فِي البَدْءِ الإِبْدَاعِيِّ كَانَ الشِّعْرُ؛ هكَذَا أَعْتَقِدُ أَنَّ إِنْسَانَ الكُهُوفِ كَتَبَ رَسْمًا قَصِيدَتَهُ الأُولَى عَلَى جِدَارِ كَهْفِهِ حِينَ فَشِلَ فِي اصْطِيَادِ فَرِيسَتِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ حَالَتِهِ تِلْكَ، بِأَنْ رَسَمَ الفَرِيسَةَ النَّاجِيَةَ مِنْ مُحاوَلَةِ اصْطِيَادِهَا، ثُمَّ أَخَذَ يُطْلِقُ سِهَامَهُ البِدَائِيَّةَ عَلَى رَسْمِهَا البِدَائِيِّ.
لأَنَّ «الشِّعْرَ لُغَةٌ فِي أَزْهَى صُوَرِهَا»، كَمَا يَقُولُ (رُوبَرتْ كْرَاوفُوردْ)، وَلأَنَّ اللُّغَةَ لُغَاتٌ، وَلأَنَّ الإِنْسَانَ أَكْثَرُ مِنْ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ وُجِدَتْ بِأَفْعَالِهِ حَضَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، طِبْقًا لِظُرُوفٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ كَوْنِيَّةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ فِي آنٍ.
إِذَا كَانَ الخِطَابُ الإِبْدَاعِيُّ الأَوَّلُ شِعْرًا شَخْصِيًّا جِدًّا، وَتَمَّ رَسْمًا، ثُمَّ ثَقْبًا بِرِيشَةِ سَهْمٍ دُونَ مِدَادٍ، فَهَلْ كَانَ يَعْلَمُ ذَاكَ الفَاعِلُ/ الشَّاعِرُ المُفْتَرَضُ، أَنَّهُ، بِهذِهِ الفِعْلَةِ التَّعْبِيرِيَّةِ عَنْ فَشَلٍ مَا، سَيُنْشِئُ حِوَارًا آخَرَ، غَيْرَ الحِوَارِ مَعَ الذَّاتِ، مَعَ آخَرَ خَارِجَ مُجْتَمَعِهِ الفِطْرِيِّ، لَمْ يَكُنْ يَعْنِيهِ، أَوْ يَعْرِفُهُ؟ أَعْتَقِدُ الجَوَابَ: لاَ.. لأَنَّ الأُفُقَ المُشَاهَدَ مِنْ قِبَلِهِ، كَانَ مَحْدُودًا بِذَاتِهِ الفَرْدِيَّةِ الانْعِزَالِيَّةِ، رَغْمَ وُجُودِ أُنَاسٍ حَوْلَهُ، لأَنَّ الحَيَاةَ آنذَاكَ، كَانَتْ مُكَابَدَةً شَخْصِيَّةً، وَلَيْسَتْ جَمَاعِيَّةً، أَيْ قَبْلَ نُشُوءِ المُجْتَمَعَاتِ التَّعَاوُنِيَّةِ.
[ [ [
ثُمَّ كَانَ أَنْ قَرَأَ آخَرُ (بِلُغَةٍ غَيْرِ اللُّغَةِ)، مَا قَدْ كَتَبَهُ (بِكِتَابَةٍ غَيْرِ الكِتَابَةِ) الكَاتِبُ/ الشَّاعِرُ المُفْتَرَضُ، فَشَعَرَ ذَاكَ الآخَرُ، وَالَّذِي لَمْ يَكُنْ قَادِرَ التَّعْبِيرِ عَنْ ذَاتِهِ، بِإِحْسَاسِ الفَاعِلِ نَفْسِهِ، وَبِهذَا، كَانَتْ أُولَى المُحَاوَرَاتِ المُتَعَلِّقَةِ بِغَيْرِ المَادِيَّاتِ الضَّرُورِيَّةِ لِلْبَقَاءِ. هذَا الحِوَارُ الثُّنَائِيُّ المُخْتَلِفُ، أَخَذَ يَنْتَشِرُ بَيْنَ أَفْرَادِ التَّجَمُّعِ الوَاحِدِ، ثُمَّ بَيْنَ أَفْرَادِ أَكْثَر مِنْ تَجَمِّعٍ لَهُ صِفَاتٌ أُخْرَى، وَهكَذَا؛ فَعَلَتِ القَصِيدَةُ، غَيْرُ المُتَحَرِّكَةِ مِنْ مَكَانِهَا الكَهْفِيِّ، فِعْلَهَا فِي إِنْشَاءِ حِوَارٍ مَعَ آخَرَ/ آخَرِينَ.
[ [ [
لَوْ كَانَتْ لِلإِنْسَانِ، مُنْذُ أَنْ وُجِدَ عَلَى هذِه الكُرَةِ المَائِيَّةِ، لُغَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَعَلَّمَهَا الكُلُّ البَشَرِيُّ عَلَى امْتِدَادِ العُصُورِ، وَإِلَى مَا بَعْدَ الآنَ، لَكَانَ التَّوَاصُلُ أَسْهَلَ، رَغْمَ عَجْزِ اللُّغَةِ، خُصُوصًا فِي الإِبْدَاعِ الكِتَابيِّ/ الشِّعْرِيِّ مِنْهُ أَكْثَر، عَنْ تَحْقِيقِ شَهْوَةِ الشَّاعِرِ فِي بُلُوغِ ذُرْوَةِ القَصِيدَةِ. لكِنْ، وَالحَالُ فِي تَعَدُّدِ اللُّغَاتِ، كَانَتِ التَّرْجَمَةُ، رَغْمَ بُخْلِهَا (التَّرْجَمَةُ بَخِيلَةٌ وَلَيست خائنة، لأنها نص آخر)، وَكَأَنَّهَا طَائِرٌ بِجَنَاحٍ وَاحِدٍ، وَسِيلَةً مَقْبُولَةً لِتَنَقُّلِ ثَقَافَاتِ الحَضَارَاتِ بَيْنَ الأُمَمِ عَلَى زَاجِلِ جَنَاحِهَا.
[ [ [
قَرَأْتُ شِعْرًا عَالَمِيًّا مُتَرْجَمًا إِلَى العَرَبِيَّةِ. ثَمَّةَ وَمَضَاتٌ إِنْسَانِيَّةٌ تَنْتَابُ شُعَرَاءَهُ. أَلَيْسَ هذَا الشُّعُورُ الوَاحِدُ بِتَعَدُّدِهِ حِوَارًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ شَوَاسِعِ الحَضَارَاتِ بِأَبْعَادِهَا الجَغْرَافِيَّةِ، وَبِكُلِّ مُحْتَوَيَاتِهَا المَعْنَوِيَّةِ وَالمَادِيَّةِ؟ إِذًا؛ يَسْتَطِيعُ الشِّعْرُ أَنْ يَكُونَ جِسْرًا أَثِيرِيًّا، يُحرِّضُ بِقُوَّةِ الحُزْنِ وَاليَأْسِ حِينًا، وَبِشَهْوَةِ الفَرَحِ وَالانْتِشَاءِ الإِنْسَانِيِّ المُشْتَرَكِ حِينًا آخَرَ، عَلَى إِنْشَاءِ وَتَعْمِيقِ التَّوَاصُلِ الحِوَارِيِّ الحَضَارِيِّ بَيْنَ مُختَلَفِ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ عَلَى هذِهِ البَسِيطَةِ الَّتِي هِيَ لَيْسَتْ كَذلِكَ.
[ [ [
يَقُولُ الشَّاعِرُ شِيمُوسْ هِينِي: «لَيْسَ بِوسْعِ قَصِيدَةٍ وَاحِدَةٍ أَنْ تُوقِفَ حَرْبًا. هذَا مَا يَفْتَرِضُ أَنْ تَفْعَلَهُ الدُّبْلُومَاسِيَّةُ. أمَّا الشِّعْرُ، فَهُوَ سَفِيرٌ مُسْتَقِلٌّ يُمَثِّلُ الضَّمِيرَ، وَهُوَ لَا يَسْتَجِيبُ لأَحَدٍ، وَهُوَ يَعْبُرُ الحُدُودَ بِلاَ جَوَازِ سَفَرٍ، وَلاَ يَقُولُ إِلاَّ الحَقَّ، وَهذَا هُوَ السِّر فِي أَنَّهُ، وَدَعْكُمْ مِمَّا يُقَالُ عَنْ هَامِشِيَّتِهِ، وَاحِدٌ مِنْ أَكْثَرِ الفُنُونِ قُوَّةً.» إِذًا، لِنَمْنَحَ هذَا الفَنَّ الأَرَقَّ مِنْ جَنَاحِ فَرَاشَةٍ، فُرَصَ الوُلُوجِ إِلَى دَوَاخِلِنَا كإنسانيين، كَيْ يُؤَثِّرَ فِيهَا إِيجَابًا، وَيَعْمَلَ عَلَى تَنْظِيفِ القُلُوبِ مِنْ شَوَائِبِ الكُرْهِ وَالحِقْدِ وَالعَدَاءِ، فَإنْ كَانَتِ كَوَارِثُ الطَّبِيعَةِ قَادِرَةً عَلَى النَّيْلِ مِنَّا، وَمِنْ مُنْجَزَاتِنَا الحَضَارِيَّةِ؛ السلميةِ في ماديتها، والفكرية في إنسانيتها، وَالَّتِي هِيَ لَيْسَتْ تَخُصُّ جَمْعًا واحدًا، بَلْ هِيَ نَتَاجٌ إِنْسَانِيٌّ وَاجِبُ التَّعْمِيمِ لاَ التَّعْتِيمِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَشْتَغِلَ بِاسْتِمْرَارٍ عَلَى تَرْمِيمِ الخَرَابِ الحَضَارِيِّ، وَتَطْوِيرِ حَضَارَاتِنَا؛ بَدْءًا بِلُغَةِ الحِوَارِ، وَلَيْسَ انْتِهَاءً إِلَيْهِ، وَالشِّعْرُ وَسِيلَةٌ رَاقِيَةٌ وَمُؤَثِّرَةٌ دُونَ شَكٍّ.
[ [ [
الثَّقَافَةُ ابْنَةُ الفِكْرِ، وَالفِكْرُ مِنْ ثِمَارِ الضَّمِيرِ الَّذِي رَافَقَ حِوَارَ الحَضَارَاتِ، وَالَّذِي جَعَلَتْهُ الثَّقَافَاتُ الإِنْسَانِيَّةُ ضَمِيرَهَا المُتَكَلِّمَ، دَأَبَ عَلَى تَحْقِيقِ هَدَفِهِ عَلَى صَعِيدِ الثَّقَافَةِ وَالعَلاَقَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ. لَقَدْ أَثْبَتَتِ المَلاَحِمُ الَّتِي كَتَبَهَا القَاهِرُونَ، وَالمَقْهُورُونَ أَيْضًا، أَنَّ الأَدَبَ عُمُومًا، وَالشِّعْرَ خُصًوصًا؛ حَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ تَبْحَثُ عَنِ الحَقِّ وَالعَدْلِ، وَتَرْفُضُ فِكْرَةَ الإِقْرَارِ بِالأَمْرِ الوَاقِعِ، لأَنَّهُ النَّتَاجُ الفِكْرِيُّ لِـمُبْدِعِي الأُمَمِ، وَحَالَةٌ مُثْلَى لِلتَّمَرُّدِ عَلَى الاسْتِلاَبِ، وَالْعَسْفِ، وَالقَهْرِ، وَتَغْيِيبِ الحُرِّيَّةِ بِكُلِّ أَشْكَالِهَا بَعِيدًا عَنِ الافْتِرَاضَاتِ السِّيَاسِيَّةِ، وَالعَائِقُ الأَكْبَرُ هُنَا هُوَ عَوْلَمَةُ الحُرُوبِ، لِيَغْدُوَ الحَدِيثُ عَنْ ثَقَافَةِ السَّلاَمِ عَبَثًا، وَيَبْقَى لَدَيْنَا تَوَاصُلٌ شِبْهُ وَحِيدٍ، هُوَ السَّلاَمُ الثَّقَافِي، وَالَّذِي هُوَ نَتَاجُ كُلِّ مُبْدِعِي العَالَمِ (الشِّعْرُ) كَسُطُوعِ الرُّوحِ وَالوِجْدَانِ، وَقُوَّةِ التَّأَمُّلِ، وَجَمَالِ التَّصْوِيرِ المُحَمَّلِ بِمُجْمَلِ تَيَّارَاتِ عَصْرِنَا الفِكْرِيَّةِ وَأَخْلاَقِيَّاتِهِ. الشِّعْرُ، مِنْ حَيْثُ هُوَ وَثِيقَةٌ حَيَّةٌ، وَوَجَعٌ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ، لاَ بَدِيلَ عَنْهُ فِي عَصْرٍ سِيَاسِيٍّ مُتَنَاقِضٍ، حَالاَتُهُ تُسْتَمَدُّ مِنْ حَيَاةِ المُجْتَمَعِ، وَتَكْتُبُهُ النَّفْسُ المُبْدِعَةُ، وَهُنَا تَكْمُنُ الخُصُوصِيَّةُ الَّتِي نَنْسِجُ بِهَا نَسِيجَنَا التَّعْبِيرِيَّ واللُّغَوِيَّ، لأَنَّ الكَلِمَةَ جِسْرُ نَبْضٍ هِيَ كَذلِكَ؛ نَحْتَاجُهَا لِلتَّوَاصُلِ رَدًّا عَلَى الخَرَابِ بِالدَّرَجَةِ الأُولَى.
[ [ [
الشِّعْرُ يُعْتَبَرُ لُغَةَ المُقَدَّسَاتِ الأُولَى وَأَسَاطِيرِ التَّكْوِينِ، وَتَالِيًا دَوْرُهُ فِي اخْتِطَاطِ المَنْهَجِ النَّفْسِي العَامِّ مِنْ مَنْظُورِ أَنَّهُ جُزْءٌ خَطَابِيٌّ عَالِي النَّقْدِيَّةِ وَالسِّيمْيَائِيِّةِ بِرَمْزِيَّةِ مَجَازِهِ، وَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى الثَّقَافَةِ بِأَنْمَاطِهَا. إِنَّ أَزْمَةُ الشِّعْرِ، كَحِوَارٍ فَعَّالٍ ضِمْنَ تَلاَقُحِ الحَضَارَاتِ، لاَ تَكْمُنُ بِنَتَاجَاتِهِ، بَلْ فِي تَرْوِيجِهِ وَقِرَاءَتِهِ، أَيْ أَنَّهَا خَارِجَ الشِّعْرِ، لاَ فِيهِ، وَلَيْسَتْ مُرْتَبِطَةً بِهِ، بَلْ أَزْمَةُ ثَقَافَةٍ، وَحُرِّيَّةٍ، وَهُوِيَّةٍ، وَضِيقٍ لِـمَسَاحَةِ الاسْتِقْلاَلِ وَالمُحَايَدَةِ الَّتِي يُمْكِنُ لِلثَّقَافَةِ أَنْ تَتَحَرَّكَ. هُوَ الحَدِيثُ عَنِ التَّطَوُّرِ الجَدَلِيِّ فِي بِنْيَةِ القَصِيدَةِ عَلَى مُسْتَوَى المَضْمُونِ وَالشَّكْلِ، وَهُوَ مَا يُبَرِّرُ وُجَودَهُ بَحْثًا عَنْ تَرْمِيمَاتٍ مُمْكِنَةٍ لِمُوَاجَهَةِ وَاقِعٍ مُعَقَّدٍ، لأَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ تَرَفًا، أَوْ فِعْلَ اسْتِسْهَالٍ، بَلْ حَامِلٌ عَبْقَرِيٌّ لِنَزَعَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ وَتَجَارُبِهَا.
*
الشِّعْرُ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ رَدٌّ حَرْفِيٌّ عَلَى مَفْهُومِ القُوَّةِ الجَدِيدِ كَتَكْرِيسِ فِكْرَةِ اخْتِلاَفٍ دُونَ ضَغِينَةٍ، وَتَحْقِيقِ انْتِصَارَاتٍ رُوحِيَّةٍ دُونَ التَّوَرُّطِ فِي حُرُوبٍ طَوِيلَةِ الأَمَدِ، وَشَرْحِ فِكْرَةِ أَنَّ مَنْ يَكْسَبُونَ لَيْسُوا بِالضَّرُورَةِ هُمُ المُنْتَصِرُونَ، لأَنَّ الشِّعْرَ وَقَائِعُ حُلُمٍ لِعَالَمٍ أَجْمَلَ، وَغَمْرٌ سِحْرِيٌّ يُعِيدُ اخْتِمَارَ البَشَرِيَّةِ بِعَنَاصِرِهَا الأُولَى، وَيَشْرَحُ أَنَّ العُنْفَ لاَ يَخْدِمُ أَحَدًا، وَبِالشِّعْرِ وَحْدَهُ نَتَصَالَحُ مَعَ ذَاكِرَتِنَا، لأَنَّهُ حُرِّيَّتُنَا. مَنْ لاَ يَدْخُلُ مَلَكُوتَهُ وَيَتَفَهَّمُهُ، سَوْفَ يَبْقَى عَلَى هَامِشِ التَّفَاعُلِ الكَوْنِيِّ. إذًا؛ القَصِيدَةُ، أَوِ النَّصُّ، رُؤْيَا شَخْصِيَّةٌ لِلشَّاعِرِ تِجَاهَ العَالَمِ، تَتَجَاوَزُ الْحُدُودَ، وَتَنْفَتِحُ عَلَى التَّجْرِبَةِ الإِنْسَانِيَّةِ الأَشْمَلِ. بِالطَّبْعِ أَنَّهُ مِنَ المَقْبُولِ جِدًّا لِي أَنْ نَقْرَأَ قَصِيدَةً لِشَاعِرٍ مِنْ آخِرِ الكَوْنِ تَتَحَدَّثُ عَنِ الإِنْسَانِ، وَنَشْعُرَ أَنَّهَا تَتَقَاطَعُ مَعَنَا.
[ [ [
كَثِيرٌ مِنَ الأُمَمِ تُعْرَفُ بِشُعَرَائِهَا الَّذينَ سَجَّلُوا مَلاَحِمَهَا وَتَارِيخَهَا، وَلأَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ خِطَابًا فَانْتَازِيًّا، بَلْ هُوَ سَيْلٌ إِبْدَاعِيٌّ أُسْطُورِيٌّ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ نَذْكُرَ أَنَّ البَشَرَ اخْتَرَعُوا أَسَاطِيرَهُمْ وَأَرَّخُوهَا كَذَاكِرَةٍ جَمْعِيَّةٍ دُونَ شِعْرٍ أَرَّخَ قَوَانِينَهُمْ، وَعَادَاتِهِمْ، وَاحْتِفَالاَتِهِمْ، كَمُوصِلٍ حَقِيقِيٍّ ضِمْنَ سِمَاتِ وُجُودِنَا، وَاخْتِلاَفِنَا عَلَى هذَا الكَوْنِ. إِنَّهَا الْحَيَاةُ بِبَسَاطَةٍ بِالرُّجُوعِ إِلَى الوَظِيفَةِ الرَّمْزِيَّةِ لِلشِّعْرِ (ابْنُ الرُّومِي كَانَ مِنْ أَشْهَرِ رَسَّامِي الكَارِيكَاتِيرِ فِي الشِّعْرِ العَرَبِيِّ الَّذِي تَنَاوَلَ صُورَتَهُ بِالذَّاتِ لِيَصْنَعَ مِنْهَا مَادَّةً لِلرَّسْمِ بِالْكَلِمَاتِ مُلاَحِظًا الْجُزْئِيَّاتِ الْخَاصَّةِ بِمُجْتَمَعِهِ، وَتَحْوِيلِهَا إِلَى كُلِّيَّاتٍ، لأَنَّ الشِّعْرَ هُوَ التَّخَيُّلُ المَقْرُوءُ الَّذِي تَصِفُهُ اللُّغَةُ الَّتِي مَتْنُهَا المُخَيَّلَةُ، وَجُسُورُهَا الْكَلِمَةُ. الْيَوْمَ أَصْبَحَ الْعَالَمُ قَرِيبًا وَمُتَنَاقِضًا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ لِيَحْمِلَ المُبْدِعِينَ عَلَى امْتِلاَكِ أَدَوَاتِ فَهْمِ الْكَوْنِ.
[ [ [
الشِّعْرُ بِوَصْفِهِ رِسَالَةٌ كَوْنِيَّةٌ تُؤَكِّدُ عَلَى اللَّهْفَةِ الشَّامِلَةِ، وَتُسَاهِمُ فِي صِيَاغَةِ التَّوَاصُلِ الْعَالَمِيِّ لِصَالِحِ تَشَابُكَاتِ اللَّحْظَةِ، فَقَصِيدَةٌ لِشَاعِرٍ مِنْ أَيِّ جُزْءٍ فِي الْكَوْنِ، تُحَرِّكُ مَشَاعِرَ الْبَشَرِ كَجِسْرِ حِوَارٍ دَاخِلِيٍّ تَضَامُنِيٍّ عَالِي الْقِيمَةِ، بِطَرِيقَةٍ تَمْزِجُ بَيْنَ الذَّاتِي وَالمَوْضُوعِي وَالشُّمُولِي أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ قَرَارَاتِ المُنْتَدَيَاتِ الاقْتِصَادِيَّةِ، عَلَى أَهَمِيَّةِ اللَّحْظَةِ الاقْتِصَادِيَّةِ الرَّاهِنَةِ وَخُصُوصِيَّتِهَا. إِدْوَارْ خَرَّاط، فِي «الْكِتَابَةُ عَبْرَ النَّوْعِيَّةِ»، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مُطْلَقَ نَصٍّ مُتَمَثِّلاً تِقَنِيَّاتِهِ لِتَطْوِيرِ ذَاتِهِ وُصُولاً إِلَى تَجَاوُزِ الأَنَا وَالآخَرَ، يَمُدُّ قَنَاةَ تَوَاصُلٍ دَافِقَةً بَيْنَ الشِّعْرِ وَبَقِيَّةِ الْفُنُونِ الَّتِي هِيَ بِطَبِيعَتِهَا عَالَمِيَّةٌ (رَسْمٌ، إِيقَاعٌ، سِينِمَا) وَسِوَاهَا، وَتِلْكَ مَاهِيَّةُ الشِّعْرِ وَسِمَتِهِ؛ أَنْ يَشُدَّ أَوَاصِرَهُ إِلَى كُلِّ مَا هُوَ جَمَالِيٌّ، وَقَائِمٌ عَلَى تَنَوُّعِ الْوَحْدَةِ الْكُلِيَّةِ الَّتِي تَرْبِطُةُ بِمُخْتَلَفِ الْفُنُونِ، مِنَ الْهَنْدَسَةِ المِعْمَارِيَّةِ، وَيَصِلُ تَوَاتُرُهُ إِلَى الدِّرَامَا الْحَدِيثَةِ، عَلَى أَسَاسِ مَا فِيهِ مِنْ تَصَارُعٍ دَاخِلِيٍّ بَيْنَ الْعَنَاصِرِ وَالمُكَوِّنَاتِ. كُلُّ قَصِيدَةٍ هِيَ مَعْبَرٌ صَغِيرٌ لِلْخِطَابِ، كَمَا يَقُولُ كْلِينْثْ بْرُوكْسْ، لأَنَّهَا تحْتَوِي عَلَى صَوْتٍ يُحَاوِرُ نَفْسَهُ، وَهذَا يَعْنِي حُضُورَ دِرَامَا وَتَرَاجِيدِ الْخَلْقِ وَسَائِلَ اللُّغَةِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الْحِوَارِ.
[ [ [
الشِّعْرُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ انْفِتَاحًا وَسَعْيًا لِتَأْصِيلِ التَّفَاعُلِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ النُّوَاةُ الدَّقِيقَةُ وَالصِّحِّيَّةُ لِلْحَدَاثَةِ، تَسْتَدْعِي بِالضَّرُورَةِ اسْتِنْطَاقَ الْخِطَابِ الشِّعْرِي مِنْ دَاخِلِهِ، وَالَّذِي يَسْتَتْبِعُ مَنَاهِجَ جَدِيدَةٍ لِخِطَابٍ شِعْرِيٍّ عَرَبِيٍّ حَدِيثٍ بِكُلِّ مُكَوِّنَاتِهِ الثَّقَافِيَّةِ، يَتَّسِمُ بِالْحَدَاثَةِ مَنْهَجًا وَأُسْلُوبًا، وَلَيْسَ زَمَنًا مَفْتُوحًا عَلَى بَقِيَّةِ الثَّقَافَاتِ وَالْحَضَارَاتِ المُتَكَامِلَةِ مَعْرِفِيًّا مَعَ الذَّاكِرَةِ الْكَوْنِيَّةِ، مِنْ خِلاَلِ التَّلاَقُحِ الْيَوْمِي، وَهذَا لاَيَتَعَارَضُ مَعَ الْخُصُوصِيَّةِ، وَاعْتِزَازِنَا بِثَقَافَاتِنَا وَتُرَاثِنَا، فَنُغَيِّرُ وَنَتَغَيَّرُ، وَنُؤَثِّرُ وَنَتَأَثَّرُ، خُصُوصًا الآنَ، فِي عَالَمٍ يُرِيدُ لَنَا أَنْ نُصَنَّفَ كَدُعَاةِ انْغِلاَقٍ، وَمُنَاصِرِي إِرْهَابٍ.
[ [ [
مِنَ الصَّعْبِ تَكْوِينُ الذَّاكِرَةِ الشِّعْرِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ بَعِيدًا عَنِ الْقَلَقِ المَعْرِفِي، وَالصِّرَاعَاتِ الْفِكْرِيَّةِ الْحَاصِلَةِ، كَوْنُهَا تَجْتَهِدُ لِتُقَدِّمَ تَوَاصُلاً جَدِيدًا مُخَالِفًا، وَمُكَمِّلاً لِلْحَدَاثَاتِ المُحَايِثَةِ لَهَا، حَيْثُ «الشِّعْرُ لُغَةٌ عَالَمِيَّةٌ، سِحْرِيٌّ لِكُلِّ الأَزْمِنَةِ، يَقُودُنَا إِلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ.»، كَمَا يَقُولُ الشَّاعِرُ بُودْلِيرْ ضَمِيرُ فَرَنْسَا الشِّعْرِي.
[ [ [
حِينَ تَبْلُغُ أَيَّةُ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ دَرَجَةً كَافِيَةً مِنَ التَّقَدُّمِ، بِحَيْثُ يُصْبِحُ لِحَرْفِهَا مُخْتَلَفُ الإِيحَاءَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَاطِفِيَّةِ، يَلْتَقِطُهَا الشَّاعِرُ، وَيَنْظُمُهَا بِإِيقَاعٍ وَبِنَاءٍ لمؤرخ لقطة بعد لقطة ولفظة لفظة، وَهذَا الشِّعْرُ، بِكُلِّ أَزْمِنَتِهِ، لُغَةٌ كَوْنِيَّةٌ جَدِيدَةٌ مُبْتَكَرَةٌ، غَيْرُ مُنْحَازَةٍ إلاَّ لِعَدَالَةِ مَنْهَجِهَا، لاَ تَنَاقُضَ صِدَامِيٌّ، وَلاَ تَنَازُلاَتٍ تُغَيِّرُ مَلاَحِمَ النُّشُوءِ، وَلاَ جُوعَ، وَلاَ طُغْيَانَ، بَلْ تَلاَقُحٌ، وَتَوَاصُلٌ، وَتَكَامُلٌ بِاعْتِبَارَاتِهِ نِظَامًا مُتَمَيِّزًا، وَالشِّعْرِيَّةُ شَاهِدٌ أَوَّلُ لِلتَّفْكِيرِ بِاللُّغَةِ، تَمْتَلِكُ مَقْدِرَةً عَلَى التَّهْذِيبِ، وَالتَّقَارُبِ، وَتَجَاوُزِ عَرْقَلَةِ بِنَاءِ الْقَوْلِ مَعَ الْحِفَاظِ عَلَى قِيمَةِ مَا هُوَ طَرِيقَةُ التَّعْبِيرِ بِوَصْفِهِ كَائِنٌ فَرْدٌ، وَهَيْئَةٌ، وَمُوَلِّدُ مُثُلٍ عُلْيَا، وَكُلُّهَا أَسْبَابٌ مُمْكِنَةٌ تَنْقُلُ أَفْكَارًا خَاصَّةً مِنْ رَائِدٍ اجْتِمَاعِيٍّ (المُبْدِع) يُرْسِلُهَا إِلَى آخَرِينَ بِغَايَةِ التَّأَثُّرِ عَبْرَ الإِبْدَاعِ، وَيُعْطِي، فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ، الإِطَارَ الاجْتِمَاعِيَّ لِحِوَارٍ يَكُونُ الإِنْسَانُ مَدَارَهُ، وَقَضَايَا حَرَاكِهِ.
[ [ [
الشِّعْرُ، كَحَامِلٍ وَتَوَاصُلٍ حَضَارِيٍّ، يَفْتَرِضُ وُجُودَ تَعَدُّدِيَّةٍ نَوْعِيَّةٍ وَكَوْنِيَّةٍ، تَتَمَثَّلُ بِكُلِّ مُتَكَلِّمٍ وُجُودَ آخَرٍ يَتَوَجَّهُ إِلِيْهِ مَهْمَا تَكُنْ هُوِيَّتُهُ، أَوْ سِمَاتُهُ وَنَمَطِيَّتِهِ، لأَنَّ الشِّعْرَ إِحْسَاسٌ جَمْعِيٌّ مُتَّقِدٌ وَمُتَدَاوَلٌ.
[ [ [
نَحْتَاجُ المُوسِيقَى الْكَوْنِيَّةَ لِتَنَاغُمِ الشِّعْرِ كَتَوَاصُلٍ أَبْعَدَ مِنْ حُدُودِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ الدَّهْشَةِ بِلُغَةٍ مَحْسُوسَةٍ نَقْلاً لِفِعْلٍ أَوْ حَدَثٍ، أَمَّا جَوْهَرُ المَعْنَى، فَبِأَطْيَافِهِ غَيْرِ المَحْدُودَةِ لِحَيَوِيَّتِهِ مِنْ خِلاَلِ التَّبَادُلِ وَالمُحَاوَرَةِ. هذَا هُوَ، عُمُومًا، الإِطَارُ العَامُّ لِلشِّعْرِ بِتَعَافِيهِ النَّفْسِيِ، وَسَيْرُورَتِهِ التَّارِيخِيَّةِ مِنْ تَفَاعُلِ الإِنْسَانِ بِالْكَوْنِ، ونَجَاحِهِ فِي صِيَاغَاتِهَا الْخَلاَّقَةِ. هذِهِ التَّحَوُّلاَتُ جَاءَتْ مِنْ كَمٍّ زَمَنِيٍّ انْمَازَ بِتَحَوُّلاَتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ عَامَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، مُفْسِحةٍ المَجَالَ لِتَجْدِيدِ البُنْيَةِ الْخَطَابِيَّةِ الْوَظِيفِيَّةِ لِلشِّعْرِ، مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ مُنَاظَرَةٌ لِلْحَيَاةِ نَفْسِهَا.
[ [ [
خُصُوصِيَّةُ الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ، إِذَا كَانَتْ كَوْنِيَّةُ الشِّعْرِ إِنْسَانِيَّةً شُمُولِيَّةً، جَاءَتْ عَلَى نَمَطٍ مُوسِيقِيٍّ مَفْهُومٍ عَالَمِيًّا كَلُغَةٍ وَرَاءَ، أَوْ فَوْقَ مَنْطُوقَةٍ، يَتَبَادَلُ الصَّدَى وَالإِيقَاعُ بِالْحَرَاكِ، وَيُمَثِّلُ قَضِيَّةً كَوْنِيَّةً مِنْ رُؤْيَةٍ فَرْدِيَّةٍ. هذَا هَاجِسُ حِوَارِ الْحَضَارَاتِ تَحْدِيدًا، مَرْكَزُهَا الشَّاعِرُ، مَعَ دَاعِمَاتٍ تَتَمَثَّلُ فِي التَّوَاصُلِ مَعَ الآتِي مِنَ الآخَرِ مَطْبُوعًا أَوْ مَرْئِيًّا بِشَكْلٍ حَيَوِيٍّ، وَتِلْكَ مَعَايِيرُ الْحَدَاثَةِ، بِشَكْلٍ مَا، وَقَدْ تَأَسَّسَتْ عَلَى مُخْتَلَفِ التَّجَارُبِ الْكَوْنِيَّةِ لِلْمُغَامَرَةِ الشِّعْرِيَّةِ الإِبْدَاعِيَّةِ. مِنْ هُنَا الْقَوْلُ: إِنَّ الْحَدَاثَةَ، بِالمَعْنَى المُطْلَقِ، لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ غِذَاءً مُنْعِشًا لِرُوحِ المُبْدِعِ. مِنَ المُسَلَّمِ بِهِ، أَنَّ الشِّعْرِيَّةَ الْعَرَبِيَّةَ تُعَانِي، وَلاَ تَتَمَكَّنُ، أَحْيَانًا، مِنْ مُحَايَثَةِ الْكَثِيرِ مِنْ مُتَغَيِّرَاتِ الْحَدَاثَةِ وَتَطْبِيقَاتِهَا خَوْفًا مِنْ إِرْبَاكِ التَّعَاطِي مَعَ مَظَنَّةِ التَّأْوِيلِ، وَالتَّقَوْقُعِ، وَالتَّكْرَارِ. إِنَّهَا تَخْضَعُ لِلآيْدُولُوجْيَا المُصَدَّرَةِ عَالَمِيًّا إِلَيْهَا كَظَاهِرَةٍ لِلتَّجَاذُبِ الْحَدَاثِي، وَهذَا يُخَالِفُ رُوحَ المَعْنَى الْحَدَاثَوِي، حَيْثُ هِيَ، فِي مُجْمَلِ دِينَامِيَّتِهَا، أَبْعَدُ مَا تَكُونُ عَنِ التَّمَاهِي بِاِلآيْدُولُوجْيَا. الأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الشِّعْرُ مَعَ الْحَدَاثَةِ وَالتَّطْوِيرِ بَعِيدًا عَنْ كُلِّ مَنْهَجٍ يَجْنَحُ إِلَى تَأْطِيرِ تَبْشِيرِهَا، أَوْ تَكْرَارِ مَقُولاَتِهَا، بِحَيْثُ تُلْغِي التَّفَرُّدَ، وَالنَّكْهَةَ الذَّاتِيَّةَ كَلُغَةٍ عَالِيَةِ التَّوَاصُلِ، وَعَالَمِيَّةِ المَنْهَجِ، تُعِيدُ التَّرْكِيزَ عَلَى الاتِّصَالِ المُبَاشِرِ بِالآخَرِ عَبْرَ النَّصِّ، مِنْ خِلاَلِ عَمَلِيَّتَيِّ الإِرْسَالِ وَالتَّلَقِّي مَا يَسْتَدْعِي جُمْلَةَ شُرُوطٍ مِنْهَا:
– إِذَا اعْتُبِرَ الْخِطَابُ الشِعْرِيُّ تَعْبِيرًا عَنْ وَعْيِ أُمَّةٍ مِنَ الأَمَمِ، فَإِنَّ كُلَّ وَعْيٍ هُوَ وَعْيٌ شِعْرِيٌّ بِلُغَةِ عَصْرِهِ.
– قِرَاءَةُ أَيِّ فِكْرٍ لِشَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ لاَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُحَايِدَةً، بَلْ هُوَ رَغْبَةٌ فِي الاكْتِشَافِ، وَإِعَادَةِ إِنْتَاجِ الْوَعْيِ.
– النَّصُّ الشِّعْرِيُّ لَهُ مُسْتَوَيَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ؛ أُمَمِيٌّ وَذَاتِيٌّ مُتَعَدِّدُ الْقِرَاءَاتِ.
– المَزِيدُ مِنَ التَّرْكِيزِ عَلَى الاتِّصَالِ النَّصِّيِّ، وَتَفْعِيلُ المُنَاقَشَاتِ المُتَعَلِّقَةِ بِكَيْفِيَّةِ التَّذَوُّقِ وَالاسْتِيعَابِ.
– التَّرْكِيزُ عَلَى التَّرْبِيَةِ الْجَمَالِيَّةِ لِلُّغَةِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْكَلاَمَ تَعْبِيرٌ مُطْلَقٌ مُطِلٌّ عَلَى المُتَغَيِّرَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالتِّقَنِيَّةِ الاتِّصَالِيَّةِ.
– التَّحْدِيثُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُسْقَطًا مِنْ خَارِجِ الظَّاهِرَةِ الشِّعْرِيَّةِ، إِنَّمَا هُوَ تَوْصِيفٌ شِعْرِيٌّ، عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الشِّعْرَ ضَمِيرُ الإِبْدَاعِ بِشَتَّى مُسْتَوَيَاتِهِ ذَاتِ الْبُعْدُ الأَخْلاَقِي المَفْتُوحِ عَلَى أَمْنِ الآخَرِ، وَخَيْرِ الْكُلِّ، دُونَ تَصَوُّرٍ نِهَائِيٍّ جَاهِزٍ، أَوْ مَنْطُوقٍ مَفْرُوضٍ مِنْ خَارِجِ الظَّاهِرَةِ ذَاتِهَا.
– الْعَمَلُ عَلَى انْفِتَاحِ المَوْضُوعِي المُوَازِي لِتَرْجَمَةِ إِبدَاعَاتِنَا، عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ عَصْرُ الْعَوْلَمَةِ، لِتَرْجَمَةِ الاتِّصَالِ وَالمُثَاقَفَةِ الَّذِي يَحْمِلُ اخْتِلاَفًا جَدَلِيًّا صِحِّيًّا فِي حَيَاةِ الْبَشَرِ، وَزَوَالِ الْحُدُودِ عَبْرَ الاتِّصَالِ الرَّقَمِيِّ، وَالشَّبَكَاتِ الْعَنْكَبُوتِيَّةِ.
[ [ [
الصُّورَةُ الشِّعْرِيَّةُ، بَدْءًا مِنَ المُخَيَّلَةِ، مُلْتَبِسَةٌ بِشَكْلِ التَّوْصِيلِ وَالتَّدَاخُلِ كَحَقِيقَةٍ افْتِرَاضِيَّةٍ، ضِمْنَ مَنْظُومَةٍ يَسْتَهْلِكُهَا الإِنْسَانُ المُعَاصِرُ خَارِجَ سِيَاقِ إِنْتَاجِهَا بِمَعْزِلٍ عَنْ وِجْهَةِ وَمَوْقِفِ الَّذِي أَنْتَجَهَا، وَهِيَ بِهذَا المَعْنَى، لاَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حِيَادِيَّةً مَهْمَا فَرَضَتْ مِنْ وَهْمِ التَّطَابُقِ الحَرْفِيِّ مَعَ الوَاقِعِ، وَهذَا يَجْعَلُ مِنَ الصَّعْبِ الاحْتِفَاظَ بِذَاكِرَةٍ قَادِرَةٍ عَلَى تَكْثِيفِهَا وَتَحْلِيلِهَا، مِنْ أَجْلِ إِعَادَةِ إِنْتَاجِهَا، وَتَحْدِيدِ مَوْقِفٍ نَقْدِيٍّ مِنْهَا، وَفِي ذلِكَ إِضَاءَةٌ مُهِمَّةٌ لِحَقِيقَةِ الاغْتِرَابِ الحَاصِلِ بَيْنَ المُثَقَّفِ فِي العَالَمِ الثَّالِثِ مَعَ الشَّرْطِ الثَّقَافِيِّ الكَوْنِيِّ، الَّذِي يَحْتَفِي بِهِ صُنَّاعُ الثَّقَافَةِ الغَرْبِيِّينَ، وَيُصَدِّرُونَهُ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ نِهَائِيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ حَقَائِقَ كَوْنِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَمُنْجَزَةِ القِيمَةِ، إِنَّمَا الأَدَبُ عُمُومًا كَفَاعِلِيَّةٍ، وَالشِّعْرُ بِالذَّاتِ، يُظْهِرُ الخُصُوصِيَّةَ الثَّقَافِيَّةَ لِلْمُبْدِعِ، مِنْ حَيْثُ اقْتِرَابِهِ أَوِ اغْتِرَابِهِ عَنْ ثَقَافَةِ وَجَمَالِيَّاتِ مَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ المُسَيْطِرَةِ، بِفِعْلِ وَسَائِلِ الاتِّصَالِ الحَدِيثَةِ، وَمِنْ هُنَا، فَمِنَ المُفِيدِ وَالضَّرُورِيِّ الاهْتِمَامُ بِالقِرَاءَةِ التَّطْبِيقِيَّةِ لآدَابِنَا، لِخَلْقِ رُؤًى عَرَبِيَّةٍ، لاَ رُؤْيَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ مُعَادَلَةٌ صَعْبَةٌ لَدَى الطَّرَفَينِ غَرْبًا وَشَرْقًا.
[ [ [
اليَوْمَ الغَرْبُ عُمُومًا، يَتَطَلَّعُ إِلَى مَعْرِفَةِ العَرَبِ وَالعَالَمِ العَرَبِيِّ، وَهُنَا الأَدَبُ قَدْ يُوَفِّرُ وَصْفًا أَكْثَرَ دِقَّةً وَعُمْقًا مِنْ كُتُبِ التَّارِيخِ وَالسِّيَاسَةِ، لكِنَّ المُشْكِلَةَ تَكْمُنُ فِي تَحْيِيدِ البُعْدِ الإِبْدَاعِيِّ العَرَبِيِّ الخَلاَّقِ، وَالَّذِي يُسَاهِمُ بِشَكْلٍ حَقِيقِيٍّ فِي الأَعْمَالِ الكِلاَسِيكِيَّةِ الَّتِي أَنْتَجَتْهَا البَشَرِيَّةُ، وَالتَرْكِيزُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ البَعْضَ مِمَّنْ يُرِيدُ إِظْهَارَ العَرَبِ كَمُحْتَرِفِي عُنْفٍ، وَهُنَا يَكْمُنُ الدَّوْرُ الخَلاَّقُ لِلشِّعْرِ كَحِرْفَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ التَّوْصِيلِ الإِبْدَاعِيِّ، تَشْرَحُ مَوْرُوثَنَا وَفِكْرَتَنَا حَوْلَ الأَنَا وَالآخَرِ. بِبَسَاطَةٍ يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ المَوْقِعَ الَّذِي طَوَّرَ العَرَبُ أَنْفُسَهُمْ فِيهِ لِلِّحَاقِ بِالحَدَاثَةِ، وَمَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ، هُوَ الحَيِّزُ المَعْنِيُّ بِالآدَابِ وَالفُنُونِ، الَّتِي نَجِدُ فِيهَا مَلاَمِحَ حَدَاثِيَّةً، وَمَا بَعْدَ حَدَاثِيَّةٍ، عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ مَفْهُومَ «مَا بَعْدَ حَدَاثِيٍّ»، هُوَ تَجَاوُرُ المُتَنَاقِضَاتِ، بِتَحَوُّلِهِ مِنْ مَقُولاَتِ الاتِّهَامَاتِ وَالنَّفْيِ المُتَبَادَلِ إِلَى الإِيجَابِيَّةِ بِمَدْلُولاَتِهَا كَحِوَارٍ مَفْتُوحٍ بَحْثًا عَنْ مَخْرَجٍ يُحَقِّقُ المُعَادَلَةَ الكَوْنِيَّةَ، لِضَرُورَةِ التَّوَاصُلِ، مَعَ الحِفَاظِ عَلَى الخُصُوصِيَّةِ، وَثَوَابِتِ الهُوُيَّةِ الشِّعْرِيَّةِ وَالتُّرَاثِ.
[ [ [
لِنَتْرُكَ الإِبْدَاعَ يَتَوَهَّجُ مِنَ الدَّاخِلِ دُونَ إِمْلاَءَاتٍ، فَهُوَ سَوْفَ يَتَفَوَّقُ عَلَى ذَاتِهِ بِاتِّجَاهِ التَّجْرِبَةِ الحُرَّةِ الحَيَّةِ ذَاتِ الإِشْعَاعِ الكُلِّيِّ لِلتَّعْبِيرِ وَالمُجْتَمَعِ وَالكَوْنِ، وَهُنَا الشِّعْرِيَّةُ العَرَبِيَّةُ لَيْسَتْ بِمَعْزِلٍ عَنِ الإِبْدَاعِ الإِنْسَانِيِّ، بَلْ فِي خِضَمِّهِ كَتَوَاصُلٍ حَسَّاسٍ، وَحَامِلٍ لِمَشْرُوعِ المُغَايَرَةِ وَالتَّقَارُبِ المُعَاصِرِ، عَكَسَ دَوْرَ السِّيَاسَاتِ الَّتِي أَثْبَتَتْ فَشَلَ مَشْرُوعِهَا التَّضَامُنِيِّ. هُوَ دَوْرُ المَشْرُوعِ الثَّقَافِيِّ عُمُومًا، وَالشِّعْرِيِّ خُصُوصًا، وَهُوَ دَعْوَةٌ لأَنْ تَكُونَ الشِّعْرِيَّةُ وُجُودًا مُتَمَاسِكًا فَعَّالاً، لَهُ نَكْهَةٌ وَمِزَاجٌ مُمَيَّزٌ مَشْرُوطٌ بِبَدَاهَةِ الإِبْدَاعِ وَتَسَامِي تَجْرِبَتِهِ، لاَ لِكَيْ يُؤَبِّدَ لَحْظَتَهُ عَلَى الأَْرْضِ، أَوْ يَسْتَعِيدَ خَيْطَ الرُّوحِ المَقْطُوعِ فَقَطْ، بَلْ يُحَاوِلُ أَكْثَرَ مِنْ هذَا حِينَ يَتَوَحَّدُ فِي صُوَرِ المَاضِي وَالحَاضِرِ وَالمُسْتَقْبَلِ وَأَسْئِلَةِ الكَوْنِ، مَا يَجْعَلُ كُلَّ نَصٍّ شِعْرِيٍّ عَالَمًا حَقِيقِيًّا مُحَمَّلاً بِلَحْظَةِ التَّكْثِيفِ، وَبُؤْرَةَ تَوَتُّرٍ مَشْحُونَةً بِالحَيَاةِ وَهَوَاجِسِهَا الَّتِي تُكَمِّلُ اخْتِلاَفَ الشِّعْرِ نَوْعِيًّا عَمَّا سَبَقَ، فَالعَلاَقَةُ هُنَا مَعْ لُغَةِ الإحْسَاسِ وَلُغَةِ التَّعْبِيرِ تَجَاوُبًا مَعْ طَبِيعَةِ الحَيَاةِ المُتَجَدِّدَةِ الَّتِي يَخُوضُهَا الشِّعْرُ وَالعَالَمُ حَالِيًّا، وَالمُسْتَقْبَلِيَّةِ الَّتِي يَتَهَيَّأُ لَهَا، لِصَالِحِ الإِبْدَاعِ وَالسَّلاَمِ الكَوْنِيِّ فِي الاكْتِشَافِ، وَإِعَادَةِ إِنْتَاجِ الوَعْيِ وَالسَّلاَمِ الكُلِّيِّ.
المراجع:
* ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء، السفر الأول.
* عباس محمود العقاد: مراجعات في الآداب والفنون.
* د. شرشار عبد القادر: نظرية القراءة وتلقي النص الأدبي.
* فلاديمير بروب: موفولوجية الخرافة، ترجمة: د. إبراهيم الخطيب.
مُحَمَّد حِلْمِي الرِّيشَة
شاعر من فلسطين