– 1 –
النص الشعري الحداثي: البنية النصية العميقة
تنبني مسارات النص الشعري الحداثي عند الشاعر اليمني علوان مهدي الجيلاني في نصوصه التي نشرها, عبر تجاوز نسق المعاني المطروحة والدلالات المعلنة الى استكناه بنية فنية شعرية جديدة تحمل دلالاتها الخاصة ورؤياها المحملة بالنظام اللغوي المتميز الذي تلتقي عنده كل مقومات وعناصر التشكيل الدلالي والتركيبي والنحوي والصرفي والايصالي الذي يشتبك مع أفق المعنى الشعري الكلي الذي يمتد داخل هذا السياق, ويؤسس فعله الشعري عبر الاتكاء على التنوع والتقابلات الثنائية والمكونات النصية في التقنيات والمهيمنات النصية كعناصر بنائية لنصوصه, اذ تتم فرض رؤيته التشكيلية داخل هذا السياق, وان التلاحم الشعري والبنائي والثيمي انما يقوم على أساس من اختراق هذه النظم, وهذه الوحدات النصية والتشكيلية, والوصول من خلال ذلك الى انزياحات كلية في جسد النص, والتي تتم من خلال اختراقات النسق العادي, والانحراف الدلالي نحو عناصر دالة وجديدة في شبكة من العلاقات النسقية والسياقية التي تؤلف النسيج النصي وتعمل على سد الفجوات النصية, والانطلاق منها لتكوين بنية شعرية تركيبية خاصة به, وتندغم بكل تشابكاتها وتعقيداتها في بوتقة الخيالي, وتضم توتره وانفعالاته ولحظاته الجمالية التي تنفتح على احتمالات الدلالة المتعددة التي تقدمها العلاقات الدلالية والبنائية وأصواتها وتوازناتها وتضاداتها وطرائق التركيب فيها وخصائص الأسلوب والصياغة والصور والمجازات والاستعارات التي تعمل آليات النص على تنسيقها ضمن دلالته, محققا الصلة السرية التي تقبع خلف نسيج النص, وتصبح القصيدة لديه بنية نصية عميقة مولدة لنمط شعري يقترب في صياغاته اللغوية والفنية والجمالية في تأسيس رؤية كلية لهذا الواقع, وتقدم إمكانية التلاحم العميق بين الواقعي والشعري, والصوفي والرؤيوي والاسطوري والتاريخي, والتي تتبلور من خلالها سمة المتن الشعري, وبنيته التجاوزية, وترابطاته النصية عبر تقديمها وعيا آخر, ولكنه العالم الواقعي السري, والمسكوت عنه, والمغيب, وتكون وظيفة الشاعر فيها ان يفتح مسامات القول الشعري الذي يمتد داخل سياق نصي فاعل ومؤثر وحضوري وداخلي, يتكئ على لغة الاشارات ونسيج العلامات التي تكون على مستوى أعمق من الارتباط اللغوي المباشر, نحو الترابطات الدلالية التي تتعدد حقول خصوبتها, وتتنوع مستوياتها الايحائية في تبليغ رسالتها النصية المولدة للنظام اللغوي الذي يقيم بدوره عدة تقابلات بنائية وتشكيلية مهيمنة تدفع بالنص الى أفق الرؤيا الكلية والتقابلات الثنائية الضدية, الايجابية والسلبية, والحضور والغياب, والاثبات والنفي, والتي تسمح بطبيعتها أن تتخلق علامات ايحائية بين الواقع المعبر عنه شعريا, والنسق التركيبي والذي يتجاوز عناصر الدلالة الظاهرة, الى عناصر الدلالة المغيبة أو المسكوت عنها, أو المهملة والمهمشة, والتي تستطيع هذه البنية أن تستجلي الملتبس الكامن في الأعماق, وتعيد الكلام للمقموع, المسروق, الصوت, وان هذا التحول والتغير الدلالي لا يستمد مقوماته من خارج حدود النص وسطحه, وانما يستمد هذه الرؤى والتجليات من أعماقه الطالعة نحو أفقهما الجمالي في دلالاتها المطلقة التي يشبه فيها التراجيديا اليونانية القديمة, فليس ثمة اجابة محددة عن مسؤولية كل هذه المأساة, أهو القدر أم خطأ البطل التراجيدي, أم التراجيديا نفسها, فاتحا بذلك نوافذ الاقتراب من اللحظة الشعرية الشاملة والمؤثثة بهذه الدينامية, وهذه الكثافة اللغوية والاشارية, والتي تفتح نصوصه على أفق تعبيري وأدائي يحدد من خلاله البنية الهيكلية, ومقصدية التأويل, وتتعدد معانيها وتكشف عن علاقاتها الداخلية, والتي تجعل من الشعر نثرا , ومن النثر شعرا . ويبدو أن الشاعر علوان مهدي الجيلاني في مجمل هذه النصوص يطمح إلى تحقيق نوع من التداخل النصي وخرق لحدود الأجناس الأدبية (الشعرية أو النثرية) لايجاد نص شعري جديد, ومنفتح عن طريق تناسخ وتداخل هذه الأنواع, واستعارة الكثير من تقنياتها وأساليبها وخصائص البناء والتركيب والتعبير, وبالأخص تقنيات المشهد الحكائي والحواري والقصصي, وبناء المشهد الدرامي والمسرحي داخل بنية القصيدة الجديدة, من أجل حشد مختلف هذه التقنيات والآليات والصور والمشاهد والمفردات الشعرية المتضادة والمتنافرة للوصول الى تجربة شعرية حقيقية وعميقة وكلية في آن واحد, والتي تفضي بدورها للوصول الى (وحدة الوجود) أو (الوحدة المطلقة) وهي الوحدة العلوية التي يتخذها المتصوفة بمثابة الجوهر والأساس لسلوكهم واندماجهم في المعرفة الوجودية والكونية, والتي تميزه من علاماته وإشاراته وأشيائه ورموزه وإشاراته المتلبسة بكينونة الوجود وأدواته وتقنياته, للوصول بها الى لحظات التجلي والاستغراق والتوحد التام والكامل عبر الذات الإلهية حد الاتحاد والذوبان فيه كما نجده في أشعار (الحلاج والسهروردي وابن عربي والعطار والنفري والجامي وحافظ الشيرازي) والتي افاد منها الشاعر في تطويع اللغة الشعرية المعاصرة, ووعي كثافتها, واتساع رؤياها, أو كما قال النفري (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة) ذلك أن الشاعر العربي المعاصر يتساوق عنده التعبير الدلالي والادراك الواعي واللاواعي للوصول الى المعنى الشعري الذي ينبلج بين عباراته ونصوصه, متطلعا الى عصر انسان جديد من خلال حمله القلق واليأس والمكابدة والحصار في ليل العالم المنهار, ولكنه يبقى دوما وأبدا يشعل النيران في عصور الظلام والارهاب والاستلاب والموت المقيم, والتي يكشف لنا من خلالها عن صورة من صور التداخل المعقد بين البنية والرؤيا, والتي يوظفها الشاعر باتجاه توليد صور وعناصر وأنساق جديدة متواشجة ومتآزرة مع أنساق القصيدة الأخرى, مما يشحنها بدلالات وإيحاءات متميزة ومهيمنة في بنيات نصوصه, وإن طبيعة العلاقة النصية بين هذه الأدوات, وهذه الرؤيا التي اتسعت, وهذه البنية التي ضاقت بها العبارة, جعلها تندرج في عالم من الانتشارية والتشاكلية التي تعتمد العديد من الذاكرات والرؤى والاحاسيس المتداخلة المعقدة في تداخلها, والمشتبكة في نصوصيتها وملفوظيتها. وضمن هذا المنظور تصبح بنية القصيدة عند الشاعر علوان مهدي الجيلاني بنية مفتوحة, مولدة لنسقها, وهو يتهجد في محراب الروح, وفي خلواته تهجد المتصوفة من خلال فسحة الحرية وسلطان الجسد والروح, والذي يحمل في داخله لحظتها الشعرية المتفجرة والمتوترة, والتي تقيم حركة القصيدة في داخلها, وليس على أطرافها, أو في خارجها, حيث تتآزر هذه الفيوضات الوجدانية مع التجارب الوجودية والصوفية الحميمة للابانة عن توحد الشاعر بها, لتعادل فنيا في حضورها الدلالي, والتي تنطوي على محاولة جادة للاقتراب من هذه العوالم التي تتحدث عن (الأحوال) و(المقامات) و(المواقف) و(التجلي والوجد) والتي تفرض تشكلاتها الشعرية داخل بنيات الحضور والغياب الدلالية, وتوظيفها في التشكيل اللغوي والتركيبي والصياغي عند الشاعر, ليتم بذلك احتواء الواقع ونقيضه, وتنسيقه ضمن رؤية النص وتحولاته, والتي تؤدي بدورها لاثراء هذا النص, وبنياته الجمالية والفنية, كحافز لهذا التنوع والتعدد لتنبني هذه النصوص في نسق شعري جدلي يؤكد قدرة الشاعر في بناء رؤيته وعوالمه ومواقفه الجمالية والفكرية والتشكيلية داخل هذه البنية الكلية. وفي مجمل العلاقات النصية للهروب من سطوة الشكل التقليدي والتفعيلي, ومن هيمنتها على عواطف الشاعر الذاتية وأحاسيسه ومشاعره التي تنأى عن التشكل التقليدي وتحريرها من (سمترية) هذا الشكل والتي تتوحد بشروطها الخاصة, وتنبثق من رؤياها, وتتوحد بأبنية العلاقات الداخلية لتتلبس النص حالة شعرية تنقل اللغة الى مستواها الدلالي والترميزي لانتاج معناها الشعري, وسياقها التشكيلي والبنائي:
أنا في مقام النار
أسبلت الجفون على رجائي
فيك…
محتفلا
أغث
يا واهب الخطرات
هل
نجمت
بذور
محبتي
لأهيم في خضر يزين لي
بلاقع
من سراب الأنس?
ما لمست يدي غير الهواجس
– 2 –
الوردة تفتح سرتها: والقبض على التأويلات المرواغة
تتصل الخصائص الشعرية المكونة لخطاب الشاعر اليمني علوان مهدي الجيلاني في مجموعته الشعرية الأولى (الوردة تفتح سرتها- دار أزمنة- عمَان- 1998) بمجموعة من المهيمنات النصية التي تكون نقطة إرتكاز وبنائية وتركيبية وتشكيلية وثيمية تؤكد خصوصيته من جهة, وتختزن عددا من الايحاءات التي تحيل الى عالم داخلي مفعم بالحميمية والرؤى من جهة ثانية, وتصبح شخصية القصيدة لديه, ومعمارها البنائي, وقد تأسست ضمن اطار رؤيوي, وبناء متكامل يتحول في النهاية الى تجربة كلية تهتم بالتساؤلات الوجودية, والتأويل الدلالي, وتضم بين جنباتها العديد من العناصر التي تسهم في الانزياحات الحاصلة في جسد النص, ومكوناته التي تتكثف وتتدرج في حركاتها, وعبر مجموعة من البؤر الشعرية الارتكازية للوصول الى قمة توتر الذروة الشعرية التي تقوم على بناءات لغوية وأسلوبية وصورية وتركيبية تعتمد البساطة في الهندسة, والعمق في الحكمة من خلال نمو القصيدة وإتكائها على إيقاعية النثر وحدته وانفتاحه بعيدا عن قوالب الوزن الثابتة والقافية الموحدة و(سمترية) البيت الشعري وايقاع عمود الشعر التقليدي في اشتراطاته البنائية المتشابهة, والتي تظل القصيدة لديه في جميع صورها ومستوياتها قابلة لانتاج المعنى الشعري عبر الضغط والتكثيف في شحن اللغة دلاليا وتأويليا وتحويليا حيث تتناسب رؤية الشاعر لواقعه مع المعطى الدلالي للغة في التشكيل الشعري الذي يكون صورة لانعكاس الواقع وبنائه في اللغة, من خلال استخدام ميزات وأعراف التجربة الصوفية ولغتها الشعرية المتميزة في بنيتها ودلالاتها وإيحاءاتها ووظيفتها التي تستطيع بها استبصار المعنى الكلي لهذا الواقع المستتر خلف ضغوطاته وهواجسه وأبعاده المأساوية, وقد تغيمت الرؤية الفنية فيه حد الضبابية.
ويؤسس الشاعر الجيلاني يقينه ووعيه وأحلامه في هذه المجموعة عبر انشغالاته واستغراقه في التجربة الصوفية في قصائده التي تحتوي على قسمين هما; القسم الأول (معراج النشوة) ويضم أربع قصائد هي (مقامات شمس الشموس, وياذا الوجد, والوردة تفتح سرتها, ومعراج النشوة) بينما تضم قصائد القسم الثاني والموسوم (في غنج هيئتها) سبع قصائد هي (قالت وبعثرني في خلجات الريح وفي غنج هيئتها وفي حال القرب ومديح الوليمة الطيفية وريح عينيها وسماء بعيدة) حيث نتلمس فيها قدرة الشاعر على الامساك بهذه المرتكزات النصية, وهو يشيد نصوصه وصيغها عبر تكريس الرؤية الصوفية التي تكون سببا في ثراء وغنى وامتلاء بنية القصيدة, وعلى خاصيتها يبلور الخطاب مستوياته الحركية المتعددة من التجليات والرؤى المتنوعة الأشكال والتوترات التي يقيمها النص من خلالها الايحاء والدلالة التي تقود الشاعر وعناصر الرؤية المتحركة على امتداد النص, بالإصغاء إلى مواجد الروح, والانخطاف التام في الذات الأخرى حد الاستغراق, والتماهي مع هذه المواجد التي تفجر التوهج الشعري وتجدده من أجل صفاء الروح وعليائها.
ففي قصيدته (مقامات شمس الشموس) يتداخل فيها النداء الخفي الذي يطلقه الشاعر مع تساؤلاته الحيرى ودلالاتها الرمزية والتاريخية والمعرفية والفلسفية والصوفية التي تكون أقرب الى انبعاث نبضات المعاناة المتعاقبة التي ترسم بنية القصيدة وحركاتها ودوراتها التي تسهم في اثراء البعد الدلالي الذي ينسجم مع تفعيل آليات اللغة وتوظيفها الصوتي والتصويري والتعبيري والأدائي التي تدفع بالتركيب اللغوي بعيدا عن قانون اللغة/ الواقع باتجاه قانون اللغة/ القول الشعري الذي يدخلها في مجموعة من العلاقات الدلالية والتأويلية والحضورية والغيابية والانغلاق والانفتاح والتكثيف والانتشار داخل النص الشعري الذي يختفي بفاعليته اللغوية والتصويرية على امتداد النص وذلك باظهار طبقات المشهد الكلي والكشف عن مكوناته من خلال توظيف ثيمة الصوفية وشيوخها في اليمن, وهي تتوشح بشعرية التعبير الصوفي المعبر عن الانسجام السردي المتحكم في تشكيلات اللغة وجماليتها ودلالاتها التي تمتزج في بنية النص وتترك ظلالا من الرؤى والتجليات التأويلية المتعددة:
يا صاحب العين
عليك العين
لا تجرح مآذن شادها في الغيب
من لمحوك
أنت هنا…
ستبزغ من رؤاك
شمس شموس هذا الكون
كل مشارق الآيات
تسفر
عن بهاء وضوئك الازلي
كل رياح هذا الدرب ريحك أيها المأثوم
دع للكادح الموقور ما رشحت أضالعه
لكل دم سفحت يد مخضبة… وعين
كلما نامت حواري الليل.. نادى دمعها المكلوم:
يا.. ال- .الله..
وحدك ترقب الدنيا
وعينك لا تنام..!
وتحتل قصيدته الأخرى (ياذا الوجد) مكانة خاصة في هذه المجموعة لان الجذر الدلالي الذي تنطلق منه ويرسم الشاعر من خلاله آفاقها ورؤياها, هو الجذر الذي يوغل نحو أعماق الارث الصوفي حيث تكون قريبة من هذا الارث وتجلياته ولغاته, وهو يعي جوانب الادراك الوجودي الذي يتجسد من خلال درجات التنافذ والتداخل النصية بينه وبين نسيج القصيدة وطيات بنياتها حيث الوجد والضوء والحضور والأشواق وأحرف الاسماء وغيرها التي يكشف الشاعر بها, وبشكل واضح طبيعة التوظيف والتناص في هذه القصيدة, والتي تنبني في تشكيلاتها على بنية عميقة مركبة في أبعادها ومراميها الدلالية, ويصبح شعار الالتحام بهذه التجربة هو الذي يبني تلك العلاقة النصية بين مختلف هذه العناصر وانغماسها في أتون بنيته التركيبية للغة واشاراتها وعلاماتها الحامل الأول لهذه الدلالة, والتي تشير الى سمة جوهرية في شعر الشاعر, يدخل منها نحو فتح أفق تعبيري, وكيفية متفاعلة, والاتكاء, وبرهافة على تلك الحالة دون أن يقع فيها كليا , راصدا كل تفصيلات التجربة, وما تحدثه الرموز الشعرية للسياق الشعري الذي ينسجم بتشكيله مع النظام اللغوي ومصادره ومؤثراته, والذي يمثل التصاقا أكثر, وتقمصا متلبسا بماهية اللغة الصوفية واندماجها في بنية القصيدة التي تعد هذه الحالة الاساس البنائي لها, بما تجعلها ذات محمولات وأبعاد حوارية ومرجعية, كما في هذا المقطع من قصيدة (ياذا الوجد):
يا ذا الوجد
صار الوقت
قبرا ضيقا
من لفني بمرارتي
وأثابني جوعا وأوحشني…?
أليس هو الذي أمسيت مفتونا باحرف اسمه?
بجفونه تصطاد قافيتي..?
بماء سال من كفيه
شف كما تشف عبارة المشتاق!?
وتتحرك قصيدته الثالثة (في حال القرب) على نسق دلالي متميز, وكون لغوي ثري, وليس هذا النسق سوى تجسيد جمالي ورمزي وفني لقلق الشاعر الذي يستقطب فيه كل التعاقدات النصية والتداعيات المعقدة التي تنتمي بوجودها وألفاظها وايقاعها ومعانيها إلى رؤى وتجليات الذاكرة والواقع والأشياء المحيطة وكل حالات التمزق المتباعدة في الزمان والمكان, والمتداخلة في الرؤية والخصائص الفنية اذ تنمو القصيدة وأفعالها من خلال ايقاع وفضاء التصوف, وحضوره البهي الذي يقوم بوظيفة دلالية حيث أفرزت نفسها شعريا في تخصيب هذه الدلالة التي ينقلها إلى مستوى ترميزي آخر يومئ الى المعنى ولا يحدده, ويظل قابلا للدلالة وتأويلاتها, ومفجرا للايحاء وظلاله, وكأن الشاعر في تساؤلاته العديدة يريد أن يحطم كل الحواجز التي تفصل بينه وبين المحبوب, من خلال استدعاء واستثمار مستويات الدلالة التي تتوالد في اتساع دائري خالقة بذلك هذا الفيض الوجداني والاشتعالات الروحية, وجمر التهجد والتخيل والمواجيد والتداني والأفانين والحضرة العامرة التي يتنفس الشاعر من خلالها رائحة مأساة الواقع ونكهته, اذ تدخل هذه الفضاءات في سياق بنائي وجمالي وتعبيري جديد, وموظفا هذا التناقض والاصطراع بين الواقع والحلم في جمالية الشكل الفني الذي لا ينهض هنا إلا في مواجهة صراعية ومقابلة بين الواقع الاجتماعي وما يقوله, وما يعبر عنه بنسق حي ونام في افق النص وبنائه العام. وفي نطاق هذه الرؤية يمكن البحث عن الجمالي والتشكيلي والتركيبي في النص الشعري الحديث, وعبر هذا التشكيل واحتضانه لثيمات الواقع التي توقظ الذاكرة وتعطيها رؤية أوسع وأبعد عمقا , وتستغرق النص دلاليا وبنائيا , كما في قصيدته (في حال القرب):
حاصرتني
اشتعالات عينيك…
جمر التنهد
من ذا الذي يسعف القلب
كي يشهد الآن هذا التجلي…
من يرى ما أرى.
كل برزخنا
غمدته
المواجيد
مدت عليه
غصون التداني أفانينها
الوقوف هنا غيبة…
لا ترى العين أبعد من رمشها…
إن تجربة الشاعر اليمني الحداثي علوان مهدي الجيلاني في ديوانه الجديد (الوردة تفتح سرتها) بل في مجمل نصوصه التي نشرها, تعتمد على صراعية الدلالة والحركة والايحاء في النص, والتي تفضي إلى تركيز التوتر البؤري داخل مجموعة من الثيمات والكيفيات التي تشف عن قدرة الشاعر على التماهي بينها, وبين حالات الوجد والتجلي كعناصر بنائية وتركيبية وتعبيرية متآزرة فيما بينها, وتسعى لتدعيم هذه الرؤية التي تخلص القصيدة مما كان سيدفعها نحو الخطابية أو النثرية الباردة أو المباشرة, وذلك عبر شحن كل جزئية وكل بنية ومنظومة نصية منسجمة ومتضافرة فيما بينها من التآلف والتشاكل والتداخل, وإذا بالفضاء النصي منساح والأفق ممتد في كل اتجاه, وإذا بتناغم حركة العناصر فيما بينها تخلق علاقات نسقية وتوازيات خارجية وداخلية بين مستويات النص الترميزية والاشارية والدلالية والواقعية والتخيلية التي تولد داخل هذه البنية, وتقيم متخيلها الشعري فيه, حيث يفاجئ المتلقي باستمرار بظهور علاقات الانفتاح والانتشار والاندماج والتداخل منذ بداية القصيدة وحتى نهايتها في حركة ونمو متطور ومتصاعد, يسمح بضبط فراغات الايقاع وتوازناته المفقودة, ويوجه النص نحو بؤرة من التوازن المطبق والدقيق بين الماهيات والكيفيات والبنيات والدلالات, والذي يمتزج في دوال النص ومدلولاته الجديدة التي تتعمق وتغتني برؤية الشاعر الفكرية والواقعية, وبرؤياها الوجودية, وتجلياته الصوفية, ولغتها الآسرة والشفافة والحميمة التي سيطرت على فضاءات هذه النصوص وبنياتها, والتي تحاول أن تنسج في حركتها أنساقا من البنيات النصية والملفوظية التي تعمل على جذبنا من عالمنا الأرضي والواقعي المحدد إلى عالم آخر غير محدد وغير مرئي في تحولات القصيدة وصورها الشعرية المكثفة والمختزلة, والوعي الجمالي والفني بها. ومن هنا تنبع هذه الخصوصية الشعرية والرؤيوية والبنائية والثيمية في تجربة الشاعر علوان مهدي الجيلاني بين مجايليه من الشعراء اليمنيين الشباب في استكناه الخيوط السرية لجماليات النص الشعري الحداثي وتجلياته ورؤاه.
محمود جابر عباس ناقد واكاديمي من العراق