على مدى أكثر من 160 مليون سنة، حلقت الزواحف العملاقة في سماء الكرة الأرضية. الأمر الذي لم نكتشفه سوى منذ قرنين وحسب. والآن تبدأ بقايا تلك المخلوقات بتقديم تفسير ما للعلماء، يجيب عن أهم سؤالين: كيف عاشت، وكيف كان شكلها؟
أسرار الجماجم
عادة ما تكون الجماجم والهياكل العظمية كتبا مفتوحة للعلماء، فالنظر الى عظمة الساعد المقوسة والطويلة لهيكل القرد، يستحضر للأذهان صورته يتأرجح من غصن لآخر، يقفز من شجرة لأخرى. كل بقايا الجماجم والعظام هكذا، تشي بأسرارها للعلماء، إلا تلك العظمة المجهولة التي استقرت على طاولة الكسندر كلينر، المتخصص في دراسة العصور الجيولوجية السحيقة، بمتحف التاريخ الطبيعي في نيويورك.
ورويدا رويدا، ومع الصبر والخبرة، يبدأ المثلث العظمي المجهول بقص سيرته الذاتية، لتبوح التفاصيل المنحوتة على سطحه بمعانيها، فها هما التجويفان الكبيران للعينين ينتصفان الطريق في رأس الجمجمة – الذي لا يزيد حجم الدماغ داخلها على حجم رأس الطفل – بينما الخناجر المستقيمة الناعمة في مقدمتها ليست سوى مجموعة من الفكوك.
إلا أن أبرز ما في تلك الجمجمة هو سلسلة العرف الذي يبدأ من طرف قمة هذا المخلوق، مباشرة فوق الفك العلوي، ليمضي خلف العينين كما لو كان مجدافا. ويبلغ طول ذلك العرف ضعف طول الجمجمة، ما بين قدمين الى أربع أقدام فكيف كان لمخلوق أن يدعم حملا كهذا فوقه: الإجابة ببساطة – كما يقول كلينر أنه كان فارغا، وهو في بعض أجزائه لا يبدو اكثر سمكا من جزء من مائة من البوصة الواحدة وبينما يمتليء العرف الآن بالصخور كان الهواء وحده داخله حين كان الحيوان حيا.
وتعود هذه الجمجمة لأحد الطيراصورات وهو الاسم الذي سنطلقه عليها، إن صح التعبير بديلا للزواحف العملاقة الطائرة: (بتيروصورص) واسمه توبوكسوارا، وكان من بين أكثر من 100 نوع للسلالات المعروفة اكتشفها علماء الجيولوجيا الآن، وقد عاش التوبوكسوارا فيما يسمى الآن بالبرازيل قبل 110 ملايين سنة، وبلغ طول جناحيه من طرفيهما 18 قدما، أي أطول 6مرات من أجنحة أضخم طائر يعيش حتى الآن وهو الباتروس.
وبما أن كثيرا من عظامه كانت بمثل رهافة تاجه فإن وزنه لم يبلغ أكثر من 45 باوندا. وبفضل عينيه الحادتين كان ذلك الطائر يستطيع رصد صيده قرب الشواطيء، وكان يمكنه – بالسيطرة على جناحيه بخفة – أن يغوص تحت سطح الماء ليصعد بسمكة في فمه يبتلعها وهو يحلق بعيدا. وطبقا لأحدث البحوث، فإن تلك الطيراصورات كان إرهاصة لما سيكون عليه خلفها بعد ملايين السنين، حيث كانت تطير وتؤدي أدوارا بيئية مثل التي تقوم بها الطيور حاليا، بل كانت لها بنى اجتماعية مشابهة لطيور زماننا، منها طريقتها في تنشئة صغارها!
زواحف تطير
في العام 1784 حاول عالم الحيوان الإيطالي كوزيموكوليني أن يستشف المعاني التي تختفي خلف أول جمجمة وجدت للطيراصورات، ظنا منه أنه وجد بقايا مخلوق بحري ثديي. وبمطالعة الرسوم التي قدمها من قبل عالم التشريح الفرنسي جورج كوفيير، تم التفسير السريع لهذا الهيكل بأنه أحد الزواحف الطائرة. وهو الاكتشاف الذي كان عصيا على فهم زملائه. وخلال القرن 19، جاء توصيف الطيراصورات لكل شيء يطير بدءا بالخفافيش حتى حيوانات الكنغر الطائرة. وجاءت السحلية (العظاءة) لتعطيهم تفسيرا للشكل الكامل لتلك المخلوقات، فرغم أنها فعلا لا تطير، نجدها تنزلق في الهواء بأجنحة تشبه ما لدى الخفاش.
وفي حين كانت العظام المجوفة النحيفة مثالية للطيران، فانها لم تكن كذلك لكي يبقى منها شيء بعد ملايين السنين لذا لم يجد العلماء سوى بضع جماجم وهياكل كاملة في عدة مواقع، كان أهمها ما عثر عليه بالبرازيل، وموقع حديث الاكتشاف، وجد مطمورا – في العام 1817- مع بقايا حشرات وثدييات وأسماك ونباتات وكان أول الطيراصورات المكتشفة في العام 1971، ويلغ المكتشف منها حتى الآن نحو 14 سلالة مختلفة بما فيها التوبوكسوارا، الذي وجد في أراريب، ويختلف بصورة كلية عما سبقه من طيراصورات، ووجدت بقايا محفوظة بدرجة أثارت الدهشة، بفضل طبقات من الماء والطمي حولها، غطتها بعد ساعات من موتها، لتبقى 110 ملايين سنة.
وحين يفتح العلماء تلك القوالب يحصلون على صورة ثلاثية الأبعاد للجماجم والهياكل، ويعد الكسندر كلينر أحد خبراء الجيولوجيا لطيراصورات أراريب، ولا يخفي فخره بتلك البقايا، حيث ظل العلماء يدعون بأن مكتشفاتهم هي الأفضل لتأتي البقايا البرازيلية لتفوق كل ما اكتشف. الأمر الذي يعبر عنه قول زميله في جامعة لندن، ستافورد هاوس: لو أن هذا الهيكل تم دفنه منذ 6شهور في تربة طينية حافظة، لكانت تلك حالته، مما يدهش أن عمر هذه البقايا أكثر من 100 مليون سنة !
أكثر من 250 مليون سنة
وكما يستطيع العلماء الآن تحديده، يتجاوز عمر الطيراصورات 250 مليون سنة، وهي المخلوقات التي خلفها الديناصورات ومن ثم الطيور. أما كيف تحولت الى الطيران، فالأمر مجهول، ربما كانت محاولتها الأول بالقفز فوق الأشجار، إلا أن المؤكد أنه منذ 225 مليون سنة وجدت طيراصورات مؤهلة تماما للطيران الكامل.
أولى الطيراصورات كانت صغيرة ربما بحجم نوارس البحر، برؤوس طويلة وضيقة وأسنان حادة ولوحظ وجود أصبع أوسط في كل كف، هو الأطول ! مما شكل دعامة للأجنحة، في حين كانت الأصابع الثلاثة الأخرى عادية تماما وذات مخالب. وخلفها تبدأ سلسلة لذيل طويل يشبه ذيل الطائرة الورقية، يجعل من طيرانها ثابتا، والمحتمل أن الأسماك كانت طعامها الأساسي رغم ان بعضها ربما أضاف الحشرات الى وجبته. وفي طريق تطورها تحولت من ذوات الدم البارد، الى ذوات الدم الحار،. الأمر الذي وهبها الطاقة اللازمة للطيران.
ومما أكد هذه الفكرة، بل وقدم ملامح لشكل الطيراصورات الهيكل الذي وجد في روسيا عام 1970، وفيه علامات لوجود وبر سميك من الفراء، وقد ظل هذا الطيراصور محفوظا بطريقة مثالية طوال 45 مليون سنة، ولكن قبلها ومنذ 180 مليون سنة جاء نوع جديد منها. وسمي بتيروداكتيلويدز، وهو اسم مشتق من كلمة الأصبع المجنح)، وظهرت بهذه الأنواع تغييرات بينة: زادت رؤوسها المطولة طولا، وصارت أخف وزنا، بعد أن اختفت من جمجمته بعض العظام وأصبحت أعناقها أكثر لينا، كما لو كانت تشبه الطيور وفقدت بعض أو كل أسنانها، إلا أن الأكثر أهمية بين كل تلك التطورات كان تقلص ذيلها، وكان التفسير الوحيد للعلماء حول تقلص الذيل هو وجود أدمغة أكثر تطورا للبتيروداكيلويدز، جعلتها قادرة على الثبات في الطيران بسرعة، مع بضعة تغييرات طفيفة للأجنحة.
ندرة.. فانقراض !
ثم ندر وجود الطيراصورات على مدى 30 مليون سنة، ولأسباب لازالت مجهولة، اختفت تماما منذ 144 مليون سنة مع أقاربها الديناصورات، بعد أن تشعبت الى أنواع متباينة بيولوجيا، كان بعضها يتكاثر بأحجام هائلة، فأحدها واسمه كوتيز الكوتس كان طول جناحيه 39 قدما، مما جعله أضخم الحيوانات الطائرة على الاطلاق. وطورت الأنواع الأخرى رؤوسا نوعية، فأحدها كان له مئات الأشواك بدلا من الأسنان وكان لآخر منقار بط وثالث منقار كالملعقة. وعدد كثير منها كان له عرف شاذ مثلما سبق وصفه للتوبوكسوارا، وأخرى كانت أعرافها كالسيوف أو عوارض السفن!
كيف كانت تطير ؟
ولكن مع اختلاف الشكل بقي السؤال مركزا على الطريقة التي تتبعها تلك المخلوقات في الطيران. كانت الطيراصورات أولى الحيوانات الفقارية التي تطير، ولم ينضم اليها منذ ذلك الحين سوى نوعين آخرين: الطيور والخفافيش. وبمقارنة عظام تلك الكائنات الثلاثة، حاول العلماء رسم ملامح قياسية يمكن أن تقدم صورة دقيقة للكيفية التي طارت بها الطيراصورات، وبالحكم على العظام الموجودة في منطقة الكتف توصل الباحثون الى أن تلك الزواحف المميزة استطاعت تحريك أجنحتها بقوة كما تفعل الطيور والخفافيش. وكان هذا أبعد ما يمكن الوصول اليه عبر المقارنة بالقياس، حيث تختلف الأجنحة حتى بين الطيور والخفافيش ذاتها. فأجنحة الطيور من الريش المثبت بجذوره في الأذرع والأصابع الملتحمة في الأيدي، بينما أجنحة الخفافيش من أغشية مطاطية تمتد بين أربعة أصابع مستطيلة تصل حتى الأقدام، وبتحريك أقدامها وأصابعها تتحكم الخفافيش في شكل ودرجة الشد للأجنحة. أما أجنحة الطيراصورات التي يدعمها ذلك الأصبع الأوسط فلا يمكن أن تكون قريبة في عملها من هذين النمطين السابقين.
يجب أن يكون هناك شيء ما يدعم تلك الأجنحة ويمكنها من التحليق في وسط الريح مثلا. ربما كانت تلك الأجنحة تتصل بقوة بكافة الأجزاء الداخلية لأجسادها، أو أنها كانت مرتبطة بشكل ما بسيقانها أو بأقدامها. المثير أنه لا توجد بقايا لهيكل ذي أغشية ناعمة ليحكي لنا القصة الكاملة. وكانت أفضل المفاتيح لهذا اللغز في آثار 80 هيكلا لأجنحة طمرت في الطمي، رغم تلك الخطوط لم تصل بالباحثين لاجابات قاطعة – فالأجنحة غالبا ما تتحطم وتنسحب من وضع الطيران الى أوضاع أخرى عند موتها لتبقى تلك الآثار، وبدون استثناء – غامضة. وحاول العلماء – منذ القرن الـ 18 وحتى الآن – استكناة ما إذا كان لأجنحة الطيراصورات أغشية كالخفافيش وكان افتراضهم أن لتلك المخلوقات أجنحة جلدية تمتد – كما عند الخفافيش – من ذلك الأصبع الأوسط للأقدام.
طيور أم خفافيش
وعلى مدى أكثر من عقد حاول الباحث كيفن باديان، جامعة كاليفورنيا في بيركلي، محاربة تلك الفكرة بشراسة، ويقول: لو أننا نختار بين قياس الخفافيش والطائر،فهناك أكثر من سبب يجعلنا نقترب بالمقارنة من الطيور، فإذا كانت أجنحة الطيراصورات شبيهة بأجنحة الخفافيش، لكان يفترض وجود وصلات ما بالأقدام، ربما بإشارة في العظام مثلا، الشيء الذي لم يوجد أبدا، كما أن لأجنحة الخفافيش وترا تشريحيا يمتد حتى طرف سلسلته، الشيء الذي لم يظهر بأي من هياكل الطيراصورات.
دليل آخر -رغم ذلك يظهر نوع مختلف من التكوين الهيكلي، وهو وجود أضلع موازية في بعض أجنحة الطيراصورات، يحمل أنسجة قوية ربما يكون البروتين الكولا جيني عادتها، وكانت محشورة داخل الجناح لتعطيه الصلابة اللازمة – ووجد مؤخرا أن أطراف أجنحة الطيراصورات تدعم هذه الفكرة. وبما أن للخفافيش أغشية مطاطية تسحبها بقوة يجعل أجنحتها تأتي لنقطة حادة، فإن هذا لا يتفق مع وجود انحناء طرفي في إحدى بقايا هياكل الطيراصورات، وهو ما يتطلب وجود مثل هذه الأنسجة.
وشكل الجناح لم يحدد فقط كيفية طيران الطيراصورات، ولكن بالمثل الكيفية التي كان يتحرك بها على الأرض. فالطيور ذات الأجنحة المحررة من الساقين تستطيع المشي بسهولة تامة، ولكن الخفافيش عليها أن تتخطى مشكلتين مشكلة ارتباط الساقين بالذراعين، ومشكلة تصميم الساقين المنفتحتين للخارج للمساعدة على التحليق، وجعل الأغشية المطاطية مشدودة أثناء الطيران، وهو الأمر الذي يجعلها غير ثابتة على الأرض، بشكل لا يدعم وزن جسدها وكنتيجة لذلك تقفز الخفافيش على أربعتها وذراعاها وساقاها منفتحتين للخارج. لذا يؤكد العلم أنه مثلما كانت أجنحة الطيراصورات مصممة للطيران كطيور اليوم، كذلك كانت سيقانها. بل أن رأس عظمة فخذها صممت بشكل يؤرجح الساق للامام وللخلف، وليس الى الجانبين، في حين اندمجت عظمتا الكاحل في القدمين بمفصل لم يكن يمكنه الانثناء للخارج. لذا لم تنتقل الطيراصورات على أربعتها واستطاعت أن تمشي بحرية تامة على اثنتين، تماما كالديناصورات أو الطيور، الأمر الذي لا يدهش، لأن تلك الطيور جاءت خلفا لها، مما يجعلها متشابهة معها في أكثر من وجه.
أين عاشت ؟
بمجرد تمييز الكيفية التي تحرك بها الحيوان سواء طار أو زحف، مشى أو قفز، حلق أو انزلق، فإنه يمكن معرفة كيف تناسب ذلك بيئيا مع زمانه. فلو طارت تلك الطيراصورات مثل الطيور – لا الخفافيش – إذن لكان متوقعا أنها كانت تحيا مثلما تحيا الطيور الآن، بل وتؤدي كافة أدوارها البيئية في شكل مشابه. وقد حاول العلماء التعرف على نمط حياة الطيراصورات وماذا كانت تفعله، برصد ماذا لم تفعله ! فآجنحتها الطويلة الثقيلة – مثلا – لم تكن تؤهلها للغوص بحثا عن السمك كما يفعل البط، لأنها لم تكن لتمتلك قوة سحب قوية ترفعها عن الماء بعد الغوص فيه. كما أن تلك الاجنحة لم تكن لتؤهلها للعيش في الغابات، فالطائر فوق الأشجار تواجهه مشكلة إذا كانت أجنحته ضخمة، وإذا كانت بقايا الحيوانات الأرضية الصغيرة قد وجدت في بيئات مائية،
كالمحيطات مثلا، نجد أن المخلوقات التي وجدت بقايا لها في الغابات والصحاري والسهول كانت أكثر ثراء في تقديم صورة عنها، الأمر الذي لم يحدث مع معظم الطيراصورات التي لم تترك خلفها سوى بقايا متناثرة، بل ان العملاق كوتيز الكوتس لم يتعرف العلماء عليه سوى من عظام ذراعه وحسب، ومن بقايا حيوان وحيد وكنتيجة لذلك لم تعرف بعد النسب الجسمانية الكاملة له، بل شك العلماء في أن تكون آجنحته أصغر فعليا مقارنة بجسمه. وهو استثناء لأنه لم يوجد في مياه محيطية، ولكن في ارض لا تغمرها المياه الا موسميا – في تكساس. وأضخم الطيور التي تعيش مثل هذا البيئة هي طيور البلشون الأبيض ومالك الحزين، وهما – مثل الكويتز الكوتس. ولك أن تتخيل انطلاقة هذا الكويتز الكوتس الأضخم حجما عبر مستنقع، يرجع برقبته بالخلف ليغمدها فجأة في الماء ليخطف سمكة بفكيه !
الطيراصورات آكلة الفاكهة!
ولبعض الطيراصورات عادات طعام متشابهات الى حد مدهش مع ما لدى طيور اليوم. فأحدها – بتيروداستراو – كان لديه مئات من الأسنان الشوكية في فكه الأسفل وطيور الفلامنجو لديها أضلع في مناقيرها تستخدمها في تنقية الطحالب والحشرات من الماء. وكان للبتيروداسترو نفس النوع من التكوين الذي لا يتناسب مطلقا مع أي نوع آخر من التغذية. وقد أعلن توماس فلمنج، وهو عالم بيئي من جامعة ميامي، أن بعض الطيراصورات كان تأكل فاكهة النباتات حاملة الثمار – مثل التي تعتمد اليوم على الخفافيش والطيور والرئيسيات في أكل الثمار ونثر البذور.
ويعتقد علماء الجيولوجيا أنه بعد 40 مليون سنة، ومنذ الظهور الأول للنباتات حاملة الثمار، كانت تلك الحيوانات الناثرة نادرة أو انها انتقلت لطور آخر. وكان هناك بالطبع الديناصورات آكلة النباتات، لكنها كانت -ربما – تدمر البذور بسبب نظام حركتها وبسبب هضمها البطيء. ولكن فلمنج يرى احتمالا بنجاة تلك البذور لدى أحشاء الطيراصورات الصغيرة. بل أن ذلك يفسر حصول الطيراصورات على الطعام الذي يمنحها الطاقة اللازمة للطيران. وكانت المشكلة الوحيدة لفكرة فلمنج عدم وجود أي طيراصورات معروفة تكون أكلة الثمار. وجاءه اكتشاف كلينر لكائن تابيجار في أراريب (ويعني الكائن القديم بلغة هنود توبي) حيث اشتمل ذلك الطيراصور على رأس مدبب بطول 8 بوصات في المقدمة أمام الأنف، يستدق طرفه حتى يضيق الى شوكة أعلى العين. وكان فكاه بلا أسنان، مثل زوج دقيق من الملاقط الحادة المقوسة قليلا. وكان الـ (تابيجارا) مناسبا تماما لالتقاط الفاكهة، وربما استخدم عرفه ليدفع جانبا أوراق النبات السميكة ليلتقط الثمار من جذورها، الشيء الذي تفعله طيور البلثسون بمناقيرها اليوم، وربما كانت المانجو وثمار الأفوكادو هي طعامها.
رحلات موسمية:
أما عدا الطيران والطعام، كان السؤال: وماذا كانت تفعل في باقي يومها؟ وكيف كانت تمضي حياتها الاجتماعية؟ وجاءت الاجابة للبروفيسور كريستوفر بينت، حول طيراصور اسمه بتيروندن، عاش منذ 115 الى 70 مليون سنة مضت، على سواحل البحر الممتد من وسط شمال أمريكا. وكان أفضل الطيراصورات الحوامة، يتراوح طول جناحه منفردا بين 10 الى 25قدما. ووجدت بقايا هيكله في منطقة تبعد بنحو 100 ميل أو أكثر من ساحل البحر القديم، مما يفترض طيرانها لمسافات طويلة بحثا عن الطعام. وبمقارنته لألف ومائة من بقايا هياكل البتيروندن، وجد بينت نسبة بين عظام الساق والأصابع كل على حدة. وانقسمت الى مجموعتين متمايزتين فكانت النسبة في المجموعة الصغيرة تصل بطول الجناح الى 5ر12 قدم بينما في المجموعة الأضخم الى 19 قدما، وكانت الصغرى أكثر شيوعا، تفوق بأعدادها الهائلة المجموعة الضخمة بنسبة 2 الى 1، وقيما وراء الحجم – والوزن كذلك – كان هناك اختلافان استطاع بينت تحديدهما بين المجموعتين. كان حوض الحيوانات الضخمة ضيقا نسبيا، في حين كان حوض الأصغر متسعا كذلك كانت لتلك المجموعة الأصغر حجما أعراف صغيرة، في حين كانت للمجموعة الأكبر حجما من البتيروندن أعراف ضخمة. كانت تلك الأعراف موضوع بحث لكثير من العلماء، قيل إنها كانت تضيف نوعا من الانسيابية للجسم. أو أنها كانت تؤدي دور الدفة الموجهة ؟ وقد أشار كلينز الى أن أعراف التوبوكسوارا كانت مغطاة بأثار أوردة دموية. وكان وجود شبكة كثيفة من الشعيرات يمثل كما يفترض نوعا من التكييف أثناء الطيران بإرسال الدم الحار الى قرب البشرة.
هذان السببان: الانسيابية أو التبريد، ليسا بذات معنى عند بينت، فإذا كانت الأعراف الصغيرة تؤدي المهمة، فماذا كانت بالحاجة الى أخرى كبيرة كما في بعض البتيروندن ؟ التفسير الوحيد لديه كان في ايجاد فارق بين ذكورها والاناث، حيث كانت الأعراف أساسا أدوات استعراض للذكور عند التزاوج، في حين كانت أحواض الاناث أكثر اتساعا لحضانة البيض، ولفهم هذا المزيج بين الاختلافات الجنسية في الحجم، الاستعراض، نسب التكاثر، رجع بينت لموضوع القياس على الحيوانات الحية، ليجد مخلوقات كثيرة مماثلة كعجول البحر مثلا.
ووجد بينت أن أعداد البتيرونودن ( 14% من العينة) كانت كلها بنفس الحجم الناضج. فإذا كانت تذهب لتصطاد وتطعم نفسها وتنمو ببطء، لكان من المتوقع أن تجد في منتصف الطريق للبحر بقايا لصغارها، الأمر الذي لم يحدث، مما يعني دليلا على نموها السريع. وربما تبدأ دورة حياتها بجناح طوله بضع بوصات على الأكثر، بما أن تلك الأجنحة كانت مطوية داخل البيض الذي كان بدوره عند الأم. والشيء المدهش هو كيف ينمو بسرعة لهذا الحجم، ويطعم نفسه في الوقت ذاته ؟ الواضح أنها تبقى في أعشاش بعد الفقس، في حين تطير الأمهات لاحضار الطعام من المحيط تماما كما يفعل الباتروس حاليا. وتبقى الطيور في أعشاشها حتى يصير حجمها ناضجا، لتبدأ رحلة الطعام بنفسها بعد عام واحد من اكتمال حجمها كما تشي بذلك بنية عظامها.
ومنذ 88 مليون سنة مضت، بدأت أعداد الطيراصورات تتضاءل بشكل ثابت الى أن حدث منذ 65 مليون سنة أن اختفت تماما، مع أبناء عمومتها الديناصورات. وفي حين أقنع العلماء أنفسهم بفكرة ذلك المذهب أو التصادم الذي دمر الديناصورات، فإنهم لم يستطيعوا تطبيق الفكرة ذاتها على الطيراصورات التي بدأت في الانقراض فعليا قبلها بـ 23 مليون سنة. والتفسير الوحيد هو أن تلك الطيراصورات قد استبدلت – تدريجيا و ببطء – بالطيور التي نعرفها الآن. فقد كانت الطيراصورات هي الكائنات الوحيدة التي تسكن السماء حتى 145 مليون سنة مضت. وكانت أول أنواع الطيور – ربما – قد استفاد من البيئة التي تركتها الطيراصورات خالية. كان اسمه هسبيرورنيس، وكان غطاس محيط، الوظيفة التي لم تكن الطيراصورات ملائمة لها. واستطاعت الطيور البقاء بفضل أجنحة الريش التي كانت أكثر ملاءمة من الأغشية النسيجية. ومنذ 100 مليون سنة بدأت أعداد الطيور تتكاثر بشكل يفوق – كما وكيفا – كافة أنواع الحيوانات الهوائية !
ومثلما كانت بالسبعينات نهضة في دراسة الديناصورات جاءت التسعينات لتبدأ دراسة أخرى، للطيراصورات، بدأت معها حقبة جديدة من فهم ذلك العالم المثير.
أقرب الى الطائر.. أم الى الخفاش ؟
يقول بعض العلماء أن البتيروصوص كانت لها أجنحة رشيقة، تضم تحتها ساقيها أثناء الطيران، كما تفعل الطيور. في حين قول أخرون أن أجنحتها كالخفاش كانت ترتبط بسيقانها، لذا كانت تبقى منفرجة للجانبين للتحكم في درجة شد الأجنحة..!
رسم يجمع 29 نوعا من أصل 121 من الطيراصورات التي تم اكتشافها حتى الآن، تعرف الأنواع الأولى منها باسم رامفورينكويدس، وهي الأصغر حجما والأطول ذيلا، وقد انضم اليها منذ نحو 180 مليون سنة مجموع البتيروداكتيلويدس، وسرعان ما حلت مكانها، بعد أن صارت أضخم حجما، وقد اختفت ذيولها، واتخذت جماجمها أشكالا مختلفة، حتى وصل أكبرها الى حجم طائرة صغيرة، مما جعلها الأضخم على الاطلاق بين الحيوانات التي طارت.
الهوامش
* مترجم بتصرف عن دراسة نشرت للكاتب كاول زيمر، والرسوم للفنان ستيفن كيرك، في مجلة Dicover فبراير 1994.
أعداد: اشرف أبو اليزيد (كاتب من مصر)