محمد زرّوق*
أَوَ آن الأوان لِيُدرك القارئُ العربيّ أوّلا أنّ لديه في حضارته من كُتّاب السرد من يستحقّ الكونيّة، والعدد ليس بقليل؟ أوَ لمْ يحن الوقت ليفتح القارئُ العربيّ ذهنه ويتقبل الأنا قبل الآخر؟ لماذا نقرأ ماركيز وكونديرا، ونقرّ لهما بالسرد والقدرة على إتيانه، ونخوّن أنفسنا؟ أسئلة معرفيّة في تشكّل الوعي العربي وفي تقبّل الأدب تقلقني، فالمُتقبّل الواقعُ في درجات من المعرفة وامتلاك أدوات النقد والتحكّم يتدنّى أحيانا إلى مرتبة أوضع من القارئ العاديّ. فنحن العرب نحتاج إلى نوع من نقد السرد، تخصيصا، ونقد الأدب عامّة، يخرج عن الإطار الأكاديميّ الجافّ من جهة، ويُحدّد سياسة قراءة تُظهر ميزات النصّ أو رذائله، دون المسّ بالشخص، أو الصدور من عقدة الأقوى أو الأقدر.
أثرنا هذا الحديث بسبب فوز الدكتورة جوخة الحارثي بجائزة المان بوكر العالميّة للرواية المُترجمة، عن رواية «سيّدات القمر»، وهي بهذا الفعل تكون قد أدخلت الرواية العُمانيّة أوّلا والرواية الخليجيّة ثانيّا والرواية العربيّة ثالثا إلى العالميّة. وبهذه المناسبة سأثير جملة من القضايا، أهمّها: هل الأدب العربيّ هو أدب عالميّ؟ ما منزلة الأدب العربيّ شعرا ونثرا قديما وحديثا من العالميّة؟
نتّفق نحن العرب أنّ لدينا من الأدب القديم والحديث ما نفخر به. ولكن ما منزلة هذا الأدب كونيّا؟ هل يُمثّل المتنبئ مرجعا لشعراء من مختلف الحضارات والبلدان؟ هل البحتري مقروءٌ في مختلف دول العالم. هل أبو نواس يحتلّ منزلة المصدر في التعبير الشعريّ عن المُتَع؟ هل كتاب الأغاني هو مصدر في الكون يُمثّل موسوعة الأخبار والأعلام؟ هل كُتب السير ألهمت كتّابا في مختلف الأصقاع؟
لم يحتلّ الشعر العربيّ منزلة المصدر من الثقافات الكونيّة على أنّه مصدر العرب وسمتُهم، رغم محاولات ترجماته إلى لغات أخرى، بدءا من الشعر الجاهليّ إلى الشعر الحديث. ولعلّ ذلك راجع إلى اعتماد الشعر على الحال والتصوير، وهما أمران يعسر إجراؤهما في الترجمات، أو أيضا إلى تنميط الشعر العربي ودخوله في أغراض مُستعادة ، تقوم الشعريّة فيها على المستوى اللفظي في مختلف تصاريفه.
كتابان فقط من تراث العرب فارقا المحليّة وعانقا العالميّة، تجاوزا اللّغة والحضارة والتقيّد بالمكان، وهما من كتب السرد: ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة.
أمّا الثاني فأثره محدود على عُمقه، وقد انتشر في الغرب لأنّه استظلّ بفكرة استعمال الحيوان للتعبير عن حياة الإنسان وصراعاته ومختلف أفكاره. ويكفي أن نشير الى أنّ الكاتب الفرنسي لافونتين أقرّ أنّ أغلب أقاصيصه مستوحاة من كليلة ودمنة.
وأمّا الأوّل فقد انتشر في الكون فعلا وشكّل مصدرا يمتح منه الأدباء والفنّانون عموما، في مختلف المجالات، في الأدب والسينما والرسوم المتحرّكة، وكانت ترجمته واستعماله في وقت مبكّر جدّا، فأوّل ترجمة لكتاب «ألف ليلة وليلة» كانت سنة 1704 إلى الفرنسية عن طريق أنطوان غالان، وبعد ذلك تتالت الترجمات إلى عديد اللغات منها: الإنجليزية والألمانية والإيطالية والدنماركية والروسية والفلمنكية والرومانية والهولندية واليونانية والسويدية والبولونية والهنجارية.
أمّا في العصر الحديث فإنّنا إزاء نموذجين أحدهما في الشعر وهو أدونيس الذي سعى جاهدا نحو العالمية ولكن لم يقدر على تحقيقها، ونجيب محفوظ الذي تحقّقت معه تمثيليّة الأدب الروائي الحديث بظفره بجائزة نوبل ومنها كان تحقيق مقروئيّته في أغلب لغات العالم.
إنّ الشعر على أثره وقوّته وعمقه وتعبيره عن الحضارة العربيّة بقي استهلاكه داخليّا ولم يُحقّق العالمية (باستثناء بعض الترجمات القليلة، أو التوظيف المحدود)، فما علّة شيوع السرد الذي تُعرض عنه الثقافة العالمة، رغم أنّه حقّق الكونيّة وصار مصدرا، في القديم والحديث؟
الأدب العُمانيّ وهو مظهرٌ من مظاهر الأدب العربي، لم يكن من الممكن تحقيق العالمية في القديم، لارتباط أغلب مظاهر الأدب بالشعر أو بفنون النثر القائمة على العناية باللفظ والتوسّع فيه، وقد سبق أن بيّنّا عُسر استعمال الشعر لتحقيق الكونيّة.
أمّا في الحديث فقد سادت في عُمان نفس المظاهر القديمة في إنشائيّة الأدب إلى حدود السبعينيات والثمانينيات تقريبا من القرن الماضي، إذ تبدأ مظاهر الخروج عن الأشكال القديمة، في الشعر والنثر، بتشكّل ملامح الشعر الحرّ وقصيدة النثر، خاصّة مع سما عيسى وزاهر الغافري وسيف الرحبي، وبأوليّة التوجّه إلى كتابة القصّة والرواية، بداية من الرواية المؤسّسة لهذا الشكل، وهي «الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحّي (على وعينا بمسائل الخلاف حول مسألة التأسيس، فالبعض يردّ التأسيس لرواية «ملائكة الجبل الأخضر» للطائي).
تعايش الشعر الحادث مع الشكل العمودي للشعر في عُمان، حيث بدت مظاهر التجديد التي لاقت بعض التحقّق العربي، وبقي الشكل العمودي مُهمَلا، فشعراء الشعر الحرّ وقصيدة النثر تحرّكوا في المكان، داخل الخليج أو داخل المنطقة العربيّة، وتُرجمت بعض أعمالهم إلى عديد اللّغات، ولكن بقي الشعر العُماني في نفس الدائرة الاستهلاكيّة التقبّلية العربيّة.
وكما حقّق السرد العربي القديم عالميّة أظهرناها سابقا، فإنّ السرد العربي الحديث أيضا صار مُتقبّلا كونيّا من خلال عدد من الأسماء التي فُوّزت في جوائز عالميّة أو تُرجمت أعمالها إلى لغات أخرى وحقّقت قبولا حسنا. وكذا الأمر كان في السرد العُمانيّ، وإن لم يُحقّق عالميّة بارزة، في مجموع أعماله، إلاّ أنّ العديد من الأعمال السرديّة حقّقت مقروئيّة جيّدة، وأوجدت قُرّاء يُتابعون هذه التجارب خارج عُمان وداخلها، يُمكن أن نذكر على سبيل المثال أعمال علي المعمري وهدى حمد ومحمود الرحبي وجوخة الحارثي وبعض قصص الخطّاب المزروعي ويحيى سلام المنذري وغيرهم. هي أعمالٌ نقلت تفاصيل مكوّنات المجتمع العماني وثقافته البارزة حضاريّا وجغرافيّا وتاريخيّا. إضافةً إلى بعض الأعمال الروائيّة والقصصيّة التي تُرجمت إلى لُغات أخرى وتمّ التعريف بها، وإن لم يُحتَف بها ويكون لها الأثر العميق.
وتمكّنت هذه الأعمال من أن تجد صداها العربي أوّلا بعد النظرة التحقيريّة للأدب العُماني من طرف المركز التاريخي للأدب، فوجدنا دُورا عربيّة معروفة تنشر أعمالا روائيّة وقصصيّة عُمانيّة، ولاحظنا في العشريّة الأخيرة أعمالا تُطبع أكثر من طبعة، وهي نقلةٌ نوعيّة هامّة في التحقّق السرديّ.
بالرغم من التطوّر الشعري والسرديّ في عُمان منذ السبعينيّات من القرن الماضي، وبالرغم من التراكم الموروث في الشعر ومختلف صنوف النثر فإنّ الاعتراف العربيّ بقي محدودا جدّا وظلّت المراكز العربيّة التقليديّة هي المهيمنة.
يُبرّزُ الأدب العُماني هذه السنة في صورة مُحدثة للتفاعل بين ثقافات الكون، مُواصلةً لقدرة السرد على النفاذ إلى الثقافات والحضارات، في فوز كاتبة عُمانيّة محليّة تهتمّ بخصائص الحياة الدقيقة، وتنصرف إلى التفاصيل، إنّها الروايةُ الحدث والمُشكلُ، رواية «سيّدات القمر» التي حقّقت بحصولها على المان بوكر العالميّة واسطة مهمّة للتعريف بالثقافة العمانية، وهي منزلة لم يُحقّقها لا الشعر العمانيّ الذي يمتدّ تاريخه إلى الجاهليّة، ولا مختلف المظاهر النثريّة التقليديّة التي شهدت تنوّعا وغزارة في التاريخ العماني القديم والحديث.
لماذا حقّقت رواية «سيّدات القمر» عالميّة غير متوقّعة؟ وهل هي خير مُمَثّل للثقافة العُمانيّة والعربيّة أو هي لاعبت الثقافة الكونيّة وحاولت إرضاءها؟
يُمكن أن نحاول الجواب على هذه الأسئلة مُرورا سريعا دون تفصيل، وقوفا على الأسباب المُعلَنة لفوز الرواية، وعلى ما يُجَد في الرواية من سمات يمكن أن تُميّزها، وعلى منزلة الرواية من الإنتاج الروائي العُماني.
قالت صحيفة الجارديان: انّ «الرواية تُقدّم لمحة عن ثقافة غير معروفة نسبيّا في الغرب وهو الأمر ذاته الذي لاحظناه في تقرير لجنة التحكيم، إذ قالت بيتاني هيوز رئيسة لجنة التحكيم، في وصفها للرواية: «فما أن يبدأ القارئ بصفحاتها الأولى حتى ينفتح أمامه عالم آخر من الدراما المحلية المنسابة بهدوء والتي تدور في قرية من قرى عمان، لكن القارئ سيشعر أنه مرحب به في هذا العالم الهادئ والمستكين، كل ذلك بلغة يختلط بها الشعر والنثر والأمثال الشعبية ووصفات الطب الشعبي وغيرها من التفاصيل الكثيرة». وأضافت
«هذه الرواية من منطقة الخليج وآمل أن تتمّ قراءتها من قبل عدد كبير من القرّاء وأن تكون الرواية باباً يُفتح على الأدب العربي في تلك المنطقة».
مبدئيّا لا يُمكن الحديث عن تحقيق عالميّة دون الصدور عن المحليّة، والرواية تحديدا لا يُمكن أن تتحقّق تميّزا واختلافا إلا إذا تمكّنت من امتصاص موروثها الحضاري والأسطوري تحديدا. وعلى ذلك فإنّ رواية سيّدات القمر تمكنّت من سردنة تفاصيل الواقع المختلفة والبسيطة. تركّز السرد في الرواية على تفاصيل الحياة في رصد ملامح الشخصيّات وتبئير الحوادث العابرة وتحويل التاريخ الهامشيّ إلى موضوعٍ مولّد للحكاية. سبب تميّز الرواية في نظري أنّ صاحبتها كتبت شكل الرواية وقد تشرّبت هذا التراث الأدبيّ والحضاريّ المحليّ المتراكم، تفاعلت مع الشعر ومنه ابتدعت لغتها، وضمّنته أحداث روايتها، وظفّت المثل المحلّي وأجرته على ألسنة شخصيّاتها، استدعت من تاريخ البلد أحداثا وشخصيّات، وصاغتها في عالم محيل إلى واقع من جهة وضاربٍ في التخييل من جهة ثانية. اندهش القارئ العربي من هذا المزج، الواعي في صياغة الحكاية، ظهر ذلك في المراجعات النقديّة للرواية منذ صورها باللغة العربية، في بعض المقالات والدراسات والكتب أيضا، وهو أيضا ما شكّل عالما مُدهشا للغرب الذي يحمل عن العرب صورة نمطيّة لا تتزحزح.
ليست رواية جوخة الحارثي أفضل رواية عربيّة ولا أفضل رواية عُمانيّة، وإنّما هي من أفضل الأعمال الروائيّة في العشريّة الأخيرة، التي تضمّنت روايات اشتغلت على التاريخ وأخرى على الواقع، ومن الروايات التي اتّخذت من التاريخ مادّة لصناعة التخييل، رواية «حوض الشهوات» لمحمّد اليحيائي واستدعاء التاريخ المحلّي المعاصر وتسريده، ورواية علي المعمري «بن سولع» (هكذا) التي ضمّنها وثائق بريطانيّة وشهادات حول دور وكالة مقاومة الجراد في التدخّل في واحات البريمي، ورواية «الباغ» لبشرى خلفان التي صوّرت حوادث معلنة وأخرى مخفيّة من تاريخ مسقط الحديث، أعمالٌ عديدة تراكمت لتُعطي صورة عن تطوّر أدب السرد وقدرته على تحقيق العالميّة من خلال المحليّة، وممّن توجّهوا للواقع ولقضايا المجتمع، هدى حمد في مجموع أعمالها القصصيّة والروائيّة، ومحمود الرحبي، وأحمد الرحبي، وسليمان المعمري، وعبد العزيز الفارسي، وغيرهم كثير. ولكن دون مُطلق الفصل بين التاريخيّ والواقعيّ، وهو الخطّ السردي الذي سارت عليه جوخة الحارثيّ مزجا بين وقع التاريخ وإيقاع تفاصيل الحياة اليوميّة.
ختاما، وجب على القارئ العربي بمختلف درجات مقروئيّته أن يخرج عن سلبيّته، وأن يتحوّل من منزلة المعترف بالآخر، الجاحد للأنا، إلى منزلة القارئ الواعي. ذلك أنّ المعترفين بقيمة الرواية بعد فوزها، والرافضين لقيمة الرواية بعد فوزها، هم في منزلة واحدة، هي منزلة الاعتراف بالاعتراف الغربي، فالمُساير واضح، أمّا أولئك الذين هاجموا الرواية وصاحبتها، هم أكثر إيمانا بالرأي الغربي، لأنّهم انطلقوا من هذا الاعتراف لإبداء آرائهم التي تخرج في أحايين عديدة عن جوهر النقد، والرواية طيلة عقد كامل وهي بين أيديهم.
إنّ رواية «سيّدات القمر» داخلة في حركيّة سرديّة عُمانيّة نشطة جدا، ومجتهدة في القراءة وتجريب الكتابة. والمخزون الثقافيّ والحضاريّ والأسطوريّ لعمان يُولّد مجالات في الحكاية مبتكرة.