يزخر الادب العربي على امتداد فتراته بجمهرة من الشعراء حتى قيل … "الشعر ديوان العرب " والشعر العربي فيه الرائع المانع ، الفائض بالعطاء والسخاء، وتعد الاخيلة اساس الشعر، الخيال الخصب لايجتمع إلا مع الصفوة من الشعراء الموهوبين ذوى الملكات الشعرية الملهمة ، والبصائر النافذة الرؤى الشفافة ، وهذا ما ينطبق على الشاعر القطري " ماجد بن صالح الخليفي" الذي غنى سنوات عمره بأهله وامته واحزانه وشجاعته ومغامراته ومن يتابعه يرى جمال شعره وجودة احيلته ، وروعة صوره الشعرية .. وفى هذه السطور سنتعرف على شاعر الفروسية والمغامرة الذي ولد فى مدينة "الدوحة عام 1873 وتوفى فيها عام 1907 فى ريعان الشباب .
* ثقافته وصفاته
ثقافة الخليفي كانت ثقافة تقليدية لاتخرج عما كان سائدا فى تلك الفترة وهى التعليم الديني الذي يقوم به "المطوع "اذ كان الطلاب يحفظون القرآن وتلا وته ، ويتعلمون مبادىء القراءة والكتابة التي قلما يتعلمها البعض ، وقد تلقى تعليمه على هذا النمط ، فدرس العلوم الدينية والعربية ، واطلع على دواوين الشعراء الجاهليين والاسلاميين ، وحفظ منها الكثير، اضافة الى مدكان يأخذه عن الادباء الشعراء الذين التقى بهم خلال رحلاته التي كان يطوف بها فى الجزيرة العربية ، ولعل خطه الجميل قد جعله يحب الشعر ويتفنن به ، كما أن صفاته قد اعطته بعدا آخر فى حياته الشعرية ، اذ كان رجلا طويل القامة يميل الى البياض ، هادىء الطبع ، فارسا يعشق الخيل ويحب الفروسية ، وكثيرا ما يردد ذلك فى شعره :
ولى همة لم ترض بالدون منصبا
وعندي لدى الاهوال عزم غضنفرا
اذا الخطب قالوا من له خلت انني
دعيت له وحدي فقمت مبادرا
وقد اشتهر الخليفي بالتدين وحسن الخلق ، وكان يقول الشعر عن سليقة حتى ساد شعره على ألسنة الناس فى قطر والبحرين ، وعمل فى مهنة صيد اللؤلؤ والتجارة ، ولازم مهنة الفرص حتى كانت نهاية حياته ، ففي أحدى رحلات الفرص كان قد نقل امتعته فى سفينة الى أخرى وعندما وصل مع زملائه أحدى مناصات اللؤلؤ وتدعى "ام الكثب "جنوبي جزيرة "جالون " نزل الغواصون الى قاع البحر لجمع الصدف وكان من ضمنهم وعند خروجهم سألهم الشاعر ماجد هل أعانى احد من قاع البحر؟ فقالوا له : لا، وعاود الغطس مرة اخري، ولكنه لم يخرج … ونظم وهو على ظهر السفينة فى رحلته الاخيرة هذه قصيدة رومانسية تخيم عليها الكآبة والحزن ، وكأنه كان ينعى نفسه فى نهايته الاليمة :
يامن رماني أو صاب احشاي نشابه
يذكر حبيب سعى بالشين لاحبابه
سليت لي من جفونك مرهف صارم
لا واعذابي عن الصارم وجذابه
ظنية بك يا عديل الروح ظن ولا
حققت ظني سوى بالهجر واكذابه
ونيت من هجركم ونت غريق هوى
فى غية لايري برا ولا اخشابه
وهكذا بدأ ميت الشاعر الخليفي فى الذيوع … وهكذا انتهت حياته بعد هذه الرحلة المؤلمة ، فاذا الموت لايرحم ، واذا بجسده هب طعاما لاسماك القرش ، ويبقى شعره الجميل المؤثر خالدا بيننا وحتى لانترك مواقفه الشجاعة لابد لنا من ان نقف عند موقف من مواقفه الشجاعة التي تدل على اقدامه رسيته ، فقد نزل مع مجموعة من اصدقائه على بئر ماء فى يقال "نهى"وعندما وقفوا على حافة البئر سمعوا انينا فظنوه انسانا سقط بالبئر فسارع ماجد بالنزول الى البئر لاغاثة الرجل المستغيث ، وما كاد يصل القاع حتى وثب عليه ذنب يحاول الخروج ، وبكل شجاعة ورباطة جأش ، بقى ماجد موضعه ، ونادى اصحابه لينزلوا له حبلا، فلما انزلوه له ، اوثق به عنق الذئب وظل يصارعه الى أن خرج به حيا واعطاه لاصحابه .
* شعره .
احتوى ديوان الخليفي على سبع وستين قصيدة ومقطوعة شعرية توزعت بين الفصيحة والنبطية ، وجاءت فى ديوانه الذي شته دار الكتب القطرية عام 1963، وتنوعت موضوعاته بين الغزل والمدح والفخر والرثاء والالغار والذكريات .
وعد شعره سجلا حافلا لذكريات القطريين ، وصورة حية نابضة لهمومهم ورسم حياتهم فى فترة كان فيها الناس نلون بين حياة الصحراء بكل ما فيها من اهوال ومصاعب ومشقة ، او يكسبون رزقهم عن طريق التجارة وصيد اللؤلؤ، هنا جاء شعر ماجد مرآة لحياة الناس الاجتماعية ، فلم يترك لونا من ألوان الشعر بدون ان ينشد فيه ، وكان لغزله العفيف صوره الجميلة ، وابتكاراته المعبرة ، ولمغامراته واشعاره وصورة الفارس الشجاع :
وغانية لما رأتني معولا
على جوبي الاسفار دمعتها تجرى
تقول حبيبي، ما الذي قد نويته
بحقك خبرني فأنى لا أدري؟
لنن كان حقا ما نويت على النوى
فقد رعت لي قلبا، وقد عزني صبري
فقلت لها: عني اليك فإنما
مقام الفتى فى الحي عجز بلا عذر
ومن هنا ندرك ان ماجدا يبدو تقليديا فى بعض قصائد صيحة والعامية ، وهو من حيث النهج العام للقصيدة غالبا يداها بالغزل او بكاء الاطلال ، ولذلك فالموضوعات متعددة لقصيدة الواحدة ، ويستمد معانيه وصوره الفنية من هراء الذين سبقوه ، ويبرز هذا بوضوح فى شعره الغزلي ، فمعظم الصور والاوصاف التي يخلعها على محبوباته اللائي يتغزل بهن اوصاف وصور مستمدة فى بعضها من سابقيه وفى بعضها الآخر من مشاهداته وحياته ، ولننظر في هذه الابيات . الصور والمعانى:
وعهدي بمغناها حسان أوانس
تركن فؤادي هام فى واديا
وفيهن بيضاء المحابر طفلة
يطيب رياها عبير الغوانيا
منعمة هيفاء لو انها بدت
الى عابد أضحى من اللب خاليا
فما الغصن ان هادت وما البدر ان بدت
وما الظبي يحكى جيدها والمأقيا
رعى الله زياك القوم وان يكن
به دون كل العالمين شفائيا
ومن قراءتي لقصائده الغزلية لم اجده يذكر اسم المرأة . يتغزل بها، وانما يعني بوصف جمالها، وهى اوصاف حسية تقليدية وقد وجدناه متأثرا بعمر بن أبى ربيعة ، وابى الفراس الحمداني فى بعض مقطوعاته ، وما يسجل له عفته ، وسيطرة الروح الدينية عليه ، ولو تتبعنا بعض قصائده دناها تقتبس الكثير من المعانى القرآنية :
قال لي العاذل تسلو
قلت ذا شىء فريا
لا وحق الله أنى
أسله ما دمت حيا
فلقد همت به اذ
انا فى المهد صبيا
احور فى وجنتيه
نبت الورد جنيا
كما سجل فى ديوانه وفى كثير من قصائده ملامح وعادات قومه وتقاليدهم ، وهنا يصف القهوة التي تلتقي حولها المجالس الشعبية ، وكأنها مدرسة من مدارس حياتهم :
الا فاسقني يا صاح طيبة النشر
ومذهبة الاحزان والهم من صدري
وجامعة الاخوان فى كل محفل
وأنس النداهى فى البداوة والحضر
تنهش لمراها النفرس إذا بدت
ولاسيما يا صاح فى الظهر والفجر
فتذهب منا الهم حتى كأنها
عروس بدت فى بعض اطيابها القطر
ترش بماء الورد قبل قدومها
يمانية والزعفران لها عطر
وافتخر ماجد بنفسه وشجاعته واقدامه على عادة الشعراء العرب الذين كان شعرهم صدى لحياتهم :
اذا الخطب قالوا من له ؟ خلت انني
دعيت له وحدي فقمت مبادرا
صبور على الاهوال حتى لو أنها
ارتني حمامي لا أرى متقهقرا
وما انا معن يجعل الجبن جنة
من الموت والاقدام للعمر قاصرا
وقال فى رثاء زوجته في قصيدة من اوا خر قصائده ، ابرز خلالها اشجانه واحزانه واحساسه بالمرارة :
يدعين جودي بدمع منك مدرار
واحكي السحاب اذا هلت بأمطار
يا دهر مالك كدرت عيشتنا
بعد الصفاء فقد شيبت بأكدار
ابقيتني واحدا فى الدار منفردا
من بعد أنسى بها، يا طول احسا ري
ان كنت اسقيتها كأس الردى فلقد
اسقيتني بعدها كاسات امرار
ويحس المرء من هذه الابيات شدة الالم الذي يختلجه وقوته الممزوجة بالحزن الذي يقطر، واحساسه بالموت ، وان نهايته قد ازفت ، وما هي إلا برهة قصيرة حتى لقى مصرعه فى
خ ضم الاعواج العاتية ، وشعره فى المديح والفخر والرثاء لا يخرج عن المعتاد في المعانى وكما هو واضح من المقطوعات السابقة التي يسجل فيها عادات قومه ويفتخر فيها بنفسه ، ويرثى فى
أخرى زوجته ، فالأوصاف واضحة ومتداولة ، والملاحظة التي يجدر ذكرها انه عندما كان يمدح فانه لايبتفى التكسب لذلك جاء ديوانه خاليا من التكسب ومدح الامراء إلا ما ندر، بل وجدناه يكرسها لمدح اقاربه واصدقائه .
لكن لغة كثير من قصائده جاءت غنية بمعانيها ودلالاتها وايحاءاتها فهي تمثل طبع شاعر تجرى الكلمات على لسانه بسهولة ويسر، ولا نجد فيها اي تكلف او تقعر، بل وجدناها قادرة على محاكاة المجتمع بلفة دافقة واضحة ، وكأني به يقول ان الشعر هو الذي يحرك فى قارئه ملكات القول ويهز فيه غافيات التصور والاحلام ، وهو الذي ينقلك الى عالمه ولا يكفى أن ينقلك الى عالمه ، بل يهز فيك عالمك الداخلي حتى تتجاوب وتتناغم مع عالم الشعر، وهنا لننظر فى هذه الابيات حتى نتبين
هذا التناغم وجمال هذه اللغة ، وهى فى مدح رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
يامن سما قدره والرب كلمه
والله ما عمل عندي اقدمه
إلا الرجاء وقصدي انت تعلمه
ياخير من دفنت فى الترب أعظمه
فطاب فى طيبهن القاع والاكم
يدعين قرى برؤياك محاسنه
أليس ذا نوره جهرا نعاينه
هذى مآثره هذي مواطنه
نفسي الفداء لقبر انت ساكنه
فيه العفاف وفيه الطهر والكرم
وقال ايضا مدح صديق له :
اهل الحمى بانوا فبان عزائيا
وأذللت دمعا كان بالامس غاليا
وكنت احتسبت الصبر خير مساعد
فو الله ما أجدى علي اصطبار يا
وهكذا استطاع ماجد ان يسجل ما فى وجدناه لكثير من المواقف التي مر بها بما أوتي من لغة سواء أكانت فصيحة او عامية "نبطية"، متأثرة بما شاع فى عصره من اتجاهات وتيارات مختلفة الى جانب المدرسة المحافظة التي اتكأ عليها فى كثير من قصائده ، وهكذا يمكن ان يعد الخليفي نمطا جيدا يمثل المدرسة المحافظة فى المرحلة التي عاشها، فهو شاعر كلاسيكي منجيا، وله روح طموحة ونفس ابية ثائرة .. لقد عاش ماجد كزهرة برية من زهور الصحراء وذبل كما تذبل الازهار عندما يزحف اليها الخريف ، وما هذه المقطوعات التي نجتزئها من ديوانه ، وقصائده التي تركها لنا إلا خير دليل على عب ء الانسان الذي يحس بواقعه لذلك وجدناه قد بلغ فى قوة التعبير عن الاهل والوطن ما لم يبلفه الكثيرون من ابناء عصره ، وانتهى الى الموت بعد حياة مليئة بالحيوية والنشاط ، وهو يشدو ويغنى بفرح وآسى، لقد انتهى وانتهت معه ذكريات وشعر كنا نتمنى ان نعرف منها المزيد، لكنه الموت .
وفى هذه الاطلالة الوجيزة نأمل ان نكون قد ابرزنا شعر واحد من ابناء امتنا الشباب الذين ما وهنوا فى سبيل أمتهم ووطنهم ، ولعل عودة الى الديوان الشعري سيرى القارىء كيف استطاع الخليفي تصوير واقع مجتمعه ، كما سيجد انه يستحق مزيدا من التحليل والدراسة والاستنباط ، را جيا ان اكون قد وقفت فى هذه الاطلالة على جوانب مهمة فى حياة شاعر الفروسية الذي مات فى بداية عطاشه ، ويبقى مجال قراءة شعره مفتوحا امام الباحثين وفق ذوقهم ومنهجهم ورؤيتهم الخاصة بهم .
محمد احمد القضاة : (كاتب قطري)