عبد الحكيم باقيس *
ربما يُثار السؤال ما الذي يمكن أن تحمله الرواية في اليمن في زمن المحنة والحرب التي تشهدها اليمن منذ نهايات 2014 حتى الآن، خمس سنوات عجاف من الدمار والدماء والأشلاء والأفق المفتوح نحو المزيد من الخرائب والحرائق والمحن، وهل يمتلك الكاتب اليمني المعجون بهذه المحنة والحرب ترف الحكاية وبناء عوالم روائية مغايرة لجراحات الواقع وأوجاعه؟!
أمام مثل هذه التساؤلات ستبرز المفارقة بين الواقع والرواية، وهي أن الرواية في اليمن قد شهدت في السنوات الخمس العجاف تطورًا كبيرًا على المستويين الكمّي والنوعي، ما يجعلها خمس سنوات خصبة في الكتابة، وقد يربو المنشور من الروايات فيها على الخمسين رواية، وذلك مؤشر كمّي مهمّ قياسًا بإيقاع النشر ومعدلاته في السنوات الماضية، كما أن العديد من هذه الأعمال قد اشتغلت على التقنيات والأساليب السردية، وذلك ما يشكل التطور النوعي في الكتابة الروائية اليمنية التي توشك قريبًا أن تطوي قرنا من الزمان على صدور أول رواية يمنية في 1927، ولم تفتقر في أثناء ذلك إلى جماليات الموضوع وأسلوب الكتابة الروائية. وكأن الكتابة الروائية في اليمن زمنَ الحرب جاءت استجابة مباشرة لرفض دموية الحرب وآثارها، كانت الرواية المكتوبة شمالًا وجنوبًا، ومحليًا أو في عواصم الاغتراب واللجوء هي الرد الإبداعي المقاوم للموت والتغييب والتمسك بالأمل والحياة.
والمتأمل في تفاصيل المشهد الروائي الأخير سيلحظ حراكا روائيا وتنوعا وتعددا في التجارب الروائية التي لا يمكن فصلها عن تحولات المشهد منذ نهايات التسعينات من القرن الماضي، وبوصفها امتدادًا طبيعيًا لألق الرواية اليمنية في نهايات القرن الماضي وفاتحة القرن الجديد، لم تحل الحرب ومحنتها المتناسلة من تطور التجارب في الكتابة أو إصابتها بالتعثر. وفي نظرة أفقية يمكن مشاهدة تجارب قادمة من التسعينات استطاعت أن ترسخ وجودها واستمراريتها في الكتابة. لكن الملفت في هذا الزخم الروائي أن الكتاب السبعينيين والثمانينيين قد لاذوا بالصمت والغياب، وتوقفوا عن الكتابة إلا قليلاً منهم، مثل صالح باعامر، كتب روايته الرابعة «ملكة الناصر».
وفي مشهد خماسية الحرب سيبرز كتاب وشعراء وقاصون وإعلاميون وأكاديميون من الثمانينيين والتسعينيين، يلجون إلى عالم الرواية للمرة الأولى ويلفتون الأنظار إليهم بقوة، مثل: مبارك سالمين، آمنة يوسف، وليد دماج، وكأنما وجدوا في لذة البوح والكتابة الروائية أفضية جديدة أكثر جرأة وحرية في التناول. أما الجيل الجديد فهو جيل المحنة، والذي أخذ يشقّ طريقه من وسط الدمار والحرائق، وتفتقت أصواتهم السردية على أصوات القذائف وروائح البارود، جيل أعلن عن وجوده وسطَ هذه الحرب، ومنهم: عمار باطويل، جمال الشعري، سيرين حسن، محمد مسعد، أسماء سليمان، سالم بن سليم، ثابت العقاب، وآخرون.
صحيح أنه لم تصدر من بين هذه الأعمال «رواية عن الحرب» وفق المفهوم الذي يحدد هذا النمط من الكتابة والتي تتحدث بدرجة رئيسة عن الحرب وتفاصيلها المأساوية، وعن أحزانها وبطولاتها وغير ذلك، وهذا الأمر يرتبط بطبيعة الاستجابة الروائية التي لا تأتي مباشرة في أثناء الحروب والصراعات والأزمات، فأهمّ الأعمال التي تنتمي إلى أدب الحرب هي التي تأتي وقد وضعت الحرب أوزارها، وأتاحت للكتاب تأمل أحداثها ومآسيها من مسافة زمنية لا تحجب رؤيتهم أدخنتها أو رمادها المتطاير، تتحرر فيها الكتابة عن أيّة حمولات أيديولوجية، وتكون أكثر عمقًا ووعيا إنسانيا في تناول موضوع الحرب، وربما يتضاعف هذا الاشتراط في ظل طبيعة الحروب التي تجتاح بعض بلداننا العربية، والتي تأخذ في التشكل في صورة نزاعات مذهبية ومناطقية، وحروب أهلية داخلية مدمّرة.
ورغم هذا الاشتراط، فخيوط سرد المحنة والحرب لا تغادر نسيج معظم الروايات، تحاول ملامسة أوجه المحنة والأسباب التي أدت إلى الحرب، وتثير في أثناء ذلك مجموعة من التساؤلات حول تشظيات الواقع وسلبياته، فضلا عن أن جرأة التناول والبوح بأوجاع الحرب وآثارها تجعل بعض الكتاب على حافة من حذر بين الأطراف المتصارعة، فتلجأ الكتابة إلى خطاب استعاري أكثر مرونة في التفسير، مثل رواية «نزهة عائلية» لبسام شمس الدين، وتناول فيها فكرة انتهاك الأعراف، وتنتهي الرواية التي تتحدث عن الصراعات الاجتماعية والقبلية، بمشهد سوريالي حين تقرر القبيلة بكل أسلحتها وأفرادها اجتياح العاصمة صنعاء، سعيًا إلى انتقام قبليّ، كما أن فكّ شفرات الأحداث وبناء الشخصيات في رواية «حصن الزيدي» للغربي عمران يمنحها بعدًا مرجعيًا، رغم أن أحداثها تجري قبل نحو نصف قرن، تنامي قوة الفاطمي الذي استطاع من خلالها تقليص نفوذ الشيخ القبلي «مرداس» صاحب الحصن وتحويله إلى سجين تحت رحمته، وتحول الصراع بين قوتين مذهبيتين: الأولى يمثلها الشيخ «الفاطمي» الذي استعاد ضريح أجداده، والآخر الشيخ القبلي «شنهاص» الذي تحول إلى شيخ حزب ديني، فيما بقية الشباب الذين كانوا قد تطلعوا إلى إحداث تغيير في حياة القرية يسقطون في الفشل بسبب هذا الصراع، فيما «جمال» ابن الشيخ مرداس يفشل في استعادة حصن أبيه، ويكتفي بطلْقة مدفعية دبابة واحدة باتجاه الحصن ثم يغادر القرية، وهكذا لم يكن الصّراع على حصن الزيدي غير صراع استعاري لما تشهده اليمن من صراعات ومؤامرات وتحالفات. في رواية «حفيد سندباد» لحبيب سروري، يجد الراوي القادم من فرنسا نفسه في أثناء إجازته في عدن الجنوبية في ورطة الحرب المشتعلة في شوارعها، بين جيش نظامي تسانده مليشيات دينية شمالية، وشباب مدينة عدن المقاوم الذي لا يمتلك غير البنادق البسيطة، تصف الرواية صورة من مشهدية الحرب الدموية بأسلوب لم يخْلُ من السخرية. وستبقى مشاهد حرب 2015 على هذا النحو من الاجتزاء العميق الإشارة إلى فداحة الحرب وآثارها، عديد اللوحات السردية الموظفة بذكاء في روايات تتناول موضوعات وتفاصيل أخرى.
ولا يعني الحديث عن الرواية زمنَ المحنة والحرب مجرد الحديث عن الكتابات التي تناولت الحرب نفسها، فهناك ما تؤثر فيه الحرب، كالاتجاه إلى موضوعات أو إثارة الأسئلة عن مآلات الواقع التي أنتجت الحرب، ومن بين الأعمال المهمة، رواية «أرض المؤامرات السعيدة» لوجدي الأهدل، التي تضع سؤالا كبيرًا حول قضية الفساد التي لا يكفّ الناس عن الحديث عنها، فإذا به بنْية كامنة في تفاصيل المجتمع الذي تسوده منظومة علاقات اجتماعية وسياسية سلبية تتيح له أن يتغلغل في كل الزوايا، وقد استطاع الأهدل من خلال بنية روائية مذهلة، تتخذ شكل يوميات صحفي فاسد، أن ينفذ بجرأة بالغة إلى أدقّ التفاصيل وعميق الوضع المأسوي في المشهد السياسي اليمني الذي أدى في النهاية إلى الانهيار التراجيدي. وقد كانت مآلات ثورة التغيير في اليمن، أو فشل الربيع اليمني من بين أسئلة الرواية الكبرى، وكثيرة هي الروايات التي تناولت هذا الموضوع، ولكن يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى روايتين، الأولى: رواية «سوق علي محسن» لنادية الكوكباني، والتي ترصد يوميات الثورة الشبابية وتفاصيلها من خلال عينيْ طفلين من المهمشين يعملان بائعين متجوّلين، تتداخل أحلامهما الصغيرة بأحلام الشباب الثائر في ساحة التغيير، وفي اللحظة التي ينمو إدراكهما ببشاعة الواقع الذي يعيشانه، يصبحان من ضحايا العنف الدموي الذي تتعرض له الساحة. والرواية اختزال سوسيولوجي للثورة وتحولاتها بعد انضمام الأحزاب والكيانات السياسية والقبلية والعسكرية الانتهازية، التي تسببت في تحويل ثورة الشباب عن مسارها السّلمي ومطالبها الأساسية. والرواية الأخرى: «ثورة مهيوب» للمياء الإرياني، والتي تميل في تناولها لثورة التغيير إلى التركيز في السرد، من خلال شخصية «مهيوب» وهو من أشدّ الفئات الهامشية، يعيش على رصيف عمارة، وينام داخلَ كيس ويرقب من خلال رصيف الشارع التغييرات والتحولات التي تمر بها المدينة وطبقاتها، وعندما يقرر اللحاق بالثورة الشبابية يشعر بالصدمة والخيبة عندما يرى ذلك العقيد الذي تخصّص في نهب الأراضي والممتلكات قد التحق بالثورة، وعندئذ يقرر مهيوب العودة إلى رصيفه، وإلى كيسه الذي ينام فيه، والذي يشكل ترميزًا لكيس كبير من الظلمة والعزلة دخلته اليمن، عقب فشل ثورة التغيير في تحقيق أهدافها، وهنا نرى أن الروايتين تقدمان صورة واحدة للأوضاع التي تسببت في تعثر حلم التغيير في اليمن، والذي سيتحول إلى حرب تدميرية لم تشهد اليمن مثيلا لها في تاريخها.
ويقدم وليد دماج في «أبو صهيب العزي»، تخييلًا روائيًا لظاهرة الإرهاب والتطرف الديني التي باتت تجتاح العالم بفعل انتشار التنظيمات والجماعات المسلحة، ويقدم في أثناء ذلك رؤية تحليلية عميقة لا تفصل بين ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي، وأثر مجموعة من العوامل والمؤثرات المحلية والدولية في تنامي الظاهرة الإرهابية، وهذا لا يعني أن الرواية تؤدي وظيفة البحث الاجتماعي، وإنما تفعل ذلك في حبكة سردية مدهشة مستخدمة مجموعة من التقنيات والأساليب السردية، وتستنطق بجرأة بالغة عديد الزوايا والظروف المسكوت عنها، ينهض السرد بفعل المكاشفة والمساءلة، فلا يمكن فصل موضوع الإرهاب عن عديد التشعبات في المشهد المحلي في السنوات الأخيرة، وذلك ما يتفطن إليه الكاتب الذي يدير لعبته السردية بين عديد الخطوط المتداخلة، والتي لا تقلّ وحشية عن الأعمال الإرهابية، مثل الحرب واجتياحِ الميليشيات صنعاءَ، بروز الوعي السلالي والنزعات الطائفية، وتغذية التناقضات الفكرية والمذهبية في العقدين الأخيرين، واعتقال الصحفيين واتخاذهم دروعًا بشرية في المواقع العسكرية، وقمع الحركة المدنية المناهضة للحرب والاعتقالات والاختفاء القسري، وتهريب المخطوطات والآثار، وغير ذلك مما يمور به الواقع في ظل الحرب التي يبدو فيها جنون الواقع أقرب إلى فيلم مرعب ينتجه أكثر المخرجين عبقرية سوريالية، وقد استعانت الرواية نفسها بالتقنيات السينمائية في بنية سردية تعتمد على تنوع اللوحات والمشاهد والفصول.
لقد صدرت أعمال روائية كثيرة تلامس أوجاع الحاضر ومحنته، مما لا يمكن أن يستوعبها حيِّز هذا المقال، وسنكتفي ـ أيضًاـ بالإشارة العاجلة إلى عملين مهمّين صدرا مؤخرًا، «بلاد القائد» لعلي المقري، و»فاكهة للغربان» لأحمد زين، ففي لغة سردية تعتمد المفارقة والسخرية والتهكم سيمضي علي المقري في»بلاد القائد» إلى اكتشاف عالم الدكتاتور الطاغية وجنونه، وتفاصيل محيطه الخاص من حاشية وأبناء، ومنافقون وضحايا، وكل ما يكتنزه مروي قصة الطاغية وسقوطه التراجيدي، وكيف انفرط بسقوطه عقد النظام والحاشية، وكل شيء يغدو إلى انفراط طاغٍ ومجنون، بما في ذلك الثائرون على القائد، إن عبقرية الكاتب الكامنة في اللغة السردية وإعادة بناء التفاصيل والأحداث في حبكة سردية مشوقة تجعلنا ندلف إلى ما نعلم تفاصيله بعين أخرى لا تملّ من لذّة الدهشة والمتعة والاكتشاف.
وينفتح السرد في «فاكهة للغربان» لأحمد زين على حقبة بالغة الحساسية من تاريخ الجنوب، لحظة أن كانت مدينة عدن عاصمة تستقطب الشيوعيين والحركات اليسارية العربية، في السبعينات ومنتصف الثمانينات، لكنها حقبة من التاريخ المفخّخ بالصراعات والمؤامرات والدسائس، انتزعت فيه المدينة من الفضاء الكوزموبوليتاني أو من اليوتوبيا الكولونيالية قبل الاستقلال، إلى مدينة أخرى بعد الاستقلال، لكنها مدينة لم تنجح في العبور إلى اليوتوبيا الاشتراكية بوصفها الحلم للثائرين والمنفيين العرب وغير العرب، وتتناول الرواية بعبقرية سردية مذهلة في اللغة السردية والحوارية وبناء الشخصيات، ومختلف التقنيات الروائية الحديثة، مأزق المدينة بالقادمين إليها من عمق الريف، ومن عواصم العالم، وحالة من القهر والاستلاب والتنكيل، والتي تنتهي بالفجيعة الكبرى في أحداث يناير 1986، وعلى مشاهد اقتتال الرفاق بوحشية مفرطة، تتحول فيها المدينة عدن إلى فضاء شبحي يسكنه الموت والتآمر والغربان، إلى حالة من الديستوبيا، ويستقطب السرد تاريخ من الحروب والصراعات والأحداث الكبرى التي شهدها العالم العربي، والرواية إذ تحكي قصة «نورا» الراقصة الشعبية في فرقة الفنون الشعبية سليلة الأسرة السلطانية، والتي نشأت في كنف أسرة بريطانية وأحبت الثاثر «جياب»، وقررت كتابة مذكراتها بعد اختطاف «جياب» وحادثة إصابة قدميها بالعطب والتعفن تشكل ترميزًا للمدينة المعطوبة بالصراعات والتآمر، ويتحول فعل إنجاز كتابة المذكرات الذي تستعين فيه بصلاح، ـوهو أحد المناضلين العقائديين الشيوعيين كما تصفه الروايةـ إلى مناسبة لاكتشاف التاريخ المسكوت عنه، بتفاصيله وأوجاعه، إنها تلك المسافة التي اتخذتها الرواية لتتأمل تفاصيل حرب مضت، لا تحجب تفاصيلها الأدخنة ولا الحرائق، وإن لم تخْلُ كذلك من صيغة استعارية لأحداث الواقع وحروبه المتناسلة.