بملابسه المزركشة اخترق الليل بعد الانتصاف بقليل.. خطواته كانت اقرب إلى الحفيف، اختار أكثر الجدران ظلمة ومد ظله فيه.. اتكأ أيضاً بمرفق يده على بروز ناتئ في الجدار، ثم صاح:
– يا غلام…
وفي الرواية الأخرى كان أيضاً بملابسه المزركشة، ونفس الظل مده على الجدار، لكنه كان محنيا، وصوته لم يكن مجلجلاً وهو يستغيث:
– يا غلام…
أما الرواية الثالثة التي نسجها قاص بعد خمسة قرون ففيها أن ملابسه المزركشة حيكت من خيوط حريرية طُعمت بخيوط ذهبية، وغلب عليها اللونان الأحمر والأصفر. وأن الصداع كان يغمره منذ الليلة ما قبل الماضية حتى أنه فكر بضرب رأسه بالجدار ليتخلص من الصداع بعد أن أمر بشنق طبيبه الخاص لأنه لم يفلح في علاجه من الصداع. وأيضاً أنه بعد استناده للجدار تلفظ ببعض كلمات غير مفهومة قبل أن تتبين الكلمات بعدها:
– يا غلام…
في تالي الروايات الثلاث كان الجسد مسجى وبقعة دم متجمدة تحيط به. لكن هذا الاتفاق تبعه اختلاف في سبب الوفاة، وبالترتيب كان السبب طعنة خنجر مسموم ، طعنة رمح ، قضيب معدني مدبب شحذته امرأة طوال عشرين عاماً.
قبلها بيومين كان يستند على الجدار الحجري. أربع وسائد فصلته عن الجدار، والجواري من حوله والأعيان في الجانب الأيمن يصفقون للنيران التي تخرج من فم المهرج القادم من بلاد العجم. تبعه راشق خناجر، ولم يمهل راشق الخناجر ليكمل رص الخناجر العشر فأشار بضجر لتتوالى بقية فقرات البرنامج الذي أشرف الوزير الأول على اعداده. أربع راقصات تلوين كالأفاعي لم ينجحن في إبعاد أثر الكابوس من مخيلته وإن كان أشار إلى الوزير ليضيف واحدة من الراقصات إلى جواري القصر. لم يرتح للعبارات الممجوجة التي خرجت من فم العراف الغجري، فارتفع صوته الأجش – بفعل البرد – آمراً:
– يا غلام…
في رواية القاص العشريني، تفاصيل أكثر لذاك اليوم الذي بدأه في حمام السباحة المطل على مخدعه مباشراً. كان يوم عيد ميلاده، لذا نهض عن سريره – رغم نومه القليل – مبكراً لتلقي التهاني وليشهد المهرجان الذي أعده الوزير الأول. ومع خروجه من الحمام أصيب بزكام حاد، لم تنفع في إزالته وجبة الإفطار التي احتوت حساء مشبعاً بالبهارات والتوابل. في البداية قرر تأجل العيد إلى اليوم التالي. لكن هاجس الكابوس الذي يطارده منذ ليال، ومخاوفه من ازدياد الإشاعات حول مرضه دفعه إلى مغالبة البرد، وأحاط جزءاً من وجهه بوشاح قطني، وتصدر المجلس في القاعة الكبرى. ليدخل بعد ذلك الوزراء والأعيان ووفود الممالك المجاورة. وبعد إشارة الوزير الأول بدأ المهرجان.
ومع نهاية فقرة العراف الغجري أخذ الصداع يزحف داخل رأسه، فأعطى إشارة إلى الوزير الأول ليعلن عن استراحة قصيرة، تخللها تناول الحلوى. وأثناء ذلك همس للوزير باختصار باقي المهرجان لشعوره بالصداع.
الطبيب أرجع الصداع إلى البرد، وقرر بانتهائهما مع نومه، أما الجارية التي سألها فألمحت إلى نبوءة المرأة العجوز التي أشارت إلى صداع سيتزامن مع مؤمرة لقتله.
لم يعرف الوزير الأول تفاصيل الكابوس، وإن تسربت شذرات من الكابوس بسبب ثرثرة بين الجواري حول امرأة تشحذ قضيب معدني منذ عشرين عاماً لتنتقم من قاتل زوجها. الوزير أرجع الصداع إلى سهره الطويل وارهاقه من متابعة شؤون الدولة، واقترح الوزير رحلة صيد في منطقة تمتزج فيها الجبال مع الخضرة.
بقية يومه قضاه هائماً في جناحه الخاص، بعد أن أمر الجميع بالاستمرار في الاحتفال بالعيد. وفي اليوم التالي لم يختلف حاله كثيراً، سوى أن هيجان أنفه ازداد، وعيناه ازدادتا احمراراً من أثر السهر والدموع.
الوزير الأول أعلن عند ظهيرة الأمس أن الخليفة سيخرج في رحلة صيد وسيعود بعد أيام، ولمزيد من التأكيد خرج موكب الصيد صباحاً بالخيول والكلاب، واقفاص الصقور تتقدم الموكب. بينما انزوى هو في مخدعه السري داخل القصر بعد أن جاءته فكرة استغلال رحلة الصيد لاكتشاف مكيدة اغتياله، وأيضاً ستتاح له فرصة الخلوة إلى نفسه لعدة أيام، فقط جارية أعلمها بمكوثه بالمقر السري حتى تأتي إليه بين الحين والآخر.
عند انتصاف الليل وبينما هو يطل من نافذه مخدعه على حديقة القصر، خيل إليه أن ظل اختفي وراء الشجيرات الكثيفة. كان يعرف أن القصر من الداخل أصبح خالياً من الرجال. ولم يبق فيه سوى الجواري والغلمان. وحراس القصر في الخارج لن يسمحوا لأحد بالدخول إلا بعد عودة موكب الصيد. فتسلل من مخدعه باتجاه الحديقة، خطواته كانت اقرب إلى الحفيف، وظهره ملتصق بالجدار. وعندما وصل إلى الشجيرات – التي اختفي الظل عندها – انحنى لينظر داخلها، فجأة أحس بشيء حاد يخترق ظهره. فتراجع إلى الجدار وهو يستغيث:
– يا غلام…
سمير عبد الفتاح
قاص من اليمن