لم يكن حديثها عن الفراشات مفاجئا له، كأنه كان ينتظره منها، فهو منذ أن رآها قرنها بهذه الكائنات الناعمة التي تطير مثل غيمة ألوان، لا تبحث عن مواكب فحفيف أجنحتها وحده يشكل موكبا نادرا، فكيف إذا أضافت إلى حديث الفراشات حديث زهرتها المفضلة «الغاردينيا» وهو من طارد الفراشات في تلك الحديقة المنقرضة بمدينته والتي كانت تسمّى حديقة غازي، طاردها ولم يصطدها حيث كان يحس بأن حفيف أجنحتها الكرنفالية كان يأتي بالربيع لمدينته الصيفية البعيدة.
حديث الفراشات المقترن بزهور «الغاردينيا» اكتشف منه أنها امرأة تبوح بما تحب بوضوح شدهه فأراد أن يسمع المزيد من حكاياها.
هي أمامه بتنورتها الواسعة المزركشة التي تنطلق من زنار يحيط خصرها الدقيق، كأنها في ذلك الوضع فراشة على فم زهرة ترتشف خمر الرحيق لتثمل، ولتحلق بعد ذلك كأن العالم كلها لها.
كاد أن يقول لها : قرنتك بالفراشات منذ أن رأيتك، فراشة تبحث عن زهرة «غاردينينا» خلت منها الحدائق.
وكاد أن يقول لها : لم أرك إلا وأنت بتنورة واسعة، والريح دائما «جميلة الذوق» لأنها تطيّر تنورتك فيصبح لمها شاغلك وأنت تتحركين بخطواتك الناعمة، تمشين، تتسلقين السلالم.
وكاد أن يقول لها: عندما تكون الرياح متمردة على الهدوء لازمي بيتك حتى لا تعاندك هذه الرياح فتغير على تنورتك وتنثرها مثل طبق أزهار وسرب فراشات وقافلة سنونو وحمائم. لكنه لم يقل شيئا. واكتفى بالإصغاء لها فقط.
كانت تتحدث عن تلك الفراشة التي لا أحد يدري كيف تركت حدائق الكلية وراءها. واقتحمت جوّ الفصل الدراسي حيث كان الطلبة في انتظار قدوم أستاذهم الوقور.
وقد كانت تروي الحكاية بالتذاذ، ولا تكتفي بالكلام بل تصحب ذلك بحركات من يديها فكأنها بطلة مسرحية فريدة من طراز «البانتومايم» تلف يديها حول بعضهما، ثم تفرد واحدة تشير بها إلى أعلى، ثم تعود وتلمّهما في حضنها.
قالت : كان علي أن أنقذها. والحل الوحيد أن أفتح لها النافذة التي كانت تدور ثم تعود لتصطدم بزجاجها. وتأكد لي أن إحدى الصدمات ستنهيها. لذا نهضت ووقفت على المقعد وفتحت النافذة. ولم أغلقها إلا بعد أن حررت الفراشة الأسيرة لتمضي إلى حدائقها ورفيقاتها.
وروت له أن الأستاذ كان قد حضر وأخذ مكانه بعد أن وضع «الماسك» الوقور على وجهه. ولكن ما فعلته استوقفه إذ لم يتوقعه منها أو من طالب آخر ما دام الدرس قد بدأ.
أما زملاؤها في الصف فقد خيّم عليهم الهدوء وهم يراقبون ما تفعل، كانت وجوههم كلها متجهة نحوها ثم إلى الأستاذ الذي أحسّ بأن «ماسك» الوقار قد بدأ يرتجف على وجهه.
نفضت يديها وعادت إلى مكانها وهي تزفر بارتياح إذ أن سعادة ناعمة غمرتها تلك اللحظة.
ثم استدارت الوجوه نحو الأستاذ الذي لم يكمل طقوسه المعتادة حيث أربكتها ما فعلته زميلتهم.
وحكت له كيف كانت تحس بأن بعض المدرسين تتبدل ملامحهم عندما يكونون أمام طلبتهم. و«الماسك» الذي حدّثتك عنه هو ماسك افتراضي من التجهم والاستعلاء والجديّة.
وسألها :
– وأنت ألا تفعلين هذا مع طلبتك؟
ردّت على الفور :
– أبدا فوجهي لا يتقبل أي «ماسك» وجهي صريح، هكذا أريده وأظنه هكذا.
وعلّق :
– وجميل أيضا
سكتت لتبتلع ريقها كأنها تداري خجلها من غزله الواضح، ثم تتابع وحركاتها الإيمائية تصاحب صوتها وتحدثت من جديد عن صوت الأستاذ المحتجّ:
– أنت في صف دراسي، ولست في مكان آخر
– وماذا فعلت؟
– أوقفت الدرس، وأضعت الوقت؟
– خفت على الفراشة المسكينة إذ أن إحدى الخبطات ستنهي حياتها، لذا فتحت لها النافذة وكل هذا لم يأخذ إلا ثوانٍ فقط .
كانت سعيدة بما ترويه، وبعد أن صفنت قليلا وكأنها تتذكر ما فاتها من هذه الحكاية التي مرت عليها سنوات، قبل أن تواصل :
– وأتذكّر أيضا أن عيون الزملاء تراءت وكأنها تصفق لي إعجابا مثنية على ما فعلته ولذا لم يهمني صوت الأستاذ المتذمر:
– يا آنسة ماذا فعلت؟
ثم أضافت : لكنني وقتذاك وكأنني لست في الصف وقد حلقت مع الفراشة، انسللت من تلك الفتحة ومضيت لأدور في الحدائق بحثا عن زهرة غاردينيا دهشت لمرأها ذات يوم وأسكرني عطرها عندما قربت أنفي منه.
وواصلت حديثها:
– أدرت بصري نحو أشجار الحديقة أتملاّها وكأنني أبحث عن تلك الفراشة وأتابع مآلها فلعلّ عصفورا جائعا لاحقها والتقطها، لكنها مضت بعيدا برفيفها الناعم كأغنية حب.
وقد قرأ على وجهها الصافي مسحة ارتياح وهي تلمّ تنورتها المنفرشة على المقعد الذي تشغله. وكأنها قد انتبهت آنذاك إلى فنجان قهوتها فأخذت رشفة منه وأعادته إلى الصحن.
ويبدو أن الأستاذ كما روت قد كبر استياؤه مما فعلته بعد أن واجهته بهدوئها. وكأنها لم تفعل شيئا يستحق ردة فعله هذه إذ عادت وأكدت له:
– لم أوقف الدرس إلا لثوان فقط. كنت فيها تضع حقيبتك وتخرج أوراقك.
ثم ضحكت وهي تقول :
– كدت أن أكمل حديثي عن طقوسه وأضيف إليها وتضع «الماسك». ولكنني قلت له بتأكيد :
– لقد أنقذت حياة واحدة من أجمل عطايا الله ولو لم تكن هكذا لما منح أجنحتها هذا العرس من الألوان .
وقد روت أن جوابه لها كان :
– لي حديث آخر حول الموضوع.
لكنها لم تفهم ما أراد من قوله هذا وردّدت :
– هل كان يتوعدني؟ ولكن بماذا ؟
– لا بدّ أن تصرّفك تسبّب في إرباك الطقس الوقور الممنهج؟
– أنا معك، ربما.
كانت مغمورة بالحبور، ولا تكف عن إطلاق واحدة من قهقهاتها الناعمة وكأنها تعلن بها أن سعادتها لا حدود لها فالنافذة انفتح زجاجها والفراشة الحائرة احتضنتها الحدائق.
صفنت قليلا وتساءلت :
– أين تذهب الفراشات؟ هل لها أعشاش مثل الطيور؟ أم أنها تنام محتضنة وجوه الأزهار، هذا السؤال، لا أريد أجابة عليه، أكتفي بأن أردده إذ أن لغزه رائع.
ومن المؤكد أنه لا يعرف الجواب.
تذكّر هذا الحديث الذي دار بينهما حتى أنه ابتكر صياغة تحية صباحية يخصّها بها وحدها : صباح الغار دينيا أو صباح الفراشات، فهذه التحية لا يشاركها فيها أحد.
ويوم استوقفته لوحة كان يعرضها أحد باعة المقتنيات فانّ ذلك شكّل له مفاجأة لم يتوقعها حيث كانت اللوحة تضم أربع فراشات محنطة وضعت بترتيب في إطار مزجج. فقرر أن يشتريها على الفور.
كما قرر أيضا أن يقدمها هدية لها. ولكنه تساءل : كيف يكون هذا؟ وبماذا يسوّغ تقديم فراشات محنطة لها؟ كيف وهي من أوقفت الدرس الجامعي من أجل أن تحرر تلك الفراشة التي كادت غاراتها على زجاج النافذة أن تنهيها؟
لكن اللوحة في حقيبته، صارت بين يديه بعد أن نقد البائع المبلغ الذي طلبه وانصرف.
كان يحث الخطى غير منتبه للمارة، وفي ذهنه تختلط الأفكار، تمتم بصوت داخلي تحركت له شفتاه :
– ولكن لماذا كان أصحابي يصيدون الفراشات في تلك الحديقة البعيدة التي تحمل اسم أحد ملوك العراق غازي الأول والأخير أيضا؟ ولماذا يقدمون الفراشات الزاهية تلك عربون حب لفتيات وجلات لم تزر شفافههن العذراء قبلة مسروقة».
كما تساءل في سره وهو يواصل شق طريقه في هذا النهار الصيفي:
– ولماذا ابتكر الغربيون شباكا خاصة لصيد الفراشات ؟ هل يفعلون هذا استئثارا بالجمال الفريد الذي تمثله؟ لماذا تطبق عليها الكتب والكراريس. وإذا ما عثرت زميلة على فراشة في الكتاب فإن هذا بمثابة رسالة غرام لها من صاحب الكتاب؟
لكنه كان مقتنعا بحقيقة واضحة هي أنّ أجمل الفراشات تلك الفراشات الطليقة التي تغرد بحبور في رفيفها الهامس الذي لا تفكّ أسراره إلا الأزهار.
ومع هذا فإن فرادة الفراشات دون غيرها من المخلوقات أنها لا تفقد بهاءها محنطة كانت أم طليقة.
ولمّا وصل بيته كان هاجسه الأول أن يعيد تأمل فراشاته الأربع، ولكنه عندما فتح حقيبته ليستخرج اللوحة إذا بالفراشات تنطلق منها، دارت في فضاء الغرفة برهة ثم توجهت نحو النافذة التي كان زجاجها مفتوحا آنذاك، وخرجت منها باتجاه الحديقة.
وعندما مدّ رأسه من النافذة يتابع رحلة فراشاته خيّل إليه أنه سمع صوتا هامسا يشبه صوتها وهي تحثّ الفراشات على التحليق بعيدا.
كأنّ صوتها الذي توهّمه دليلهن نحو فردوس أخضر بعيد.
كاتب وروائي من العراق يقيم في تونس