الشخصيات والميثاق التخيلي :
يرى تيري ايغلتون في كتابه (كيف نقرأ الأدب) أن «النص نموذج للمعنى، وإن نماذج المعنى لا تحيا حياتها الخاصة بها كالأفاعي أو الأرائك»؛ هكذا سيحاول إجمال فصله الذي يحدثنا فيه عن (الشخصية Character) بوصفها الأدبي، في محاولة التفريق بينها وبين (الشخصية Personage) الكائن في الواقع، وهو في ذلك يضرب مجموعة من الشواهد التي تثبت أن «ليس للشخصيات تاريخ قبلي» – على حد تعبيره – كما هو حال الشخوص، وهكذا فإن الشخصيات ليس لها وجود إلا بقدر ما يخبرنا النص فهي لا تعيش سوى في ثناياه .
ولهذا فإن أمبرتو إيكو في (تأملاته) يصرُّ على أن القارئ للنص الأدبي عليه أن يعلم « أن المحكي هو قصة خيالية دون أن يعني ذلك أنها مجرد كذب …»، وهو ما يسميه بـ (الميثاق التخييلي) الذي يفضي بنا بوصفنا قراءً إلى الاعتقاد أن ما نقرأه قد وقع فعلا، ولهذا فإننا نصل إلى درجة التصديق، لأن الكاتب عبر هذا الميثاق يوهمنا أنه يقدم لنا إثباتا حقيقيا على صدق ما يروي .
والنص باعتبار هذا الميثاق سيكون موجها للقارئ باعتباره قارئا مثاليا، وهذا القارئ لديه قدرة على الفصل بين التخييل والواقع، لذا سنجد أن صيغ المخاطبة التي يعتمدها النص هي الموجه الرئيس إلى تلك السيرورات الثقافية والإيديولوجية التي تمكنِّه من تحديد معاني النص ودلالاته . ولأن الشخصيات هي الموجه الرئيس إلى تلك السيرورات فإن تحليلها سيتبع مجموعة من الفرضيات كما يحدثنا عنها يان مانفريد في كتابه ( علم السرد)، والتي يعتمد فيها على ثلاثة معايير؛ أولها تحديد الفاعل التشخيصي سواء أكان ساردا أو شخصية، وهو معيار (التشخيص السردي مقابل الصوري)، وثانيهما السمات الشخصية المحددة أو المتضمنة في سلوك الشخصية المعينة، وهو معيار (التشخيص الصريح مقابل الضمني)، وثالثهما الفاعل التشخيصي الذي يعرض نفسه أو يعرض شخصا آخر، وهو معيار (التشخيص الذاتي مقابل التشخيص بالإبانة) .
هكذا فإن مانفريد يقدم لنا مجموعة من أنواع الشخصيات التي تتمايز فيما بينها كـ (الشخصية؛ الثابتة، والمستديرة، والمعاكسة، والكورالية) وكلها شخصيات تظهر في الرواية بوصفها علامات لها هويات وأبعاد تحددها مجموعة الأدوار التي تقوم بها كل شخصية، بحيث تكون متناغمة في خطابها السردي الذي سيؤسس النص. ولأن «الإيديولوجيا تحوِّل الأفراد إلى ذوات» – كما يقول دانيال تشاندلر في (أسس السيميائية)، فإن الشخصيات في النص الروائي بوصفها ذات هُوية إيديولوجية في الأصل فإنها تجعل من الشخصيات ذواتا أثناء الممارسة التأويلية .
إن الشخصيات كما يحددها هامون في كتابه (سيمولوجيا الشخصيات الروائية) علامات «… يصدق عليها ما يصدق على كل العلامات … فهي كيان فارغ أي بياض دلالي لا قيمة لها إلا من خلال انتظامها داخل نسق هو مصدر الدلالات فيها، وهو منطلق تلقيها أيضا»، إذ تتشكل ضمن مجموعة من الرؤى يسهم في صياغتها الكاتب والنص والقارئ، ولهذا فإن غريماس ضمن الترسيمة العاملية التي يحددها للشخصية الروائية سيحددها بالتقاطع والالتقاء بين المستويين السردي والخطابي؛ حيث يفرِّق بين مستويين من الشخصيات (العاملي، والممثلي)، إذ يهتم الأول بالأدوار ولا يهتم بالذوات، بينما يهتم الثاني بالذوات الفاعلة التي تشارك غيرها في تحديد دور عاملي أو أدوار عدة،
وعلى الرغم من أن غريماس أعاد ترسيم الوحدة الخطابية للحكي لتكون في مسار التطويع والأهلية والإنجاز والجزاء، غير أنه ضمن تتبعه لحالات الانفصال والاتصال لهذه المسارات وجد أن هناك صعوبة في الإمساك بـما أسماه (المفهوم الديناميكي) للعامل السيميائي؛ فالشخصية (الذات) هنا – بحسب ما يذكر في كتابه (السيميائيات السردية . المكاسب والمشاريع) – هي؛ «… المجموع المنظم للأدوار العاملية التي اكتسبتها في المسار السابق، فالبطل مثلا ليس فقط الذات لحظة خروجها منتصرة في معركتها الحاسمة ولكن وراءها (ماض)، وهذا الماضي ومنذ الطفولة من خلال كل التجارب، هو الذي يجعل منها ذاتا…»
وقبل أن ننهي هذا التقديم المقتضب للشخصية علينا أن نتذكر دوما أطروحة هامون والتي تحدد معايير الشخصية ومرتكزاتها التي يذكرنا بها في أكثر من مقال وأكثر من مؤلف منها كتابه (سميولوجية الشخصيات الروائية، ومقال من أجل نظام سيميائي للشخصية) وغيرها، وهي أطروحة تتلخص في أن الشخصية :
أولاً : ليست مفهوما أدبيا حصريا، فالأمر هنا يتعلق بمعايير ثقافية وجمالية .
ثانياً : ليست مقولة من طبيعة إنسانية، فهي لا تمثل إنسانا على الدوام وإنما قد تكون الشخصية بيضة أو دقيقا أو زبدة أو غازا «فهذه المواد تشكل شخصيات لا تكشف عن نفسها إلا في النص المطبخي» – بحسب هامون- .
ثالثاً : ليست مرتبطة بنسق سيميائي خالص؛ فـ « الحركات الميمية والمسرح والفيلم والطقوس والحياة اليومية أو الرسمية بشخصياتها المؤستتة والرسوم المتحركة كلها تضع على الخشبة شخصيات…» – هامون- .
رابعا : يعيد القارئ بناءها، فالشخصية «ليست سوى أحد مظاهر القراءة» – هامون –
وبهذا فإن الموضوع الوجودي للشخصيات في النص الروائي لا يتحدد لحظة تحقق النص بل لحظة تصور بنية دلالية مجردة، تتشكل ضمن معطيات الأحداث التي ستنشئ مستويين للوجود بالنظر إليها بوصفها سندا مجردا يستقبل الدلالات التي سيظفيها عليه القارئ، أو باعتبارها عنصرا يربط بين مجموعة الثيمات التي تشكل خطاب النص، وبالتالي تحدد السمات العامة التي ستتحرك ضمنها في سياقاتها السردية المتعددة .
هُوية الشخصيات في (سأم الانتظار) لغاية آل سعيد
تقدم غالية آل سعيد شخصياتها بوصفها مشروعا إبلاغيا يقوم على الكشف عن مكنوناتها الإخبارية التي تكشف لنا مجموعة من الخصائص الدالة ذات الاعتبارات الاجتماعية الإيديولوجية، والثقافية، وهي شخصيات تعتمد على ما يسميه هامون (الأثر / الشخصية للنص)؛ لأنها في الغالب تتجنب منح الشخصيات ماهية (موحدة) يفترضها النص ويفرضها على القارئ، ولهذا سنجد أن نصوصها مفتوحة من ناحية الخطاب، ومتعددة من ناحية السردية وسمات الشخصيات .
إن الشخصيات تتأسس على وجود تاريخي يتمفصل بين البعد الزماني والتكويني الذاتي الذي سيشتغل عليه الحكي في مساره السردي، ولذلك سنقول مع بول ريكور في (الذات عينها كآخر ) أن الشخصية “تبحث عن هويتها على مستوى حياة بكاملها …”؛ ذلك لأن هُوية الشخصية وكينونتها لا تقوم سوى عن طريق سلسلة متكاملة من حياتها في النص، كما أن النص برأينا لا يمكن أن تقوم هُويته إلا ضمن حياة شخصياته حياة كاملة مستمرة بشكل ديناميكي، ولهذا سنجد أن غالية آل سعيد في نصوصها تشتغل على صناعة شخصياتها صناعة تتأسس على مجموعة من المفاهيم السياقية التي توجه النص بل وقد توجه الحكاية في مرات كثيرة .
ولكي نستطيع التفصيل في مستويات الشخصيات عند غالية آل سعيد فإننا سنعمد إلى دراسة رواية (سأم الانتظار)، وهي المرة الثانية التي نقوم فيها بالاشتغال على هذا النص فقد قمنا في بحث سابق – غير منشور – بدراسته بوصفه نموذجا من نماذج أدب الغربة أو المهجر، إلا أننا في هذا المقال سنحدد الاشتغال على الشخصيات بوصفها محاور دلالية ذات مردودية سردية تشتغل على المستوى الخطابي ضمن مرجعيات ثقافية وأيديولوجية محددة، تتضح ضمن السياقات التي ترد فيها، وسنعمد أولا إلى سرد تلك الصفات والأدوار التي قامت بها الشخصيات سواء أكانت ثابتة أو متغيرة في النص بتغير الحكاية ومسارها السردي، وهو سرد صنفناه سابقا ضمن مسارات الشخصيات بوصفه أساس الوصف العام للشخصيات اعتمادا على تصنيف هامون، وهي :
الشخصيات المرجعية : وهي علامات دالة على وضعية اجتماعية معينة تحمل هُوية شخصية ذات أبعاد معرفية وتاريخية معينة وهي في (سأم الانتظار)
بلندة : الفتاة الأجنبية التي تمثل حالة الضياع النفسي– بحسب المرجعية العربية – تدير دارا للمسنين .
آندي : الشاب الإنجليزي اللعوب الذي يعمل في صالة للقمار .
صفية : المرأة العربية الهاربة من القهر العربي المتمثل في الآخر (الرجل والمجتمع) إلى حالة من الضياع في دول الغرب .
حاتم حمدان : الطبيب العربي الذي يرحل من بلاده مهاجرا للعمل في دار روزديل لرعاية المسنين بعد أن ضاقت به السبل .
خلف : الشاب العربي الذي يهاجر بعد أن ضاقت به الحال في وطنه بالأعباء الاقتصادية الخانقة .
ربيع : الإنسان العربي الكادح الضائع بين لقمة العيش والخمر والحياة المليئة بالتداعيات الاجتماعية والاقتصادية .
دار زورديل لرعاية المسنين : الشخصية المرجعية ذات الاعتبارات التاريخية والمعرفية، الذي يمثل الشاهد التاريخي على أوضاع بعض دور المسنين في أوروبا .
لعبة (البينغو) : قمار الطبقة المتوسطة في المملكة المتحدة .
الشخصيات الإشارية : الذوات المسربة إلى النص، وهي التي تنطق باسم الملفوظ الروائي وتكشف عنه بين الحين والآخر ؛ وهي:
ليلى رئيسة الطهاة في دار روزديل : التي تكشف أسرار الدار بين الحين والآخر .
دكتور كريس : يعمل في دار روزديل . قبرصي الأصل يدعى الدكتور خريستو، يعرف في الدار باسم الدكتور كريس .
الراوي : الذي يكشف لنا تاريخ الشخصيات وتجاربها المتراكمة عبر الأزمنة والأمكنة .
الشخصيات الاستذكارية : المسؤولة عن الربط بين أجزاء العمل السردي، فهي علامات تنشِّط ذاكرة القارئ من خلال استحضار الذاكرة الداخلية للنص والتي تشكل مرجعية النص، وهي :
السيد هارفي : الثري الإسباني العجوز الذي يطلب إلى (صفية) الذهاب معه إلى إسبانيا وترك الحياة في المملكة المتحدة، لينتشلها بذلك من العمل والحياة اللذين لا يستحقانها لتعيش معه وأبناءها في رخاء . فهي شخصية تمثل مقابلا لشخصية آندي الإنجليزي الذي تفضله صفية على الرغم من مساوئه وعيوبه، ليمثل ربط أساسي في تشكيل الهُوية لشخصيات النص من ناحية وحالة الانتقال النصي بين وفاء صفية (العربية) لمحبوبها الإنجليزي وخيانة هذا المحبوب لها في آن من ناحية أخرى .
شيرلي : صديقة بلندة التي تربط بين الأحداث وبين أجزاء النص، بل وتساند بلندة في مراحل تطور أحداث النص بحيث تكون سندا للشخصية وعونا لها، بحيث تذكرنا بين الفينة والأخرى بما مرت به بلندة في حياتها.
ربيكا : رئيسة الممرضات وكبيرة الإداريين في دار روزديل، وهي حبيبة الدكتور (العربي) حاتم حمدان. ربيكا شخصية منكسرة ضعيفة، تنفذ أوامر بلندة دون مناقشة، تعمل الشخصية على الربط بين أحداث الدار وتسريب بعض المعلومات للقارئ بين الفينة والأخرى عن تاريخ الدار والقوانين التي لابد من تطبيقها.
هيزل، ومارتن، وجاك، وفريدي : أصدقاء بلندة اللذين يساندونها في أحداث الدار وصالة القمار، وهم أيضا من يدعمون القارئ بما يعزز الهُوية السردية التي يشتغل عليها النص .
وبناء عليه فإن هذه الشخصيات تعتمد على علاقات (التواصل والرغبة والصراع) فيما بينها، بحيث تنتظم من خلالها أحداث النص وفكرته، وهي محاور تكشف أشكال التقابل التي تؤسس دوال الشخصيات استناداً إلى تلك العلاقات التي تقوم فيما بينها، لتظهر في نسيج نسقي يحدد ملامح الشخصية وهُويتها التي تشكلها في مراحل تحولات النص وتطوره.
هكذا سنجد أن النموذج العاملي يقوم على محور (الرغبة) الذي تتوخاه الذات وتحركه نحو الموضوع المراد تحقيقه، ليتموضع بوصفه موضوعا للتواصل بين المرسل والمرسل إليه، بالإضافة إلى أن هذه الرغبة الكامنة لدى الذات تتغير بحسب المساعد والمعيق؛ فالشخصية العربية (حاتم حمدان، وصفية، وخلف ) تتمحور الرغبة لديهم في تحقيق الهُوية الذاتية التي تتمحور حول تحقيق الهجرة إلى المملكة المتحدة، والعمل (أيُّ عمل) يحقق لهم استقلالا اقتصاديا بل واجتماعي، بينما الشخصية الإنجليزية أو الإجنبية فإن الرغبة هنا تنضوي على تحقيق هُوية تعيينة كونها جميعا تنتمي إلى (الطبقة الاجتماعية المتوسطة في المجتمع الإنجليزي)، ثم هذه الرغبة تلتقي ضمن محور التواصل مع رغبة الشخصيات العربية بوصفها مرسلا إليه كونها تحتاج إلى هذه الطبقة لتساعدها على تحقيق رغبتها، ثم ستكون هذه الشخصيات (الإنجليزية) بين المساعد والمعيق للشخصيات العربية لتحقيق موضوعها، بينما سيكون القانون مساعدا ومعيقا للشخصيات الإنجليزية .
وبهذا فإننا سنجد أن محور الرغبة طاغ على سطح النص يجمع بين (الراغب / الشخصيات) و (المرغوب فيه / الهُوية) ليتم الانتقال من حالة إلى أخرى بين اتصال وانفصال في ملفوظات الفعل السردي التي تتناسل وتتفرع في شكل برامج حكائية في دورة سردية تجمع بين المرسل والمرسل إليه وهما يتبادلان الأدوار حول إحضار الموضوع القيمي الخاص بالهُوية وهنا سيعتمد المرسل (بالتبادل) على الفعل الإقناعي (اللفظي؛ الهادئ أو الغاضب) أو فعل الإرغام (السلوك؛ الطرد، الغضب …)، وفي ذلك كله تنشد الشخصيات / الذوات تحقيق موضوعها، ومن أجله سيكون محور الصراع محتدم بينهما اعتمادا على المساعدات أو المعيقات التي تسهل أو تعترض طريق الذات لتحقيق موضوعها .
وبناء على (الميثاق التخييلي) فإننا نقبل بأن تكون هذه الشخصيات بأنواعها،وبحسب مرجعياتنا ذات أبعاد معرفية تصديقية من الناحية الإبلاغية، إذ نقبل أن تكون الشخصية العربية بتلك التنويعات المغلوب على أمرها، المهاجرة عن أوطانها ضمن قوانين ووضعيات العالم الواقعي (المرجع) . ونقبل أيضا أن تكون الشخصيات الأجنبية أو الإنجليزية تحديدا شخصيات أرهقها القانون فأصبحت تحاول الهروب منه والتملص من مسؤولياته، فهي تحاول جاهدة الحصول على الحب والحياة . ومن خلال الصراع بين عوالم الشرق والغرب سنصل إلى دال (سأم الانتظار) للحصول على الحرية (الرمز) .
الميثاق التخييلي والمرجعيات الثقافية في (سأم الانتظار)
بحسب دانيال شاندلر فإن دراسة العلامات عموما « لا تستطيع أن تخبرنا بكل ما يتعلق بالثقافة والتواصل البشريين؛ لا يمكن بكل بساطة اختزال السلوك الاجتماعي والممارسات الاجتماعية …»، ذلك لأن تلك العلامات تشهد تغيرات متعددة ومختلفة على المستوى التاريخي والحضاري، ولهذا فإننا عندما نقرأ نصا روائيا فإن المستوى التركيبي والأسلوبي له يجعلنا أمام نموذج من نماذج التفاعلات النصية التي تنشأ داخل النص من ناحية أي بين خطاباته وشخصياته، وبينه وبين القارئ من ناحية أخرى .
عليه فإننا عندما نتحدث عن هُوية النص أو هُوية الشخصيات فإننا سنعمد إلى تحليل بنية تلك الشخصيات من ناحية خصائصها وصفاتها المحددة، ومستويات ذلك الوصف، ودوال الشخصيات ومدلولاتها المتعددة، بالإضافة إلى فضاءات تلك الشخصيات التي تتأسس عليها هُوية النص، وهذه الهُوية لا تنشأ سوى من خلال ما يسميه ريكور بـ (تاريخ الحياة) الذي تعيشه الشخصيات داخل النص، ولهذا فإن الشخصيات في (سأم الانتظار) تعيش ضمن فضاء عام يقع بين عالمين؛ أحدهما العالم العربي، والآخر العالم الغربي .
إن العالمين الذين يحددهما النص يعملان ضمن نظام خطابي وسردي معين، تقوم الشخصيات فيه بأدوار مختلفة تقع جميعها ضمن دور (التوسط) بين التوافق والتنافر، وهو دور تتنقل فيه الشخصيات أثناء سير الأحداث ما بين العينية والذاتية ضمن التنويعات السردية الخيالية للنص . ولهذا فإن الشخصية لا تُصنع إلا لحظة التأويل الذي يقوم به القارئ، لأنها – بحسب هامون – ليست معطى قبليا يؤسسه النص منذ بدايته وإنما يتأسس لحظة التوليد المستمر في النص عبر السرد وتقوم به “الذات المستهلكة للنص لحظة التأويل” .
ولأن الحدث والشخصية يسيران ضمن خطوط الاتصال والانفصال بشكل مستمر أثناء الأحداث فإن الفضاء الذي تنشأ فيه تلك المنظومة السردية هو خاص ومتعلق بالفضاء الذي تنتجه الثقافة في مجتمع ما في الواقع الممكن للنص (عربي / غربي) وانعكاس هذا الفضاء على الشخصية وقدرتها على العمل داخل تلك المنظومة، ولهذا فإن النص من خلال تلك العلاقات سينتج مجموعة من القيم التي ستشكل القيم الإيديولوجية في النص، وبالتالي فإن تلك القيم ستنتج عبر متغيرات تاريخية وثقافية تشكل مرجعية النص الروائي في سيرورته السردية .
ولهذا سنجد أن المرجعيات الثقافية والاجتماعية هي المسؤولة عن تشكل تلك القيم على المستوى النصي؛ ذلك لأن التجربة الإنسانية المجسدة في صورة كلية، تنعكس على عمل الشخصية في النص، وتؤسس لأدوارها، حيث سنجد أن الشخصية (العربية المهاجرة) تنطلق من كليات متعلقة بالوضع الاقتصادي السيء في تلك الدول، وبالتالي فإن الدافع نحو الهجرة هو دافع اقتصادي في المرتبة الأولى وهو ما سيشكل هُوية ذاتية عامة، وهذه الهُوية هي الشكل المصغر للشخصية، ولعل من أهم العوامل البارزة في هذا النص هو (الراوي) بوصفه (عامل تبليغ/ تلفظي)؛ فهو من يحمل على عاتقة فعل (الهُوية) الذي يتأسس عليه النص، إذ نجده يضطلع بتنفيذ الفعل التأويلي، والفعل الإقناعي؛ وهما فعلان يشتغلان ضمن مصداقية عمل الراوي وتلك الإيدولوجية التي اعتمد على تحقيقها من خلال فعل التلفظ .
ولهذا فإننا سنجد أن فعل التأويل الذي تأسس عليه عمل الراوي يقوم على أساس العلاقة بين الشرق (الدول العربية) والغرب (المملكة المتحدة)، وهي علاقة قائمة على صعيدي (التجلي، والمحايثة)؛ إذ نجد أن هناك ترابطات يتشكل ضمنها الفعل التأويلي (ظاهر ولا ظاهر) على مستوى التجلي، و(كينونة، ولا كينونة) على مستوى المحايثة، وبناء عليه سنجد أن الشخصيات في كليتها السردية وخطاباتها المتعددة ستظهر بوصفها منطلقات أساسية لمرجعيات ثقافية ذات قيم أخلاقية معرفية، وهذه القيم ستشتغل باعتبارها فضاءات تسمح لأهلية القارئ وحدها – كما يقول هامون بـ “ ولوج مجموع الافتراضات الأخلاقية والفلسفية والسياسية التي تحكم هذه الشخصيات”، ولهذا سنجد أن فضاء تلك العلاقة التقابلية المتصلة والمنفصلية بين (الشرق العربي)، و(الغرب الإنجليزي) تمثل تعددية مرجعية الشخصيات بحيث تظهر الشخصيات ضمن سيرورة النص في توترات خلافية متواصلة تجعل منها في صراع متواصل حتى نهاية النص.
وبالنظر إلى المستويات الخلافية التي قدمها نص (سأم الانتظار) يمكن أن نستنتج بالاعتماد على نموذج (غريماس) :
فالمرجعيات الثقافية هي التي تحدد نسق الشخصيات وتوجه مسارها في السياقات السردية، ولهذا فإن النص يقوم على الرؤية التي تظهر من خلالها الشخصيات في هذا النص، ضمن تلك العلاقات المتداخلة التي تربط الشخصيات (العربية) والشخصيات (الإنجليزية) في صراع مستمر، يقوم على فضاء أخلاقي يعمِّق التفاوت بين الفضائين في توسع وتنافر. وتعددية مرجعية ثقافية متنامية على مستوى السطح، وثابتة على مستوى العمق، فهي تقوم على توزيعات خلافية معتمدة على تلك الحكايات التي تمثل الشخصيات وتداخلها، وتلك التجارب التعاقدية بين الفضاءين المتصل والمنفصل، والانتقال الوصفي بين الأمكنة والأزمنة غير الموسومة سوى بالسمات الفضائية العامة (عربي / غربي) .
بالإضافة إلى ذلك فإن الاستقلالية الخلافية التي تتأسس عليها الشخصيات وفق القيم الإيديولوجية فإن التمايز بين الشخصيات على المستوى النصي يجعلها تظهر محكومة بالإشارات المكانية أو تلك المواقع المحددة والمرتبطة منطقيا بـ «ظهور جزء سردي داخل متوالية وظيفية موجهة ومنتظمة» – بحسب هامون – ولهذا فإن الشخصيات هنا تعتمد على المشروعات (الزواج، الحب، الهجرة …)، التي تقودها إلى سلوك معين توجهه القيم المتغيرة بحسب المرجعيات الزمانية والمكانية (عربية / غربية)، وبناء عليه فإن هذه القيم تستعيد أدوارها المحتملة بحسب المعطيات القيمية التي يفرضها النص، وإما مفترضة بوظيفة معينة وهي تلك المرتبطة بظهور شخصية أخرى (خلف – بلندا)، و(آندي – صفية)، أو غير مفترضة وهي تلك التي يتم فيها التقابل بين (المتحكم – المحكوم) كـ (القانون – دار زورديل) .
هكذا سنجد أن الشخصيات في هذا النص وفق تلك القيم الأخلاقية، والفضاء السردي الذي تشتغل عليه، والوظائف الخلافية التي تظهر فيها، تؤكد مركزية النسق الخلافي الأخلاقي، والأيديولوجية الثقافية التي تشتغل بوصفها مرجعيات ذات أبعاد معرفية تناوبية بين توطيد المفاهيم الحضارية أو تطويرها تبعا للبؤرة الاستراتيجية لتطابق كينونات الشخصيات مع سياقاتها، ولهذا فإن المرجعيات المتعددة لمجموع السرد والنظم التي تؤديها المحمولات الوظيفية تكشف ثقافة العصر (عصر النص في العالم الممكن) وتحدده . وبذلك فإن الشخصيات هنا ستظهر في شكل سلسلة من المتناقضات القائمة على القيم الأخلاقية من ناحية، والعلاقات مع المعيقات من ناحية أخرى؛ إذ سنجد أن (دار زورديل) يمثل شخصية ذات أبعاد متناقضة كونه مكانا لرعاية المسنين غير أنه لا يملك المقومات الأساسية لذلك على المستوى القيمي، وهو بذلك يمثل معيقا لتطور الشخصيات الأخرى سواء أكانوا أطباء أو مسنين أو عاملين .
على ذلك فإن الشخصيات في (سام الانتظار) تقوم على تحديد (عرفي مسبق) –بتعبير هامون -؛ حيث يشكل (دار زورديل) حالة البطل الذي يشتغل بصفته سننا مشتركا بين (العاملين فيه) و (الفضاء الخارجي / القانون)، وهو بهذا يقوم بتحديد النمط الاستهلاكي للهُوية التي سيقدمها من منظوره السردي الذي تشاركه فيه الشخصيات الأخرى في اتصالها وانفصالها عنه ضمن سنن الأمر والمنع المتأسسة والمتحكمة فيه من خلال البرامج والسنن والطقوس وغيرها من القيم الإيديولوجية . كل ذلك من أجل الوصول إلى تلك السمات التي تحدد (بلاغة الشخصية) – باصطلاح هامون -، ليتم الكشف عن الإكراهات الإيديولوجية والثقافية التي تحفز الشخصيات لإنشاء علاقات منفصلة ومتصلة فيما بينها كونها عوامل وملفوظات ناتجة عن تحولات سردية .
عائشة الدرمكي