"وأنت لماذا تريد أن تكتب عن هذا الوقت، والناس كلها مرضت بالنسيان" الرواية ص 122
1- تقديم
1-1- يتواصل الانتاج الروائي والقصصي عند أحمد المديني ويغتني باطراد بنصوص جديدة تصب مجتمعة في مجرى صيرورته الابداعية التي يسهم كل نص في إغنائها وتعميقها، ساهم المديني مع محمد عز الدين التازي والميلودي شغموم في انتهاج اسلوب سردي متميز قوامه الخروج على المعتاد الروائي منذ أواسط السبعينات، وهذا الأسلوب هو ما صار يدرج في الكتابات النقدية تحت اسم "التجريب". غير أن رواية "مدينة براقش"( 1) أحمد المديني تأتي محملة بنفحة خاصة في سياق تجربة الروائي، فهي من جهة امتداد لتجربته الروائية، وتنويع من جهة ثانية، وهي اخيرا تطوير لها.
1 – 2 هذه الملامح الثلاثة (الامتداد- التنويع – التطوير) تبين لنا بجلاء إننا أمام بداية تجربة جديدة في صيرورة الروائي، لكن هذه التجربة لم تقطع مع السابق، إنها تظل تمتح من العديد من السمات التي طبعت مختلف نصوصه، ما كتب منها، وما لما يكتب، وهذا ما دفعنا إلى اعتبار أن كل نص للمديني يظل ينهل من رصيده الروائي، غير إن هذا الرصيد يتطور باستمرار، ومدينة براقش تأتي في رأيي لتكون بداية تحول في هذه الصيرورة.
1 – 3- يبدو لنا ذلك بجلاء في كون تجربة المديني الروائية على وجه الاجمال يحكمها هذا المبدأ الذي يمكن صياغته بلسان الحال الذي يقول: "أريد أن أحكي عن الواقع، لكني لا أريد كتابة رواية واقعية ". يتجلى لنا هذا المبدأ بصورة عامة في كل رواياته منذ "زمن بين الولادة والحلم "
(1976)، ونجده واضحا في هيمنة "الواقعي" في أعماله وهو يتجسد من خلال حضور بنيات تتصل بالسياسي والايديولوجي من جهة ومن خلال السؤال الدائم عن معنى الواقعية وتمرده المتواصل على "القصة" أو الحكاية ذات البداية والنهاية، يظل لذلك الخطاب الروائي عند المديني متحللا من قواعد السرد الروائي بمواصفاته التي تحددها المادة الحكائية، ويظل الخطاب ينسج عوالم حكائية غير قابلة للحكي لانه وهو يفككها يفكر فيها. ويسعى من خلال هذه العملية إلى تقديم صورته عن الواقع الذي يحاول الامساك به، أو تشكيله بصيغ وأشكال خطابية متعددة، ولهذا يجد القارئ المتعجل صعوبة في قراءة رواياته لأنها لا تتأسس على مادة حكائية قابلة لان تروى.
1 – 4 – تأتي خصوصية "مدينة براقش" في كونها وليدة هذا المبدأ العام الذي يحكم تجربة المديني، كما أتصور، لكنها تنحرف عنه قليلا بسعيها إلى تجسيد مواد حكائية وخرقها في الآن نفسه. أن الروائي يلجأ الى "الحكي" في هذه الرواية، لكن الحكي يستدعي مادة حكائية أو قصة قابلة لان تروى، لكن الروائي في العمق ضد الحكي. تحل المفارقة المركزية التي جعلناها السمة الاساسية لتجربته بالمبدأ نفسه: "أنا أروي، ولكني لا اروي" انطلاقا من محاولة تشييد عالم حكائي، ولكن من خلال تقديمه، او تخطيبه بطريقة لا حكائية، واذا كان التفكيك وتقطيع السرد، واتباع الاسلوب الميتاسردي عنوان النصوص الروائية السابقة، فان اللجوء الى توظيف الطبقات النصية المختلفة والمؤتلفة في آن هو ما يطبع هذه الرواية، ويجعلها في الوقت نفسه سليلة التجربة وبداية لتطويرها وتحويلها، وستضطلع هذه القراءة السردية بالوقوف على ملامح هذه التحولات، وإبرازها عبر تحليل طبقات النص، والتساؤل عن أبعادها الشكلية والدلالية.
2- العنوان: أو النبش في الذاكرة
2 – 1 – "مدينة براقش" هي مدينة الدار البيضاء في رواية احمد المديني، لكن ان يرمز اليها بـ"براقش"، ولا يحافظ على اسمها كما هو في الواقع أو الخرائط كما فعل مثلا محمد صوف في روايته التي أسماها "كازا بلانكا"(2) فان هذا الامر لا يخلو من دلالة بعيدة في الربط بين ما ترمز اليه الذاكرة الثقافية العربية والرؤية التي يحملها لهذه المدينة حين يوازي هويتها بما تزخر به "براقش" من دلالات. نجد ذلك جليا في المناص الخارجي الذي صدر به روايته مقتطفا شذرات من كتب اللغة "اللسان – الجمهرة – المقاييس" مستخلصا من مادة "برقش" ما يفيد الفرار من جهة، ونقشر الثياب او التزيين من جهة ثانية، كما انها تدل على التفرقة والجدب والخلاء ثالثا. أما الاخبار المتصلة بها والتي صارت مثلا فترتبط "الجناية" غير المتعمدة، سواء كان القائم بها كلبة او امرأة. ان كل هذه الدلالات التي تزخر بها المادة تتصل بصورة او بأخرى بالدار البيضاء، فهي المدينة المجدبة الخلاء، وهي المدينة التي تجني على ساكنيها، وفي هذه الجناية تصبح جزءا من كل، حيث تصير المدينة هي البلد كله، غير ان هذه الدلالات المباشرة التي يوحي بها العنوان لا يمكنها ان تنسينا ما هو ابعد من ذلك في تشكيل عالم الرواية، وما تزخر به من ايحاءات ودلالات: فالمدينة (أي مدينة) فضاء تتجمع فيه شخصيات، وتتقرر مصائر، تقع فيها احداث شتى، وتمر بها شخصيات عديدة، وهي عوالم قابلة لأن تكون عرضة للذكرى والنسيان، غير ان الروائي وهو يسعى لتجسيد المدينة من خلال السرد او التخييل قد يوجه منظوراته نحو أحداث بعينها، ويعمد الى اغفال سواها. وحين يقع ذلك في الزمان، وتنأى المسافات الزمنية عما جرى في لحظات تشكل الشخصيات والاحداث يعمل الروائي على ترهين أحداث خاصة من منظوره الخاص، وكل ذلك يتحقق وفق اشكال ودلالات محددة ينشدها الكاتب من خلال انتاجه الروائي. تظهر لنا "براقش" (مدينة الدار البيضاء) وفق التصور أعلاه، وكأنها بلا ذاكرة ولا تاريخ، ويضطلع الكاتب بالعمل على صياغة هذا التاريخ. وهنا مصدر الرجوع إلى التاريخ الثقافي لاستعارة اسم "براقش"، لان هدف الروائي هو الحفر في التاريخ والمعاجم والوقائع، وذلك بغية كتابة الذاكرة، وتجاوز التناسي العمد لتاريخ قريب.
2 – 2 – ان استعارة "براقش" الموغل في التاريخ تعبير عن رغبة الكاتب في النبش في "التاريخي" ليتحول من النسيان، أو الذكرى الى "السرد" أو الرواية، لان التاريخ مهما حاول كتابة الذاكرة أو تسجيل ما جرى يظل عاجزا عن الوصول إلى ما تقدر الرواية على إنجازه. وعندما يكون التاريخ لم يتناول حقبا من ذاكرة "المدينة" يكون السرد أولى بالنش فيها، والعمل على صياغتها وهو بذلك لا يعوض التاريخ، ولكنه يقدم عملا فنيا يتجاوز التاريخ ويسبقه في آن، يبدو لنا ذلك بجلاء من خلال ما يلي:
1 – تضمين مقتطفات من بنيات نصية تاريخية مستوحاة من كتب ذات طبيعة تاريخية (عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار آنفا والشارية عبر العصور- وانتفاضة الشارية سنة 1907).
2 – توظيف أسلوب نقل روايات شفافية عديدة لشخصيات تنتمي إلى عالم الرواية بصدد وقائع وأحداث جرت في الدار البيضاء في الستينات (بعض ما تناقله رواة متعددون من العقد 60 لهذا القرن عن مشاهدات ووقائع جرت بعد مؤتمر الجماعة المهدية ) ص 115- 133.
3 – ان هم الروائي والراوي (معا) الأساسي هو "كتابة"، او سرد أحداث هذه المدينة منذ دخول الراوي إليها، ويبدو لنا الراوي في مدينة براقش شخصية مغرمة بجمع التفاصيل عن كل ما وقع، فهو منذ طفولته مغرم بجمع جزئيات الاخبار والتساؤل عنها (ما ترويه له دادا عن برشيد، وهو يستزيدها، ص 180)، كما انه يلجأ الى الحلاق بقصد سماع تفاصيل عما وقع في الستينات. يقول الحلاق عن الراوي:"جاء يطلب من أن اروي له ما حدث في وقت من الاوقات، يمكن 61او 63او ما بعدها" (ص 122). ويتوجه بالخطاب إليه معترضا: "وانت لماذا تريد ان تكتب عن هذا الوقت القبيح، والناس كلها مرضت بالنسيان.. اكتب لنا يا ولدي، مثلا، حكايات عن الجرائم وقطاع الطرق هذه الايام، عن البلدة العامرة بالسعيان، او عن الدار البيضاء كيف أصبحت مزبلة وحظيرة للدجاج، وعندك الغرام والفراق " (ص 122).؟ ويعبر لنا الحلاق عن امنيته: "ولو رزقني الله هذه الموهبة (الكتابة) لما ضيعت وقتي في نبش قبور الغابرين، وتتبع سير التعساء والضالين".(ص 122) يعكس لنا موقف الحلاق والراوي موقفين مختلفين لعملية الكتابة، فموقف الحلاق يوحي بجلاء الى التصور الواقعي للحكي وللكتابة "الحكي عن الجرائم وقطاع الطرق هذه الايام…". اما تصور الروائي فمختلف تماما، وتتبين منه رغبة الراوي/ الروائي في نبش القبور، وتتبع "سير التعساء والضالين ". ويبدو لنا هذا الموقف واضحا أيضا في نهاية الرواية حيث يلجأ الراوي بعد زوال الاسباب الموصلة الى تتمة سرد الوقائع المتصلة بحوادث اضطرابات مارس 65 في الدار البيضاء الى ضريح سيدي بليوط ليبحث عن فاطمة لتمده بأسرار أخرى:"افكر السارد: اذا كانت اغلب الاخبار التي سردت والرجال الذين عرضت أحوالهم تتقطع مصائرهم وتنطلق حكاياتهم او تتصل من ضريح الولي الصالح، فان نهاياتها والاضاءات الاخيرة عنها لابد ان تكون موجودة ولا شك هناك بطريقة أخرى".(ص 239). فيكون اللجوء الى شاهد عاين الاحداث الاخيرة، بعد تعذر العثور على شخصية فاطمة التي كان يعول عليها لملء البياضات الناقصة.
2- 3- كل هذه المعطيات تبين لنا الغرض الاساسي الذي تكمن وراءه عملية الكتابة، وأسباب استعارة "براقش " لمدينة الدار البيضاء، انه النبش في الذاكرة القريبة لمدينة الدار البيضاء، ورصد فترة من تحولها السياسي بعد حصول المغرب على استقلاله الى اواسط الستينات، وما عرفته من أزمات وأحداث. لكن هذا الغرض حين يتحقق من خلال الرواية فان البعد التخييلي يتجلى فيه بصورة واضحة تبعا للمبدأ الذي أومأنا اليه في البداية، ومؤداه بعبارة أخرى "اريد أن أكتب رواية عن الواقع، ولكني لا أريد كتابة رواية واقعية " على غرار الروايات الواقعية، ومن هنا يحصل التداخل بين التجريبي بكل ما يزخر به من تقنيات وتفاعلات نصية يظهر لنا من خلال توظيفها اننا أمام "لاقصة "، والواقعي الذي يتحقق من خلال الرغبة في الاتصال بالواقع، وإبراز الاحداث المساهمة في تغيير مجراه، مع الميل نحو الاهتمام بالتفاصيل والجزئيات. هذا التنافر بين القصة واللاقصة هو ما يبرز لنا بوضوح من خلال ما أسميناه _بـ "الطبقات النصية" ، حيث تتعدد البنيات النصية ويتصل بعضها ببعض أحيانا، وينفصل عنها احيانا اخري، وينفرد بعضها أحيانا بممارسة الحكي، وبعضها الآخر بتجاوزه الى نقيضه على نحو ما سنبين.
3- الطبقات النصية:
نوظف مفهوم الطبقة النصية للكشف عن البناء الروائي القائم على تعدد المستويات والتجارب التي يتناولها في غياب القصة المحكمة البناء وذات البداية والنهاية، وهو يجسد لنا بجلاء المبدأ الاساسي الذي ينهض عليه السرد في أعمال المديني. أمكننا حصر ثلاث طبقات تتكامل وتتداخل في مدينة براقش من جهة، كما انها تتوالى في خطية الخطاب من جهة أخرى معطية إياه بذلك السمات التي جعلت هذه الرواية تمتح من تجربته وتنزاح عنها في الآن أدته، هذه الطبقات الثلاث هي على التوالي: العجائبي، والواقعي، والتاريخي، نتناول كل واحدة منها على حدة، ونقف في الوقت نفسه على ما بينها من صلات.
3- ا – العجائبي:
نفتح الرواية على ميلاد ميلود العجائبي، ونجد اهم المقومات العجائبية في هذا الميلاد من خلال حضور عناصر ترتبط بالثقافة الشعبية وتحضر بجلاء في الحكي الشعبي، تختزل هذه المقومات في عنصرين اثنين:
3- ا – 1- الميلاد المنتظر: ان أب ميلود عندما كان في غفساي موطنه الاصلي رأى رؤيا تحدثه عن انتقالاته في الارض، وانه سيأتيه الولد الذكر "وان بعد طول انتظار، ففي ذلك حكمة عليك ان ترعاها…".. ص 13.
يرتبط المولود المنتظر بانجاز مهمة في الحكي الشفاهي، وحين نفتح رواية "براقش" على هذا البعد العجائبي فان ذلك سيخلق لدى القارئ أفق انتظار نوع "الحكمة " او المهمة التي سيضطلع بها هذا المولود، وعليه ان ينتظر تحقق ذلك.
3 -1- 2- لقد كان نبأ إعلان ميلاد ميلود حدثا في قصبة برشيد التي "تعاقبت عليها ثلاث سنوات عجاف" ص 15. لكن ميلاده في هذا العام غير الجفاف الى جدب لان "المولود فأل حسن" ص 16، ولذا صار عام خير، كما ان طقي الاحتفاء بالمولود يجسد كل هذه الابعاد العجائبية فأمه قبل ولادته كانت تتراءى لها أحلام يبرزهن خلالها رجال بمباخر يتقدمهم شيخ وقور يقول لها:"انه سر، عليك وعلينا جميعا ان نوعاه، سيولد غريبا، وسيعيش غريبا، ولكن…"ص 15، وحتى المرأة ذات القفطان الاخضر تتنبأ بميلاده، وتخبر الحبلى قائلة، "سترزقين ذكرا، وسيكون له شأن عجيب ".ص 15، هذا اضافة الى الحلم العجيب الذي راه سكان المدينة وجاؤوا اباه ليخبروه به، سمع الفقيه والد ميلود الاصوات تطو "تعالوا نسأل الفقيه، فقد رأينا جميعا، وفي ليلة واحدة حلما عجيبا،، وقد رأيناه في الحلم ومعه الصبي".ص 14. كما يظهر لنا ذلك أخيرا من خلال الروايات العديدة التي يرويها الناس وهم يشاهدون المولود. كل هذه السمات المتصلة بالميلاد العجيب لا يمكنها الا ان تجعلنا كقواء نتوقع أشياء عديدة في النص تتصل بهذا المولود الذي يوحي الينا بدء الحكى به أننا بصدد "بطل موعود بانجاز مهمة"، لكننا ما ان نتقدم في قراءة الرواية، وكلما ابتعدنا عن لحظة "الميلاد" وما صاحبها من تفاصيل وطقوس شعبية تدخلنا الى العوالم العجائبية، وجدنا أنفسنا ندخل طبقة نصية أخرى لا صلة لها بما هو عجائبي، وان ظلت بعض مقوماته تطفو بين الفينة والاخري. قبل الانتقال الى الحديث عن الطبقة النصية الثانية نود التشديد على نقطتين اثنتين نواهما اساسيتين لانهما تتصلان بالبرنامج الحكائي في هذه الرواية لكونهما تقوداننا في عملية القراءة، وتواجهاننا في عملية الوقوف على الشكل والدلالة في هذه الرواية، ترتبط هاتان النقطتان بالبعد العجائبي الذي نتحدث عنه، وتأتيان معا على شكل استباق:
أ – أولى النقطتين تتصل بأب ميلود (الفقية). عندما كان مايزال يافعا وموفي غفساي يرى في الحلم شيخا معمرا افرد امامه صحيفة وشرع يقرأ بصوت مسموع: "آن لك ان تنهض فأمامك سفر طويل وحل وترحال " ص 13، ويخبره بأنه سيسافر عن غفساي الى فاس ويحط الرحال في الشارية ويواصل "لكن الطريق عسير والروح ستحلق طويلا في غربتها"، كما انه يخبره بما يقع لولده ميلور: "وسيهوى كثرة الترحال متنقلا من أرض لأرض كمن يبحث عن كنز فعساه يجد ما من أجله ولد". (ص 13).
ب – ثانية النقطتين تتصل بميلود ابن الفقيه، ورأينا جزءا منه يتم الاعلان عنه من خلال الصحيفة التي يقرأ فيها الشيخ، وجزءا آخر منه في كل الاقوال التي قيلت لحظة الاحتفال بالمولود ومجملها يتعلق باختلافه عن غيره، وانه فأل حسن، وسيكون له شأن. تأتي النقطتان معا على شكل استباق زي طبيعة عجائبية، وهذا الاستباق في رأيي هو بمثابة بؤرة الرواية، انه "يلخص"، بعض ما سيأتي على صعيد الزمن، ويجمل كل ما سيأتي مفصلا على مستوى المادة الحكائية، لكن هل كل ما يقدمه هذا الاستباق العجائبي قابل للتحقيق، أم أن البرنامج الحكائي سيضطلع ببعضا، ويتجاهل بعضه الآخر؟ ذلك ما سنحاول الاجابة عنه من خلال الانتقال الى الطبقة النصية الثانية.
3- 2- الواقعي
يتم الانتقال من الطبقة النصية الاولي ذات الطبيعة العجائبية الى الثانية ذات البعد الواقعي بتجاوز ميلاد ميلود، وما صاحبه من احلام وطقوس وتوقعات عن طريق استعمال "الميتاسرد" حيث يتحقق التعليق من قبل الراوي الناظم على مختلف ما يتصل بالطبقة النصية الاولي. في هذا الانتقال اول ما نلاحظ هو اننا كلما ابتعدنا عن لحظة الميلاد نجد انفسنا نخرج من دائرة العجائبي لندخل في نطاق ما أسميناه "الواقعي"، وكأن هذا الانتقال لا يمكنه ان يتم الا عبر "هام" الطبقة العجائبية، او يقوم على انقاضها. يبرز لنا هذا الميتاسرد بجلاء من خلال تعليق الراوي/ الناظم على ما جرى سرده في الطبقة الاولي، يقول الراوي: "يستطيع ميلود ان يحكي ما يشاء، له ان يتخيل ان يتوهم ان يضع الالعاب والألاعيب، يجعل الخيال حقيقة، لكنه ليس قادرا ان يتحكم على هواه في صنع الاحداث فهذه ليست في ملكه…" ص 29.
ان راويا يسلب من راو منطق حكيه وطريقته، وفي هذا السلب يكمن الميتاسرد: فهو موقف من حكي سابق، وما يثيرنا في الشاهد المقدم ان الراوي/ الناظم يتخذ موقفا من البعد "العجائبي" الذي يبرز لنا في سرد ميلود عن ميلاده، ويبرز اللجوء اليه من قبل ميلود لاعتبارات عديدة منها: 1 – المسافة الزمنية: حيث نجده يقول: "حتما ان السنوات التي تباعدت بينه وبين طفولته، مع ما امتلأت به من ثقوب، هي التي تدفعه الى تعويض الواقع بالخيال ووصف ما هو طبيعي بصور مغربة ". (ص 29).
2- العجز عن التفسير: الى جانب المسافة الزمنية هناك مبرر آخر ويتمثل في العجز عن تفسير بعض الاحداث والوقائع، يقول: "… وبإمكانه ان يبرر الغرابة بالحكايات التي نسجت حول مولده، والالغاز المرافقة حين لم يجد له تفسيرا.." ص 29.
يأتي هذا الميتاسرد ليفسر لنا طبيعة الطبقة النصية ذات البعد العجائبي، ويكشف لنا عن حدودها في تشخيص العوالم المحكية، وقصورها عن تقديم "الواقع"، انه بأحد المعاني "ينسخ"، السرد المقدم في مطلع الرواية، ويضعنا أمام احتمال تقديم صورة أخرى مغايرة تتصل _"الواقعي"، وبذلك نجد انفسنا ننتقل من حكي الى آخر، ومن طبقة الى طبقة نقيض، اننا ننتقل الى الواقعي مقدما العوالم نفسها وسراها بطريقة مختلفة، ومن خلاله تعاد صياغة بعض المقاطع الحكائية من منظور سردي مختلف، ويتقدم النص تبعا لذلك في اتجاه مغاير. بكل ذلك تضاء لنا بعض الجوانب التي رأينا في الاستباق وهي تتعلق بالمولد العجائبي، وما كان من الممكن أن يضطلع به صاحبه من مهمة حكائية او سردية، ان اتخاذ موقف من البعد العجائبي للميلاد، نفي لكل ما شكلناه من توقعات بصدد ميلود وما يمكن ان يتولد منه، وتوجيه للسرد نحو التوقعات المشكلة حول والده "الفقيه " الذي سيصبح مركز التبئير عكس ما كان منتظرا، او علينا انتظار نص آخر للكاتب نفسه، يكتمل فيه ما بنيناه من توقعات بصدد ميلود وكثرة ترحاله في الارض؟
3- 2- االعتبة:
يقودنا الانتقال الى الطبقة النصية الثانية الى رؤية مغايرة لما حكي عن ميلود ابان ولادته، وما صاحبه من ألاعيب في طفولته التي تمتح من العوالم العجائبية، حيث يسعى الراوي الى توجيه السرد نحو الواقع المزري الذي تعرفه قصبة برشيد والذي ينجم عنه قرار الفقيه بالهجرة الى الدار البيضاء.. وكأننا بهذا الانتقال نخرج من زمان الى آخر، ومن فضاء الى آخر مختلف. فاذا كان عالم القرية هو عالم الطفولة وحكي المرأة للعجائب في قرية محكوم على أهاليها بالعيش في ظلام الأزمنة الغابرة (الحمق، قمع القواد والباشاوات…) وكل هذا يستدعي العجائبي، فان عالم الدار البيضاء مختلف تماما نسبيا، انه بكلمة عالم الواقع. لكن بين الفضاء ين مسافة قصيرة هي الطريق، وفي الطريق الى الدار البيضاء وأسرة الفقيه منحشرة بكامل اعدادها ومتاعها في حافلة عمومية يتم التوقف في منتصف الطريق امام جدارية مكتوبة عليها مجموعة من الاسماء لشخصيات "واقعية حقيقية " تنتمي الى فضاء الدار البيضاء، وهي شخصيات سياسية وثقافية وفنية، وبينما الفقيه يتلو الاسماء المكتوبة "انفتح" وسط الجدارية في شكل باب.. اسفله لصق الارض تماما يملأ اطاره رجل متقدم في اسن…" (ص 45) تظهر علامات الارتباك والجزع على الجميع، اذ لم "يكن يظهر خلف الجدارية أي بناء يفهم منه ان للباب معنى، أو يكون هذا الرجل قد نبت من تحت الأرض فجأة " (ص42) اننا هنا أمام موقف عجائبي محض (ربما ملاك جاء من السماء، والا كيف ظهر من فراغ؟) ص 46 فالجدارية فضاء جديد لم يعهده السائق من قبل، وهو الذي يقطع هذه المسافة يوميا. يسلم عليهم الرجل ويقترب من الفقيه، ويخطب في الركاب: "… أنا قلت عندي وصية وعرفت ان الفقيه واصل اليوم… هو عارف بكلامي، عارف بقدر الغربة.. سيرحل النصراني ويأتي نصراني آخر الى ان يظهر الحق ". (ص 47) ويسلم بعد ذلك كتابا ضخما الى الفقيه ويحدثه دون غيره بصوت خفيض، ويعطيه عنوانا، ويحدثه عن الضريح والبحر والشيخ والفتنة، ويعلمه ان في الكتاب كل شيء منذ العهد البورغواطي، ويوصيه بأن يقرأ ما في الكتاب، ويضيف اليه ما شاء وقتما شاء، ويمحو ما قرأ إن اراد، والمهم هو المحافظة على الكتاب. في الطريق هل نقول" العتبة"؟ الى الفضاء الجديد ننتقل مرة أخرى الى العجائبي، فالطريقة التي تم بها تقديم الجدارية والاسماء المكتوبة عليها، واختيار الفقيه من دون الركاب لتحمل مسؤولية الاضطلاع بالمهمة، كل ذلك يؤكد لنا الرجوع الى الطبقة النصية الأولى بما لها من صلة وطيدة مع ما رأيناه سابقا في أحلام الفقيه، واقوال الشيخ ايام كان يافعا، لا فرق بين الحلم الذي راه الفقيه في غفساي، وما راه في الطريق، فالشيخ هنا أيضا "يعرف ان الفقيه واصل اليوم "؟ لذلك فهو يكلفه بالمهمة، ويحدد برنامج بناء الرواية مرتين:
1 – على صعيد القصة: "سيرحل النصراني، وسيأتي نصراني آخر الى ان يظهر الحق "على صعيد الخطاب: يقول الشيخ "سأحضر كلما اقتضى الامر او استعصي السرد على السارد، وكلما أحس المؤلف بالضيق، فقد وعدته منذ شرع في الكتابة بأن أقدم له ما اقدر عليه من العون…" (ص 47). ان الموقف العجائبي الجديد يتصل بسابقه بسمات عديدة تشترك مجتمعة في ظهور "الشيخ" (في الحلم او الواقع ) الذي يحدد مسار الاحداث والوقائع، ويرسمها "الشخصية المركزية " (الفقيه )، وتتقدم الينا على شكل استباق. يظهر لنا ذلك على هذا النحو الذي نجمل من خلاله ما انتهينا اليه:
– في الطبقة الاولي: نجد الرحيل، الاستقرار في الشاوية، ميلاد الذكر حيث يتصل الاستباق "اسرة الفقيه".
– في الطبقة الثانية: يتعدى الاستباق ما يتصل بالاسرة الى الوطن بكامله "سيرحل نصراني وسيأتي نصراني آخر"، الشيء الذي يبين لنا أننا امام مرحلة جديدة من توقع نمط الحياة التي سيحياها الفقيه في الدار البيضاء.
– يتحقق لنا من خلال كل ذلك الانتقال من العجائبي الى الواقعي، وننتقل من ثمة من حياة اسرة الى المجتمع، ومن القرية الى المدينة (على صعيد المادة الحكائية )، ومن الحكي العجيب الى الواقعي (على صعيد الخطاب ).
– 3 – 2 – 2 – الواقع البؤرة: الدار البيضاء المدينة هي الفضاء الذي انتقل اليه الفقيه مع اسرته، هذا الفضاء شاسع جدا، لكن الفضاء الذي سيتم التركيز عليه في السرد هو الفضاء الذي ستنتقل اليه الاسرة "درب بوشنتوف" اولا فدرس الاحباس بعد ذلك.
– تستقر الاسرة في الدار البيضاء، ويتغير نمط حياتها، يزاول الفقيه مهنة التعليم في مدرسة حرة، ويذهب ميلود الى المدرسة، ومن خلال هذه الحياة الجديدة نتبين الفرق الشاسع بين الحياة في برشيد والحياة في المدينة غير ان ما وقع في الطريق كان كافيا لتوجيه مسار حياة الاسرة في شخص الفقيه توجيها خاصا: فتسليمه الكتاب، والاذن له بزيارة الضريح يغير نمط حياته تغييرا كليا، وآية هذا التغيير على مستوى الرواية تقديم صورة عن الدار البيضاء ومن خلالها نمط الوعي المتشكل بصددها، ويمكن معاينة ذلك مما يلي:
1 – الكتاب: يصبر الكتاب جزءا أساسيا من حياة الفقيه، يطالعه في كل وقت، ويصبه جليسه الوحيد، ويدفع الفقيه الى التساؤل والتفكير، فهو يقدم له معطيات وافادات تاريخية عن تشكل مدينة الدار البيضاء من خلال المصادر التي أومأنا اليها، وهو يعرف العديد منها، لكنه يجد فيه ضالته، من حيث يجعله يتأمل الوقائع، ويستخلص الدروس، لا سيما وان من قدم له الكتاب امره بأن يضيف اليه متى شاء. وفي اللقاء الذي سيرجع فيه الكتاب الى الشيخ سيقرأ الشيخ منه، ويضيف أشياء تجعل الفقيه يتساءل لم لم يطلع على بعض ما جاء في الكتاب، أم ان ذلك أضيف في وقت لاحق، ان للكتاب قيمة رمزية خاصة، مادام يرتبط بتاريخ الدار البيضاء، وذاكرتها المنسية. لكن تاريخ الدار البيضاء كما يقدمه الكتاب ليس سوى تاريخها النضالي ضد المستعمر، وفي ذلك توجيه دلالي خاص الى تاريخها الممكن، وهو ما تسعي الرواية الى رصده، والوقوف عليه من خلال ما سنلاحظه من خلال الطبقة النصية الثالثة.
ب – زيارة أبي الليوث: يفكر الفقيه في زيارة ضريح ابي الليوث استجابة للأمر بالزيارة كما طلب ذلك منه الشيخ في الطريق، ويتم استغلال هذه الزيارة فنكون امام وصف الدار البيضاء حيا حيا، ويقدم لنا الراوي صورة المدينة في اواخر الخمسينات راصدا خروج الفقيه في الصباح الباكر من درب بوشنتوف ووصوله الى المدينة القديمة حيث الضريح ورجوعه ليلا. كما ينتهز الراوي فرصة تواجد الفقيه في الضريح ليسرد علينا "حكاية بيضاء" وابي الليوث الشيخ الزاهد لتفسير النخلتين النابتتين في باحة الدار وسط الحطام حيث نجد انفسنا مجددا أمام بنيات عجائبية.؟
ان الامر بقراءة الكتاب وزيارة الضريح موجهان أساسيان الى معاينة صور خاصة تتعلق بالتاريخ النضالي لمدينة الدار البيضاء، وتوجيه لمسلك الفقيه للتعرف عليها والاستئناس بها، لذلك نجده في نهاية الزيارة يستنتج ما سبق أن أكدناه: "… يا سيد الفقيه ماذا قال لك الشيخ؟ وهل حان وقت الوعد؟ لم يفهم شيئا او فهم وصمت، وظلوا يمشون خلفه خطوة خطوة، ومن طريق لطريق الى ان وصل الى درب بوشنتوف، فوجد الحي كأنه في فجعة أبدية ".(ص 86)، ويبدو لنا ذلك بصورة اوضح فيما يستنتجه الفقيه بخصوص المدينة وهو يتعرف عليها، ويتشكل وعيه السياسي بخصوصها "…في مدينة بلا ذاكرة أو أضاعت ذاكرتها القديمة وهي تخوض غمار أيام جديدة لا تعرف فيها شيئا سوى ان حكاما أجانب كانوا يحكمونها قد رحلوا وعاد يحكمها من يقولون انهم أصحاب الحق فيها وأولى بحكمها".(ص 92)
هذا الوعي الذي تشكل من خلال حياته في الدار البيضاء نتاج رؤية خاصة للواقع في صيرورته الواقعية والتاريخية وسيتجسد أكثر في نمط الحياة التي سينخرط فيها منذ قدومه اليها، حيث سنجده دائم القراءة في الكتاب (الذاكرة المكتوبة)، والاتصال بالسي المحجوب المناضل الذي يدخله الى دائرة المناضلين الذين يسعون الى التغيير. لذلك نتبين من خلال روايات ميلود وأمه بين الفينة والأخرى مظاهر تغير نمط حياة الفقيه: فهو في البيت منعزل، ودائم الغياب في البيت، وفي أحيان أخرى صار البيت زاوية للقاء المناضلين الذين يتحدثون عن التغيير، كما يبدو لنا ذلك أيضا في روايات أحدى الجارات بناء على ما يلاحظ في البيت من حركة دائبة، وخاصة في الليل.
هذا الانتقال من العجائبي الى الواقعي يضعنا أمام رؤية مختلفة لحياة الاسرة، انها منذ وصلت الى الدار البيضاء وهي تعيش واقعا مغايرا تماما، ومن خلال حياة هذه الاسرة (الواقعية) نكون صورة عما يجري على نطاق واسع، اننا من خلالها نطل على "الواقع" المغربي في فجر الاستقلال وما يمور به من تغيرات، وما تتجسد فيه من رؤيات تنم عن السخط على الواقع، وتعبر عن الرغبة في التغيير، وسيكون هذا ايذانا بالانتقال الى الطبقة النصية الثالثة حيث يتم تجاوز حياة الأسرة (أسرة الفقيه) الى الواقع المغربي منذ انعقاد مؤتمر الجمعية المهدية.
3- 3- التاريحي:
3 – 3 – 6 في الفصل الاول من الرواية وجدنا أنفسنا أمام الطبقة النصية الاولي ذات البعد العجائبي الذي تم فيه التركيز على ميلاد ميلود في أسرة الفقيه في برشيد، وفي الفصل الثاني سافر بنا الراوي الى الدار البيضاء لنعايش تحول حياة الأسرة وهي تعيش في أتون المدينة الساخن من خلال الطبقة النصية الثانية ذات الملمح الواقعي، وفي الفصل الثالث وهو يحتل وسط الرواية على اعتبار أنها تتكون من خمسة فصول، نجد أنفسنا ننتقل الى الطبقة النصية الثالثة ذات البعد التاريخي. ليس التاريخي في التجسيد الروائي الذي نحلل في ضوئه هذه الرواية سوى الواقعي وقد انتقل من حياة الأسرة الى حياة المجتمع وصار ما يبرز عبره يتحقق من خلال مرحلة زمانية في تاريخ المجتمع برمته. تقع في هذه المرحلة الزمانية مجموعة احداث ووقائع قامت بها شخصيات الرواية لتتجسد من خلال حدث مركزي هو "انعقاد المؤتمر التأسيسي للجمعية المهدية" في سينما العهد الجديد. وهذا الحدث يقدمه لنا الراوي على لسان ميلود الطفل وبطريقته الخاصة ليجعلنا فعلا نحسر أننا أمام حدث غير عادي: "حتى كان ذاك اليوم، أتذكر جيدا انه يوم الأحد، هو يوم عطلة مدرسية، ولذلك لا ينسى مثل أيام الاعياد.. هذا الأحد ظهر لي مختلفا، فقد جاءت أمي توقظني باكرا وتقول انه ينتظرني لأرافقه…" (ص 106) 3 – 3 – 2: هذا اليوم هو يوم التجمع الذي يشهد انعقاد المؤتمر التأسيسي للجمعية المهدية، وبعد نقل تفاصيل هذا التجمع التأسيسي تقدم لنا مجموعة روايات يتم تناقلها عما جرى بعد هذا الحدث من وقائع ومشاهدات، وكل ذلك يؤكد لنا الطابع التاريخي لهذا الحدث الذي يكرس له الفصل الثالث بكامله (من الصفحة 91 على الصفحة 143). ان الحدث يحتل حيزا مهما في الرواية اذ له ما يمهد له، وله ما يليه، على اعتبار انه كحدث مركزي تظل آثاره متواصلة ومستمرة. ومما يدعم ما نذهب اليه، نجد الرواية تكاد تكون خلوا من المؤشرات الزمانية والتاريخية المتصلة بالواقع المغربي الحديث، باستثناء الحوادث التي عرفتها منطقة الشارية ابان احتلال الدار البيضاء ( 1905- 1907م – 1325-) والتي يقوم الروائي بنقل وقائعها من مصادر تاريخية، او الاشارات على 61و63(ص 122)، او بصدد المطاردة الكبرى في الدار البيضاء ( 15 اكتوبر 1960)، لكن المرة الوحيدة التي جاء فيها المؤشر الزماني كاملا هو ما يسجل في الصفحة 93، من خلال التاريخ الذي كتبه الفقيه على سبورة القسم عندما دخل الى الفصل ليقوم بواجبه التربوي: "أمسك طبشورة وكتب على اللوح الاسود تاريخ اليوم: 15 اكتوبر 1959، ومادة الدرس: النحو".
3- 3- 3 لا يمكن للمحلل إلا أن يتساءل عن أسباب التشديد على هذا المؤشر الزماني في الوقت الذي نجد فيه الرواية لا تحتفي بطريقة خاصة بالمؤشرات الزمانية؟ نفهم الجواب مباشرة، فقبيل انتهاء الدرس يأتي السي المحجوب وهو المؤطر السياسي للفقيه ليحدثه عما يعتمل في البلاد، ويخبره عن الاجتماع بالشيخ، وبعد ذلك بصفحات قليلة يقع الحدث المركزي: انعقاد المؤتمر التأسيسي للحزب. ان تسجيل هذا المؤشر الزماني واضح الدلالة على الوقائع التي ستجري والتي تحمل بعدا تاريخيا في المغرب الحديث. وهذا المؤشر لا يختلف عن سنة 1907، ذات الدلالة الكبرى لتاريخ الشارية والدار البيضاء بصورة خاصة، وتاريخ المغرب بكيفية عامة، وحين لا يشدد الروائي على اشاراته التاريخية، ويبرزها لنا بوضوح، فانه بذلك يريد ان يجعلنا بعيدين عن التعامل مع روايته باعتبارها "واقعية" تماما كما حاولنا تبيين ذلك في مطلع هذه القراءة، انه يرمي فعلا الى النبش في الذاكرة الفردية والجماعية عما وقع في "برا قش"، مادام هناك من يرفض او يتناسى هذا التاريخ القريب لأسباب ودواع شتى، ومن ثم يسعى الى تحقيق هذا الفعل بطريقة روائية، وتخييلية، لا تصادر التاريخ او تدعي التعبير عن "الحقيقة" التاريخية.
3- 3- 4 تأخذ الطبقة النصية الثالثة بعدا خاصا في بناء الرواية لانها وهي تشدد على حقبة تاريخية في تاريخ المغرب الحديث تريد ان تبين دور الدار البيضاء في هذا التاريخ، لذلك كان تأسيس الحزب الجديد (الجمعية المهدية ) في سينما "العهد الجديد ايذانا بتحول كبير تشهده مدينة براقش. لاحظنا ان كل طبقة نصية تأتي متصلة بغيرها، اما بواسطة الميتاسرد او التضمين، فالانتقال من العجائبي الى الواقعي جاء عن طريق التعليق النقدي الذي يعيد النظر في السرد العجائبي محاولا اعطاءه تفسيرا مغايرا، وهو بذلك يمهد للدخول في الطبقة النصية الثانية الواقعية.. كما ان الانتقال الى التاريخي جاء عن طريق الانتقال الى المجتمع الذي تنخرط فيه الشخصية المحورية التي تم التركيز عليها في الطبقة الثانية، ومنجد الامر نفسه في القسم الأخير من الرواية والممتد على الفصلين الرابع والخامس حيث يتحقق الرجوع الى الواقعي مرة أخرى.
3- 4-1 الواقعي- السياسي
3 – 4 – 1 اذا كان الواقعي الذي رأيناه في الطبقة الثانية يتركز على اسرة الفقيه، ويبين لنا التحولات التي طرأت عليها نتيجة انضمام الفقية الى الحركة التي تسعي الى تغيير الواقع، فان الواقعي الذي يتلو التاريخي شخصا في الحدث المركزي (المؤتمر) يأخذ وجهة أخرى من خلال احتدام الصراع بين طرفي الواقع السياسي (الحركة المناهضة والتي تجد لها جذورا في انتفاضة الدار البيضاء، والحكام الجدد الذين يرون أنفسهم أولى بالحكم كما تقول الرواية ). وبما أن الواقعي هنا يستمد مقوماته من التاريخي فانه سيتجسد من خلال البعد السياسي، ومنجد أنفسنا تبعا لذلك أمام اكتمال البرنامج الحكائي حيث يذهب هنا نحو نهايته بناء على ما سبق لنا ان رأيناه من استباقات في البنية النصية العجائبية المتصلة بالمولد او بالعتبة (الطريق الى الدار البيضاء). بعد انعقاد المؤتمر التأسيسي انتقلت الحركة الى الفعل السياسي، وستظهر آثاره واضحة في احتفاءات الفقيه، ومطاردات المناضلين، ووصف تفاصيل المعتقلات السرية، بل إننا منذ بداية الفصل الرابع نجد أنفسنا أمام البحث عن الزعيم، وقامت القيامة بسببه. وستتواصل القمعية ضد الحركة بكاملها مما اشاع مناخا من التوتر والقلق ويستمر هذا الوضع حتى نهاية الرواية مع تشخيص دقيق لاضطرابات مارس 65 وما عرفته الدار البيضاء من صور ومشاهد دموية وعنيفة. في هذا التنويع الواقعي تتجلى لنا المدينة "مدينة براقش" في أكمل صورها، انها مدينة التناقضات الصارخة، التي تجني على فلذات أكبادها بالمطاردات والملاحقات، ويجسد لنا المقطع التالي الصورة بشكل واضح: "عند المدخل الشمالي للملعب قطعة معدنية مستديرة وكتب فوقها بحروف حمراء بارزة: قف، القوة البراقشية، لم أفهم شيئا وخطرت ببالي فكرة حمقاء: الاستعمار رحل منذ سنوات، فهل هؤلاء رجال استعمار جديد؟ (ص 245)
يتحقق بهذا الشاهد الاستباق الذي رأيناه في العتبة عندما كانت الاسرة في الحافلة متوجهة الى الدار البيضاء، حيث عبر الشيخ بعبارة واضحة عن الفكرة نفسها، وعملت الرواية من خلال طبقاتها النصية المختلفة على تعميقها وتأكيدها فلا شيء تغير:
1 – على الصعيد التاريخي بين انتفاضة الدار البيضاء سنة 1907، وانتفاضتها سنة 1965، الشيء الوحيد الذي عرف التغيير هو وجه الاستغلال، فاذا كان في مطلع القرن العشرين ممثلا في الاستعمار فانه في اواسطه يتجسد من خلال حكام الاستقلال كما انه:
2- على الصعيد الواقعي لا يوجد فرق بين البادية بباشاواتها وقوادها الذين يجلدون الناس، ويحبسونهم كرها، وبين المعتقلات السرية في المدينة، ومطاردات المناضلين، كما انه لا فرق بين أشكال حياة الناس.. اما على:
3 – الصعيد العجائبي: فانه وحده الذي لم يتغير، انه بما يضم من أنماط للتفكير غير قابلة للتفسير بطريقة معقولة، ويظل الغموض، وسلطة عليا توجه الحياة وفق وجهات غير مضبوطة وغير منطقية (الميلاد العجيب / العتبة / اللقاء العجيب بين بيضاء وأبي الليوث لم البحث عن الكنز المرصود…) انه يظل متعاليا، ويتم اللجوء اليه بين الفينة والاخري لتجسيد بعض مظاهر اللامعقول الذي يطبع مجتمع الرواية.
هذه الطبقات الثلاث حين ننظر اليها في سياق تطور بناء الرواية تكشف لنا عن الخلاصات التالية التي نستنتج من خلالها أهم خصائص "مدينة براقش " على مستويي الشكل والدلالة على النحو التالي:4- تركيب:
4 – 1 – يبين لنا المبدأ العام الذي يحكم الرواية ان الطبقات النصية هي المفتاح الاساسي لتجسيده، فالروائي يريد أن ينبش الذاكرة الثقافية والاجتماعية لمدينة الدار البيضاء في فجر الاستقلال، ويقدم لنا صورا عن أشكال وأنماط الحياة فيها، يستدعي هذا النبش توظيف المادة الحكائية من خلال التاريخ لعائلة وتحولها في الزمان، وعبر ذلك يتسم التاريخ للفضاء العام الذي تعيش فيه كما هو جار عادة في الكتابات الروائية (تجربة محفوظ، مبارك ربيع مثال على ذلك ). لكن المديني يتبع أسلوبا مختلفا وشكلا مباينة فهو ينتقل من طبقة نصية الى اخري، من الشذرات التاريخية الى وصف المدينة، الى رسم تحول أسرة، الى تاريخ القمع.
4- 2- هذا الاسلوب يضعنا أمام امكانية حكي أدلا قصة "، اذ ان هناك "قصة " حياة أسرة كما نلمس ذلك في الفصلين الأول والثاني. لكن الفصل الثالث يدخلنا الى زاوية من حياة الفقيه التي تجعله في تماس مع الواقع فالواقع السياسي، فيكون بذلك الانحراف عن مجرى القصة، التي لا يبقى منها غير شخصيات تكونت لدينا صور عنها، وأحداث تتصل بالمجتمع المديني الذي انتقلت اليه الأسرة، ويظهر لنا من ثمة بوضوح المبدأ الذي اشرنا اليه، وجعلناه قطب تراءتنا باعتماد الطبقات النصية.
4- 3- هذا الازدواج بين الحكي واللاحكي يفتح الرواية أمام امكانية تشغيل مختلف التقنيات التي تم توظيفها في "الرواية التجريبية" وعند المديني مهارة في ذلك، يبدو لنا ذلك في تعدد الخطابات وتنوعها وتداخل بعضها ببعض، وفي ممارسة الميتاحكي الذي يتخذ موقفا واعيا من اشكال الحكي الممارس في لحظات حكائية سابقة، والمونولوج، ومختلف الصيغ الممكنة بحرية وتلقائية، لضمان انسجام النص الروائي في غياب "القصة"، ويكون ما يحدد هذا الانسجام كامنا في "موضوع " الرواية، وما يستقطب اهتمام الروائي بالدرجة اللاولى، والذي يتوارى بين الفينة والاخري وراء اللعب السردي واللغوي.
4 – 4 – ان توظيف كل هذه التقنيات وما يتصل بها من تكسير لوتيرة الزمن والسرد لما جاء متوازيا ومتحققا من خلال الطبقات النصية الثلاث أعطى تحولا لكتابة المديني التجريبية، وجعل امكانية القراءة الموجهة نحو بناء خاص ودلالة محتملة ممكنة وواردة حتى بالنسبة للقارئ غير لمتعود على هذا الضرب من النصوص.
4- مدينة براقش مسعى جديد للاتصال بالفضاء المغربي في الرواية المغربية ودون هذا الاتصال الشيء الكثير الذي على الرواية المغربية القيام به، ورغبة أكيدة لصياغة تجربة روائية وتخييلية عن الدار البيضاء باعتبارها ذاكرة الوطن ككل، ومجالا خاصا بمقوماته وخصوصياته، فهل انتهت هذه الصياغة الى المرمى أم ان في جعبة الروائي أشياء أخرى عن "براقش " الاخري كما يحلم بها "الحلاق "، ويتمنى ان يكون كاتبا ليحكي عنها، لمعانقة الواقعي والتجريبي بصورة أخرى، ووجه يصب في مجرى تثبيت التجربة المدينية في الرواية المغربية.
1- أحمد المديني، مدينة براقش، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، 1998
2- محمد صوف، كازابلانكا، مطبعة خليل، الدار البيضاء، 1989.
سعيد يقطين (ناقد وأكاديمي من المغرب)