قاص من عُمان.
يرحلون في الغبش في الساعات الأولى من الضياء، قبل أن تميز بين الذكر والأنثى، وقبل أن تذر الشمس ضياءها على الشعاب والأودية والأخاديد المحفورة في خاصرة الجبل الأجرد.
كل شيء هنا موهوب للجدب والخلاء المنهوب من البشر، فقد حلت القوارض وبنات آوى والذئاب والثعالب والخنافس محل القوم الرحل، الذين سيحلون محل الهدوء ومكامن الصمت في بقعة أخرى من أرض مهددة بالغزو الآدمي.
تسبق النوق رعاتها إلى مرتفعات (أقصيص)، فلا شيء يحفزها على البقاء في (صولوت) لا شجيرات مخضرة ولا أعشاب، فأسماك السردين المجففة لا طعم لها، ولم تعد الإبل تستسيغها، بعد أن هبت الرياح المحملة بالرحمة، وحيث يرخي الخريف ضبابه على الجبال الشاهقة، ويطارد الحرارة إلى تخوم البادية، فيقف الضباب حاجزا مانعا توغل لهيب الصيف إلى الهضاب الخضراء والغابات المسكونة بالرعاة الابليين، سلالة الأقوام الموغلين في التيه.
رجال حفاة من الزيف وعراة من التكلف، يسابقون الريح في خطواتهم نحو الإنعتاق من الجمود، ويعاندون البطء في حركاتهم، كل ما لديهم موهوب للإبل وما فاض عن ذلك لبقية العائلة، هكذا هم رعاة النوق رجالا كانوا أم إناثا.
يقول الذي يرى ولا يُرى «حينما هبط الرحيل من السماء تلقفه الراعي الإبلي وأودعه سرا في غور كينونته فلا يكشف عنه ولا يبوح به لكائن من يكون»، هذا السر يتوارثه الراعي الإبلي جيلا بعد آخر.
يفاضل الرعاة بين مكان وآخر حسبما تؤتي الطبيعة أكُلها، فيشدون الرحال أو يسكنون، يتشبثون باللحظة في الخط الفاصل بين السكون والعاصفة أو في المساحات الموهوبة للتلاشي الأبدي.
يردد أحد الرعاة هذه الكلمات عند عودته مساء من المراعي.
– «يا ساكني الأوطان المؤقتة نذرت نفسي وما بقي مني لاقتفاء آثاركم المحفورة على جدران الطواف في صفحات الزمن الغابر، على تقلبات الأيام والفصول وتبدل الأمكنة».
كل ما يملكه الرجال الإبليين مرهون للطبيعة الرحيمة بالكائنات، أو قد نذروه للدهرين وأهل الخفاء.
لا خيار هذه المرة (للإبليين) في البقاء أو التريث، فالإبل هي التي تقرر موعد الذهاب، ولا حاجة (للفينق المستكشفين) ولا لآرائهم في البقاء أو الرحيل، فحينما تتلبد السماء بالسحب الركامية المائلة إلى اللون النيلي، وتتسلل السحب تحت الشمس فتخفيها عن الأرض أياما وربما أسابيع، ويحل الظلام في النهار، ويرتفع موج البحر مُسمعا هديره لمن يسكن في البوادي، تعرف الإبل أن الأشجار الناعسة في البيات، سيوقظها من السبات قُبلات الرذاذ القادم مع الضباب الجنوبي، الواعد بخلط الرعاة المقبلين من شعاب وفُجاج الأرض، في مبارك ومناخات متناثرة على جلد الريف المخضرّ، لذلك تنزع النوق زرافات ووحدانا، دون استئذان أصحابها الذين (يرصنون) الحور لعل الأمهات تبقى مع صغارها.
لكن للخريف دغدغة خفية يسلب الناقة أمومتها ويحرّضها على التمرد، فتقلّب الفصول وتجدُد الطبيعة يفعل فعلته ويؤثر على الكائنات، أو ربما الذكرى الساكنة في ذاكرة النوق أو الحنين للمنازل والمبارك، أو كليهما معا هما الذين يفرضون سلطتهم على الناقة، فترفس كل شيء خلفها، الابن والمالك والديار، وتيمم صوب الجبال الخضراء، منفلتة من الرعي المؤقت بعصي رعاة مزعجين يختارون للإبل مباركها، ويسوقونها في الصباح مبرحين جلودها بالسياط إن لم يتبعن الأوامر.
كأن الإبل حين تنزع إلى مراعيها، تتحرر من الراعي المسكون بالهواجس والغيرة من رفاقه في الموطن والرحيل، يقول أصحاب الإبل «النوق لا تستأذن الكُسالى، ولا تطيع الحمقى».
– «لابد لنا من التنقل إلى هناك، حيثما اختارت النوق محلها من المكان» يقول بن سعيدان كبير القوم ويستدرك كلامه « ولكن علينا أن نعلم جيراننا بعزمنا على الذهاب، لا يمكن أن نخرق النواميس المتوارثة من الآباء الرُحل».
– « هل تظن أننا سنرحل دون أن نعلم شركاءنا في المحل والديار، أرسلت اليهم بالأمس ولدي، لكنهم فضلوا التريث ريثما يرجع الرجال من منازل اللبان، وتشفى ناقتهم المتورم ضرعها»، هكذا ردّ أجهام الرجل المتأزر بالخرقة النيلية، والمتوج (بالمحفيف) على الشعر المنفلت من منبته، ويتحول المحفيف في بعض الأحايين إلى عقال يأسر به أجهام جمله، حامل متاع الظاعنين.
– رد بن سعيدان « إذن خير ما فعلوه، معهم الحق لا يمكن أن تحمل النوق فوق طاقتها، ولا تستطيع الناقة أن تسير هذه المسافة وضرعها منتفخ».
كان الجميع متحلقين حول الموقد وهم يتناقشون أمر رحليهم، يحوّل الموقد الحطب إلى رماد في لحظات السهر، كما يحول الدهر قوة الرجال وفتوتهم، إلى أجساد مترهلة خائرة القوى، وكلما خفتت النار كلما أضافوا لها مزيدا من الحطب، يُقال في الوصية المتوارثة من السلف الرُحل» أيها الإبلي لا تطفئ نارك فإليها يهتدي طالب الدفء والشبع والأمان، لا تخمدها ففي اختفائها توهن شهامة العرب وكرامتهم، أبقها سرجا يتوهج، يأنس به الصديق ويخافه الخصم».
تجمع (لخيار) زوجة أجهام الإبلي، متاع العائلة العازمة على الرحيل، كانت لخيار قد أحبت أجهام الإبلي، حينما جاءهم ذات صباح يبحث عن جمله الأعور، فقدمت له حليبا في إناء من السعف ومن قطعة جلدية سفلية يسمى (قعلاء)، وقد سقط القعلاء من يدها فالتقطته بظهر قدمها، فأعجبت أجهام الذي قال حينها مقطعا شعريا من النانا يمدح فيها لخيار.
لا شيء يغري أصحاب الإبل في البقاء، ولا شيء يمنعهم من الترحال فالسكون والاستقرار في نظرهم يجلبان السأم والضجر، ولا يعرف الاستكانة إلا أصحاب الدواب الكسولة، أما رعاة الإبل فهم في تجوالهم الدؤوب يفتخرون بترحالهم وبتنقلهم يزهون.
كل المبارك والمناخات مؤثثة بالغبطة والسرور حتى تفقد عذريتها، كل ما تملكه الأسرة من متاع لا يتعدى (مجعال) لحفظ الأدوات و(فيدات) مهد الطفل و(قعلاء) إناء الحليب.
«الاستقرار للعجزة والمرضى، أما التنقل واستيطان الأماكن (النهلة) فهي للأصحاء يا بني» هكذا يخاطب أجهام الإبلي ولده (عوفيت) أثناء تحميل ما يشبه الأمتعة على ظهر الجمل وأثناء حديثه كان يحمسه بلحن حماسي عتيق بكلمات من اللغة الشحرية «هوم بر شبر لقديم ضير موت أيقيفر لعليت وليسن شيد من أقره، أوليغتتن بهنود والعد يحيجر هير فز حيوم تعيدل بحره» وتعني( حين عزم صاحب المشورة القديمة فوق المرتفعات العالية على المسير، شد الحزام وباغت النعاس كي لا ينتظر الشروق وتطلع الشمس).
يشعر عوفيت بالكبرياء فتقف شعيرات ساعده ويزداد حماسه لتثبيت الحبل أسفل بطن الجمل ويقول «هل سنلتقي هناك بعائلات أخرى يا أبي؟»
– رد أجهام «لا أدري لا علينا من الآخرين يا بني، المهم أن ترعى نوقنا في مراع مخضرة وتقضم أوراق السغوت والخيير».
– « أحب أن ألعب مع شباب آخرين» قالها عوفيت وهو ينحني يوثق الحبال على ظهر الجمل.
– «على الإبلي ألا يغفل عن نوقه يا بني، عليه أن يتفقدها إذا اقتربت من الأماكن الوعرة، أو حلت في مرعى مليء بالحفر الصخرية، كي لا تكسر أقدامها»
– « هل تظن أنني لا أحرص على نوقي، أحلف لك يا أبي أنني حريص عليها أكثر من حرصي على إخوتي».
في لحظات قليلة تحزم الأسرة عدتها، وتُحمل أمتعتها على ظهر الجمل الذي يرغي ويزبد، بعد ابتعاد الإبل عن المكان وخلفها الرعاة، الجمل في أوج غلمته، ولا يصبر عن رؤية النوق.
يبذل الجميع نشاطا مضاعفا وكأن شيئا سيفوتهم لو تأخروا هنيهات، تصطحبهم اليقظة في حركاتهم، فلم ينسوا الحليب المحلوب صباحا من ضروع النوق المبتعدات في أهازيج رعاتها، وهم يحثونها على إسراع الخطى قبل أن تشتد حرارة الجو، أخرجت الأم قبل لملمة أدوات زينتها المكونة من مكحلة ومرود وزجاجة عطر وحيدة، وزيت الشعر المسكوب في رقعة جلدية على شكل دائري يسمى (قرقات)، أخرجت كيسا جلديا كان مطويا، ورطبته ببعض الماء، وصبت الحليب في الجلد، وأحكمت إغلاقه بخيط يكون عادة قرب فوهة الكيس، فالأم تعرف أن أبناءها سيحتاجون إلى الحليب حينما تستقر الشمس في قبة السماء، وحينما ينهكهم المسير.
الأم هي الأم، لا يشغلها شاغل عن أبنائها، فتنظر دائما إلى صغارها على أنهم صغار مهما كبروا، رحل الظعن مخلفا وراءه أطلال الإقامة المؤقتة، وغبار الذكريات، وبعضا من هدوء المكان وسكونه؛ ذهبوا على أمل الرجوع، فمن يدري ربما تظلل سحابة على المكان في يوم ما وترشه بمائها؟، عندها لن يجد الراعي الإبلي بدا من العودة إلى هنا من جديد.
كل شيء هنا مرهون للطبيعة، فهي التي تقرر رحيل الناس وبقاءهم، كما تدخل الجغرافيا في تحديد وجود البشر من عدمهم، فالكهوف الآمنة من الأمطار، تُعد ملاجئ طبيعية للبشر والدواب، إليها يفر الهارب من سعير الشمس، أو من جرف الطوفان.
تستعد الأسرة لختان عوفيت الشاب، صاحب الهمة والنشاط والوجه الملائكي، مع بعض الشباب من أسر أخرى، يقف عوفيت منتصبا دون أن يرف له طرف، فيقوم الخاتن بعمله دون أن يتألم عوفيت مثل من سبقه في الختان من أصحابه، وبعدها يلقف السيف من فتاة كانت تقف خلفه، ويقفز ثلاث قفزات في الهواء ويزفن كما هي عادة العرب الجنوبيين، تتهامس فتاتان كانتا ضمن النساء الواقفات خلف الرجال لرؤية أبنائهن وأبناء إخوانهن وأخواتهن وهم يسلمون عاناتهم للختان.
تقول فتاة «ليت عوفيت يكون لي ويدخل علي (مغنسي)، أقسم أنني سأهبه كل شيء أملكه وأسلمه نفسي من أول لحظة يضع يده على رأسي، أقسم أنني سأكفر بالحياء، وسأمص شفتيه كما يمص الطفل ثدي أمه».
أما صديقتها فقد عضت على شفتها السفلى حين قفز عوفيت في الهواء دون أن يتألم، ورددت «كيف أتزوج رجل لا يشبه عوفيت؟، كيف أفتح ساقي لرجل لا يمتلك ما يمتلكه الفتى الإبلي».
حمل كل المختونين أداة حديدية طويلة مثل العصا، إلا عوفيت نسيت أمه أثناء تحضيرها لمكان مبيته أن تحضر معها الحديدة، وضعت ثلاثة رؤوس من الثوم وربطتها حول عنقه، ثم نسيت كذلك البسملة حينما غطت وجه ابنها باللحاف، فأهل الخفاء لا يقربون الحديد والثوم والبسملة، في الليل حين أغفى الإبليون، جاءت (المستبصرة) أجمل فتاة أهل الخفاء وأحسنهم، وخطفت عوفيت، حيث أخذت الروح وتركت البدن، أصبح الفتى الإبلي جسدا بلا روح أو كمن تاهت روحه وضلت طريقها إلى بدنه، لم تفلح دماء المواشي التي نحرت فوق عوفيت ليستفيق من سباته الأبدي، كما عجز أصحاب الضرب على الرمل، أو رمي الحصى أو تقصير الحبال عن تقصي حقيقة الخطف .