"اذا صوت التليفزيون ده على تاني أنا هقفله خالص" قالت الزوجة هذا الكلام وهي تخفض صوت التليفزيون، ودخلت غرفتها ثانية بعد أن أغلقت الباب خلفها بعنف. ألقى الزوج بجسده على الكنبة الصحارة القديمة ومسه بيده عليها. تذكر فجأة إنها من الأشياء القليلة التي استطاع الابقاء عليها بعد مشاجرات كثيرة حول التخلص منها باعطائها لبائع الروبابيكيا، وشراء أخرى مذهبة الأطراف ومحشوة بالاسفنج. ربت عليها ثانية، ميراثه عن والدته.
أجهد الرجل نفسه في الانصات الى صوت التليفزيون الذي سرعان ما خفت تماما لعيب في مفتاح الصوت. أتى بحركة تنم عن رغبته في النهوض ثم بحركة أخرى ثبتته في مكانة. طالع التليفزيون بوجه خال من أي تعبير ومكث يتابع صورا متتالية وشفاة متحركة. غضب، حيرة، صراخ، حب.. يحاول قراءة حركة الشفاة وهو يتثاءب.
مضت في فترة من الوقت خرجت بعدها الزوجة منزعجة. نظرت الى زوجها بحنق. أغلقت التليفزيون بعنف ثم هزت زوجها بقوة.. انتفض الرجل وهو يبسمل.
"صوتك.. صوتك عالي أوي.. مش عارفة أنام منه.. وده مش مكان النوم". فرك الرجل عينيه ونظر حوله. لملم جلبابه ونهض متثاقلا ومشى الى غرفته بخطي وئيدة وهو مستند على حافة منضدة السفرة التي تشغل ثلاثة أرباع مساحة الصالة. أزاح الغطاء عن السرير وجلس عليه مطاطيء الرأس. نظر الى قدميه لبرهة ثم استلقى على الفراش وأحكم الغطاء حوله ولم تمر دقائق الا وكان الرجل يغط في نوم عميق.
في الآونة الأخيرة صار صوت شخير الزوج يعلو وينخفض ويتنوع وفقا لما ويمر به خلال اليوم، يعلو الشخير فجأة بنبرة غضب تملأ المكان أو يرتفع بنبرة ضحك واضحة أو ينخفض بأسى.
منذ أن أمره الطبيب بالا يغير أيا من عاداته، خاصة الصباحية صار يحرص كل الحرص على القيام بها على أتم وجه. حذره الطبيب من التهاون.. قد يصيبه ذلك بالاكتئاب. لذلك داوم على الاستيقاظ في السادسة صباحا. وخوفا من أن تضعف نفسه فلا يقوم مبكرا صار يضبط المنبه على الساعة السادسة الا خمس دقائق ويتركه بالصالة حتى اذا انطلق الجرس يضطر أن ينهض من فراشه ويخرج من غرفته لايقافه قبل أن تقوم الزوجة وتهدده بالقاء المنبه من الشرفة. يوقظ ابنته كي تستعد للخروج الى عملها ويذهب الى المطبخ كي يعد افطاره الذي اعتاده منذ ما يزيد على الآربعين عاما: كوب اللبن الدافيء، طبق السلاطة الخضراء، الجبن الأبيض، بيضة مسلوقة، وكوب من الشاي الساخن أضيف اليه مؤخرا عسل نحل للتحلية والشفاء من الروماتيزم والضغط وخلافه.. تستيقظ الزوجة على صوت حركة الأطباق على المنضدة والملعقة التي تقلب في كوب الشاي. تنهض عابسة متذمرة وتأمر الزوج بالخروج من المطبخ كي تعد فطورها.
– بسرعة، ورايا شغل. أنا عش زيك لا شغلة ولا مشغلة.
ترك الرجل المطبخ لزوجته وأخذ كوب الشاي معه الى الشرفة حيث جلس يتناوله على مهل. بين كل رشفة وأخرى، تصدر حركة من يده ورمشة من عينيه تدلان على أن ثمة أمرا ما يدور بداخله أو حديثا ما يوشك على البدء.
تدخل الابنة الشرفة تودعه، تسأله ان كان يحتاج شيئا فيطلب منها أن تأخذ بالها من نفسها.
حسب تعليمات الطبيب، يذهب الرجل الى النادي، يلف التراك أربع لفات ثم يدخل غرفة الساونا.. بعدما يخرج منتعشا مبتسما ومقبلا على الحياة.. يتجه الى المبنى الاجتماعي بالنادي حيث يقابل أصدقاءه وزملاء العمل القدامى. يشربون الشاي بصوت مرتفع، يدخن بعضهم التبغ ويحرك البعض الآخر الهواء الملوث بعيدا.. يتذكرون أيام العمل. أيام كانت الأمور بأيديهم، وجرس التليفون الذي لم يكن يكف عن الرنين.. يسكنون فجادة وتلتوي الأعناق وتشرئب خلف فتاة جميلة مرت أمام طاولتهم وهي ترمقهم بنظرة عابرة.. يتنهد البعض بحسرة ويتحاش البعض الآخر النظر في عيون الآخرين. يتكلمون دائما بصيغة الماضي.. يتحاشون ذكر الحاضر. ويتجنبون تماما الكلام عن المستقبل.
يستأذن من رفاقه.. لديه موعد هام.. هكذا يخبرهم.. يخرج من النادي بسرعة، ويركب سيارته الفيات البيضاء، يخرج الورقة الصغيرة من جيب بنطاله. يقرأ الورقة جيدا ويفكر ما الذي سيشتريه أولا اللحوم أم الخضر والفاكهة.
يعود الى البيت بعد أن يكون البحث عن "طلبات اليوم" قد أنهكه. رغم التعب كان مبتسما لأن جميع الطلبات قد قضيت.. لن يكون هناك فرصة للشجار.
يدخل غرفته يستريح قليلا الى أن تعود زوجته من عملها وتحضر طعام الغداء، تبرمت الزوجة حين عادت ووجدت زوجها نائما بينما هي تكد وتتعب في الشغل في البيت أيضا ثارت عليه وقررت أنها لن تطبخ بينما هو يقضي الوقت في التنزه والنوم. مسك الرجل لسانه الذي كاد يفلت منه لينطق بالجملة التي طالما تحاشاها "حد قال لك تشتغلي.. ما تقعدي في البيت" وتذكر بداية حياتهما معا عندما اشتكت زوجته يوما من أعباء العمل فرد عليها بهذه العبارة.. اتهمته بالرجعية والتخلف وأسمعته محاضرة طويلة عن ضرورة عمل المرأة وعن تأمين مستقبلها وعن غدر الرجال وعن وعن.
دخلت غرفتها وأغلقت الباب خلفها. فتحت التليفزيون وجلست تتابع أحداث مسلسل عربي قديم.
أخذ الرجل التليفون الى غرفته. فتح فهرس التليفونات وبدأ في محادثة زملاء العمل الذين لم يبلغوا سن التقاعد بعد.. يطمئن على أحوال العمل والإدارة الجديدة، يسمع كلمات الاطراء على الإدارة السابقة ويقدم نصائحه وبعض تحذيراته لساعات وساعات يظل التليفون مشغولا. أطلقت عليه زوجته نكتة حين اشتكى لها أقرباؤها من انشغال الخط معظم الوقت.. أصله بيدير الشغل من منازلهم.
بعد أن انتهى من مكالمات اليوم. خرج الى الصالة ليشاهد التليفزيون.. استكان الى الكنبة القديمة وأراح جسده عليها. كان هناك فيلم لعبدالوهاب. بدأ يدندن من اغانيه ويهز رأسه طربا. خرجت الزوجة. وفع رأسه صوبها. اخفضت صوت التليفزيون وهي تهدد بإغلاقه نهائيا اذا ارتفع الصوت مرة ثانية. لم يعبأ كثيرا فقد اعتاد الفرجة على الصور المتحركة وقراءة حركة الشفاة.
عندما عادت الابنة من عملها مساء وجدته نائما على الكنبة وصوت غطيطه يملأ المكان بينما يبث التليفزيون صوره الصامتة. أيقظته برفق وطلبت منه أن يدخل غرفته وينام على سريرا. أومأ برأسه وكور جسدا على الكنبة. شعرت أنها تريد أن تقبل يدا وشعرا الأبيض. لم تفعل. ألقت عليه تحية المساء وهي في طريقها الى غرفتها. أسدلت الستارة وأغلقت الباب خلفها واستلقت على الجانب المواجه للحائط. عندما تقلبت الى الجانب الآخر، فتحت عينيها. كانت الصالة لا تزال مضاءة.. أغمضت عينيها وراحت تنصت لحوار الشخير الليلي، الأحادي، متعدد النغمات.
منى برنس (قاصة من مصر)