إن الناظر في المشهد الشعري العربية ليوم يدرك أن الكتابة الشعرية المعاصرة ليست حركة خطية مبنية على تراكم التحولات والمنجزات، بل هي مسار مليء بالفجوات والانكسارات، بالتصدعات والانقطاعات بالتردد وبالمراجعة(1). والثابت أن هذه التصدعات والانقطاعات ميالتي جعلت المدرسات الشعرية تنهض، منذ حركة التحديث الرومانسي، محملة بمأزقها وميالتي جعلت المراجعة تصل لدى بعض النقاد الى حد التنبؤ بموت الشعر واندحاره وتلاشيه (2) وتعلن عن نفسها لدى شعراء الحداثة أنفسهم في شكل تبرؤ من راهن الشعر ومن مستقبله أيضا، فيذهب كل من سعدي يوسف ومحمود درويش وأدونيس مثلا الى أن الشعر العربي قد وضع في حضرة مستحيلة (3).
غير أن الحديث عن مأزق الشعر وتفخيمها على هذا النحو إنما يتم ويأخذ حجمه ومداه دون وعي بأن النص الابداعي لا ينهض الا محملا بمارقه، لأن مأزقه إنما تمثل جزءا عضويا من أمرار فنه وا بداعيته وفرادته. ذلك أنها تتعايش في صميمه مع نقيضها أي مع الاجابات والأسئلة التي ينهض ليطرحها من خلال لغته ورموزه، ومن خلال المتخيل الذي يصدر عفه والقيم الجمالية التي يكرسها.
والثابت أيضا أن مسارا لتحولات التي شهدها الشعر العربي خلال هذا القرن هو الذي ولد نوعا من التشظية طالت مفهوم الشعر نفسه، وأربكت الخطاب النقدي، وأدت الى بروز خطابات نقدية ايديولوجية حرص أصحابها على الانتصار لنمط من الكتابة ( قصيدة النثر/قصيدة التفعيلة /القصيدة العمودية ) وإلغاء غيره عن طريق السكوت عنه أو بواسطة تحقير منجزه أو بالالحاح على أنه مجرد بدعة وضلالة وترف، هذه ما ترمي به قصيدة النثر مثلا من قبل خصوصها -دون أن يقع التفطن الى أن قصيدة التفعيلة قد افتتحت هيا لأخرى هجراها في وسط ثقافي مشبع بالسجالات التي وصلت أحيانا الى حد اعتبار "الشعر الجديد مؤامرة تحاك في الظلام ضد العروبة والاسلام ".(4).
لكن هذا الطابع الأيديولوجي كثيرا ما يمعن في التخفي والزيغ والمواربة، فيوهم الخطاب النقدي بأنه ينشد الاجابة بأسئلة الشعر فيما هو يمعن في بعثرتها وتشظيتها إذ يصبح مدار السؤال : الشعر الخليجي /الشعرالتونسي/ الشعر السوري أو المغربي أو المصري.. الخ وبذلك تتم عملية حجب لعلاقة التحاور والاغتذاء التي ما فتنت تحصل بين التجارب والنصوص.
بإيجاز ثمة خطابات نقدية إقليمية شرعت تتصدر المشهد النقدي. وهي خطابات يعمد أصحابها الى تفخيم نصوص محلية وتمجيدها واعلائها والتكتم على لحظات وهنها دون أن يقع التفطن الى ما في كل ذلك من تحايل ومغالطة وانتصار للذات العاجزة ليس له ما يسنده أو يب”ه. والحال أن لا معنى لأي نص إبداعي، ولا معنى للأسئلة التي يثيرها حضوره إلا داخل مسار التحولات التي ما فتنت الكتابة المعاصرة تنجزها وتحياها مشرقا ومغربا. فالنص يحيا داخل نصوص يتحاور معها، سواء كانت تلك النصوص متزامنة معه أو سابقة عليه. وفرادته وابداعيته، مثل تقليديته واتباعيته، لا يمكن أن تنكشف إلا بقراءته داخل سيرورة الابداع مطلقا.
والناظر في النقد العربي المعاصر وفي كيفيات صياغته لأسئلته وابتنائه لأطروحاته ومنجزاته، سرعان ما يلاحظ أن هذا التوجه الايديولوجي قد وسم الخطاب النقدي بنوع من الهشاشة جعلته يعجز عن تجديد أسئلته. لذلك يكفي أن نفير زاوية النظر الى النتاج الابداعي. ونفير الأسئلة المكرورة، والأسئلة المستعادة تلك الأسئلة التي ما فتي، خطاب الحداثة يقارب في ضوئها الذات والواقع والنص، الأسئلة التي تستند الى تصورات بلاغية بائدة أو الى تصورات ألسنية أو أسلوبية منتزعة من منابتها قهرا – يكفي أن تغير السؤال – وسينكشف لنا أن كبيس النتاج الابداعي العربي منجزات الأبحاث الغربية الحديثة أو مق”ات النظرية البلاغية القديمة إنما يمثل نوعا من التحايل على أسئلة الراهن الثقافي.
إن الحديث عن الانزياح مثلا، عن محور التوزيع ومحور الاختيار، عن الاستعارات البعيدة والقريبة والمتوسطة (لم لا!!) عن التورية والكناية والمحسنات، عن السريالية والرومانسية والواقعية السحرية، ليس سوى اصرار على المضي بالمغالطة الى منتهاها وبالتحايل الى أقصده. لأن تلك المفاهيم التي يقع الاكتفاء بها لحظة انجاز حدث القراءة، تلك المفاهيم كما هي متداولة عندنا، إنما تحجب من النصوص أكثر مما تكشف. بل إنها كثيرا ما تسهم في حجب أسئلة الراهن الثقافي، وتوقع مروجيها والمكتفين بها في انتاج خطاب متعالم، سجين مسبقاته، وسجين مق”اته، وسجين تحايلاته على الواقع والنص واللحظة التاريخية.
لذلك يظل الحديث عن الحرية والاختلاف، عن الابداع والمغايرة وتحرير الكائن مجرد شعارات يتستر بها الخطاب النقدي على هشاشته واتباعيته. ولذلك أيضا يظل الكلام في المتخيل يشغل من راهننا النقدي والفكري منطقة اللامفكر فيه والمسكوت عنه. والحال انه يضطلع بدور القانون الذي
عليه جريان الابداع في ثقافتنا قديما وحديثا. وعليه جريان أغلب القيم والسلوكات التي كون علاقة الانسان بمنوه وعلاقته باللغة وطرائق مقامه تحت الشمس.
***
أنى لمن لا يجدد سؤاله أن يجدد مصيره
***
والحال أن تحرير الذات الكاتبة ودفعها على درب التأسيس الفعلي لا يمكن أن يتم إلا بتحرير ذاكرتها المحجوزة واستكشاف متخيلها الذي ظل هو الآخر مصادرا مغيبا ماثلا هناك بعيدا في منطقة اللامفكر فيه.
من هنا ندرك أن قراءة النتاج الشعري في الخليج من جهة كيفيات ابتنائه للغته وتشكيله لصوره ورموزه وايقاعه وكيفيات انفتاح تلك اللغة على الموروث الشعبي أو التراثي أو الأسطوري يمكن أن تضطلع بدور هام في استكشاف المنجز الجمالي لذلك الشعر. فثمة أجيال شعرية متعاقبة حرمت التقصي اللازم لجماليات منجزات نصوصها. لكن القراءة ستظل، في هذه الحال، مجرد قراءة مدرسية تسند الى النقد دورا جزئيا طفيليا وتعده مجرد تمييز لجيد الأدب من رديئه " مجرد تفسير وتقييم للنص المقروء. ومن المحتمل أيضا أن تتردى القراءة فيما نهضت لتتخطاه فتحجب الاضافات الممكنة أو الاضافات المحتملة المتوارية في صميم النصوص المدروسة. اي تلك الاضافات التي لا يمكن أن تنكشف للدارس إلا متى تمكن من تغيير زاوية النظر التي جرت العادة بانتهاجها في الخطاب النقدي السائد، لاسيما النقد الذي تناول تجارب الشعراء الذين يتصدرون المشهد الشعري العربي من أمثال (أدونيس ودرويش وسعدي والسياب ). وبذلك تقع في أعتى مأزقها : إنها ستكف، وقتها، عن كونها استكشافا لمجهول هو النص الشعري المدروس. وتصبح عبارة عن محو للمكونات التي بها يتغاير مع غيره من التجارب، ولقاء للمكونات التي تجعل من التجربة الفردية لحظة في مسار التحولات التي ما فتي، الشعر العربي ينجزها ويشهدها في رحلة بحثه عما يجعل من الكتابة حدث وجود لا فعل انشاء وصنعة وتجويدا للكلام.
لهذا الاختيار مب”اته إذن. وهي كامنة في صميم نص "هذيان الجبال والسحرة " لسيف الرحبي (5)، ونص "أخبار مجنون ليلى " لقاسم حداد (6). ثمة وشائج كثيرة متسترة تربط بين النصين. ثمة حشد من المكونات التي عليها جريان الكتابة في النصين هي التي تجعل من الشعر نداء الحرية. وتجعل من الكتابة فعل تحرير لا يظل مصادرا مغيبا من الذات والواقع والنص وحدث استكشاف لمتخيلنا المحجوز واستدعاء للمنسي في ذاكرتنا المليئة بالانقطاعات والتصدعات. لكن فعل التحرير هذا لا يتجلى فيما تقوله الكتابة فحسب، بل فيما تتكتم عليه أيضا، ولا يتراءى فيما يعلن عنه الشعر فقط، بل فيما يتستر عليه أيضا. وهذا الذي تتكتم عليه الكتابة ولا يخبر عنه الشعر لا يمكن للقراءة الوظيفية الايديولوجية أن تطاله. ولا يمكن للقراءة المتعالمة التي تستقدم المفاهيم وتقتطع من التصورات الحديثة ما تيسر انتزاعه وخلعه من منابته، أن تحيط به لأنه يرد مندسا في بنية النص عالقا بطرائق تشكل الكتابة وكيفيات تعاملها مع الواقع والتاريخ. ثمة نوع من التماهي بين كتابة الشعر وكتابة السيرة كما سنبين لاحقا بالتفصيل. لكن السيرة سرعان ما تكف عن كونها كتابة لسيرة فردية ذاتية وتصبح كتابة لسيرة ثقافة بأسرها، واستكشافا لما تحتوي عليه من قيم تخص علاقة الذات بتراثها وبالمطلق وبالمقدس. وتخص علاقة الانسان بنفسه من جهة كونه لحظة التلاقي العظيم بين المقدس والأرضي، بين المطلق الذي أوله الانسان وأخره الانسان، والهشاشة التي بالانسان تبدأ ومنها يصنع، تحت الشمس، قدره ومصيره واختياره.
بايجاز : إن الشعر، في هذين النصين، يفتتح هجراه مسكونا بهاجس محو العلاقة المعطلة بين النصوص والأزمنة في الثقافة العربية للوقوع على سر قوة تلك النصوص والاغتذاء به والتنامي ابتداء منه. إن الشعر لا يلفي قديمه بل يغتذي به. ولا يتملص من ذاكر ته بل يستكشفها. ولا يتخطى اللحظة التايخية بل يعتلي ء بصخبها وفيه _في رحابه _ تتعايش الأزمنة جميعها وينكشف بعض ما ظل من متخيلنا مصادرا مغيبا محجوزا.
لا تعلن هذه الأبعاد عن نفسها صريحة بل تتخذ لنفسها دروبا ملتوية مواربة متأتية عن الطرائق التي يتعرف بها الكلام في مكوناته البانية لجسده. لذلك حصرناها فيما يلي.
فتننة الكتابة ونداء الاقاصي
منذ البدء تعلن الكتابة عن نفسها من جهة كونها حدث انشقاق. إنها "أخبار مجنون " وهي "هذيان جبال وسحرة". لذلك تتشكل اللغة في النصين مأخوذة بالأقاصي والنهايات كما سنبين. الجنون خروج من النظام الى الفوضى، ومن الأليف الى المتوحش. والهذيان صفو الجنون وعتبة من عتباته. إنه تصرف في الكلام يعصف بالأنظمة والحدود والأنساق.
ومنذ البدء أيضا تختار الكتابة أن تطلق العنان للرغبات والأهواء والنزوات. تمضي بالعقل الى نهاياته. تتح” من المرجع والنسق فتمعن في تشظية الكلام وبعثرته. إنها
خطاب فتنة يحطم الأنظمة ويلفي الحدود بين الممكن واللامتوقع، بين المحتمل وما فوق حدود الاحتمال. يعلن هذا الاختيار عن نفسه وفق أكثر من طريقة ويرتدي في السر، أكثر من قناع.
فتنة الغرابة
تعمد الكتابة لحظة تشكلها ذاتها الى المضي باللغة الى أقصى امكاناتها. لذلك يلتبس المعنى، يتلاشى أو يكاد.
الناس يعبرون على أشيائه المنثورة (ريشة قطا مستدقة الرأس / خيط حرير أخضر عقدته أمه في زند طفولته / خاتم عرس منحول من فرط الخلع / حجاب في جلده ضبع / عود سواك يابس / كسرة ياقوت معروق بالفحم / خرج ثقبته الريح / أشلاء لجام تنضح منه ريح الخيل / وحشة ) (أخبار، ص 24).
هكذا تعتمد الكتابة على الومضة وتمعن في تسمية حشد من المدركات والموجودات. فيوهم الكلام بأنه ينثال اتفاقا لأن فعل التسمية يصل بين مدركات لا رابط بينها في الواقع العيني المتعارف. فالنص يعمد الى بعثرة الكلام وتشظيته ويراوغ كل قراءة تكتفي منه بدلالاته المعلنة. لذلك يبدو كما لو أنه أقفال وألفان وطلاسم تذكر بالتعاويذ وفنون السحر. لكنه يقيم علاقات نصية بين تلك المدركات. فتنشأ فيما بينها وشائج دلالية تحتية. ويصبح التجاور النصي ضربا من التشابك الدلالي. بموجبه، تجتاح الدلالات الكلام من كل صوب. واذا بتلك الأشياء الميتة الخالية من كل معنى تصبح عبارة عن مزق من حيرات. إنها أزمنة مكثفة متراصة. والكتابة لا تكتفي من تلك المدركات أي من الواقع براهنيته. إنها تقف في وجه النسيان. ولا تفقر الواقع بل تثريه. وهي لا تثريه عن طريق تلبيسه ما ليس فيه. بل تثريه بالنفاذ الى أبعاده المحجبة. الزمن في وعينا يتتالى خطيا لا يهدأ. ويتقدم في شكل نهر لا يتوقف عن المسير، لا يعرف الأناة لا يكل. لكن هذه الخطية مجرد وهم. ففي المكان، في الجسد، في المدركات جميعها في الأشياء الميتة "التافهة " ثمة الزمان مكثفا متراصا في شكل طبقات متشابكة متناوبة تمارس فيما بينها لعبة الظهور والتخفي.
إن العلاقات النصية التي يخلقها النص بين تلك المدركات الخالية من المعنى في الواقع والوشائج الدلالية التحتية التي تنشا نتيجة تلك العلاقات هي التي تتبع في الكلام غلالة من الريبة. ووقتها فقط، تصبح القراءة ضربا من الاستيقاظ الفاجع على هذا الهول الذي يمنح مقام الانسان تحت الشمس طعم المحنة أعني الوعي بأن الماضي لا يمني نهائيا بل يعلق بالجسد، بالمكان، بتفاصيله. ويلبس في صميم الحاضر ويواصل في السر العمل.
هكذا تستل الكتابة من صميمها ما به تفتح الواقعي على ما غاب منه. وتصبح ضربا من الترحال في أقاليم المكان في سطوحه وأقاصيه. وهكذا أيضا تطفح المدركات الميتة المشيأة الخلاء تحت مفعولات الوشائج الدلالية التحتية، بحشود من الايماءات.
*ثمة ايماءات الى أنوثة ماكرة تتراءى من خلال عبارات : عود سواك يابس /فص فيروز شائخ /عرق لبان / حق بثمالة العنبر (أخبار، ص 24).
* ثمة ايماءات الى رجولة مهزومة منكسرة تتراءى كالهجس من خلال عبارات : أشلاء لجام تنضح منه ريح الخيل / غمد فارغ / ما يرجع في السرج من الحرب (أخبار، ص 25).
* ثمة ايماءات الى أن غربة الكائن وعزلته ووحشته هي ما يفتح الوجود نفسه على هول اللامعني، لا معنى الحياة وتفاهة الذات في عالم مشيا موات. وهي ما يمنح مقام الانسان فوق الأرض معنى إذ يجعل منها حدث مواجهة لهول اللامعني. لا سيما أن المثول في حضرة العدم وتجلياته هو الذي يمد الكائن بالمعنى: وحشة /قلق /نوم قليل.
* ثمة ايماءات الى زمن ضاع وعمر أمعن في الرحيل : كوفية طفل هلهلها الرمل /خف حائل اللون /آثار دم في خرقة / خرج ثقبته الريح.
* ثمة موت ملتبس يتربص لائذا بالكوى المعتمة : قلق / وحشة / قوس قزح شاحب (أخبار، ص 24_ 26).
للكتابة مكائدها إذن
إنها تنهض لتقول ما تتكتم عليه الموجودات والمدركات التي تؤثث العالم من حولنا. لذلك تتحول، لحظة تشكلها، ذاتها الى حدث مواجهة وفعل مجابهة للتاريخ ولمكره، لأن التاريخ إنما يستمد معناه من الايهام بفكرة التقدم الخطي. ومنها يستمد سلطانه العاتي. أما الكتابة فإنها إنما تتشكل وتحضر بيننا لتشير الى أن فكرة التقدم مجرد وهم. فلا وراء هناك. ولا أمام : إن الوجود إقامة في الرغب وادلاج في التيه.
تهامي الألفة والغرابة يحفل الكلام بالصور والمشاهد الغرائبية. وتصبح الكتابة كما لو أنها اضاءات أو ايماءات متزامنة الى حشد من الأطوار والأحوال والأحداث :
الصحراء ماضية في غيها
… أبواب العالم تخلعها الريح
قبائل ترجف من الذعر
وأخرى تنحدر نحو السفوح
محدقة في الأبد الجارف للسيل
… وثمة عتالون سكارى يقصون أطرافك
بمشارط
صدئة جلبوها من مستشفى دمرته الحرب (جبال، ص 59)
… مواكب سحرة وبوذيين وفلية، نواحها يؤرق سكان الخليج
(جبال، ص 60)
هذه الصور التي تمضي بالفرائبية الى أقصدها إنما تتخذ طابعا هذيانيا من جهة كون الكتابة محكومة بقانونين متضادين : التشظية والتوليف. تتولد التشظية عن الكتابة بالومضة وتطال مستوى البنية النحوية التركيبية. فيتشكل الكلام في شكل جمل مستقلة وأخرى لا رابط بينها إلا
الحرف العاطف أحيانا. وتنهض تلك الجمل بمهمة توسيع دائرة الاضاءة ودائرة الرؤية إذ تشمل أفعالا تتزامن في أماكن مختلفة. أما التوليف فإنه يطال من الكلام مستوى البنية الدلالية. فتأتي الومضة الأولى "الصحراء ماضية في غيها" لتشير الى العدم المتربص بالوجود يعمل لا يكل. إن
الصحراء (موت الأرض ) تمضي في غيها زارعة موتا ينتشر ويتسع ويمتد.
هكذا توميء الكتابة الى فكرة الأفول. ثم تشرع في ابتنائها بواسطة صورة تجسد الأفول الكوني الشامل : (أبواب العالم تخلعها الريح / قبائل.. تنحدر نحو السفوح / محدثة في الأبد الجارف للسيل ). وتشير تريحا الى ما يرافق الأفول من رعب. مهنا تتنزل عبارة "قبائل ترجف من الذعر" ثم تجسد فكرة الرعب بواسطة صور في منتهى القتامة "عتالون سكارى يقصون أطرافك بمشارط / صدئة جلبوها من مستشفى دمرته الحرب ). إن الكلام يستل من صميمه ما به يبتني طابعه القيامي. فيصبح النوح نوحا كونيا عاما تشترك فيه الكائنات "موكب سحرة وبوذيين وفيلة ". وهكذا أيضا يأتي للتوليف ليضطلع بدور القانون الذي يقي الكلام من التفكك. ويشير صراحة الى أن الومضات التي تبتني جسد الكلام لا تتشكل من قبيل الصدفة والإتفاق والبخت بل تتبع مسالك ودروبا هي طريق الشعر الى التباعد عن المألوف والمكرور، وطرق الكلام هذه السرو التي تبتني الغرائبي وتجسده تتعايش في صميم النص مع صور أخرى تحاكي الواقع وتجاربه.
وهي التي تمنح الغرائبي جميع مب”ات وجوده. لأنها إنما تمثل وجهه الأخر الذي يمنح الكلام مراجع متحققة في الواقع العيني:
أدركتني الظهيرة في الربع الخالي
فقدت بعيري الى شجرة غاف
هجرها البدو منذ أزمنة (جبال ص50)
تنشأ بين هذين البعدين (ذاك الذي تبتنيه الصور ذات المنبت الغرائبي وذاك الذي تجسده الصور التي تصف الواقع وتجاريه ) علاقات تجاور وتناوب، أو تشابك وتماه. فيضعنا الواقعي في حضرة الغرائبي. ويسلمنا الغرائبي الى المحتمل أو المتوقع وفق نسق بموجبه تصبح علاقات التشابك والتناوب والتجاور التي تتوالى بشكل دوري بمثابة قانون ايقاعي لا يخلو من الدلالة. إن الواقعي مجرد عتبة مشرعة على الغرائبي المحجب في أقاصيه وتلاوينه. والغرائبي هو البعد المنسي مما نحسبه أليفا ونخاله معادا متعارفا مكرورا. والكتابة حدث ترحال في ذلك الحيز الدقيق الممتد في المآبين.
الكتابة وامتداداتها
إن افتتان الكتابة بالأقاصي والنهايات، هو ما يمنحها هويتها من جهة كونها حركة لا وجود لها خارج امتداداتها وما ينتج عنها من تحولات وايماءات. لكن تلك الامتدادات لا تتم بواسطة قانون التداعي أو قانون التضاد. وما أعنيه بقانون التداعي إنما هو محاكاة الكتابة للكيفية التي تطرح حسبها الذاكرة مخزونها في شكل تداعيات أو ومضات. وهو قانون عليه جريان الشعرية لدى العديد من الشعراء المعاصرين نذكر منهم السياب مثلا (7) ما التضاد فإنه يعني اعتماد الكتابة على وصف المشاهد والصور والحركات المتضادة وفق نسق بموجبه تصبح تحولات النص قائمة على استدعاء النقيض لضده واعتماله معه. وهذا أيضا ثابت حز الثوابت التي طيها جريان شعرية العديد من النصوص لاسيما نصوص أدونيس مثلا (8).
إن الامتدادات عبارة عن حشود من الحركات والصور التي تتوالد غزيرة لا تكل ولا يدركها التوقف. فتصبح حركات النص ولوحاته ومشاهده ورموزه وصوره كما لو أنها تتراءى على أديم مرأيا مهشمة. أو لكأن النص محكوم من الداخل بنوع من الفيض الدائم هو الذي يجعله يتشكل مأخوذا بنصوص أخرى وأزمنة أخرى يتملك منجزها الجمالي ويحاورها أو يستكشفها ويصهرها في محارقه، فيما هو يمعن في مزاوجة ذاته من صميم ذاته.
الكتابة جسد مأمول بالفقد
مهنا يتنزل نص "هذيان الجبال والسحرة " ويفتتح هجراه مسكونا من الداخل بأصوات آتية من بعيد هي التي تفتحه على فضاءات متعددة وتمنح الكتابة امتداداتها ومداها. تنحدر هذه الأصوات من أزمنة ونصوص متنوعة. فتتوالد في النص حشود من الصور ذات طابع قيامي تتردد في تلاوينها أصداء من أساطير الأفول الكوني: "أفلاك تقود بعضها كعميان شرسين ومجرات غاضبة على وشك الاقتتال " (جبال ص 66) هناك _ يقول لنا الصوت الذي ينقل ما يجري – هناك :
رأيت الزلازل تحت قدمي
دوحة أرض ونشوة سماء (جبال،ص49)
ولا شيء لا شيء سوى:
مدن تحترق وأخرى تفتك بها الكوليرا (جبال، ص 74)
إنها:
لحظة الارتجاج الهائل لأكوان ومخلوقات سعت
منذ ميلادها الى هذه الخاتمة (جبال،ص 69)
تتعايش هذه اصور القيامية مع صور 0خرى تسمهم القرآن علي نحو صريح. فيتم مثلا استقدام قصة أهل الكهف :
لا تستيقظ هذا الصباح تأخا المظلة لتراقب أهل الكهف
وكلبهم الذي افترسته افاعي الجيران (جبال ص 60)
أو يقع الايماء الى قصة يوسف :
هذا الضبع الذي تلمع عيناه في الظلام صديق
السحرة
الذين ألقوا أخي في غياهب الجلب (جبار، ص 64)
هكذا تتقدم الكتابة وتظل توسع من فضاءاتها فتنفتح على الشعر القديم وتجري الكلام وفق نسق يذكر بالوقفة الطللية من جهة كونها لحظة وقوف في حضرة رعب الوجود:
لقد ذهبوا بعيدا صوب أنفسهم
وذهبوا في الوحشة.
أيام تتلوها أيام،
الديار تضمحل في عين عاشقها
والجبال عرين الذكرى (جبال، ص47)
… لا أكاد ألمح جزيرة النخل
… لقد فتكت بها الرياح الهوجاء
وأمها البلى
كديار أحبة غربت للتو (جبال،ص 54)
ثم تنفتح هي نصوص صارت جزءا من ذاكرة الكتابة الشعرية العربية المعاصرة. لذلك تتردد في تلاوين النص في انحاءاته وتعرجاته أصداء من "الأرض الخراب "نقرأ مثلا :
· ها أنا ألمح الجسر الذي مشت عليه الملايين
قبلي وتبخرت (جبال،ص 68).* بكاء الأمهات على
ضحايا الطرق (جبال،ص 61)
* لأن الوقت قد تأخر
تأخر الوقت تأخر الوقت (جبال،ص 74).
ونقرأ في " الأرض الخراب" (9)
* جموع تدفقت على جسر لندن
* لم أكن أظن أن الموت قد أباد مثل هذا العدد
* ما هذا الصوت العالي في الفضاء
لغط النجيب الأمومي
أسرعوا أرجوكم حان الوقت/ أسرعوا
أرجوكم حان الوقت
هكذا تمعن الكتابة في توسيع ذاكرتها مأخوذة حتى لكأن النص إنما يتشكل مأخوذا بالبعد الكوني المتكتم على نفسه في جميع الثقافات محاولا أن يتملكه. أو لكأنه يفتتح هجراه مسكونا بهاجس محو الحدود بين الأزمنة والنصوص التي ينفتح عليها لحظة تشكله وصيرورته.
فتصبح العلاقة بين النصوص على أديمه كما لو أنها اصوات تتنادى لكأن كل نص يمني، في حركة طافحة تحنانا ووجدا، لملاقاة منوه ونظيره، لذلك كثيرا ما يقود التنادي بين النصوص الى نوع من التماهي بين الحيرات والآلام. فتنفتح تفريبة الراوي في النص على تغريبة رامبو مثلا، بل إن تفريبة رامبو على طريق اليمن وبلاد الأحباش هي التي تتخذ من تغريبة الراوي وآلامه معبرا منه تتسلل الى النص
… تنحدر الرمال على الأفق الشرقي
المحاذي لبلاد الأحباش (جبال، ص 54)
… ها أنت في البيداء
… الحقائب الجاثمة كغربان البين
في انتظار قافلة لن تأتي
بطاقة السفر،
التي رأيتها البارحة في نومك،
وأن تسال المسافر الأسود،
أي الطرق تؤدي الى اليمن؟ (جبال ص58).
للنصوص مكرها إذن
ولها أيضا سلطان هو الذي يجعل البعض منها يتغذي بالبعض الآخر ويصهره في محارقه. فتتحول منجزات تلك النصوص في تلاوين النص الذي استدعاها وصهرها الى طاقة يتمكن بواسطتها، من الانفتاح على ما تأسس قبله من ابداعات ويصبح، تبعا لذلك لحظة تنام في مسار الابداع. وهذا يعني أن النص كيان تاريخي. وهو لا يستمد ابداعيته وفرادته إلا من جهة كونه كيانا تاريخيا. إنه يفتح هجراه مأخوذا بقديمه وماضيه أي ما تأسس قبله من نصوص وابداعات. وفي لحظة الكتابة يرد ذلك القديم. ويحضر المامي وتطرح الذاكرة مخزونها على نحو سري موغل في الخفاء. فيصبح النص مهددا لحظة تشكله ذاتها بالتلاشي فيما ليس منه. وهو لا يتمكن من افتتاح هجراه إلا إذا حقق الانقطاع عن ذلك القديم وانتشل نفسه مما علق بالذاكرة من مسالك الابداع ودروبه التي افتتحتها فيما مضى نصوص أخرى. لكن إبداعية النص مشروطة أيضا بتحقيق التواصل مع ذلك القديم وتلك المنجزات. لا للاكتفاء بها واتباعها بل لمفارقتها بعد صهرها في محارقه. لأن التغاير مشروط بالتواصل معها والانقطاع عنها في الأن نفسه.
هكذا ترسم الكتابة البعض من امتداداتها. فيصبح النص قائما على نوع من التراكب الدلالي هو الذي يجعل من الشعر حدث تفكيك للتاريخ وللواقع والنصوص. لا يعلن حدث التفكيك عن نفسه صريحا بل يتخذ لنفسه مسارب ملتوية مواربة. ويصبح بمثابة قانون عليه جريان الكتابة وعليه متصرفها أيضا. إن النص عبارة عن سيرة ذاتية. لكن السيرة تكف عن كونها سيرة فرد، كما أشرت وتصبح ضربا من الاستحضار لثقافة تمضي قدما الى خرابها، وتأريخا لأرض كل ما فيها يتفسخ. لذلك تنعت فواحة بكونها "أرملة العصور/ ومستودع نفايات العالم ". ثمة في النص تصريح بأن هذه الأرض مدائن صنعها النفط ليسرح فيها "السماسرة الذين أتوا من كل بلاد العالم لامتصاص ضوع الأرض وما خلفته عظام حيوانات بائدة " (جبال ص 61). إنها أرض طفولتها أمعنت في الرحيل. والنص يتكيء في بعض المواضع على طابعه السردي ويخلق نوعا من التوازي بين طفولة الراوي وطفولة المكان :
مشي خطوات كمن يراوغ نفسه فوق تلال طفولته
المبعثرة، حاول أن يحتمي بشيء منها، شجرة أو
ذكرى أو نبع. لكنه أحس أن لا صلة له بهذه الأمكنة
ولم تكن له طفولة ما على هذه الأرض (جبال، ص 69)
من هنا تستمد الكتابة العديدة من امتداداتها. فهي جسد مأهول بالفقد. والفقد هو ما يجعل منها خطاب إدانة وإشهاد. لذلك تبتني حشودا من المشاهد تجسد الحيوات والأزمنة التي طالها الفقد وطواها الغياب، فيطيح بمشاهدة ذات طابع فردوسي:
غيمة بحجم سماء كبيرة
تهطل مطرا وأحلاما
تببل نوام السطوح وقارة النخيل (جبال، ص 53)
او تبتني مشاهد تضعفنا في حضرة زمن كانت الحياة فية غضة مشتهاة، وكان لكل شيء بهاؤه وعفته ومعناه. ولم تكن الكائنات تبلى وتتفسح وتنحل، بل كانت تمضي الى أقدارها ومصائرها وتختار حتفها كأصناف الالهة، دون مواربة ودون دهاء:
تشاهد الموت معلقا فوق قرون الأكباش
التي تهرع بثغائها نحو الابراج
… ينحدر الرجال
على الهضبات وفوق التلال
مختلطين بهدير الجبال ونواح بنات أوى
…أسلحة تمتطي الجمال والبغال
تحت شمس آب الفائضة على الكون
وكانت المخلوقات تحتشي حتفها
جرعة… جرعة
من غير مواربة ولا دهاء
حروب واضحة
وقتلى في مجد الظهيرة (جبال، ص55-56)
تخترق هذه المشاهدات ذات الطابع الفردوس وتلك التي تبتني الحياة في عنفها ومضائها والكائن في مجده وتساميه، بمشاهد ولوحات في منتهى القتامة تأتي لتجسد هول الفقد. ونتشكل طافحة بالنوح، نوح على الذات.
مات دليلي وتقاطعت بي الطرق (جبال، ص 55-59).
ونوح على المكان:
أيتها الصحراء
غادرك الركب تحت شمس ترضع أطفالها
بأضواء سامة
غارك الحق والباطل
… وغادرك الخريف الأكثر رأفة
من ربيع المدن
غادرتك النجوم الأولى والأيائل
وضفاف الاودية
غادرك الزمان،
وما يظنونه كنزا ليس سوى آلة حتفك الرهيبة
(جبال، ص71)
كثيرا ما يتحول النوح الى ندب على الانسان وهو يبلى ويتفسخ، وعلى المكان وهو يتعفن وينحل. وعندها تطفح الكتابة بالادانة والفضح والتشفي:
… بماذا أوصفك:
أرملة العصور
أم مستودع نفايات العالم؟
بماذا نصف أنفسنا
… متكئين على ساعد الخسارة
… نتسلق ظلالنا كما تتسلق العظام الجدران
ونمضي صوب بحر لا يشبه البحر
متحدين بأرواح محمولة على محفة (جبال، ص 72-73)
لا يكتفي النص بابتناء هذه المشاهد التي تتوالد لا تكل وترسم للكتابة
آمتداداتها وتحولاتها بل يعصف بالحدود الفاصلة بينها. فتتعاصر المتضادات ولا تعتمل فيما بينها. بل تتعايش وتتزامن وتتماهى وفق نسق، بموجبه يبلغ التفكيك ذراه وتنكشف من الكتابة رغباتها الدفينة التي نذرت نفسها لانجازها، ومن أجلها كان النص وحضر بيننا. إن الكتابة تتشكل مسكونة بهذا البرق : تنفيه المتعاليات وامتهانها. بل إن الرغبة العاتية في امتهان المتعاليات وتحقيرها هي ما يصنع نار الكتابة ولهبها ونسفها. وهي ما يمد الشعر بالمعنى. ويجعل منه ميدان مواجهة، مواجهة الكائن لسلطة المتعاليات والمطلقات ومواجهته لهشاشته في الكلمات وبالكلمات.
تتمكن الكتابة من تحقيق رغباتها المضمرة هذه، عن طريق التصرف في الكلام وفق نسق بموجبه تقتلع الكلمات والرموز والصور من حمولتها الدلالية الحافة التي جرت في اللغة مجرى العادة وتمضي في عكس دلالاتها السياقية الممكنة والمحتملة. فالكلمات لا تقيم في العراء مفردة معزولة ليس لها من المعاني إلا معناها القاموسي بل تحضر محاطة بهالة من السياقات الممكنة والمحتملة. وعلى تلك السياقات جريانها ومتصرفها أيضا فكلمة "ملائك " إنما حملت الدلالة على الأثيري والسماوي، على المقدس والمتسامي، من السياقات التي ما فتنت تتنزل فيها. لكن النص يعمد، في حركة واعية بما للكلمات من قيمة دلالية سياقية، الى العصف بالمحتمل والمتوقع :
ملائك ترتطم بسقف البسيطة
حتى يخالها الراثي طيورا كسيحة
تنقر فضلات البشر (جبال، ص 45).
هكذا تكف كلمة "ملائك " عن كونها دالة على المتسامي والمقدس والأثيري وتضطلع بدور هام في تجسيد الدوني والوضيع. تبتني الكتابة طابعها القيامي وتطفح بالدلالة على الرعب مكثفا على الغريب والمقرف والدوني معتمدة في ذلك على استبدال السياقات الممكنة لكلمة ملاشك بسياقات تأتي لتقلب صورة الملاك في الذهن. مهنا يتنزل التوازي بين ارتطام الملاشك بسقف البسيطة والطيور الكسيحة المشدودة الى الأرض شدا.
على هذا النحو يتقدم الكلام صاحيا المسافات الفاصلة بين المحتمل وغير المتوقع فيعمد مثلا الى خلق نوع من التوان ي والانابة بين ما لا يقبل التوازي والانابة :
* تكر الفصول على الصحراء
في شكل ذئب وحيد
وفي شكل مئذنة (جبال،ص 54)
* أنبياء يملأون الفضاء… المتوقع: بالأدعية
بالصلوات
بطلب الغفران
غير المحتمل: باللعنة (جبال،ص 70)
تتخذ ظاهرة استبدال السياقات الممكنة والمتوقعة بسياقات غير محتملة طابعا انتشاريا. وتصبح بمثابة قانون من القوانين التي عليها جريان شعرية الكلام. مهنا تتنزل مثلا عملية استبدال الكلب بالأفعى: "تراقب أهل الكهف وكلبهم الذي افترسته أفاعي الجيران ". وههنا أيضا، تتنزل أغلب المجان آت التي عليها جريان الكلام وعليها دورانه ومتصرفه. من ذلك مثلا خلق علاقات بين متصورات ذهنية وأفعال تدل على المادي الثخن "نرتطم بالأبدية /ارتطمت بالأزلية / نرتطم بالصباح / هذه الأزمنة المكدسة أمام بابي/ أزمنة تتكدس أمام بابي".
إن قانون الاستبدال هو الذي يمنح الكتابة امتداداتها وهو الذي يمد الكلام بالمعنى. فالزمن حركة وانتقال وتحول، وطبيعته تلك هي التي تجعل من الحياة محنة يمكن أن تطاق وتمنح مقام الانسان تحت الشمس معنى. لكن الزمن في النص يغير من طبيعته وحالاته ويحترف التكلس.
ثمة تحول يتم في السر إن الزمن يتحول الى مكان متكلس : جبال
هكذا يستل النص من مكوناته البانية لجسده ما به يبتني فكرة الأفول الكوني الشامل. إنه يستدعي المحلي (الصحراء / مدائن النفط..) لكنه يفتحا من الداخل على الكوني المحجب فيه. ومن الذاتي ينفذ الى البشري الشامل. فتنفتح السيرة الذاتية على محنة الكائن مطلقا. وتصبح الكتابة إطلالة على الرعب المحتمي من المكان بأقاصيه وأصقاعه وكواه المعتمة. لذلك يصبح النص، بدوره بمثابة نشيد أسود يطفح قتامة ونياحة :
أيتها الصحراء… الصحراء
ماذا ابتغي من قلبك الذبيح؟
ومن لا أرى، غير نعش يحمله بوذيون
وتعاويذ أقوام هلكوا (جبال،ص70)
ولذلك أيضا يصبح المكان في النص ضربا من الايهام بالواقع حيت لكأنه مؤثث بالفراغ وليس مليئا. والناظر في الكيفية التي تتردد حسبها عبارة "جبال " يلاحظ بيسر أن قانون الاستبدال الذي يمكن الكتابة من عبور المتوقع الى غير المحتمل هو الذي يفتح العبارة على أبعادها الرمزية. فالنص يومي، الى أن الجبال هي الزمن متكلس. فيلعن "جبال تكوها جبال، هذه الأبدية…" (جبال، ص 51) ويمعن في تفخيم صورة الجبال "تزفر الجبال الهواء الثقيل / كأنما لحد كونا بكامله " (جبال، ص 61). فيوحي بمعنى العلو والتسامي. وهذا يعني أنه يستدعي الكلمة محملة بمعناها السياقي المحتمل. فلكلمة "جبل " في المتخيل البشري معنى العروج والصعود والتسامي لأن الجبل طريق صاعد من الأسفل الى الأعلى، من الأرض الى السماء، من المادي الثخن الذي يطاله البلى الى الأثيري الذي لا يطاله البل. بإيجان : إنه ما يصل الأرض برية الفناء التي شرد فيها الانسان بالمساء مسكن الآلهة وفردوس البداية المفقود. إن : "الجبال عرين الذكرى" (جبال، ص 47) هذا ما يقوله النص صراحة.
غير أن هذه الحركة بموجبها يتم استحضار المعاني السياقية المحتملة تتزامن في النص مع حركة موازية هي التي تسمح للكتابة باختراق الحدود. فتتوال الصور والمشاهد التي تبتني فكرة النزول والسقوط من حالق.
* الجبال الجبال
مفازات من السراب والظل
تنحدر على سفوحها الذئاب وبنات آوى
في المساءات الكبيرة للقرى وللغزوات
وتنحدر على ثغورها صليل الحديد (جبال، ص52)
* تنحدر الرمال من الأفق الشرقي (جبال، ص 54)
* قبائل تزحف من الذعر
وأخرى تنحدر نحو السفوح (جبال،ص 59)
* نزلوا حديثا من الجبال ومازال دمهم يسيل على
البطاح (جبال، ص60)
للكتابة مكرها إذن
إنها تستدعي فكرة التسامي والصعود وتمعن في الايحاء بعلو الجبال وضخامتها كي يكون السقوط عظيما. إن الوجود مجرد إقامة في الرعب. ولا خيار أمام الكائن غير الهبوط والمرارات. والكتابة لا تبتني فكرة الأفول والعدم لترثي الكائن بل لتوميء على نحو موغل في الخفاء الا أن للعدم فتنته وله أيضا سلطانه إنه هو الذي يمد الوجود بالمعنى كما قلت منذ حين.
تلك هي امتدادات الكتابة، وتلك هي التواءاتها وتعرجاتها إنها لا تتشكل اتفاقا وبختا بل تجري على قوانين هي التي تبني استراتيجية الكلام وتمد النص بناره والشعر بلهبه. ولكن بنية النص ذاتها وكيفيات انفتاح السيرة الذاتية فيه على سيرة الثقافة التي ينتمي اليها، واحتفال الكتابة بالعدم على هذا النحو، إنما تشير جميعها الى أن النص إنما ينتمي الى ثقافة مازقها أعتى من أن تنقال. إنه نص مأهول بالفقد لأنه طالع من تصدع تاريخي خطير. والشعر إنما ينهض ليضطلع بأشد أدواره خطورة : الاشهاد على أن لا معنى للكائن خارج خساراته والاشهاد على أن لا مشيء كبر فينا ومن حولنا غير أحزاننا وفجائعنا ومحننا.
ثمة خروج إذن.
ثمة تبديل طال وظيفة الشعر.
إن الكتابة لم تعد تجري لتحقيق غاية نفعية بالمعنى الاجتماعي بل تعصف لحظة تشكلها وابتنائها لغرائبيتها بقانون تلازم الجميل والنافع، وهو قانون يعتبر الأبعاد الجمالية في النص مجرد حلية تنضاف الى المعنى المراد ايصاله كي تشد المتلقي عن طريق إثارة اللذة في نفسه وامتاعه. وبذلك يكون الامتاع مجرد وسيلة غديتها تحقيق المؤانسة. هذا هو القانون الذي أقرته نظرية العرب القداس في الشعر والشعرية واعتبرته مقصد الشعر ومتعلقه وغديته
التي إن حاد عنها أدلج في التيه وكتفته الفتنة والغواية والضلال ( 10). والناظر في المشاهد الغرائبية التي تشغل من جسد النص مساحة هامة يدرك بيسر أن الجميل ينفتح على المرعب ويتماهى مع المخيف والفاتن ".. البشر وقد عادوا الى بطون أمهاتهم / ملوثين (جبال، ص 49) / شعوب وقبائل / تجرفهم الرمال والفيضانات / ويبقى أثرهم على سطح الكوكب / المتلاشي في هذيانه (ص،52-53) / ملائك ترتطم بسقف البسيطة (ص 49) / الموت معلق على قرون الأكباش (ص 55) أفلاك تقود بعضها كعميان شرسين ومجرات غاضبة / على وشك الاقتتال (ص 66).
يوهم هذا الخروج عما أقرته النظرية القديمة بأن الكتابة تتملص من القديم العربي وتمثل من التاريخ في خلائه، والحال أنها إنما تقيم مع قديمها وماضيها وذاكرتها أكثر من علاقة سرية ليلية. مهنا يتنزل استدعاؤها للوقفة الطللية من جهة كونها لحظة اطلالة على رعب الوجود.
ومهنا أيضا ينكشف لنا أن تماهي الجميل والمرعب هو بالضبط ما حرص القداس على تغييبه لحظة قراءتهم للنصوص الابداعية لأنه هو الذي يمد الكتابة بنارها والشعر بلهبه ويمد الابداع بالمعنى ويفتحه على الحرية حرية الكائن في مواجهة رعب الوجود.
إن الانقطاع عن القديم يصبح ضربا من التواصل مع المسكوت عنه من ذلك القديم. والنص انما يتنامى ويفتتح هجراه ابتداء من ذلك المسكوت عنه. يكفي هنا أن نعود الى النصوص التي تشغل من تراثنا هوامشه المقموعة، نصوص المتصوفة والرحالة وألف ليلة وليلة وكتب الفقه وسندرك أن انفتاح الجميل على المرعب في تلاوينها هو الذي يمنحها طابعها الانشقاقي ويحولها الى فضاء فيه يتراءى من متخيلنا ما ظل في عد المعدوم. والحال انه ما فتي، يلون سلوكاتنا ورؤانا ويعمق العديد من مكبوتاتنا ويتحكم بطرائق مقامنا تحت الشمس.
الكتابة توغل في منطقة الخطر
إن الناظر في نص "أخبار مجنون ليلى " يلاحظ بيسر أن الكتابة تمعن في تنويع مكوناتها البانية لجسدها فتخترق من الداخل بحشود من الأصوات والأزمنة والانساق. وفي صميمها يتعايش النثر مع الشعر.
لكن النثر يتعدد ويختلف فيرد في شكل أنواع. ويتعدد الشعر ويختلف أيضا. وهذا يعني صراحة أن الكتابة تفتتح هجراها مأخوذة بالأقاصي والنهايات كما قلنا سابقا. لذلك
تمني باللغة الى أقصى امكاناتها وتنوع مكوناتها على النحو التالي :
ا – النثر
أ – بعض من أخبار المجنون الواردة في المتون القديمة.
ب – أخبار المجنون بعد أن تصرف فيه النص المبدع وأعاد انتاجها وصياغتها.
ج – تعريفات للحب باب المودة / باب المودة (كملها بعد) تذكر بتعريفات الصوفية.
د – محاكاة لطرائق الناثرين القداس في تصريف الكلام / محاكاة لأفانين القرأن والمتصوفة في تصريف الكلام.
1- الشعر:
أ – أشعار قيس بن الملوح.
ب – النص المبدع (موزون ).
ج – النص المبدع (متخل عن الوزن ).
تبعا لذلك يصبح النص فضاء في رحابه يسترد الشاعر حريته ويشرع في اللعب بالنصوص والأزمنة وفق نسق بموجبه تصبح الكتابة واللعب صنوين. صحيح أن حدث إدراج النصوص التراثية في النص المبدع يوهم الظاهر بأنه مجرد توظيف للتراث درجت القصيدة المعاصرة على تحلية نفسها به واعتماده طريقة في التواصل مع قديمها وماضيها. لكن الحدود الفاصلة بين النثر واختلافه وتعدده والشعر في اختلافه وتعدده أيضا تلتبس حتى أنها تمحى أو تكاد. وبدلها تتأسس حشود من الوشائج السرية المتعددة التي تقي النص، رغم اختلافه وتعدده وتنوع مكوناته وحركاته، من التفك والتشظي. وتجعله يحيا نوعا من الفيض الدائم. فيظل يزاوج ذاته من صميم ذاته محطما الأنظمة ومخترقا الحدود. ويفتتح له مجرى بعيدا داخل منطقة الخطر. هكذا تأتي ظاهرة تنادي النصوص التي اضطلعت في نص "هذيان الجبال والسحرة " بدور قانون عليه تحولات الكتابة وتندس في تلاوين نص "أخبار مجنون ليلى " لكن التنادي يصبح أكثر مضاء وأشد توترا. ذلك أن الشعر يمثل في حضرة مستحيلاته ويتخطاها ماحيا المسافات الفاصلة بين الشعر وبقية الأنواع. انه يفتح هجراه في تلك العتبة الدقيقة التي في رحابها تتقاطع الأنواع وبذلك تكبس الكتابة بجميع سمات المتاهة.
ثمة أكثر من علاقة سرية ليلية تنشأ بين النص التراثي المتعدد والنص المبدع في تعدده واختلافه أيضا. فيصبح كل نص أو نمط بمثابة وجه ومنوه بمثابة قفا. ثمة وشائج دلالية موغلة في التخفي من خلالها يتضح لنا أن النص عبارة عن مرأيا متناظرة على أديمها تتراءى جميع أبعاد الكلام ولا يمكن لأي منها أن يضعنا في حضرة تلك الأبعاد جميعها لذلك تتخذ الوظائف والدلالات طابعا انتشا ريا. إن النصوص المخطفة المتباينة تقيم فيما بينها حشدا من علاقات تتغير لا تكل. فتتجاور أو تتناوب ثم تتشابك أو تتماهي وفق نسق دوري يمعن هو الآخر في التبدل والتغير إن كلا أو جزءا. فتوهم تلك العلاقات بأنها تتشكل صدفة واتفاقا وبختا. ويوهم النص من وراثها بأنه محكوم بحال من الهذيان بلغت المنتهى.
لكن الناظر في انحناءات الكتابة في تعرجاتها والتواءاتها سرعان ما يلاحظ أن لا اتفاق هناك ولا صدفة فللكتابة متعلقها الذي ظلت تنشده وتبتنيه فيما هي تنهض وتكون ولها أيضا مقاصدها واستراتيجيتها في التعامل مع النصوص التراثية.
ثمة اضمار إذن.
ثمة مكر…
ثمة تواطؤ ينشأ بين ما هو تراثي مستقدم من القديم العربي وما هو مبتدع لا صلة له بذلك القديم وهو تواطؤ بموجبه يضع النص التراثي أسراره ورموزه في المتناول أمام النص المبتدع. والكتابة إنما تتحول الى حدث انشقاقي وتستمد أمالتها من جهة كونها تستدعي نصوصا تراثية توظفها أو تتكيء على منجزها الجمالي بل من جهة كونها تتحرك في المكر. وفي المكر أيضا تبتني علاقتها بقديمها وماضيها ومهنا بالضبط خطورتها. مهنا أيضا يعلن طابعها الانشقاقي عن نفسه إنها تدخل مع النص التراثي في علاقة استكشاف وتحويل واسترداد في الوقت نفسه.
استراتيجية الكتابة ذاتها. فالنص إعادة كتابة لتغريبة قيس وليلى. وهذا يعني أن الحكاية الواردة في كتب التراث هي التي سترسم للنص حدوده وضفافه ومداه. لن يكون هناك أي تشويق أو أية توقعات وانتظارات. ما هو دور الكتابة إذن وأي تحد يدفع بها الى إعادة صياغة حكاية صارت من كثرة التداول والشيوع في عداد المتعارف والمكرور والمعاد؟ هل يعني هذا أن الكتابة تنطلق من تسليم بأن الحكاية لا تخلق النص ؟ ما الذي ينتج النص إذن ؟ ما الذي يصنع قوته ؟
ههنا، أي داخل هذه الرحال، تفتتح الكتابة هجراها ومن هنا تستمد خطورتها وأهميتها باعتبارها حدثا ينهض مأخوذا بالأقاصي والنهايات. فالنص يشرع فيما هو يستدعي الأخبار من كتب التراث، في تقليبها كما الحطب على النار. ويعمل على محاورتها واستكشاف المسكوت عنه في تلاوينها لذلك يمعن في التشكيك فيها والسخرية من واضعيها يعلن مثلا : "الصحيح الذي هو شك خالص أن قيسا وليلى عامريان " (أخبار،
ص 21). ويصف الأخبار بأنها أهواء "رواة يعبثون بالأخبار كل على "هواه " (ص 57-85) "رواة يعبثون بالسيرة " ص 69. ويشرع في التصرف في الأخبار والوقائع والأحداث. فيوهم بأنه يحرف المتون القديمة فيما هو ينفذ، في حركة قصدية واعية، الى المسكوت عنه في تضاعينها "أما نحن فقد رأينا أخبارنا.. في رقع أسقطها الوراقون واحتفت بها الأحلام، وكشفتها لنا طبيعة المحبة " (ص 15)."وقد جرينا في أخبارنا على ما يروق هوانا ويشحذ خيالنا بشطحه " (ص 64). لذلك تصبح شخصيات الحكاية بمثابة منطقة تقاطع بين المرثي واللامرثي. والمحتمل وما فوق حدود الاحتمال يقول عن ليلى مثلا: "روت قرينات لها أنها من الجن إلا قليلا ومن الإنس بمقدار" (ص 21). ولذلك أيضا تنفتح العلاقة بين قيس وليلى على أبعاد جنسية ايروسية أي على ما يجعل منها ضربا من الاحتفال باللذة وتمجيدا للجسد.
ففي تلك الساعة تفلت الأزمة والأعنة.. ولا يعود للحدود معنى فالغيم نازل يمسح العلامات والملامح.. وتبدأ حواس لا حصر لها في الشغل.. ففي نحك الساعة لا نعرف أينا يشعل جسد الآخر وأينا يطفئه، أينا الجمر وأينا الهواء (أخبار، ص 76).
هكذا يصبح الاقتراب من المتن التراثي ضربا من الامعان في التباعد عنه. وفي هذا الحيز الممتد ما بين حدث الاقتراب وحدث التباعد يجد الاختلاف له موضعا يشغله ويشرع في العمل. والاختلاف هنا إنما يمثل في حد ذاته طاقة خلاقة. إنه يضعنا في حضرة تباين أنماط الخطاب وعدم تواصليتها. إن الخطاب الوارد في كتب الأخبار القديمة خطاب تاريخي أخلاقي تعليمي. وهو من جهة كونه تاريخيا أخلاقيا إنما يتعارض بالكل مع الخطاب الجمالي الذي نذرت الكتابة نفسها "في نص أخبار مجنون ليلى " لتحقيقه وابتنائه.
ذلك أن الأخبار في كتاب الأغاني إنما ترد محكومة من الداخل برغبة في لجم الحكاية والحد من امتداداتها ومداها. ثمة احتكام الى العقل يعلن عن نفسه وفق طرائق عديدة.
* تشكيك في وجود قيس وقصته. تقرأ مثلا "وذكر ابراهيم بن المنذر الحزامي عن أيوب بن عباية أن فتى من بني مروان كان يهوى امرأة منهم فيقول فيها الشعر وينسبه الى المجنون وأنه عمل له أخبارا وأضاف اليها ذلك الشعر فحمله الناس وزادوا فيه(11). ويصل التشكيك الى حد الجزم "وأخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن العتبي عن عوانة انه قال : المجنون اسم مستعار لا حقيقة له وليس له في بنى عامر أصل ولا نسب فسئل من قال هذه الأشعار فقال فتى من بني امية "(12)… ثلاثة لم يكونوا قط ولا عرفوا ابن أبي العقب صاحب قصيدة الملاحم وابن القرية ومجنون بني عامر(13).
* تعطيل للجوانب الرمزية والخيالية وصياغة للاخبار وفق نسق يجعلها تتماشى مع المحتمل ومع المتوقع. مهنا يتنزل التشكيك في وجود قيس واعتبار بعض ما جاء في الحكاية مجرد مغالاة.
* إجراء الأخبار وفن نسق بجعل منها خطابا أخلاقيا نفعيا بالمعنى الاجتماعي وذلك بالالحاح على فكرة العفة والعذرية.
أما الكتابة في نص "أخبار مجنون ليلى " فإنها إنما تنهض لتلح على أن الأخبار الواردة في المترن القديمة قد أفقرت الحكاية وعصفت بغناها وبما يتكتم في تلاوينها من أبعاد رمزية محجبة. والحال أن الحكاية إنما ضمنت بقاءها فاعلة فينا الى اليوم وأمنت استمرارها، بما تحتوي عليه من أبعاد رمزية محجبة، لا بما تفهمه منها على أنه حقيقة وواقع وأحداث جرت في التاريخ لذلك تعمد الى اعادة ابتنائها وفق نسق يرجع للحكإية أبعادها المعطلة وينتشل ما تنطوي عليه من بهاء. ولذلك أيضا تصبح شخصية قيس وشخصية ليل بمثابة عتبة واصلة بين الحدود. حدود الواقعي المحتمل والخيالي المتوارى في رحاب الواقعي نفسه.
ففي حين تكتفي الأخبار بالاشارة الى أن قيسا مجرد انسان شاعر عصف الحب بقلبه فتوغل في ليل الجنون، وليلى امرأة مثل كل النساء. وتشكك في وجودهما. ترسم الكتابة لقيس صورة ترفعه الى مصاف الرمز "لم يكن جسدا حديقة الحصن كان " (أخبار، ص 32). هكذا تعلن الكتابة. انه الرغبة والشهوة والغواية القاطنة في الجسد. وهو الميل الجارف الى عدم الممنوع وقتل المحرم. إنه "يتقمص القاطن والمسافر ويفضح كل جبان يخفي عشقه على امرأته، وكل خاشية تكتم ولعها بغير زوجها" (ص 68). بل هو النزق المتأصل في الكائن، ذاك الذي "… يفتن
النساء على أزواجهن وينتصر لشريعة العشق " (ص 68). وهو الوجد زارع النتنة. وأشعاره ليست مجرد كلام يجري الى غاية نفعية ويمجد قيم المجموعة بمدح الفصال الممدوحة للحث عليها وذم الفصال المذمومة للتنفير منها. إنه كتابة في الحب. والحب ليس مجرد عاطفة تنشأ بين شخصين أو علاقة تصل بين جسدين بل هو ضرب من الخروج والانشقاق على قيم المجموعة. إنه تمجيد للذة واحتفال بالجسد يجعل "كل امرأة تقود النخب نحو فجها " العميق مؤرجحة قنديلا من الزبرجد يهدي العشيق ويضلل غيره " (ص 68). وهو الذي "يبغت غلظة الأكباد ويوقظ غفلة الأفئدة، يفور بالصبايا كي يكشفن قمصانهن لفتيان كاد الحب أن يفتك بهم وهم يتدافعون بالمناكب مولعين في تهلكة بلا ريب ولا هوادة " (ص 68).
والثابت أن الرغبة العاتية في استكشاف الأبعاد الرمزية التي حجبتها الأخبار البانية للحكاية هي التي جعلت الكتابة ترسم لليلى صورة ملتبسة تجمع الى الأثيري الأرضي، والى البشري الالهي "كانت امرأة اسمها ليلى قيل انها جميع النساء وقيل عنها ملكة من الجن تراءت لشخص " (ص 68). وترسم للحب صورة تتعارض بالكل مع مفهوم العفة والبراءة والطهرانية التي توسعت الأخبار في الالحاح عليها حرصا منها على خدمة قيم المجموعة وتمجيدها وإعلائها. إن الحب ينفتح على النزق وعلى الشهوة بل إنه "عرس أخلاط. هلع في العناصر جحيم وجنة وما بينهما" (ص 74).
****
وهم هي العفة إذن.
****
فليلى حين تلتقي بقيس :
تتمرغ في صدره الفاره محلولة الشعر، خارطة من كل قميص،وهو يمنحها ما منعت عنه وما جاءت اليه (ص 27) (….) تتمرغ في ثناياه ويندس في أرد انها تتدافع به ويترنح معها تتهدج ويتهجد ويحتبل ويصيبها مثل الهذيان والسهرة سرادق بلا سقف " (ص 47).
هكذا يعلن الاختلاف عن نفسه ويشرع التفكيك في العمل. إن الكتابة تراحه قديمها مزعزعة القيم الوهمية التي حرص العرب القدامى على زرعها في النصوص الابداعية زرعا. وغديتهم من ذلك تحويل النصوص عن مقاديرها كي تنهض بمهمة نفعية بالمعنى الاجتماعي وتفي بحاجات المدينة الفاضلة، مدينة العقل الذي يكبح الرغائب ويحد من جموح الأهواء ويروض الجسد. مهنا تتنزل مثلا، جملة من الأحاديث نسبوها الى الرسول. وهي املح جميعا على "أهل المدن الجاهلية واستسلامهم للذة والشهوة والغلبة "(15)، قاله ابن الجوزي `و كتابه "ذم الهوى ".(16)
لكن هذا الحرص الصريح على اقصاء الجسد وترويضه يتخذ في أغلب الأحيان. طريقة في الحضور أكثر تكتما وأشد تسترا ويندس في الحكايات والأخبار على نحو موغل في التخفي. هذا ما تنهض الكتابة لتشهد عليه وتمعن في تفكيكه وتقويضه.لذلك يكفي أن تعود الى كتاب الأغاني وننظر في أخبار جميل وأخبار وضاح اليمن، حتى ندرك أن واضع الأخبار لم يكن بريئا اطلاقا. إن جميلا ينجو من الموت لأنه رفض الامتثال لنداء جسده (17). أما وضاح فقد لبى النداء نداء الجسد فمضى الى حتفه (18).
ههنا أيضا، علينا أن نقرأ الأخبار في معناها الرمزي. لاسيما أن هذه الأخبار انما كح على أن الخلاص مشروط بإقصاء الجسد. وهذا تصور ينتظم رؤية القداس ويديرها. ذلك أن إقصاء الجسد إنما يتضمن بالضرورة إفراغا للحب من محتواه من جهة كونه ميدان مواجهة وعنف. ومن جهة كونه تجربة وجودية مصدرها الاستيقاظ الفاجع على رعب الوجود. بل إن إقصاء الجسد يتضمن اقصاء مماثلا للرغبات والأهواء وتدجينا للكائن. لذلك توهم الحكايات في هذه الأخبار بأن مدارها مجرد أحداث عارضة حدثت في أزمنة خلت. ولكنها انما تضعنا، حين تنملاها في حضرة صراع يجري بين السماء والأرض. بين المتوحش والأليف بين الرغائب وما يمنعها لذلك سنجد هذا المتوحش هذا المهدور دمه ينتقم لنفسه ويثأر لها. بل إن الأرض ستثأر لنفسها من السماء في كتب الأخبار والتاريخ والرسائل وفي النصوص المهمشة حيث تصبح السماء في خدمة الأرض، والمقدس في خدمة اللذة والشهوة والغبطة.
يكفي هنا أن نشير تمثيلا الى أن كتاب الشيخ النفراوي (19) يحول الابتهال من انشاء يرفع تمجيدا للسماء الى قداس يقام في حضرة الأرض والجسد.
مهنا تتنزل الكتابة. ومهنا أيضا تنكشف رغباتها الدفينة المضمرة. إنها لا كفي ذاكرتها بل تستدعيها وتستكشفها. ولا تمحو قديمها بل تتنامى ابتداء مما ظل منه مصادرا مغيبا محجوزا. إنها تتنامى ابتداء من المسكوت
عنه والمطلوب نسيانه وتناسيه من تلك النصوص أعني صدورها عن متخيل ندرك حين تنملاه ونحيط برموزه أن الكائن مأهول بالحنين الى عالم لا إكراه فيه وليس فيه ممنوعات أو محرمات، عالم نشوة وغبطة وغواية.
هكذا تمارس الكتابة على النص التراثي نوعا من الاستكشاف والتحويل. وبذلك تسترده وتعيد ابتناءه وفق نسق يمكنها من تملك ناره ولهبه. فكيف الحب، في تلاوينها، عن كونه مجرد عاطفة مألوفة متعارفة ويصبح فعل وجود. ويكف الشعر عن كونه مدائح وأناشيد ترفع في امتداح خصال المحبوب واعلاء قيم المجموعة. ويصبح حدث انشقاق وتمرد. إن هذا الطابع النزق، هذا الاحتفاء باللذة والاحتفال بالجسد هو ما يمنح الحكاية أبعادها الرمزية ويمنح الحب هويته من جهة كونه حدث مواجهة. هذا ما ينهض النص ليقوله : إن الحب تجربة تضع الكائن في حضرة الموت وبإزاء العدم. وتفتح الهشاشة في اللذة وبواسطتها. وبذلك يصبح الشعر أي الكلام في الحب بمثابة فضاء تسترد فيه الذات حريتها وتنتشل نفسها من الممنوعات والمحرمات. بل إن الكتابة تصبح هدما للمطلقات ودعوة الى التمرد على المتعاليات.
وهكذا يكرس النص الاختلاف من جهة كونه طاقة مغايرة بامتياز. فيبتني متعلقه ويقول مقاصده : إن الحرية والاختلاف والابداع ستظل مجرد شعارات يتجمل بها خطاب الحداثة ويتستر بها على هشاشته ما لم نشرع في مساءلة قديمنا الذي نعتقد واهمين أنه يقطن الماضي وليس له علينا وعلى نصوصنا وسلوكاتنا سلطان. إن الابداع مشروط في جانب مهم منه بتحرير ذاكرتنا المحجوزة ومتخيلنا المحجوز. وهو مشروط أيضا بمساءلة القديم العربي قصد استكشافه واسترداده. واسترداده كفيل بأن يكشف أمام الفعل الابداعي نفسه امكانية التغاير مع ذلك القديم الذي زرع زرعا بقيم وهمية كانت وما تزال تمعن في تغريبنا عن واقعنا وتصنع تحت الشمس نكدنا. إن الهوية متحولة وليست ثابتة. والانسان نفسه ليس شكلا ثابتا. إنه حركة وانتقال وتجاوز. ومن مأزقنا نتعامل مع تراثنا وقديمنا ببراءة ساذجة فنأخذ الرمزي على أنه واقح وحقيقة دون أن نعي أن أخول الثقافة نفسها إنما ينتج عن أفول رموزها.
إن العرب القداس قد تحركوا في المكر. وفي المكر أيضا بنوا نظرياتهم وحكاياتهم وتفننوا في وضع أخبارهم وتحديد رؤيتهم للطمة والانسان. وهذا يعني الا سبيل الى استرداد القديم العربي وزعزعة القيم الوهمية المزروعة فيه زرعا، ولا سبيل الى استكشاف ما يوجد في القديم من قيم جمالية انسانية، لا سبيل الى الانخراط في أسئلة الراهن الثقافي، إلا بإقامة علاقات جديدة مع ذلك التراث الذي مازال يشدنا اليه شدا ويحول البعض منا الى كائنات مسخ، كائنات "محشوة قشا". إن النصوص القديمة تحتوي على جانب من متخيلنا ظل في عداد اللامفكر فيه والمسكوت عنه، ولا يمكن أن ينكشف إلا بإعادة استكشاف تلك النصوص للاحاطة بطابعها الرمزي الذي حرص القداس على تغييبه ولجمه لأنه لا يفي بحاجاتهم في لحظتهم التاريخية تلك التي أمعنت في المضي.
هكذا تنهض الكتابة في النصين مأخوذة بالمتخيل تهفو الى استكشافه، مفتونة بالمسكوت عنه تنشد استدراجه من عتمة الأغرار والتنامي ابتداء منه. وهكذا ينفتح الشعر على أسئلة الراهن الثقافي ويمتليء بصخبها وعنفها ومضائها. فتصبح الكتابة حدث استكشاف لمتخلينا المحجوز واستدعاء للمنسي في ذاكرتنا المليئة بالانقطاعات والتصدعات. لاسيما أن تحرير الفعل الابداعي نفسه من وهم الهوية ووهم التطابق لا يمكن أن يتم إلا مرورا بتحرير الذاكرة المحجوزة، وتحرير الحديث العربي لا يمكن أن يكون إلا بتحرير القديم العربي مما طاله من تدجين وترويض واحتواء.
إن القديم لا يقطن الماضي بل يقيم معنا على الأرض، ويتخذ منا ومن ذاكرتنا وأجسادنا ووجداننا الجماعي معبرا منه يتسلل الى لحظتنا الواهنة ويواصل في السر العمل. والقدامة التي تعود هذه الأيام مظفرة وتتخذ من الثقافي ميدان عمل إنما تستمد جميع مب”ات وجودها مما يمتلكه القديم في لاوعينا، في وجداننا الجماعي من قدسية وأهمية ما فتنت تصنع تحت الشمس نكدنا. فالتراث قد زرع بقيم مفارقة، قيم مطلقة، قيم حرصت على تدجين الكائن وترويضه خدمة للمتعاليات والمطلقات.
لا خيار.
ولا توسط.
إن استرداد القديم العربي مشروط بتحريره من القيم الجمالية التي مازلنا نصدر عنها ونكرسها لحظة قراءتنا لقديمنا وماضينا فيتحول الى عامل تغريب واغتراب. ووقتها سنكتشف ان الكتابة في أغلب النتاج الابداعي القديم (الواقع في المركز: بدءا بامري، القيس ووصولا الى المعري، وذلك المرمى في الهامش مثل النصص الصوفي والنص الاباحي
ونصوص السير.. الخ ) إنما توهم بأنها انخرطت في التصور النفعي الوظيفي الذي أقرته نظرية العرب القدامي. لكنها إنما ظلت تتشكل مكرسة الانشقاق عليه وفق نسق بموجبه توهم الذات الكاتبة بأنها تكرس قيم المجموعة مدحا وهجاء فيما هي تمارس الكتابة من جهة كونها فعل وجود وحدث انشقاق. وتثأر لنفسها من تلكم القيم.
الهوامش:
1- تتخذ هذه المراجعة شكل مطالبة بما عادة النظر في راهن الشعر العربي. يمكن أن نعتبر مقال محمود درويش «أنقذونا من هذا الشعره المنشور في مجلة الكرمل عدد 6ربيع 82 بمثابة تجسيد لهذا الموقف الذي يلهج به العديد من النقاد والشعراء. يقول محمود درويش "إن ما نقرأه منذ سنين بتدفقه الكمي المنهور ليس شعرا الى حد يجعل واحدا مثلي، متورطا في الشعر منذ ربع قرن مضطرا لإعلان ضيقه بالشعر. واكثر من ذلك يمقته ويزدريه ولا يفهمه. إن العقاب الذي فتحرض له يوميا من جراء هذا اللعب الطائش بالشعر يدفعنا احيانا الى قبول التهمة الموجهة الى الشعر العربي الحديث.. على الشعراء إن وجدوا أن يدخلوا في عملية حساب النفس العسير. فهذه فترة النقد الذاتي إذ كيف يتسنى لهذا اللعب العدمي أن يوصل الى اعادة النظر والتشكيك بكامل حرية الشعر الحديث، ويغربها عن وجدان الناس الى درجة تولت فيها الى سخرية. إن تجريدية هذا الشعر قد اتسعت بشكل فضفاض حتى سادت ظاهرة ما ليس شعرا على الشعر، واستولت الطفيليات على الجوهر لتعطي الظاهرة الشعرية الحديثة سمات اللعب والركاكة، والغموض، وتكر الأحلام والتشابه الذي يشوش رؤية الفارق بين ما هو شعر وما ليس شعرا" (ص 6).
2- د. خليل النعيمي : مجلة دراسات عربية، عدد 6السنة 19 نيسان / ابريل 1983،
ص 103.
يقول خليل النعيمي في نبرة طافحة بالتشفي: "كما صنعنا الفن الشعري قديما عندما كنا بحاجة اليه " فنحن في سبيل تشييعه الآن، ويأتي موته دليلا على نمونا. فلقد بدأت المادة الشعرية تساقط خلفنا ونحن نحث الخطي دون ان نلتقط أنفاسنا في عصر طغيان وسائل الاعلام الأخرى الأكثر دقة الأسهل استعمالا والاعم انتشارا ويجزم بان الشعر توغل في عتمة الافول معلنا : «خطوة أخرى ويموت الشعر».
3- يقول أدونيس : «ليست الحداثة وحدها ليست موجودة في الحياة العربية وانما الشعر نفسه هو كذلك غير موجود». انظر بيان الحداثة، ضمن كتاب البيانات اصدار أسرة الأدباء والعاب » البحرين 1993، ص 57 ويعلن درويش : «إن تجربة الحداثة قد دمرتنا جميعا فاصبحت القصيدة العربية تعيدة واحدة تألب عل كتابتها آلاف الشعراء". ثم يجزم معلنا : نحن محتاجون الى العودة الى الأصالة «. انظر مجلة «المجلة ». العدد 389 السنة 1987. ويجزم سعدي يوسف قائلا ثمة «جيل شعري ينتهي والشعر العربي الآن في درجة الصفر». انظر مجلة الوسط.
4- الثابت تاريخيا ان طه حسين «أحد رؤوس التوجه التحديثي في ثقافتنا المعاصرة » قد طالب الدولة العربية الحديثة بان تتدخل لتحمي الشعر من عبث العابثين. فكتب : إن الشعراء الجدد «لم يحفظوا الأمانة… ولم ينشئوا مكان الأدب الذي أهملوه أدبا جيدا وانما أنشأوا لهوا ولعبا». لذلك اتهم الدولة بانها لا تحمي الشعر " من عبث العابثين ولا تصون حقوقه من عدوان المعقدين ولا ترد عنه بغي الباغين ». لذلك عمدت الدولة الحديثة (!) الى التدخل وأعلنت سنة 1964 في بيان صدر عن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بمصر أن الشعر الجديد مؤامرة ءضد الاسلام والعروبة ». انظر كتاب غالي شكري، من الأرشيف السري للثقافة المصرية، دار الطليعة، بيروت، »197، مي 89.
5- سيف الرحبي : جبال، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1996. سنشير الى نص «هذيان الجبال والسحرة » بكلمة جبال.
6- قاسم حداد : أخبار مجنون ليلى، نشر : الكلمة للنش والتوزيع، البحرين 1996. سنشير الى نص ه أخبار مجنون ليلى » بكلمة )خبار.
7- حللنا هذه الظاهرة في كتاب في بنية الشعر العربي المعاصر، دار سراس للنشر، ط 3، تونس 1997.
8- نفسه.
9- ت. اس اليوت : الأرض الخراب. ترجمة ادونيس ويوسف الخال دار مجلة شعر، بيروت 1958.
10- يقول حازم القرطاجني معبرا عن تصور انتظم رؤية العرب وأدارها، ان الغاية من الكلام انما هي «استجلاب المنافع واستدفاع المضاع»، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، دار الكتب الشرقية، تونس 1966، ص 344. تصدر نظرية العرب القداس في الشعرية عن هذا التصور وتكرسه توتننا عند هذه المسالة طويلا في كتاب لنا بعنوان «الشعر والشعرية :» الفلاسفة والمفكرون العرب ما انجز وه وما هفوا اليه » الدار العربية للكتاب، تونس 1992. وتبينا حجمها ومداما في " كتاب المتاهات والتلاشي في النقد والشعر» وبينا أن الغرض من الكتابة الشمرية " التصور البياني إنما هو تحقيق النفع بالمعنى الاجتماعي لذلك ألح المنظرون القداس بدءا بالجاحظ وصولا الى حازم القرطاجني وابن خلدون على أن "الشعر كلام مخيل ". والكلام المخيل في تصورهم هو الذي "يجمع الى جودة الالذ اذ جودة الافهام " يتولد "الالذاذ" ما ينبني عليه القول من ابعاد جمالية تثير اللذة في ذات المعلقي وتشده الى الكلام شدا. اما "الافهام" فينتج عن الافادة التي تحصل المتلقي والافادة إنما يحققها المعنى المراد ايصاله الى المتلقي قصدا استنهاضه لفعل شيء او استفزازه للنفور منه والعدول عنه. لذلك تمضي الأقاويل الشعرية في اتجاهين كبيرين ولا خيار : المدح والهجاء. مدح الفصال الممدوحة بتحسينها وتجميلها واستنهاض المكقي لطلبها. وذم الفصال المذمومة للتنفير منها بتقبيحها في ذهنه.
11- الاصبهاني : الأغاني، دار الفكر للجميع بيروت 1970، ج ا، ص 169.
12- نفسه.
13- نفسه
14- الشيخ السراج القاريء : مصارع العشاق دار صادر، بيروت
(".ت ) س : 1-15.
15- الفارابي : كتاب آراء المدينة الفاضلة. انظر الفصل 37 "القول في المدن الجاهلية " طبع دار سراس للنشر، سلسلة عناصر، تونس
16- ابن الجوزي : ذم الهوى، دار الكتب دلية بيروت 1993.
17- راجع أخبار جميل في كتاب الأغاني.
18- راجع أخبار وضاح اليمن في كتاب الأغاني.
19- الشيخ النفراوي : الروض القاطر في نزهة الخاطر، دار الريس، لندن 1990.
محمد لطفي اليوسفي (ناقد وأستاذ من تونس)