عند الغلس. أنفاس ثقيلة وأنين يشق الظلام. اقترب العبسي من خاله المسجى على السرير، متوجسا من زلة تفضحه، فكان يتقدم منحنيا ومستندا إلى عصيٍّ يصنعها في خياله. وعندما شعر أنه دنا كثيرا من وجه خاله، وأن الظلمة انحسرت كاشفة أمامه الوجه النائم، تسمر في مكانه، وعبثا حاول كتمان نبضه الذي تفجر في صدره. كان خوفه مضاعفا، فهي المرة الأولى التي يدنو فيها من ذلك الوجه المخيف ويرفع إليه بصره، ولكن ما أرعبه أكثر أن الوجه غدا مختلفا، يغضنه الداء ويعتريه الضعف. لم يعد جارحا، عنيفا ومخيفا كما عرفه طيلة عشرين عاما.
اختلطت مشاعر العبسي حيال ما يراه، ولكن الأفكار جالت في رأسه وبدأت تضيء جوانب نفسه، فهدأ روعه وتراخى وجيب قلبه.
بضعة أيام تفصله عن مصير غامض. فالأجل يدنو حثيثا من خاله، وقد ينام ليلته غدا في المقبرة، أما هو فعليه أن يكون أكثر الناس حياة وقوة على وجه الأرض. عليه أن يتحول إلى جبل أو حصن تتكسر على جدرانه الرماح. «مصير محتوم أبدي وليس نزهة يوم أو رحلة شهر». ارتعش قلب العبسي ثانية، لا لمرأى وجه خاله هذه المرة، فقد عاد الرأس إلى وهدة الظلام التي خرج منها، وإنما من وقع الأفكار التي استحالت إلى تصورات تكبر كالزوابع.
الوصية محشورة تحت حزامه تحرسها خنجره الفضية المشحوذة. عباراتها جلية وشاهِدها القاضي وقائد الجند فيما خاتم الحُكم منقوش في أسفلها. مع ذلك تبرق أسنة الخديعة من كل صوب وتضيء مشاعل الخيانة درب حياته كلما استبد به موت خاله الوشيك… وكان العبسي في محنة هواجسه تلك، يتخيل أن خاله سيموت ولكن القبر سيطبق عليه هو.
سيورثه الحُكم. ولكنه يعلم يقينا أن الخال أقدم على ذلك لا حبا فيه ولا خوفا على البلاد من بعده، وإنما قهرا على ابنه الذي سحره الأعداء وزرعوا فيه قلبا آخر. ماجد ابن الخال. القابع في سجن سري من القلعة، ذخيرة بارود قد تنفجر في أي وقت وتقوض الأركان. أي شيطان أحمق جعل الخال يحتفظ به في بيت الحكم؟ لماذا لم يقتله أو ينفيه إلى أقصى الأرض؟ لقد حاول العبسي أن يجد مكانه في متاهة القلعة، صعد السلالم ونزل الأقبية المظلمة وجس الجدران بأذنيه، وأخذته نزوة يائسه لينزل البئر ويفتح عينيه في مائها. ولكن بحثه أفضى إلى متاهة أخرى انحفرت في نفسه، وأطلقت خفافيش الظلمة فيها زعيقا حادا فت أعصابه.
قبل عام واحد لم يكن هناك ما يقلق بال العبسي ويعكر صفو حياته. كان الجميع، في القلعة والسوق المجاورة لها وفي بيوت التجار ومنازل رجال الدولة المحيطة بالقلعة، ومن كان بعيدا في أكواخ الفلاحين وخيام البدو وعرائش الغجر، والأبعد منهم من اللصوص المتفرقين في المفازات وقطاع الطرق المرابطين في الأودية، من الفقراء في الحقول والفقهاء في المساجد، كلهم كانوا أخوته الذين يتحرق شوقا لمعاشرتهم كل يوم، منذ بزوغ الشمس على البلاد وحتى غروبها.
كان لقب عائلته ((العبسي)) مدفونا في قريته الجبلية البعيدة حيث قبر أمه وأبيه، وكان اخوته الكثيرون أولئك ينادونه بنصف اسمه ((عبدالله)) عابثين بحروفه كيفما راق لهم. تقول له الخادمة عميرة عندما تزوغ عن عملها ولا تجد أفضل منه لتسري عن نفسها: عبيدي، أخبرني من الأذكى تيس الماشية أم زوجي صالح؟ وكانت لا تستدعي في أوقات لهوها سوى زوجها صالح، الحارس العجوز المهمل أمام بوابة القلعة، ذاك الذي فعل منها سبعة عشر طفلا قبل أن يجف معينه وتصدأ سكينه. تنتظر الجواب بينما تمسد على كرشها الهائل وتداعب خيوط الذكريات. لا يضنيه الجواب كثيرا، فالكلمات تهب إليه خفيفة كنسائم الهواء. يقول لها: صالح أذكى من تيس الماشية فقد تزوج من القطيع كله. تختلط لعنات الخادمة بضحكاتها الصاخبة وتعفره بالرمل، ومن فرط هيجانها كان الرمل ينهال على رأسها هي. وبين ساعات عملها الذي يتخاطفه مطبخ القلعة وغرف المؤن والحضائر وخم الدجاج، حيث يبدوا أطفالها والأيتام الذين تسللوا إليها وتشبثوا بثوبها الفضفاض كذرات تلوب في دوّامة شغلها، بين ساعاتها تلك كانت تكمن للصبيان الأكبر سنا وتسحبهم إلى الزوبعة. تقول له وهي تشده من يده الهزيلة: عبّود.. عبّوديه.. جرادة المقبرة.. يا عظمة. تجره أو تدفعه ممسكة بقذاله: عبّوديه.. ذيل الشاة.. يا حطبة. وهكذا حتى تلج به الحضيرة وتغلق الباب. يقول خاضعا: حسنا يا أمي عميرة، اهدئي أنت وسأحلب أنا البقرة فما من بقرة يمكن أن تحلب أختها.
حين ورد إلى الخال خبر وفاة أخته في الجبل، وكان قد نسي أن له أختا تعيش هناك، صعد ليدفنها ويعود إلى القلعة مصطحبا طفلا نحيلا في الخامسة من عمره. نسيه بين أطفال الخادمة عميرة وحيواناتها خمسة عشر عاما، ليتذكره بعد ذاك حين استبد به المرض وحامت الكواسر حول كرسي الحُكم. وفي سنيه الأولى في القلعة، وقع الطفل فريسة الاوبئة التي تناوبت عليه كما لو أن بينها وبينه ثأراً قديماً. ينام مهملا في ركن من غرفة الخادمة المزدحمة بالبنين والبنات، لا يعاوده أحد إلا لماما، حتى اسمه لم يسمع من يذكره، فكأنه سيق إلى القلعة ليلتصق بأحد جدرانها ويشهد بصمت فصول فنائه. كان يكرر الأسئلة على نفسه الحزينة: ما الذي أراده ذلك الرجل الغليظ الذي قيل أنه خالي وبأنه سيد القلعة عندما قادني إلى هنا؟… وما شأني أنا بهذا المكان الذي لا يريدني فيه أحد؟… هناك أهلي ومتاعي وليس هنا سوى المرض والخوف والدموع. وإن كان ثمة يد امتدت لمواساة الطفل وحنت على حاله، فضلا عن إسعافه وتطبيبه، فهي يد صالح زوج الخادمة عميرة.
كان صالح، ولم تقوس السنون ظهره بعد، بوجهه الطويل المجدور وعينيه الباليتين، الناحل كالعشب والقوي كالجذور الغائرة، يحمل في صدره قلبا مرهفا ينبض شفقة. يبدد سحابة نهاره في بوابة القلعة، يحرسها ببندقية صدئة تستند إلى ظهره، جاهلا إن كانت ملقمة أم فارغة. وعندما ينقضي النهار وتنفض حلقة الحراس، يأوي إلى مخدع زوجته. مخدعها وليس مخدعه، توضبه عميرة كل يوم كما لا تجهز أميرة خدرها. وعندما يعلو شخيرها بعد أن تناله وينالها، يخفق قلب صالح للأطفال الذين يفترشون أرض الغرفة وقد فصل بينه وبينهم ستر ثخين.
في عامه السابع برئ من الأدواء وبدأت قدماه تتعرفان على النواحي… وبدأت روحه تهتدي إلى مدارها. طريقه الأول خارج القلعة كان إلى المسجد. يخرج مع صبية وصبايا القلعة وقد تفرقت أجزاء القرآن في أيديهم. كان ماجد يكبره بعام. رافقهم لتعلم القرآن عامين ثم أرسله الخال إلى مدرسة فيها علوم أخرى. كتوم، عصي الجانب، لا يخالط رفاقه ألعابهم ولا يجاري كلامهم. وقد مضى عام بأكمله على خروجه من القلعة حين علم عبدالله العبسي أن ذلك الطفل الساهم كسحابة بعيدة هو ابن خاله. كان يسمع عنه ولا يسمع منه. يعيش في غرفة منفردة من الغرف العلوية للقلعة. أمه ووصيفتها تقفان على خدمته وتسهران على راحته. كان عليه ملازمة أبيه نهارا في مجلس الحكم ومرافقته في أسفاره. وقد حاول العبسي التقرب من ابن خاله وافتعل الأسباب لترويضه، ولكنه عزف عن ذلك عندما لمس فيه عنادا وصلادة لا يفتهما شيء.
في العاشرة من عمره انبثق عالم جديد في حياة العبسي، فاتحا له ذراعيه وداعيا إياه لخوض غماره. يقطع في ذهابه إلى مدرسة القرآن وإيابه منها سوق المدينة. كل يوم يمضي يزداد شغفه بالحوانيت وما تحتويه وبمرأى التجار وهم يزنون البضاعة أو يقتعدون العتبة ويجسون بخشوع دفاتر حساباتهم. الصاغة والنحاسون والعطارون والدباغون ومن خالطهم من الوكلاء والسماسرة وجاورهم من العتالين وطالبو الرزق، كلهم كان يتوق إلى ولوج عالمهم ورؤيته من الداخل. وقد قيض له الدخول عند بلوغه العاشرة. بدأ ذلك حينما شعرت عميرة بفتور زوجها وساورتها الريبة في همته. قالت للعبسي وهو يتهيأ للخروج إلى المدرسة: عبّود، امسك هذه القروش واسأل عن دكان سليمان بن حامد. قل له أن غدّارة جدي بحاجة إلى زيت وبارود وخذ ما يعطيك إياه. وإن أخبرته بمن أرسلك سأقطع ساقك يا عبّود وأمنحها لإخوتي الجن. بعد حديثه الأول مع العطار، تحدد درب العبسي في فلك سنيه القادمة. سأله العطار وهو يناوله صرة أعشاب عمن أرسله. أجابه: الجن يا عم من أرسلني، وفي اليوم التالي افترق العبسي عن رفاق مدرسة القرآن وانحرف إلى حانوت العطار.
في عمر السابعة عشرة كان العبسي يجوب بخطا سريعة عرصات السوق وأزقته. نحيف. أنف بارز وعينان حادتان لا تضمران شيئا سوى غزارة النظر وقوة اللحظ . ليس طويلا، ولكن وطئه الخفيف وحفاوة حضوره طبعا في نفوس وأذهان من يعرفه أنه طويل سامق الفرع. كان قلبه يحيا بإيقاع السوق وتنتشر روحه في دروبه وداخل دكاكينه. فروضه تبدأ من صلاة الفجر في مسجد السوق، وهو غير مسجد القلعة الذي يؤمه الخال وابنه وحاشيته، ولا هو مسجد الفقهاء حيث درس القرآن. صَلاته وأهل السوق لا تفاصيل كثيرة فيها، تشبه تلويحة سريعة أمام الضوء المنبثق في السماء. يحث عُمر الدلاّل سليمان الدباغ ليؤم الناس، ولكن الأخير لا يجيبه. يلتفت هنا وهناك قبل أن يتقدم بنفسه ناحية المحراب. وإن كان ثمة غريب بات ليلته في المسجد، فسيُدفعُ بإصرار إلى المقدمة. على هذا المنوال تنقضي العبادات الخمس في مسجد السوق: سهلة كانزلاق حبات المسبحة.
يطل بائع القناديل سليم الأعمى من متجره في عنق السوق، وكان أول من يهرع إلى التجارة. «صبحك الله بالخير عم سليم». «بالخير عابد». «قل لي يا عم، من هذا المجنون الذي سيشتري منك سراجا عند مطلع الصبح؟». «ليس مجنونا، ولكنه أعمى يا عابد، أبيع بضاعتي للعميان مثلي». «وما حاجة العميان بالسرجان؟». «حتى ينيروا الطريق للمجانين أمثالك». كل يوم يتردد نفس الحديث بينه وبين الأعمى ولكنه كل يوم يولد مغسولا بنداوة الفجر.
اعتاد أن يوزع نصف نهاره على السوق وأهله وفي النصف الآخر يقتفي رزقه في الحقول والأحراش المتناثرة. كان الأهالي يلجأون إليه لامتطاء سوامق النخيل، «العوّانة» كما تسمى الواحدة منها في عُمان. يبحثون عنه في السوق وحين يلاقيه أحدهم يقول له: «لدي عوّانة». يقول: «سأعاونك عليها». يقول السائل: «ليس لدي قروشا، سأعطيك ربع الغلّة». يقف العبسي تحت النخلة، يحيط جذعها بحبل الطلوع ويرفع نظره إلى هامتها الموصولة بالسماء. وبلا تردد يسلك طريقه على جذع النخلة حتى يلامس الرطب برأسه. في القلعة يقطع قسما من الثمر لعميرة وأطفالها وأيتامها الذين كبر بينهم ويبيع الباقي بقرش يرميه في جرة ماله.
حين ألم المرض بالخال وكان العبسي قد أشرف على عقده الثاني، طلبه إليه في قاعة الحُكم. تقدم ولثم ظاهر يده ورأسه وانتظر حتى دعاه للجلوس. كانت المرة الأولى له في القاعة، قل المرة الأولى التي يصعد فيها سلالم القلعة. يدُ الخال واهنة غير تلك التي كان يقبلها في الأعياد ويسندها لركوب الخيل. ولكن الخال كان يعرف عنه كل شيء. حدثه كمن يقرأ من كتاب. قال: «لو كنت أعلم ما سيؤول إليه أمرك لتركتك في الجبل بصحبة القطعان. لقد نسيت هنا من تكون وما نسبك فأخذت تضرب في الأسواق كالسابلة، يتغامز عليك القوم ويتشفون مني بك. أشفقت عليك فتركتك على سجيتك، وكان الأولى بي لو قيدتك جواري. مع ذلك، فإن نسيت أنت من تكون ورضيت بنصف اسمك فهذا لا يرضيني، ومن اليوم ستلازمني أينما أكون وسيناديك الناس بالعبسي».
لم يستوعب العبسي ما قاله الخال، لا لغموض الحديث وانغلاقه على عقله وفطرته، وإنما لجلال الكلام وهيبة حواشيه. ولوهلة برقت أمام عينه أعوامه الماضية فكانت كذرة غبار حلقت في بهاء القاعة ثم ذوت وانطفأت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل من رواية قيد التأليف.