يمكن القول إن العقد الفائت, هو عقد الرواية بحق, بالنظر الى الرواج الذي حققه هذا الجنس الأدبي- نسبيا- في أوساط القراء, وأيضا بالنظر الى غزارة الانتاج الروائي, بما في ذلك بالطبع, إقبال أعداد متزايدة من الكتاب, على الاسهام في الكتابة الروائية, سواء من أولئك الذين سبق لهم كتابة القصة, أو حتى من جاءوا إلى فن الرواية, مباشرة ودون وسيط إبداعي آخر.
الرواية الأولى, هي- غالبا- تجربة خاصة, لها نكهتها المميزة, تماما كما لها عثراتها, إذ هي تنبت خارج تربة الخبرة, فتلتصق أكثر بالحماسة والصدق, حتى لو لم يكونا كافيين وحدهما لابداع فن جميل.
هذه القراءة تحاول رصد بعض أبرز التجارب الروائية الأولى لأصحابها من الكتاب السوريين, والذين أصدر معظمهم أعمالا روائية لاحقة, فيما ينتظر آخرون.
ممدوح عزام: البيئة والتاريخ
ربما لم تحدث رواية سورية, خلال العقد الفائت, جدلا وإثارة وخلافا, كذلك الذي أحدثته رواية ممدوح عزام »قصر المطر«, والتي تناولت في بنائية روائية مشوقة أحداث الثورة السورية الكبرى عام 1925, وخصوصا في جبل العرب جنوب سوريا, وألقت من ثم حزمة ضوئها على منظومة العلاقات الاجتماعية والإنسانية في تلك المنطقة, من خلال النظر إلى شخصياتها الأهم بوصفها كيانات اجتماعية لها ارتباطاتها, ولكل منها منطقه الخاص, ونظراته الخاصة التي تدفعه إلى اتخاذ هذا الموقف أو ذاك.
يمكن القول إن »قصر المطر« هي منذ البداية وحتى الكلمة الأخيرة فيها رواية بيئة, لا من حيث بدهية المكان الذي تشترطه ويشترطها, ولكن- وهذا هو المهم- من حيث قدرة الكاتب على تقديم المكان- البيئة- في أبعاده كلها إلى الحد الذي يمك ن قارئ الرواية معه الوقوف على لوحة بانورامية تشتعل فيها خطوط كثيرة, تبدأ من ملامح الجغرافيا وشواهدها, وتذهب بعد ذلك إلى روح الناس, وإلى وعيهم وكيفيات نظرهم إلى العالم والحياة, في ازدحام لا تطغى فيه واحدة من مفردات الصورة أو تفاصيل اللوحة, بل هي تتشابك في تحقيق نسيج متكامل يصبح هو المبرر المناسب لجملة الأحداث والتطورات العاصفة في الرواية, ويشكل في الوقت ذاته مناخا يمنح »قصر المطر« نكهتها الخاصة والمميزة في زحام الأعمال الروائية السورية, خصوصا وقد تمكن ممدوح عزام بفنية عالية من نبذ لعبة التقسيم الايديولوجي للناس منذ البداية, وآثر- ومنذ البداية أيضا- ترك الحرية لأبطاله لكي يشكلوا أنفسهم بعيدا عن البعد الواحد, بل هو يقدم بطله السلبي, الطاغية والمذعن لرغبات الأعداء, في صورة متعددة الأبعاد, تتشكل أو تأخذ ملامحها الأخيرة وموقعها الاجتماعي النهائي, الا عبر نار تلك الصراعات التي تختلط فيها المصالح الاقتصادية بالطموح الشخصي وبالتنافس الفردي, وكأن الكاتب أراد في هذه الرواية الملحمية, أن يرى في كل واحد من أبطاله وشخصياته جانبي روحه الداخلية.. الخير والشر على حد سواء, إذ هو يطلقهم في برية الأحداث يتشكلون بحسب تأثرهم بهذا الجانب أو ذاك.
يلاحظ قارئ »قصر المطر« أن ممدوح عزام ظل طيلة الرواية يحرك عامل الجنس باعتباره أكثر الرموز تعبيرا عن حب الحياة, في مقابل قسوة الطبيعة وشظف العيش, وأيضا في مقابل قسوة الحرب. وما تخللها من مشاهد المواجهات الدامية وصور الموت, وبين هذا وذاك ملامح البدائية في حياة الناس, أفكارهم وتصرفاتهم, وحتى نظرتهم للواقع والمستقبل, بدائية نلمحها في التعامل مع المرأة حينا, وفي ممارسة الغزو والقتل حينا آخر, من دون أن تسقط من النفوس قيم الكرم والنبل, والتي تعبر عن نفسها في منظومة العلاقات التي تجمعهم وتضعهم في خط أخلاقي ايجابي, يمتح من بساطة العيش ويطمح لمستقبل أجمل.
تستفيد رواية »قصر المطر«, من معتقد »التقمص«, الذي تؤمن به بعض المذاهب الدينية, وتوظف هذا المعتقد في صورة فنية جذابة, ولها عمقها الفكري, وهو توظيف يتجسد في مدخل الرواية الافتتاحي, ثم في خاتمتها الجميلة والمعبرة.
أما أنيسة عبود, فقد عرفها القراء كاتبة للقصة, حيث نشرت عددا من المجموعات القصصية, قبل أن تصدر روايتها الأولى »النعنع البري«, ولعل أهم ما في »النعنع البري«, ذلك العمل الدؤوب من الكاتبة على بنية الرواية, على معمارها الذي يتناسب في صورته الأولية- الأساسية مع اجراء مزاوجة جميلة, لا تطغى ولا تنفلت خيوطها بين عالمين يبدوان متناقضين, إذ يقف كل منهما في تخوم خاصة به, وهما عالم الواقع, حيث الغاية من الكتابة, وحيث تنفجر الوقائع بين الأصابع, وأمام النظر, وتحرض الكتابة على التقاطها واعادة تقييمها من جديد في صورة أدبية, ثم عالم الاسطورة بملامحه الحالمة.. الرجراجة والزئبقية, والتي تناوش- في الغالب- خلفية الوعي, أو إذا شئنا الدقة أكثر, تناوش اللاوعي في قابليته اللامحدودة لجعل كل الأشياء ممكنة, واقعية, وقابلة للتفسير, قابلة للاستحضار, بل وللزج في جفاف الواقع ورتابته.
ان ملمحا مهما من ملامح عمل آنيسة عبود الروائي, يتأسس على أرضية الالتزام القوي بالزمن, وهو التزام حال دون سقوط الرواية في مأزق ما بات يعرف بـ»الفانتازيا«, لا بمعناها النقدي, ولكن بذلك المعنى الشائع الذي يجعل كل شيء مباحا وقابلا للوجود والحركة على الورق دون الحاجة إلى أية مبررات منطقية أو فنية. في »النعنع البري« ثمة اهتمام بما في الزمن من وقائع يومية, علامات حب وضغائن, ولكن ذلك كله إذ يتقدم ليناوش نصفه الآخر- الاسطوري الحالم- لا يذهب معه إلى فضاءات دون ملامح, بل هو يشكل مع ذلك النصف وجودا واحدا جديدا له نكهة الحلم ورؤيته وقوة التحديق في الواقع.
أنيسة عبود في هذه الرواية, تنطلق من يقظة عاشتها قصصها القصيرة, التي عبرت عن بقع سواد هنا وهناك, ولكنها- وفي عمل روائي طويل نسبيا- تعود إليها فيما يشبه نظرة شاملة تطل على لوحة سوداء كبرى, وتقرأ خطوطها وكلماتها في لغة مشوقة وانسيابية فنية عالية.
وفي أجواء مختلفة تماما, تقدم أميمة الخش, عملها الروائي الثاني »زهرة اللوتس« (سنعتبره الأول لأسباب فنية تتعلق بضعف العمل الأول), إذ تكاد هذه الرواية أن تكون رواية شخصية واحدة.. سيرة ذاتية لبطلتها المفتونة بالرغبة في التعرف على العالم, بنفس القدر من قوة الرغبة في الانعتاق من الوصاية شبه الشاملة للعائلة أولا وللتقاليد المتخلفة من بعد. ومع أن الكاتبة تقدم لنا في إطار صورة تلك البطلة ملامح أشخاص آخرين, يلعبون بهذا القدر أو ذاك أدوارا في حياتها- إلا أن ظهورهم في الرواية يأتي كنوع من الإيضاح الدرامي للشخصية الرئيسية, إذ هو يعيد تقديم التفاصيل الثانوية والملامح الجزئية التي تجعل قراءة الرواية أشبه بتأمل طويل في ملامح امرأة منذ مطلع شبابها الأول وحتى تلك الخاتمة الواقعية, حين تترك الكاتبة بطلتها تغوص في مقلاة الحياة متسلحة بوعيها أولا, وبجبال التجارب السوداء التي لم تستطع أن تهزمها قدر ما حولتها إلى امرأة أخرى تعي ما يجري من حولها وتقتحمه بجدارة واقتدار.
أجمل ما في رواية أميمة الخش »زهرة اللوتس«, احتفاظها بأهم ما في الرواية التقليدية: الحكاية, والتي تأخذ بيدنا منذ الصفحة الأولى لمتابعة تفاصيل أحداث, وتفاصيل حياة, فهذه الحياة التقليدية, والتي تناولها روايات كثيرة من قبل, تناولتها أميمة الخش من منظور يغامر بالكشف عن كل تلك الجوانب التي أغفلتها الكاتبات قي قصدية وتعمد, فالكتابة هنا إصغاء للمشاعر الداخلية للمرأة, طفلة ومراهقة وشابة.
أما وجدي مصطفى, فقد اصدر رواية يتيمة, صمت بعدها عن الكتابة, رغم الموهبة الأدبية الواضحة التي أنبأت عنها روايته »بين ضفتين«.
»بين ضفتين«, قصة حب جارحة وشبه مستحيلة, حب يحمل بذرة عذاب تنبت شوكا من نار, فتورث أصحابه الموت, إذ تدفعهم الى الانتحار أو الفجيعة. موت يأتي في ما يشبه محاولة متأخرة للتصالح مع حياة صعبة, تتأرجح بين اللهو والعبث وبين تراجيديا الدمار النفسي والروحي لشخصين, رجل وامرأة يجتمعان على إرادة العيش المشترك فتدفعهما الحياة إلى العذاب الدائم.
تذكر الرواية بقصة فيلم »الموت حبا«, من خلال علاقة بين جيلين متباعدين, بين تلميذ ومعلمته حصرا, كما بين علاقتين تنشآن على أرضية التمرد على الواقع, فيما تتشابهان كذلك في الموت الفاجع الذي يودي بأحد البطلين في العملين الروائي والسينمائي, ليظل الآخر تائها ضائعا, يعبر بتيهه وضياعه عن خيبة أمل كبرى بعد انتحار أحلام وتبددها على صخرة الحياة القاسية.
تقوم الرواية على بناء سردي لا يهتم كثيرا بالبحث عن تقنيات حداثية قدر اهتمامه اللامحدود بقوة الحكاية. وفي ذلك يبدو وجدي مصطفى مشغولا بالمضمون بدرجة أساسية,سواء من خلال الحبكة الروائية, أو سردية الأحداث المعاشة, أو حتى من خلال الأجواء الاجتماعية التي يحرص على نقلها بتشويق لا يطأه الملل, خصوصا لجهة تصوير مسرح الأحداث وبنية الشخصيات الرئيسية والثانوية.
وإذا كانت الروايات السابقة, قد اتسمت بهذا القدر أو ذاك, من مواصفات التجربة الأولى, وما يكتنفها في العادة من ثغرات ونواقص, فان تجربتين أكثر أهمية حققهما الكاتبان غسان أبا زيد وخالد خليفة في روايتيهما »المبروكة« و»دفاتر القرباط«, بالنظر إلى النضج الفني الذي اتسمت به كل رواية منهما, وبالنظر أيضا إلى قوة القبض على المضمون وجدليته الناجحة مع الشكل الفني.
في رواية »المبروكة« لغسان أبا زيد (حازت جائزة الرواية في مسابقة سعاد الصباح), نجد التاريخ هو فضاء الرواية. غسان أبازيد يذهب إلى التاريخ بحثا عن حكاية روائية, بل انه يزج حكايته الخاصة في دروب التاريخ, في منعطفاته الكبرى, وأزقته التي شهدت الصراع الخالد بين الظالمين والمظلومين, بين العامة- الذين يتشابهون وإن اختلفت المدن والأمصار- وبين الجلادين وإن تباعدت بينهم الأزمنة واختلفت العصور, إذ خلال تلك الصراعات كلها لا فرق بين ظالم وظالم, ولا بين مظلوم ومظلوم.
شخصيات »المبروكة« تجمع في وقت واحد معا, ملامح الشخصية العربية التراثية إلى جانب الملامح المعاصرة, فالتراث إذا كان حاضرا من خلال الأحداث, وحتى الرموز التاريخية, فهو حاضر كذلك من خلال ذهنية الشخصيات الرئيسية وثقافتها, ووعيها للعالم والحياة, والأهم من ذلك كله من خلال آمالها وتطلعاتها المستقبلية, التي لا تزال تلهث وراء الأحلام ذاتها وتواجه الظلم ذاته, وإن بأشكال وصور عصرية لا تغير من المضمون شيئا.
رواية »المبروكة« إذ تستعير التاريخ العربي كله, ليصبح فضاء يتحرك خلاله أبطالها, تشير في صورة غير مباشرة, إلى »حلزونية«, السيرورة الاجتماعية العربية, والتي تكاد تجعل التطور يراوح مكانه طيلة عقود متعددة. وفي الرواية لا يفيد أن نسأل عن هذا العصر أو ذاك, فالعصور كلها مرتبطة بوشيجة واحدة هي القهر والكفاح ضده.
أما رواية خالد خليفة »دفاتر القرباط«, فلعلها المغامرة الفنية الأجمل والأهم في الرواية السورية خلال العقد الأخير. خالد خليفة في هذه الرواية يستعير من »الواقعية السحرية« أدواتها, ولكن ليكتب روايته هو, وليقدم فضاءه الروائي الخاص, في لغة حارة لها مذاق عذب.
هاجس »دفاتر القرباط« الأهم هو الحرية, بمعناها الواسع والشامل, ولا تخفى هنا دلالة »القرباط«, الغجر الجوالين, كرمز لحرية تأتي وتذهب, رمز تنتقل عدواه إلى أهل »العنابية« وخصوصا »أبوالهايم«, العاشق المتيم بالغجرية »نشمة«, والراحل معها في تجوال لا يتوقف حرصا على حريته وانحيازا إلى رغبات الجسد والروح معا.
أعتقد أن بنائية »دفاتر القرباط« تقوم هي ذاتها بدور البطل, من حيث هي بنائية مركبة, تجمع شخصيات تنتمي الى القاع الاجتماعي- عموما- ولكنها تحمل في الوقت ذاته- وبدرجات متفاوتة- مديات وعي فكري واجتماعي هو أقرب إلى الحلم أو إذا شئنا الدقة أقرب – إلى المثال المنشود الذي يسعى نحوه الجميع متسلحين بآلامهم وعذاباتهم خصوصا وأن الكاتب تعمد زج هذه الشخصيات في علاقة جدلية مع طبائعها الفطرية. أما الزمن في الرواية فلا يمكن الاستدلال عليه, إلا من خلال الوقائع التي ترد عن حملة الانتخابات وترشيح ابن العم نفسه فيها, وهي ملامسة طفيفة لحدود الزمن, تذكرنا إلى حد بعيد بإشارة جابرييل جارسيا ماركيز للزمن في روايته الأجمل »ليس لدى الكولونيل من يكاتبه« حين يأتي ذكر الزمن مرة واحدة فقط, ومن خلال عنوان احدى الصحف الذي يتحدث عن حرب السويس.
الرواية الجديدة في سوريا, رواية- في العموم- تقتحم عوالم التجريب, فتراها تنتقل من شكل فني إلى آخر, مستفيدة في ذلك من انجازات الرواية السورية ذاتها, والتي تحققت على يد مجموعة من الكتاب المعروفين, أمثال حنا مينه, حيدر حيدر, وليد اخلاصي, نبيل سليمان, خيري الهبي, هاني الراهب, عبدالنبي حجازي, نهاد سيريس, فواز حداد وغيرهم, وفي الوقت ذاته تستفيد من منجز الرواية العالمية سواء القادمة من أمريكا اللاتينية بنكهتها وتقنيتها الخاصتين, أما القادمة من أوروبا والتي باتت في نظر كثير من النقاد والكتاب رواية تقليدية, وإن قدمت نماذج مهمة وذات مستوى أدبي رفيع.
راسم المدهون كاتب من فلسطين