ليس علي أن أعيد شوقي الى الكتابة عن كتابة، يزداد شوقي اليها، يوما إثر يوم، وعاما بعد عام، وكأنها تقذفني في متاهات الزمان، وصلابات الموجود وفي الفراغ والملاء، لكنها لا تفقدني. ولا تفقدني رشدي. فمازلت ميالا الى الاعتكاس فيها. والتمرئي بفصولها المستديمة خارج مرأيا العالم، والمستغرقة دون ندم أو حسرات في مرأيا الذات التي تستقبل العالم، وتعيد ترجيعه كما لم يكن. وكما لن يكون أبدا. كتابة تغتذي من طاقتها على الا ختراق والتجاوز، وعلى تخطي الممنوع قبل المسموح، وتستشرف العدم وهي متوجة على قمة الوجود، تقول الرعب والموت، وهي تعتنق وتغتبق الحياة من قبل ومن بعد.
واذا لم أخطي، التعبير، وأظنني ابتدأته بالآخطاء، هي كتابة خارج الأنساق. وداخل الصيرورة. خارج الصير، وتنبجس من رحم الخصوبة إنها ليست من الشعر. ولا من النثر، في التقويم المألوف. إنها غيره وغيره.مشبوقة بهما معا، مرشوة وراشية الكلمات. وكأنما على غير موعد، أو في صدق ووفاء أكيد ين. للوصول الى اللامكان. والعبور الى اللازمان. ومن اللحظة الى الأزال والآباد. ومن الأشفاق والأغساق، الى ظهيرات حارقات لا هبات، في ساعة مبكرة ليست من الليل،وليست من النهار. إنها ساعة الفجاءة والدهشة والغياب. إنها ساعة رملية للحضور من ظلمة ونور وديجور. وشموس وأقمار.
وما يستحوذني في هذه الكتابة. أنه ليست شبيهي، ولم تكن نقيضي، وليست شريكي ولا سمي، ولا مثيلي. وما فيها من عنف وعدوانية، من قلق، وشك، من غضب راعف، وقسوة راعشة واجفة، وما بها من شهوات مجمحمات ضاريات، ومن رغبات محتدمات داويات، وما بها عبن حب وحرية، ومن حزن وألم،ومجاهدة ومكابدة، ومقابسة وشرار،كل ذلك يتحول بين أصابع كاتبها الى برد وسلام على الموتى والأحياء معا، إنها ليست كتابة الافضاء والافشاء، والافتضاح والانصلاح، وليست كتابة العزاء، انها نفي الكتابة بكتابة الانجراح، وتوليد الاعتراك والهتك، والانتهاك. والذهاب بالذات الى مردودات سخية سخيفة، والعودة بها الى ترجيع غير قابل للاسترجاع والارجاع، ثم إيقافها في اللجلجة والشجي. والتهدج، وزلزلة أركانها في المعمورات والأكوان. وبركتنها، واهراقها واسرافها، عبر اختلاج الكلمات النيئات والتعابير الطازجات المسرعات، وعبر الاشعاع الجواني الذي يتخلل النسيج الحي للروح، وهي تتكاءب. وتتفارح وتتاسي وتتطارح. أو وهي التي ليست في الاغتراب والنفي، قدر ما هي في معانقة الوجود الشاعر، والذوبان في موسيقى الأفلاك، والتلاشي في فضاءات الرغائب التي تجيش. وتجيش الأحلام والكوابيس والجسد، لاقتبال خلخلة العناصر، والارتياب بالتأسيس والبنى. والتماس الكهربي الممغنط بين الماء والنار.
وليس عودا على بدء الكتابة عن الشاعر أنسي الحاج، فهو لا يجيئنا، إنه سرابي فراري.
متبارق مترا عد، متقاطر. ونحن نذهب اليه، ولا نصل. وهو لا يبتغي مواصلتنا، إنه يرشد قطيعتنا وانقطاعنا، وهجراننا للتابوات والطوطمات. وكل ما يحتبس الجسد ومعه الروح عن التوق الى التحرر والانعتاق. وعن التحقق، والارتقاب والتماتع، ولذة الانسحار بالوجود الأول، بالطفولة خارج البراءة وداخلها بالحب ونقيضه. بالحرية وصراعاتها، باليقظات والمنامات، وكل ما يتراءى أنه من شؤون الذات وشجونها ومن حيثيات العالم. من متونه وهوامشه، من الوعي واللاوعي. من المغيب والمحجوب، من المتروك والمهمل والمنسي. والخروج من القواعد على أية قواعد، ومن الى الهندسات اللامرئية، الى لاهندسات والى لا مرئيات. إن الاحتفاء بالحب. هو الجدة والتجديد، وعودة الروح من عدم وجودها الى وجودها العدمي.
ولا يتركنا الشاعر في حيرة اشتهائه لأي شيء، ولكل شيء، سوى أنه يصيب منا مقتل ردم فراغ اشتهاءاتنا. باشتهاءات أكثر فراغا ومرارة، وهو ينقض الرمل في صحاري حيواتنا، حين يطمرها بمياه الكتابة الحاشدة بالخصوبة والارتواء دون ارتواء، وبالطمي والغرين، ويستظهر ما نفساه، كي يخطي، صواباتنا. ولا يصوب أخطاءنا، بل يمنحنا الزلفى والطوبى، ويمتدح وهو يمتحن ما تنافر منها، وأودى بنا الى خواء وهواء ملغوم.
أكثر مما نتظارف ونتصارف، يستطرفنا، وصرفنا حتى لو كنا اعلاما ممنوعين من الصرف، إنه يذهب في استعرائنا الى حدود كسوتنا بلهيب الكلمات، ولفحها الدفيء،وهو لا يتقولنا ثلوج الحب، إنه يهمزها بالنار كي تشتعل، حتى لو أتت على كل شيء، فما همه، حسبه أن تداخل وتخارج فينا، حين اكابة التي يسوقها أو تسوقه، يكتبها أو تكتبه، تجيء على هيئته طقوسية، ممتدحة، ممنوحة للنعمة مطوبة، في أجواز السماوات، وفي حيز الملائكة والشياطين، ولا تعقل فيها، كمن يمسه طائف، أو يتخبطه الشيطان. أو تنخطفه الملائكة من مكان سحيق، كمن يتذاهب في الجنون، يرصعه، ولا يذهب فيه، يتاخمه، ويمارس التماس معه، ولا ينكأ الجراح لأنها منجرحة أصلا. ومنكوءة بسكاكين السوء وأنوار الكلمات.
وحين لا تبحث عن الحقيقة في أروقة ودهاليز هذه الكتابة، في غاباتها وبحارها، وسراديبها وآبارها، فإن الحقيقة تطل عليك بأشواكها الشعرية الحريرية الناعمة، وهي تمسح وجهك كأنما بمناولاتها المباركة، أو كأنها تعمدك بماء مسراتها وأسرارها، وأنت لا تملك حيال ذلك سوى الرضا والقبول، لأنها لا تماري ولا توارب ما هي تنشده من أنسنة الانسان، حتى لو كان الواقع غير ذلك فإن الخير والشر صفوان متشابهان وغير متشابهين لديه. كما الصدق والكذب. كما الحب والكراهية، كما وكما. إن الأضداد التي لا تتصالح تحترب بشرف في نصوصه، وهو الى شكه الايماني، يتوق الى ايمان جديد، لكنه يمد ويجزر في تفاويه وتعاليه. ويهذي حد الاعجاز في تبين المرامي الصعبة الكؤود التي يرواها ويرتادها. ويوغل في ظلماتها، ويشع في أنوارها إنه يتقد ويتقد، محموما محتبلا برجع شاف من كل الأدواء، ويمتلك شجاعة من يقوى على إزهاق روحه، وتحميلها فوق طاقتها من رفض ومداهمة واجتياح، للمناطق الأكثر حرمة في آفاق النفس والخروج بالدور واللآلي ء منها، والتجوهر والالتماع والشفافية، أقوى مما كان، ويمسنا نحن فنتحول معه، نتصافى ونتعاكر، وننحر، وننجرف، أو نتوانى ونقدم، لكننا في كل الأحوال نتعالق ونتدافق، في معمعة اعتراكه الاخلاقي، واستعرائه لما لم ينكشف من قبل، وهو لا يكتشف سوى المغيب المردوم بتعريضه لمناراته التي تفيض ضياء، نرى من خلاله كم نحن ملوثون فاسدون، مليئون بالشوائب، عديمو الأهلية للحياة كما يجب. وكما يمكن أن تكون.
والشاعر صفو الحياة، محرض عليها الى درجة الصحو والمحو والفناء، عرفاني في تجاذباتها وتنابذاتها العارمة بين الكينونة والوجود، محرض الى درجة القتل، والى درجة الموت بعد الموت،ثم الصعود في القيامة، انه سيزيف مع الصخرة أو بدونها. وبروميثيوس مع النار أو بدونها، لكن شعلة الحياة ضلاله، وليست هدايته، اعوجاجه وليست استقامته فهو لا يسلم بشيء، إنه يقلب الحياة على وجهها، ويخرج كل سياق وبداهة عن استوائه، وهو في خط الاستواء كمن لا يستوي، إنه في إسراء ومعراج الكتابة، يرادف بعضا، ويراجف بعضا، ولا يكن، ولا يستكين. يحتلب الخلق والابداع حتى نهاية النهايات. وهو يظل في بداية البدايات، يبتكر طرقا لا تفضي الى طرق. وسماوات لا حصر لهبوبها، وأرضين لا مثيل لوجودها وولوعها، وهو يسفر فيما يقول، عن غموض لاهف خلاب، ويشف عن مراض وتواريخ، وأسئلة واحتمالات أجوبة في أسئلة جديدة ولا يتعارف إلا ما لا يعرف، وكأنه يعرف أنه لا يعرف، فيبحث وينقب وينجم في تربة الجسد والروح، وفي عسف الوجود. عما يجعل الجدوى مجدية، والعبث عابثا بما لا يقاسي. والتهكم الأسود والأبيض من السذاجة والتفاهة، وعقم المجتمع واستحالة التغيير السريع. وكأنه يحتكم الى زمن مراوغ في التزامن مع ايقاعاتها التعبيرية. وبين الشعر والحكمة واللمع وجسدانية النصوص. يلعب اللعب اللغوي المتما جن المغتلم، ويشحذ شواظ أنفاسه لتدارك الكلمات واستدراكها قبل أن تنوجد وتتلاشى أو تضيع، يشترط فيها دوالها ووجوده ووجودها في تواقت مرموق.
ونحن لم نعد نقرأ أنسي الحاج فقط، بل نصبو الى كلماته، ونتوق الى صباباته ولا ندري كيف نتلاقح مع كتاباته، وهي ليست لنا، ولا شبيهتنا ولا فقيضتنا. إنها مكنونة بظلمة أنوارها. واشعاعات ذاتيتها. وهي منغرسة الجذور في تربة الفضاء. وأجواز السماء، لا تكف عن التحليق والتحويم. ولا تقع على مبتغاها إلا في الانسان الذي يجافيها، لأنها تقشر جلد روحه، وتتفارق فيها. وتنقذف في فضاءات صدره وتدوي، وتنبثق من حنجرته، فيبتغيها دما، لا يقوى على ابتلاعه ولا عل لفظه، ويقع الاشكال بين الشراقة والفصة، وانقطاع الأنفاس والحيض من الأنوف. ويحدث تلافي ذلك الابتعاد عنه، لأن الشاعر الذي يستفز الدم. يحرض على حياة الرغبات الطليقات في حرية عارمة، أو يحرض على خيار الموت، وكلاهما مستحيل الكائن سوى أنه يستطيع الحلم بالأولية. ويرو بص في الخيار الثاني،1 وتلك معادلة لا يقوى عليها إلا من يحاول التاله. حتى في أغرار معاناته وآلامه.
سأل الروائي الحكيم مكسيم غوركي. الكاتب الوجودي الروسي برديائيف. لماذا يظل حزينا؟ وكان يلقاه في نزهاته على نهر النيفا، فآثر برديائيف أن يجيبه بأنه يتألم لكونه إنسانا. ويريد أن يكون إلها، حينها كف عن ساءلته، والشاعر أنسي الحاج كأنه في الورطة عينها، فهو يقلب كل شيء، أمامه على عقب، فهو مع الانغماس في الشك، ومع الخطيئة، وهو يؤمن على طريقته، ودون أمل بالخلاص. وهو يمارس الرحيل. ومواجهته بفقدان العدالة وبالجبرية الانسانية، ومطلق الموت، وفقدان الحرية. وتحول الحب عن طاقته الخلاقة الى علاقات السوق والاستهلاك، ولا يقتصر على ذلك بل كانه يريد أن يكون إشراقيا، ويتجلى من خلال الخليقة، ويسترجع تراث الأديان ولا يتوافق الا بتخليق حكمتها وأخلاقها من جديد، إن عين النسر التي ينظر بها الى ذاته والكائن والكون، هي التي تمنحه هذه البانورامية التي يتوسدها ويتجاسد معها ويتصل بالأرواح الضالة كي يمتحن صلابة روحه وجسده للمثول في حومة الحب. والتدافع في كرياته الحمراء والبيضاء الى الأقاصي واختبارات الجنوح والجنون.
ولا يستطيع محمول هذه الكتابة مهما بلغ من الضراوة والتوتر، أن يسوق التعبير الذي يرغبه الشاعر الى حتفه، ولو كانت الايحاءات والدلالات نافرة شاسعة الأعداء والضياءات، فمانزال نستشعر عطور صمت قوية تفوح من أغرار سحيقة، ولا تملك الدفع للحاق بركب الكلمات، فتتحول الى لا مرئيها. والى لاصوتها، والى بياضها الخفي، وهنا يتخارج الشاعر على نفسه فيكسر التعبير، في المسافات يتناصفه ويترابعه، ويتثالثه. كذلك، يشتقه من الجامد والمشتق معا ثم يكسر المعاني، ويستولدها ما يرغب استيلادها و ما لا ترغبه، إنه في فتنة التفكيك. والنهب والاستلاب، وكأنه عداء مسافات طويلة. يسابق ظلاله. التي تلتحفه. أو كأنه وحده ضد روما، وهو الشعور الطاغي الغلاب، الذي يستبد فيه، حين يباده الكتابة، ويدفع رعبها الى خارج حلباته المليئة بالضحايا والشهداء الذين ربما ذهبت تضحياتهم سدي. ودماؤهم هباء منثورا.
وهكذا كنت أتقدم في قراءة نصوص "خواتم 2" وكأنني أتقدم في حقل الغام الكلمات، وهي تنفجر بي، ولا توديني الى التهلكة، كما كنت في طقوس الصلب عبرها مكلا بتاج من الشوك، مجروح الجسد، يقترعون على ثوبي، ومع ذلك لم أتقاصر، ولم أتوقف، بل تابعت التناول وتسلم الأسرار، والبدء دون بداية، والانتهاء دون نهاية، وكأني كنت أمارس الدوران حول نفسي، أو أمارس الرقص حول النأر التي يشعلها الشاعر في أحطاب العالم الرطبة وفي مفاصله الرخوة، وأخلاقياته وقيمه الزائفة.
وأنا مثله مثلي، وهو لا مثيل له، كنت أتحرك فيه على إيقاع قلبه الذي يبدده في مرمى الكلمات،وهو يصوب فيها على المعاني فيدركها وتدركه، ويحتكان معا في شرارات نارية تشعل حقول الجسد والروح،وكأنه في موج متلاطم كالجبال لا تعتريه صرخة إلا ويعقبها بنامة، ولا يأخذ بناصية تعبير، دون أن يصوب خطاه الى الجحيم، ويقول الجحيم ويقصد جنة من نار. من حب وعشق ووجد وجوى وتدله واصطلاء واصطلام وأوار، يتواجه فيها مع اعتراكات العقل والعاطفة، ويتهاذى بالمحب، وكأنه تعويذته الدائمة الحامية، وبالحرية أيقونته التي تفتن سيرورة التاريخ.والعالم وينحاز للضعفاء والمساكين.ويتقاوى فيهم فلا. يضعف ولا يتمسكن، ويتمكن من منعرجات نصوصه، ومن جيولوجيا أعماقها، وربما انسحب فيها الى جواءات عارية، يمتدح فيها المروق والزندقة، كما يمتدح نقيضها إنسانية الانسان والوهيته، والايمان، وكأنه يتداخل في فلسفة الزن.
والطقوسية التي يغدقها في نصوصه، طقوسية إنسانية، حاشدة بأعراس الحب والحرية، حيث يحتفي أكثر فا يحتفى بممالك الحلم والرغبة، وهو يهدر كل كابوسية ورعب، بتفكيك أو آلياتهما، ولا يتوانى أحيانا عن تقريع الذات لعجزها عن المثول والتواجد، خارج فساد العالم، وخارج تفسخه، وكجيفة، لكنه التقريع الذي يفضي الى الانابة، وتصعيد التوتر والنبرات واقتطاف ثمار الحكمة، والعودة من موات ميت الى موات حي، أي الارتقاء والصعود في سلالم الضوء، ولو كان الضوء شحيحا ديجوريا متناثرا دون جدوى إن التعبير اللغوي الجمالي الذي يطرد في نكش و"ركش " وبعثرة أي موضوع يقاربه ويقابسه، يتخارج عن تقاليد النثر، الى تقاليد الشعر، ويتواءم مع الحرارة والدف ء الذي يعتريه،ومع سبل المكابدات والمجاهدات التي تلجئه الى حراثة الروح وزراعتها. واستنباتها وتحسين نسلها، وتخصيب حصادها، وكأن قمح كلماته يبقى طازجا مهما مر الزمن عليه، وكأن لا وجود لحصى وزؤان فيه، وكأن التصافي والتصابي، والاشتهاء، لا يكون الا في غيب ولا يترأرأ إلا في متاهات العدم. لأن إفراغ الرغبة، ازدياد كبت وخواء وامتلاءها، احتقان كبت وفراغ، وما بينهما الحيرة العظيمة والشك القاتل، في الذاكرة والنسيان. وفي الوجود والعدم، وفي الجسد والروح، وفي الحياة، وحليفها الأقوى الموت، لأننا نعيش ميتاتنا، شئنا أم أبينا.
والاحتفاء بالحياة عبر متاهات هذه النصوص، وعبر تعاريجها وتحاربيها، وطبقاتها المتراكمة المتراكبة. ليس ابتذالا للموت، ولا تغافلا عنه، بل احتفاء بضفة أخرى لا مرئية للحياة، ربما تبدأ الحياة بها من جديد، وكأن لا اقتناع بالحياة ولا اقتناع بالموت، وحق الرفض وحرية الرفض. وملكوت اختبار الكائن في لذع الجنة. وحراقة الجحيم، واحتمال المطهر كحال سديمية متحولة، كل ذلك من أسباب اللهفة والتماجن والانخلاع الولادي في النصوص، وكل ذلك من عدم يقين استتباب أمن الكلمات على مسافات الجسد، وتدويناته الكتلية الرغبوية الدائرية، بل كأن ذلك الامتحان العسير، نذير بتناول الكأس، لا بانصرافه عنها، ونذير بلماذا شبقتيني، لا غير سوى حائط مسدود هذا الهواء، وكأن ضاق عن وجده بالكلمات رحب الفضاء، وما عادت منازلها سوى في القلب ينبضها، ويخفقها، ويؤرجحها، ويسفح دمها في تلافيف التعبير، وفي صلصلته، ودويه وانقطاع أنفاسه، وحمحمته الدائمة.
مسكون أنسي، بأنسي آخر، ومتشاكل ملتبس بجني الالهام، وكأن شياطينه يوحي بعضها الى بعض زخرف القول،وهو الذي يكره الزخارف عازفا عنها في شعره ونثره. لا يتوانى عن انتقائيتها، وعن التعامل مع انتقائها وسلبها، أكثر من سياقها الايجابي، وكأنه يحطم قيودا لا مرئية وقيما.وضياءات زائف ت وكأنه يتغالب مع ضبع الأرق. كي يحك البياض في كلماته ويحبر فيها ويغتبط ويراودها في ديمومتها، كي تزداد نصاعة وألقا، وكي يتأود عدم رضاه بدل التسارع وهو في ذلك حارس بوابات التعبير، لا يستضيف في ملكوته الجمالي سوى من يحوز المرتبة الأولى في الايحاء والدلالة والالماح الى المعشى الذي.يريد. والفكرة التي يتطارح، والرؤيا التي يرغب والمشعور الذي يتذابح، والشيء ونقيضه بحسبان ودون حسبان، حسب جرأن الوعي واللاوعي، ومهاد الحلم المغتلم، والكابوس الرجيم.
ولاشك أن الشاعر يمس الكتابة بدنس خفيف أو كثيف، حسب طاقة الروح على الاحتمال، بل إنه يسممها، ويغويها.بتفاحة الذي يحلو ويتكامل في الخطايا، ويواسيها على ما حل بها من تطريب وتغريب، إنه يقرع أجراسها دفعة واحدة، ويرى من خلال وفودها، غيمومتها وانطماسها فيعمد الى محو ما لا يمحى، والى تثبيت ما لا يثبت بل إنه يتناقل ويتوارد، ريتشارد فيها، وكأنه داشر في مضامير جياد هابة مندلعة، لهبية الأعراف، متصاهلة، لا يحفل بأشواطها ومضاميرها، قدر ما يحفل بحمحمتها ولهاثها، وشجوها وعرقها الذي يتشاوف في جسدانية نصوصه، وفي آبارها السماوية العارية بالأصداء وصريف البكرات والأسنان.
وهي كتابة لإعراب ما لا محل له من الإعراب، واقامة التبادلية لا التعادلية مع ما كان معربا من قبل -وتسفيه القواعد الملزمة بعكسها ، والقيم المعتكفة على وثنيتها وصنميتها وتجديد البيعة للمتحرك والساكن ، وتأسيس التأسيس وتهميش التهميش ، والتخول والتفور في عراءات الحياة ، وبذاءاتها المتفاوية ، والتماس فتنتها وعذ وبتها، قبل حلول اللذائذ والألأم ، والا كيف نثمل في هذا الأهرام الكتابي الذي لا يقودنا الى حتفنا كما يجب ، بل يقودنا الى شفا جرف هار، ويتركنا يتامى عالم كان قد غادرنا. قبيل أن يستوطننا ونستوطنه ، وترك لنا شهواته دماريات لأنوثات مغمدات في الذهب الخرافي العتيق ، وف الفضة الأسيانة الذابلة الكسول .
إلا أننا ونحن نخوض عبر هذه الأجرام ، والأ راضين المحروقات ، وفي هذا العماء المريب ، لا نشهد وجعنا، ولا نستشهد فيه ، بل يشهدنا، ويضاهي صنمنا الضرير.
وأنسي الحاج في نصوصه ، ليس نبيا ، ولا عرافا ولا كاهنا، وهو لا يكرز بالغيب ، ليس رائيا، إنه يقرع أجراس اللحظات القادمة كي يطيل رنينها، ويقدمها في ديمومة مشحونة بروح خلاقة على الاستمرار ، وخلق الجواءات التي تعطر الحب بعطور الموت السرية الفاغمة الرذاذية العتيدة التي تسري عبر أجسادنا بخفاء وغموض ونستشعر دبيبها ، لكننا لا نستطيع تحديدها ، والقبض عليه ، ولا فك ألغازه وطلاسمه ، ولا قراءة تعاويذه ورقاه ، وكأن كهوفنا الداخلية البدائية تترع وتفيض مما فيها عبر الابحار في محيطات نصوصه المصطخبة ، المصطخبة ، الضاجة التي تحوم في فضاءاتها، أسراب نوارس بيضاء تحلق وتحوم تنفض ، تطو وتغيب .
إنها الكلمات نوارس تنخطف أسماك المعاني من تحت صفحة الماء، وتطو مرئية ثم غير مرئية . مخلفة آثار.أشكالها وحركاتها وأصواتها المتشابكة ، راسمة لوحة مشهدية مليئة بالتخطيطات المتشابكة المتعضية ، لكن المعلنة التي تتخافق فيها الايقاعات الصوتية. وتتزاخر رسوم الكلمات علاماتها ومرموزاتها ، ملاءاتها وفراغاتها، أضواؤها وأنوارها، وكل عتمة تكتنف البزوغ الديجوري، وتحاول محاصرته واختناقه ن وأده حيا ، لكن الحركة . والتزو بع أقوى بما لا يقاس ، من تراجف فلول الظلام ، وكأن الشاعر يرمي بسهمه مغمض العينين ، مشحوذ البصيرة ، فيصيب تهديفه ، ولا يكسر القوس ، ولا يندم على ذلك . لكنه الرامي المحمول عل غريزة ملكية ، في الحكم على ما يقول ، وليس الرامي الأعمى كما يقول الشاعر صلاح ستيتيه .
ونحن لا ننتظر شفاعة هذه النصوص ، طالما هي في مهب النكران والتمرد على الوجود بما هو موجود إنها تسعي من محطاتها الفضائية الى توسيعه والعربدة في رحاب الكون ، وبما أن الكائن كون صفير ، فهي تنطلق منه كنواة ، وتتسع ، مداراتها، فتشع دوائر. وتطلق تموجات وتلتبس بهوائيات غفيرة ولا تقف عند حد سوى أنها دائما تلتقي حطامها ونفيها ، ورمادها، وتنبعث من جديد. بطاقات أقوى مما كانت عليها سابقا، ويمكن القول وهذا احتمال أقوى مما ستكون لاحقا. لأننا نجهل المعلوم فيها ، ونعرف المجهول، وندرك سلطتها وسطوتها التي تتداركنا في اليقظات والمنامات ، في التذكر والنسيان . وفي الأفراح والأحزان . وكيفما كنا، أحياء قليلا أو كثيرا، وموتى فقط وغير ذلك . هي ذلك الدابق الذي لا يتخل عنا، حتى لو حاولنا التخلي عنه ، وكأنه يشملنا برعايته دائما ويهملنا أحيانا ودائما أيضا.
وليس سوى ذلك الحب الذي لا تقوم له قائمة سوى قيامته ، ولا تنام فيه نائمة سوى في سنامته ، حتى أن التفارق والتواحد لا وزن لهما سوى في كفة الكتابة الأنثى، وفي تأجيج الذكورة عبر الأحقاب والعصور. والشاعر عاشق بمجاميع عشاق والمرأة عاشقة بتفرد واستثناء وهي ليست جمعا ولا مفردا إنها المثنى البدائي البدئي في الحياة واللغة ، وهي أرضية الاشتقاق المشتركة عبر الأحياء وحين ارتجلت العشق ، حولت الرجال الى رجالات ،وجعلتهم مؤنثا سالما منصوبين أو منتصبين ، في انكسارهم بالكسرة عوضا عن الفتحة ، لأنهم استحالوا كذلك . ومن يستطيع استيهام العشق ، وجعله أيقونة الكتابة والحرية ، وتحويله الى سوناتات ، وموسيقى غرفة ، وسرير شرقي رافل بالسحر. وسيمفونيات عظمة إنسانية ، كما فعل الشاعر أنسي الحاج في شعره ونثره ، وخواتمه الثانية على غير استواء.
"كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاغربي.. ويا نفس زيدي في حرائقها قدما" .. ومع تحوير بيت الشعر للمتنبي. يكون الشاعر في المقام الصعب من مردودات عرام الكتابة ، في القرار والجواب ، والعرب الموسيقية التي توازن وتوازي الجمل الكتابة ، وحالما وحالكا. وسائرا على الماء، وناقلا الجبال ، وجاعلها تسير سير الغمام في أوردة وشرايين نصوصه ، وكيف يذهب جهاز تخطيط القلب الى عدم استيعائها واستيعابها ، هي التي تمور هوران الأرض والجسد والبحر، والسماء ، وهي آلتي تنفرد بنفسها تتزيا وتتماهى عبر مرأياها المتداخلة في مرأيا. ونظامها الشفف ، والرواء، والارتواء الظاميء مما لا يرتوي منه رغم مناهلها العذبة ، وشفاهها العندمية الأرجوانية ،
وثناياها اللؤلؤية . واقتصادها في المقاربات الواقعية ، وتقولها في المقابسات الحلمية .
وشيئا فشيئا ينهمر الليل ،ليل الكتابة الفضي كمهوار من أتربة وحصى وصخور وأعشاب وأشجار ، وأجساد تتناوم حبا، وتفيض وجدا وجوى، وهي تتلاغى ببوحها واعترافها وصلواتها العاشقة ، بينما تتداخل الكلمات في غسق الألهة كي تتعالى عن الهجنة والادعاءات . وكي تحصب الوجود الخلي ، بأرومات وسلالات عرضة للانقراض والخروج من تاريخ العالم ، ومن أساطيره الخانيات الرؤومات ، وما على الشاعر ذ، رغائبه المرمرية ، وأحلامه الرخامية ، سوى إسناد هذا الوجود الذي يتهافت ويتداعى بالكثير من فيض الشعور، ومن ألوى الخلاق للكينونة واللغة على حد سواء.
* "خواتم 2" نصوص 1997.
* الشاعر أنسى الحاج .
* دار للطباعة والنشر.
* 213صفحأ قطع وسط وغلاف ملون.
زهير غانم (كاتب من سوريا)