الاتصال يرتبط به عضويا أو إيحائيا,عن طريق المغالطة البصرية (شكل3).والدليل على ذلك أننا لو رسمنا خطا أفقيا منفردا على ورقة بيضاء,لما أحسسنا بحالة حركية فيه,ولكننا نحس بأنه مهيأ لحالة انتشار أي بامكانية تحول الحركة الكامنة فيه الى التحقيق .ولكنه من ناحية أخرى يساعد على إطهار حركة الخطوط الواقعة عليه.
والخط العمودي هو الآخر، وللسبب نفسه ، ساكن ، لا يحتوي على الحركة بمفرده ، ولا يوحي بها. ولكنه يشعرنا بأنه مهيأ للانجذاب الى الأعلى أو الأسفل ، فإذا حصر بين خطين أفقيين لم يعد يوحي بالانجذاب ، وعاد، الى خموله مثلما كان وهو منفرد، (شكل 4).
ومع أن كلا من الخطين ، الأفقي والعمودي، يوحيان بالحركة إذا جاورا خطوطا أو أشكالا أخرى، إلا أنهما خلوان من هذا الإيحاء ذاتيا، ولذلك يبقى إيحاؤهما بالحركة وهميا بسبب بقاء الحركة في حالة الكمون ، وعدم قيام إمكانيات لاستثارتها،
(شكل5) .
الشكل الوحيد هو الخط المائل، مهما كانت درجة ميلانه . وذلك لانطلاقه من نقطة خط ساكن (أفقي أو عمودي)، وتجاوزه هذه النقطة . فهو إذا انطلق من نقطة خط أفقي، أوحى بالنهوض أو الهبوط من أفق مستقر، واذا انطلق من نقطة خط عمودي أوحى بأنه يتفرع منه ، وامكانية انجذابه الى الاتجاهين (العمودي والأفقي) إمكانية محسوسة تلتقطها العين ، (شكل 6).
وربما يتوهم ، في حالة الشكل السابق ، أنه يمكن الافتراض بأن المائل هو الثابت ، وأن الأفقي والعمودي هما المتحركان من نقطته . وهذا غلط ، لأن الأفقي والعمودي أصل ، وطبيعتهما ساكنة ، والمائل حالة من حالاتهما، وأن إمكانية الثبات الكامنة في هذين الخطين أقوى وأكفأ مما هي عليه في المائل ، لأن المائل هو إحدى حالات الحركة الممكنة لأي منهما.
وما يقال عن المائل يصح في المنحني من حيث كونه تحققا للحركة الكامنة في الأفقي والعمودي، مثله مثل المائل ، وعلى هذا الاعتبار يمكن للخط المائل والخط المنحني، إذا ارتبطا بالأفقي والعمودي، أن يوقظا فيهما الحركة الكامنة ، وينقلاهما من حالة الركود الى الحركة المحسوسة ، (شكل 7أ و ب ).
إذن فالحركة في الخطين الأفقي والعمودي، إمكان في حالة كمون وفي المنحني والمائل ، إمكان في حالة تحقق .
ونحن نستطيع إبراز هذه الحركة بدرجات مختلفة من خلال ما ننشئه من علاقات بين خط وآخر. على أساس ما تقدم ، يمكننا أن نسوغ المعادل التالية :
(ارتباط أفقي بأفقي، أو عمودي بعمودي = عدم ظهور الحركة بشكل محسوس ) . أي أن :
الكمون + الكمون = كمون .
(ارتباط الأفقي والعمودي بالمائل والمنحني= ظهور الحركة بشكل محسوس ) ، أي :
التحقق + الكمون = تحقق (شكل 8)
(امتداد المنحني أو الماثل بنفسيهما، او ارتباطهما ببعضهما = ظهور الحركة بشكل محسوس ) ، أي:
التحقق + التحقق = تحقق . (شكل 9).
ذلك لأن حركتهما في الأساس متحققة ،وحركة ما أضيف اليهما متحققة كذلك .
إذن فالطاقة الحركية المتحققة ، أقوى على جذب الكامن اليها، مما للكامن على امتصاصها. وهذه مفارقة بحاجة الى تأمل فالأفقي والعمودي اللذان وصفناهما بسر (الأصل ) و (الاستقرار) يكونان الآن تابعين لحالة من حالاتهما، أي المنحنى والمائل . ويعود ذلك الى كون تحقق الحركة أقوى من كمونها،وهي متحققة في الحالتين ، وكامنة في الأصل .
فما الذي يعنينا من كل هذا في فن الخط العربي؟ يعنينا منه حالتا : التحقق + الكمون
والتحقق +التحقق
لأننا عندما نرسم حرف الألف عل أساس (الكمون + الكمون )، نحصل على هذا الشكل ، (شكل 10):
وهو شكل راكد لا يوحي بالحركة ولا يثير إحساسا جماليا. وعندما نرسمه على أساس
(التحقق +الكمون ) نحصل على هذه الأشكال ، (شكل 11):
وهي اشكال احفل بالحركة مما سبق .
وعندما نرسمه على أساس (التحقق 8التحقق )، نحصل على هذه الأشكال ، (شكل 12):
وهي الأشكال الأكثر امتلاء بالحركه.
واذا توالت حروف الكلمة ، وكان فيها ما يسعف عل إنشاء تحققات ، جاءت النتيجة أحفل بالحركة والنمو والتوالد، وأقوى تأثيرا على العين ،وأثرا على النفس . وهو ما يفترض ان يكون في حساب الخطاط عندما ينشي ء لوحته الخطية . (الأشكال 13 و4ا) .
شكل 13 (كن فيكون) تكوين بالخط الديواني .نلاحظ الحركة من
خلال تحققها على مستويات مختلفة.
شكل 14 التكوين السابف ,والقصبة نفسها .نلاحظ فيه حركة أنشط ,بسبب انكباباب التصميم بأكملة إلى جهة اليسار ,حيث اكتسبت الحركة تحققا إضافيا.
من ناحية أخرى ، نلاحظ أن السطر المخطوط إذا أقيم على مستوى خط الأفق ، أو على تماس محيط الدائرة ، أو جزء من هذا المحيط ، يحصر الحركة في باطن السطر- وهي حركة قد تكون في غاية النشاط داخل السطر – في حين أنه إذا تجاوز هذا الإطار في بعض أجزائه ، أثار الطاقة الحركية لمجمل السطر، ونقلها الى مستوى أعلى وجعل إحساسنا بها أقوى . (الأشكال15و16).
شكل 15, النص مخطوط على مستوى واحد ,حيث تبدو الحركة محصورة داخل السطر
شكل 16 ,النص السابق خارجا عن المستوى السطري ,أي بدخول تحققات إضافية ,حيث أثيرت الطاقة الحركية ,وانفتحت على أفق أوسع
وربما يثار سؤال عما إذا كانت الخطوط العربية التقليدية كلها قابلة لهذا التفسير ، وجوابنا عليه هو أن تلك الخطوط تخضع في النهاية الى حقيقة كونها خطوطا على أية حال ، تختلف عن بعضها في المستوى، كثافة واتجاها، وما يجري عل الخط يجري على مستوياته .
أما توجيه الحركة الى حيث تتفاعل وأحاسيسنا ،وتظل ضمن التكوين الجمالي المتوازن ،وتتجنب الاتجاه العشوائي، فهي من المسائل الدقيقة التي يتحكم فيها وعي الخطاط وثقافته .
وأنا أعتقد أن أجمل الحركات هو ما قام على أساس طبيعي،أي ما نواه في الطبيعة من حركة . كحركة البشر والحيوانات والأشجار وغيرها.والجميل من بين هذه ، هو حركة الجسد الإنساني،لأنها يمكن أن تشتمل على أكثر من اتجاه في وقت واحد (تحقق + تحقق ) . كالماشي الذي تتجه إحدى رجليه واحدي يديه الى جهة ويده ورجله الأخريان الى جبهة أخرى. وهذه ابسط أنواع الحركة الإنسانية . أما إذا شئنا أن نتقصى ذلك في أوضاع أخرى فسنجد حيوية عالية ، وعذوبة وفتنة أخاذة يجب الا نمر عليها بعجالة ودون تأمل . ومثالنا على ذلك حركة الجسم الراقص ، وخاصة في التزحلق على الجليد، والباليه؛ حيث تتفجر طاقة الجسد الإنساني في هذين الفنين بأبرع أشكالها، حين يندفع أعلى الجسم الى الامام ، وينسحب أسفله الى الخلف ، وكأن بعضه يجاذب بعضا.
أما حركة الحيوانات فهي حركة غريزية بدائية غير مشذبة ء وان كان بعض منها فاتنا بطبيعته ، كحركة الطيور السانحة في الجو، في حين تبدو حركة الأشجار حركة محورية لاستقرار جذرها، واقتصار حركتها على أعاليها دون أسافلها.
وبما أننا نتحدث عن آفاق الحركة في الحروف العربية ، يكون من المناسب أن نشير الى أن الحركة الفضلى للحرف هي ما كانت في الاتجاه الطبيعي لحركة العين أثناء القراءة ، أي أن الميلان يكون من اليمين الى اليسار لأنه لا يتعب العين ، أما العكس فهو متعب للعين ، ومربك لعملية الاستيعاب وخصوصا اذا كان النص طويلا ، أو متعدد الفقرات ، وهذا مع الأسف ، ما نواه في بعض التصاميم الجديدة للحروف الطباعية وهو تقليد محض للحروف اللاتينية . أما إذا كان النص قصيرا وفقراته قليلة فيكون قليل الأثر على العين .
وربما يحتج البعض على ذلك بوجود بعض النصوص التراثية القديمة الجارية على هذا الأساس ، أي الميل الى جهة اليمين ، فذلك نادر جدا، وغير منتشر، وهو بعد ذلك غلط لايراعي مبدأ القراءة العربية ولا يشفع له كونه – تراثنا العزيز، فكم في هذا التراث من نزوات واجتهادات لا تقوم على اساس صحيح ، سواء في هذا المجال أم في سواه .
مقطع من لوحة «فهذه شهور الصيف عنا قد انقضت ..» للمؤلف ، وهي مبنية على أساس حركة الجسم الإنساني في التزحلق على الجليد، حيث يلاحظ اندفاع التكوين بقوة الى أعلى اليسار، في حين ينسحب أسفله الى اليمين بقوة متكافئة ، وهي إحدى محاولاته في البحث في مجال حركة الخطوط . (من لوحا معرض مجنون ليلى – باريس 1993).
محمد سعيد الصكار(كاتب وخطاط يقيم في باريس)