بديوانه "فجر اسماعيل" يبتعد محمد ديب في كتابة الاقاصى التي تعيد مسألة الحدود، وتكثف داخل بناء رمزي وشفاف أسئلة الكائن، منذ البدايات الى المصائر التي تحبكها يد المكيدة بابتهاج تسهر على مهاويه الصحراء.
لماذا هاجر واسماعيل في هذه اللحظة التاريخية المفتوحة على جراحات المقدس، في ذلك الإرث الابراهيمي الذي تختلف حوله الديانات التوحيدية؟ اذا كان "تاريخ العرب يبدأ بدموع هاجر. وهي أولى الدموع التي تذرف في الكتاب المقدس" (1) كما يقول الخطيبي، فانها دموع التأسيس لسلالة سيكون امتحان الصحراء هو أول ميسم يبصم رحلتها التأهيلية.
عبر تجربة الانفصال ,(Separation) الذي يروي طرد هاجر وابنها في الصحراء، و "الكتابة هي لحظة الصحراء كلحظة انفصال" (2)، يستعيد محمد ديب آلام المنفى والفقد، من خلال عذابات الأم وابنها، بصوتين أعزلين لهما امتدادهما الشعري في البدايات أين تكون الصرخة مفتتح النشيد، باعتبارها "في الوقت نفسه الحقيقة الكلامية الأولى والحقيقة الكوسموغونية "casmagoinque الأولى".(3) هذه الصرخة التي تتحول الى غناء أودفيوسي يفتن الكائنات، ويحيي موات الصحراء مفجرا فيها بذخ الحياة. أليس هذا هو سحر الكتابة كخلق؟ واسماعيل لا يفجر فقط نبع الماء، ولكن نبع القصيدة أيضا، التي تخاطر بالتسمية (خذ حفنة من الرمل وانثرها). الصحراء ستسمى، كل شيء سيسمى، الاسم سيسمى) (4). "اذ لا شيء يزهر في الصحراء أو بين الأحجار ما عدا الكلمات".(5) لأن الشيء الذي لا اسم له لا وجود له، فالتسمية وحدها تخرجه من المجهول الى المعلوم، وترسم ذلك التاريخ المتواصل الذي (يذهب من الصمت الى الكلمة ومن الكلمة الى الصمت) (6). وهنا يأخذ اسماعيل وهاجر بعد الأسطورة المؤسسة لسلالة الشعراء والشاعرات، خاصة العرب الذين سيمجدون الصحراء ويكونون من سلالة اسماعيل.
اذن عبر تيمات أولية تؤسس للكتابة كتجربة أنطولوجية ترحل بنا لنصوص الديوان في كتابها الرملي، وفي المتاهة الفسيحة لكائناتها، حيث نكون أمام الريح = النفس "اللهب"، نفس الحرف ولهبه والايقاع الساهر على الصوت والصدى، المقدس والفاني، الأصل والسيمولاكر (simuilaue) الملاك والشيطان، الأمومة واليتم (غياب الأب). كل هذا في الكلمة، "هذه الكلمة هي جوهريا تائهة، لكونها دائما خارج ذاتها، انها تعين الخارج الممتد بلا انتهاء الذي ينتمي لحميمية الكلمة. انها تشبه الصدى، عندما لا يقول الصدى فقط بصوت مرتفع ما كان مهموسا من قبل، ولكن يلتبس مع الاتساع الهامس، وهي الصمت المتحول الى فضاء مدو، وخارج كل كلمة، لكن، هنا، الخارج فارغ، والصدى يرد مستبقا، "نبوئي في غياب الزمن" (7).
وعبر لعبة مرايا ومتاهات تتحاورا لنصوص (هاجر صارخة، لهب لملاك الانتفاضة، الراقصة الزرقاء، فجر اسماعيل)، لتكون القراءة متداخلة لا خطية، في مستويين عمودي وافقي، الأول يضرب بجذوره في النص الديني (التوراتي والقرآني) مع انزياحات تنتصر للأمومة على حساب الأبوة القاسية، وحتى اللحظة المعاصرة لطفل الانتفاضة الذي يتحول الى اسماعيل جديد لا تستطيع أمه أن تنقذه من سلالة سارة، ومن القدر الذي يواصل اشتغاله بقناع القاتل الجديد للضحية القديمة. وأفقيا في انفتاح كل نص على الآخر، اذ نجد النص الاطار والنصوص المنبثقة منه.
ان نصوص الديوان هي نشيد العناصر لمرارة المنفى الذي يعيشه الشاعر كلاجئ الى نصه، ومنفي في الجغرافيا البسيطة، يرث اللغة السرية لاسماعيل ليقول اليتم، وعنف المطلق، وانقلاب الكتاب على الأنبياء (منفى الكلمة التي لا تكلم الا نفسها).(8) حيث النشيد هو الوديعة التي يكون الشاعر وسيطها بين المقدس والوجود، هذا الشاعر الذي ينسحب من كتابته، ويتركها تتكلم وحدها بصوت العناصر (الماء، الهواء، الرمل، النار) التي تتبادل الأدوار، حتى انه يصبح الشاهد الأخرس أحيانا على كتابة الريح التي هي محو متواصل حيث لا أثر، فقط تحولات الرمال المجنونة وهي ترحل المكان، (المكان الذي لا يجيء، وليس له مكان) (9). وهنا يتحول اسم اسماعيل الى مركز، ووجهه الى سؤال.
هل يستطيع الشاعر ان يسكن لغته مخاطرا بفقد كل شيء، مستبدلا المكان بالترحال المتواصل، وبما يسميه جيل دولوز المغادرة الموطنية (deteveitoeilisation) بدون حنين لعودة ما، ولأرض قادمة، والذهاب في ذلك المصير الشقي الذي يعد به نيتشه ذلك الذي يخفي داخله الصحاري؟
ان الشاعر (محمد ديب) يغامر بذلك كله، وينخرط في المتاهة الموصلة الى ليل اللغة، حيث لا يعود (سيدا، لا على ذاته، ولا على كلمته) (10)، وحتى الفقد الكامل (لقد أعطيتم كل شيء لشخص / لم يكن أحدا).(11) هنا تأخذ لعبة الأقنعة حيويتها باستبدالات رمزية حيث حضور الوحش ,(La bite) ومحمد ديب شغوف بهذا التوظيف الذي يستحضره بروعة في روايته (إغفاءة حواء)، ثم ان رمزية الطيور في الديوان واضحة، خاصة النسر، اذكر "طيران الطيور يهيئها، بالتأكيد لتكون رموزا للعلاقات بين السماء والأرض… ان الطائر هو رمز الروح الهاوية في الجسد"(12) وللطيور علاقة وطيدة بالرقص الديني والاسطوري. كل شيء اذن يتحرك مؤلفا تلك الحيوية الذاهبة في علاقات سرية بين الداخل / الخارج، الهنا/ الهناك، في كتاب الصحراء التي ليست الا بداية حديقة وحلما بروضة، اذ لا يمكن الخروج على الكتاب (الكتاب الآخر. الكتاب الفريد، أراني أولد من بين أوراقه).(13) لأن العالم كله موجود في الكتاب الفريد والمختلف، والمتجدد باستمرار.
الكتابة هنا جرح رمزي وأولي يؤسس لمجهول ما، ويعانق المطلق بالسؤال، كأنما الشاعر يضع خطوة هنا (في هذا العالم) وخطوة هناك، مكثفا عبوره الخفيف في أرض الاسرار، محتفلا بالمطهر (puregatavie) الذي يهيئه للأبدية. انه الحاضر الغائب، ونص شهادته الجسورة على امتحان الصحراء. وباحتفائه بهاجر فهو يحتفي بسر الخلق، لأن المرأة خالقة وليست مخلوقة كما يقول جلال الدين الرومي، لأن الوجود أمومة نازفة تسهر على الذي يأتي ولا يأتي.
ان "القصيدة تجازف دائما بالا يكون لها معنى وهي لا تكون شيئا بدون هذه المجازفة"(14).
– فجر إسماعيل-
لمحمد ديب
مجد هو هذا الفراغ المؤجج حيث الكل ينظر ولا شيء يأتي.
لم يدرك أبدا، المكان الذي ينطفئ فيه الزمان. حيث آخر
حلم للاقلاع وللأشرعة، وحيث النار تهب.
مخترقة من بعيد لبعيد بوجه، النار دامعة.
هناك، تتوقف، يا اسماعيل، قل؟ عبرنا الأبواب.
قل؟ إنه الملجأ الأخير.
المكان الذي لا يأتي، وليس له مكان.
صحراء على لساني، أنظر كيف لا آتي أنا أيضا، وكيف ليس
لي مكان.
وإذا كانت منتظرة، الكلمة التي تهيمن على خرسك تنصت
وتصفي من ذاتها لذاتها؟ كما، تنصت، وتصفي في
الأقاصي، ضحكة. وفي الأقاصي الأناي أيضا، ضحكة.
يا للملك! إنها ضحكتي! نحن قادمون.
تتساءل؟ ذلك الذي هناك، ذلك الذي هناك الى أين سيذهب؟
وأين سيعبر؟ وكيف سيبدو؟
ماذا سأربح من عبوري؟ والمظهر الذي أبدو فيه. نحن لسنا
الا ضحكة وريحا تحت السماء.
وأنت، فريدا، موضع انتشارنا
فيك، سيرن هكذا اسمي.
أنا هذه النظرة إذا ارتفعت، وهذه العين التي يحيط بها
وجه، اسماعيل، هذه الصحراء التي لا تكف عن الوصول
اليها. والتي لا تكف عن المجيء منها.
هل فكرت الريح فيك عندما ارتفعت بدورها؟ لكن متى؟ لكن
أين؟ وإذا لم يكن لها من حليف سوى الصحراء؟
وإذا لم تكن قد هبت إلا لتحترق؟
عين مفتوحة، المكان الذي هبت فيه الريح، لن أقوله، لقد
شحبت أعماقك،
اسماعيل، والنهار شحب.
هاجس، بياض، صمت يتقدم؟
الى حيث تذهب الصحراء، تذهب، ربما حتى البحر،
ربما أبعد وحتى حيث الليل الخاشع ينتظر.
لينتظر في حديقة نجومه.
ستغني من أجله، بأيد ضارعة. لكن متى؟ لكن أين؟
ستكون دائما في المركز هنا، في الموضع المقفر
للعين، وللنظرة الهادئة، ولا شيء سيتغير.
أنا اسماعيل، هنا، أوجد في المركز.
شعل كأنما أيقظتها نظرة،
مفاجأة، بعد كل لمحة عين موجهة
اليها ولا تجد كلماتها.
كأنما كان على الأشياء أن تفقد اسمها. كأنما كان يلزم
أن تضيع الكلمات.
لأترك هكذا أمام الرمل
الذي مرت عليه الريح، ولا حتى هذا الليل
بضوئه الساطع هو ليلي.
هناك يوجد فقط من يضع إصبعه
على فمي وأصغي لخط الأفق.
عندما يدلج الليل. عندما يمطر طله على عيوني.
هنا، سأكون دائما في المركز.
اسمي اسماعيل بيننا، اسمع
حتى مكان ذلك الذي يسمع. الذي لا يعرف، لا يريد إلا
ان يسمع.
اسمع.
لكن كل هذا الصمت، على من يرد؟
أرض وسماء مرتجتان على من؟
ولماذا تلقيت اسمي، المحرقة
التي تصونك حتى أنت؟
كل لحظة هي فأل.
أنا في المركز وأسمع لمن يسمع
ولا يعرف، لا يريد إلا الإستماع؛ الذي يسمع و
لا يتسمى بأي اسم. لا اسم أبدا.
– اسماعيل، اسماعيل، أنت في مركز هذا الاسم،
وفي ظل كلمته.
أنا صمت الملاك وأقول
لك. خذ حفنة من الرمل وانثرها.
ستسمى الصحراء. كل شيء سيسمى. الاسم
سيسمى.
– لكن اذا بقي شيء واحد بدون أن يسمى، ماذا سيفيد
الأشياء الأخرى، والأكثر
جنونا، أن تكون مسماة؟
يناديني من يمر؟ مبنيا، ومحجوزا في الرمل.
يسميني؟ حرار المحروس بكوكبة.
سأتبدد اذن الى صراخ، وانتثر
عطشا وجمرات.
إشارة واحدة وأكون بدء الأزمنة.
الفضاء هنا غبار محبب، وصمت
ذو مفاصل سريعة الكسر.
في القصر أين تجري العين خلف آثار
الملكة، هو صدى.
تحد مغتم في كل شبر مقيس للعين.
الصحراء.
محتوى في قلب المكيدة
أكتب، أيها الملاك، في ذاكرة الرمل؟
"كن". فأكون.
تمر، الصحراء، بينما أبقى.
بدون أن أرفع صوتي، تمر، منذ الآن
أنت هنالك.
تزاحم الهنا – ك. ماذا تتلو؟ لا
نسمع شيئا، أو تقريبا لا شيء.
هل تبحث عن اسم آخر، ومن سيتلو
كل الأسماء، هل سيجد اسمك الآخر؟
اذهب أبعد.
أوجد اسمك الآخر.
اذهب دائما أبعد. ولا تعتمد إلا
على نفسك.
اذهب في الهناك، اذهب في الأمام، اذهب في
الما بعد. اسقط في العلو.
كان هناك النهار الذي سمعني فيه الحجر.
حجر واحد في البداية. ثم كل الأحجار.
متأثرة بصوتي.
كل الأحجار متمهلة في النهار و
الصمت.
حينئذ تمزق الطائر لكي ينتثر
أجنحة، ورفا ينأى على مهل.
متنبئون، عن الذئب أو عني، ومن كان سيبدأ
في العواء؟ الذئب انتظر ورأى.
ألفة ما جعلت الأحجار تلتحم
ببعضها البعض. وذلك حدث.
لقد اعطيتم كل شيء لشخص
لم يكن أحدا.
الطرد، الإمحاء، الرمل، كنت
سألمس الضفة التي بلا ظل.
الوجد بالسير في الرمل،
وأنا ذاهب وهو قادم. وما نتركه
خلفنا. البداهة.
لكن الانبثاق أبعد، وأكون
قد ولدت.
كل الصحراء تعود لي، ونبع
الفضل، وضحكة النبع.
هناك، هناك، الريح. توقف. وشيد قصرك.
قصة أن تحلم. من سيتذكرك،
ما عدا لهاثاتي في الطوفان
المحرق؟
الأفق امتلأ بالنظرات
وكذلك بالشعل.
أشرب، نسغا حريفا، عرقي.
كلماتي تيأس من ايجاد
منفذ. هل أنظر الى ذاتي من أعلى الكتف؟
هل أسأل الظل الذي يواكبني؟ هل
ما يفرقنا. هذه المتاهات؟
في أي متاه أدلف؟
لا يهم.
ربما ليست إلا مسألة كلمات،
هذه الكلمات التي تنتظر الليل.
وأولئك الذين التحقوا بالمركز.
من أين خرجوا؟ لا من فمي. أنا
لم أعد سيدا على ذاتي، ولا سيدا على
كلمتي.
أيها البياض المهروق من السماء، أضم
يدي لأتلقاك.
أين أنت، يا أبي؟
إشارات، إشارات، إشارات، حاضر أنا اظهر.
لكي اراك.
على قدم،راقصا مقاطعا، أبقى
في خطر.
لقد رقصت للصحراء.
خفقات أكثر عتمة، أنا الموجود هناك،
نحاسا مسكونا بالأصداء، وبلمعان
زيتي، وأضحك، مسكونا بهذه الجلبة.
نظرتي المنذورة تباشر الصراع و
شيء ما يستسلم.
حكاية مستمرة تذهب من الصمت
الى الكلمة، ومن الكلمة الى الصمت تذهب.
أنا من يسمع واقفا.
وجهي هو سؤالي.
الحرف. ومن كان سيرسمه؟ لا
يدا ما. الأجدر صوتا ما.
نبأ عودة يكتب الآن على
الرمل ولكن سيشربه الرمل.
لقد سميتني اسماعيل، الكلمة التي تخلق
الصحراء والصمت الدؤوب. الواحدة مودعة
لدى الآخر.
الزمن سيتجسدن، مروحا
بأجنحة الصباح، والقدر كان سينزع قناعه
فإذا بطفل يسير، داقا
الأرض بكعبه
ايتها الكثبان التي بشكل قافلة، وبحداء،
تحملين ظلي دائما أبعد،
احمليني الى الأبعد.
ايتها الكثبان الوفية لواجبك.
أقبض نفسي وحينئذ
أتقنع تمثالا لازورديا مشيدا على اسمي
الوحيد.
تكلم، أيها العراء الساهر على الصحراء
وضياعها. قل الضياع الذي يضيع
ويرى نفسه يتشكل من جديد، بقدر، ابا
في ضياع ابن. يا منفى الكلمة التي
لا تكلم إلا نفسها؟ تكلم، أنا لا أسمع
إلا نفسي!
عين الصحراء تضحك في الأقاصي.
تأمرني؟ "اسمع!"
ايتها العين المتوحشة، أيها النبع، تكلمي! إذن تكلمي!
لا اسمع إلا نفسي
القناع الذهبي، أحمله الان.
في يدي. كل ما لا يشبه شيئا
أفرغ كل شيء ليفسح المكان للاشيء.
وكل شيء هو بهاء هنا.
الصحراء طنين نحل
في فمي، وعيني، وما يحرق
إلى أبعد حد.
الضوء وثقله، معبر كل
ما ينتظر، مغنيا الصبر.
مغنيا سهرا ما.
أحدهما يغني والأخر يفترس.
لقد سار طويلا، الذي لا يتقدم
والكل يطلبه.
أنا العتمة الوحيدة.
نار حملت أسرارها، ولم يعد
لي سوى الرمل ذاكرة.
من لا يدرك، يا اسماعيل، الرعب
الذي يخبئه النهار المتلقي للحرف
وظله، واللاشىء أيضا الذي
يرتسم كخديعة.
مواجهة أبدية مع الحرف
مقتلعا من ذاته ومدونا قربانا
وضياعا.
ولكن ها هي الصحراء تنحجب
ولكن ها هي الصحراء تنحني، و
تحط عند قدميك.
سترفع بيتي على اسم
اسماعيل.
أين دون اللقاء، يا لوح
الكلمة؟ قلب يخفق في السماء، لوح
من التدوينات ما إن كتب حتى أمحى، أين؟
هل سيعقد ثانية المحالفة هبوب؟
من جديد تخوض الريح الحوار.
من أجل عذوبة اسم، سينبثق ماء
من الرمال ومن بين الأوراق التي قلبتها
الريح.
الكتاب الآخر، الكتاب الفريد، أراني
أولد من بين أوراقه، أيها الكتاب، احفظني
بين أوراقك. صر الجواب. كن
القبول.
عبر الرمل الوحيد! عبرك فقط، أيها الوجه
الذي يحترق في ضوئه الخاص.
هذه الرمال رأت كثيرا من المحاربين،
الذين كانوا أحياء. ثم اصبحوا
موتى.
حتى وهم أحياء رسموا كموتى، ثم
الموتى، رسموا كملوك.
إنهم هناك، مرايا ذات مظهر سري.
ربما هناك تكمن كل غرابتهم.
تلك التي تلمع في عتمة
البشرة.
الصحراء ستمجدهم.
ثم سيتبادلون تمجيد أنفسهم، منتشرين،
ومطهرين بما كان يوحدهم، سادة
للسمو لا كرات.
هل ستحتفظ أيديهم ببقية
من الألق؟ انهم يمدون هذه الأيدي، نحو ما
يسرع اليه النسيان.
من سيكون الحرف المنادى للتضحية،
سيكون عدد التضحية المستنفد.
والبعث، ثم، التضاعف.
أيها الأرجوان، لقد توغلت الشعلة في.
الآن أنا أغني على ايقاع جنوني
المتصاعد.
أيها الاحتراق! إن الجمال ينتصب
أمامي، والسماء تتلون بلون العيون.
أين أنت، أيتها النهابة والفريسة القادمة
من الدوار؟ أين، يا المقفرة، هناك حيث لا توجد
إلا الصحراء؟ هل عليك أن تعودي الى الصحراء؟
صرخة خرسا، تعلق ظلها فوق
رأسي. قدوم، ونقطة توقف. الصرخة
وصمتها.
الكبرياء، الصمت، الضجر، للصحراء
ساعاتها.
ايها الحاج المشرق، يا اسماعيل، إنها واحدة
من ساعاتك، هنا، كما من فوق البحر
القديم.
لا شيء يلائم أحسن هذه الكائنات
في مظهرها كله إلا هذه الريح التي تنهك الفضاء
وتتوقف في البعيد، ابعد ودائما
أكثر ابتعادا.
ربما تعوض الطيور، و
أكثر قوة سيكون التوحش.
وبين كل من نذروا،
البعض للخلاص، والبعض الأخر للعذاب،
أنت المنسي، هنا مكانك، الضوء،
والصمت.
تجل، عش عبر هذه الساعات التي تلتهب:
إن الريح تهدآ هناك.
السماء الرمل، وامتدادهما.
الباب التي تغني للريح. الريح
مشغولة دائما. تخلق
أثر التجدد. تهدم،
وتبني من جديد.
الريح وألقها. وأنا اسماعيل،
في قلب هذه الريح.
كآبة بلا حدود؛ وجرح بلا سبب.
المطلق يعصف بي ولكن،
حارسا لاسمي؛ أبقى. حتى النهاية. وقيما وراءها.
أبقى أصوب بالقوس على الأفق.
والباب طافحة بالهواء هنالك تنتظر.
الباب التي تسهر.
انتم الذين تقولون نريد، نحن أيضا
نريد.
أقول:
أريد أن أذهب للقائك، وأن أعرفك على اسمي.
انه بعنف نفس الفضاء. ويتوحش
نفس الشفافية. أسوار أمام الراكض
الذي يثني الخطوة ويطلقها أمامه.
فهدا ككهف في الضوء
أريد أيضا أكون.
اسمي اسماعيل، وسأنشر الخبر
و، عتمة في أوج النهار، سأحضر
أمام الباب، وأزمخر.
باب الخضوع الذي لا يفتح إلا للقضاة.
يا ضباب الزمن السابق، أين يختفي السلاح المقيت؟
الباب تخرس. تحب الباب أن يدخل
القضاة، وأن ينطق القضاة الحكم.
أواصل: صحراء بيضاء، وحكمة بيضاء.
أنا البياض، ورمز السر الذي
ينتظر أوانه. أنا الصمت.
ولكن النسر، في الأعالي، نائما بين
جناحيه، يسمع. ماذا؟
إنه لا يعرف أين يرجع الصوت عندما يتوقف عن
الكلام. وأنا أيضا، لا أعرف.
أنا الذاكرة، فيما وراء العتبة، الـ
ذاكرة التي تقبض أنفاسها. أتقرى،
وابحث، ثم أتمدد وأنام بين
أحضاني. اذا وجد النسر نفسه في
قفص، هل سيقول إن العالم غير
أبعاده؟
بنظرة صافية، أسكن أيضا العلو،
في تخوم الوعد، وفي تخوم
الانتظار.
أنا الآن، أنا فجأة، أنا معتم
حتى السطوع. أنا اسماعيل.
متوقفا أيضا في التحليق، بلا أمل، متوقفا
كذلك، مهملا كذلك.
أي نبأ سأحمله للعتبة المفتوحة
التي تسكنها الريح؟
أسيرا فيما هو منفتح، يرى
ويختفي خلف ذاته، قد أخذت كل شيء من الرمل.
أيها الوجه الرملي الذي رمى به جريه الى
الأمام، متى سيكف نفسي عن معاندة النفس، الذي
ليس أقل ثقلا،
للوحش المقرفص عند أبواب الصدر؟
أسيرا فيما هو منفتح، يرى
ويختفي خلف ذاته، قد أخذت كل شيء من الرمل.
من الرمل، حتى الشمس نفسها أخذت
صورتها، التي تستعر هنالك، أنا، اسماعيل، أنا
الرجاء، أنا الليل.
الليل الذي ينام تحت الأرض، فأل
امرأة محجوبة، الرمل هو تشكيلة
من الأشياء غير المنجزة.
وماذا سنقدر أن نفعل بالأشياء المنجزة؟
أن نشهر خارج خط النار التي
تسود المنفى، النفس الأبيض، واللمعان
حتى منتهاه.
يا شفاها رافضة ودفعها بعدم
القبول، أي خوف سيهزمه؟
يعود ليدي مشعل الليل
يبعث على لساني النشيد.
الجمهور موجود هنا ليعلن الخبر. منذ الآن
الأكثر قسوة في ينشد.
ذلك لم يكن ليسمع.
بي، يحشو الفضاء عيونه. الخبر
يوجد في عيونه. انه يتغذى بي
وبالفضاء، وباللاشيء، الحاضر الذي يعود
الى الحاضر.
أي لحظة، وأي وحش حجري
ولماذا، الملامح المنهكة،
والأيدي المنهكة، هذا الوحش، لماذا؟
الوحش الذي يقضمه من كل الجهات
هيامه بالسماء، ويعقله ضبابا. في الأفق
جالس، مؤجلا بلا نهاية الأوان، وضراوته
المخفية تعقله وديعا.
خلفه سيأتي الليل علي أقدامه التي من ريح. نعم.
الوحش. الفضاء ملتهما الفضاء
الحاضر ملتهما الحاضر. كان على الليل
أن يأتي باكرا.
الليل الذي لا يتوقف عن المجيء، مجد
أكثر خفاء، بصمت، ساحبا رفله، الليل
الذي يجيء.
أمامه، أسير، ليتذكر.
أقوده الى الصحراء.
أهب له الصحراء.
لهاثه يدفعني من الكتف.
لينغمر في.
ليست الصحراء إلا مدخل حديقة،
وليست الا حنينا لروضة. و
منشقون آخرون سيلتقون فيها.
بدون أن أبحث عن التعرف على أي وجه،
مستعدا لسماع حواره، سأعرفه.
بثقة، لن يحيا الليل حينئذ إلا
من خلالنا.
غامض، البستان الذي سيعبره المنشقون الوحيدون.
لكن عندما يسقط من العيون الظل
لا النظرة. عندما يشعل قدر الصحراء
بحيث تبيض وينسحب.
أين سيكون زمن التاريخ اذا
عادت الصحراء الى الحدود؟
تاركة لي هنا، مهملة لي في مكاني.
لينطلق مني بدوره اسماعيل
آخر ويبتعد. ثابتا ومتحركا
عندما يذهب هو وأبقى أنا. كم يقلقني
هذا الرحيل أكثر من الصحراء!
ايتها الكلمات التي لم تعد في متناول
صوتي.
أي حق كان لهذه الرمال، أي
حاجة كانت لهم لذلك؟
سأصلح تمزقات الزمن:
كل ذلك شيء من المرارة التي تعود مع الليل.
الشهقة الكبيرة المجهولة من الموت.
خاليا من الاشارات، الرق أيضا الذي
يقرأ المنشد فيه والذي وفر يقرأ، يتلاشى فيه.
لكن ليس صوته. صوته يقول، أنا، قناع
الغياب المثبت من قبل فوق قناع.
والصحراء، الوجه العاري، الصحراء التي
عنفا، كانت بلا نهاية، لا تلتفت أبدا
وراءها
ونائما في كفنه الرملي،
الضوء، والريح، وحدها من يبكي على
الضوء.
بخور التعاويذ، الريح، و
الضوء.
وأنت، اسماعيل، من يستنشق
الفوحانات، أنت السؤال الذي لم يصغ
يحفر العالم حتى يصل الى تفكيك
عظامه.
وأنت تلتقي من جديد مع هذه الأسئلة
المتتابعة، ثم السؤال الوحيد: من
انت؟
ومعك، هذا العطر الذي لا نعرف من أين
جاء. لأنك، حاضرا، أنت فريد، و
من هو الآخر؟
أنت أم الآخر، من هو الآخر، هل أنت من هو وحيد؟
تنبؤ هو ما يدلني أيضا، ظل
ذاهب بنفس الخطوة و، مثلي،
يبعث عن الباب: وما يمكن أن يكون
الصوت غير المسموع، والنسمة الخفيفة، والجواب
على كل شيء.
لكن هذه الآثار في الرمل. أثار
صوت والظل الذي يتبعه. ولانهما
تركا بصماتهما، ولأنهما
تركا الى الأبد المنظر الطبيعي، هل كان
الضوء سيستقبلهم؟
وإذا كانت الصحراء تتحاور فقط
مع ذاتها وتدون خطاها وحدها
في الرمل؟ الليل بعد قليل سيتكلم.
أنا هنا لأسمع. وسيكون
منبعثا من كل صوت خطير ومجنون.
كل لحظة الآن هي الأخيرة.
لكن عندما، عاصفا بكل أجنحته،
الطائر الفريد يضع بؤبؤه في عين
النهار.
عندما يحدث تنفسه العتمات
حين لا يعود النشيد هو الحقل،(15) و
القمر يضربه بالبطلان، وأحمر،
كما ينزف، وكما يمثل.
من هو، سفينة الجحيم، ان لم يكن
الوجه المقدس؟
كل ما لا نرجو رؤيته ولا
سماعه. الطائر سيثرثر كثيرا.
وهو هناك من يؤرجح، مصوبا الى السماء،
أطول وقت ما لم يبدأ في الثرثرة. انه
هناك ومع ذلك فهو ينهار.
تمثالا قمريا يسير، ها أنا من
جديد، أنا بمظهر العابر، في حين
انني أبقى.
أنا الذي يبقى ليتحمل الليل. و
اسمي اذن سيكون اسماعيل.
صحراء، صحراء، المرأة التي يمكن لمن يتمرأى فيها،
أن يراني: الأن سيكون للصمت وحده أن
يسمع الهبوب العابر.
لينضج الزمن الذي سيجعل فيه رد الاعتبار
سريره. اللحم يئن ويطالب؛
قدمني، وأرسلني.
لا أشبه الا الطفل الذي سيئن
من العطش.
افتح النبع، أيها الملاك، أريد أن أشرب. و
معا سنصل الى الواحة التي
تغني فيها العصافير والماء نفسه.
سيكون لنا أن نغني معها، العصافير.
سيكون لنا أن نقول معه، الماء.
سينبعث حولنا اللون الغائب،
الأخضر.
الزمن سيكون قد أنضج كنزه في النخيل.
مكان التأسيس.
الكلمة المصلحة.
مفتوحة وهي موجودة.
أناديك: أيها الماء المنفجر تحت كعبي. و
الآن تدور فوق لساني.
أنا، لي اسم: اسمع كلام الله. وأنت أيها الملاك
تكلم. لقد قلت قبل الآن الماء؛ والماء قد مد
رتقه. الآن، اجمل لي
ظلا.
غامضين، سنضيع في
تعدد وجوه ومداخل الصحراء.
تلك التي كانت أما لي تلقت كلمتك.
اجعل مني حضور كل من كانوا
لي قبل الآن ذاكرة.
حتى أين يضيع الهبوب: بنبرة
قديمة، أطفأت تسبيحة تجر
الجمرات، الأخيرة.
الآن، ايتها النجوم الكل لابتهاجك،
ايتها المدوخة، النجوم المتجمهرة، شيء ما
أفعم لكي يمجد.
الآن، أيها المد غير المتعب من
اختراق الباب الأسود، تدوس بالأقدام
الرمل الذي يخنع. لقد جئت.
الآن، صهيل الريح، والوحش
يبتسم في عمق الليل.
انه يستمر، خالدا، في الهيام بالصحراء.
السير ابتدأ من جديد.
لم يعد للملاك من عمل هنا.
الفجر اسماعيل، وبعد قليل الحضور
السري. البحر.
انتصري.
ايتها الغامضة، البحر الوديع في اقترابك، الوحش
حتى الدفق الأكثر من خافت، انتصري.
أيها الرمل، إلى حيث يفرق كل جسد، اذهب. وانتصر
يا عمل الأيدي المنيع.
لتقل منذ ذلك العين أيها العمل الحي، أنت مكيدة
العين، ولكن دائما فريسة للانسحابات،
وللسقطات الجديدة، لتقل يا بسطة ترغب
ان تبث عبق امرأة.
مهلة. مستهل كتاب. مفصل. مجموعة إشارات.
كلمة نائمة.
فرح قاس. وبيترلات (16) لعلاج دوار
الفضاء.
أيتها الحركات، بيضاوات وسوداوات أخيرا من
أحل صفاء ما، حركات أجنحة، هبوب،
ردة بعيدة.
باب الفجر.
الهامش
التعريف بالشاعر
محمد ديب شاعر وكاتب جزائري من مواليد مدينة تلمسان 1920. يعتبر من أهم الكتاب الذين يكتبون باللغة الفرنسية في المغرب العربي، له أعمال كثيرة تجاوزت الخمسين عملا، بين رواية ودواوين شعر وتأملات وحكايات للأطفال، وضعته بين مصاف الكتاب الكبار المرشحين كل سنة لجائزة نوبل للآداب. من أعماله..
الدار الكبيرة – الحريق – صناعة النول (ثلاثية روائية) صيف افريقي – من يتذكر البحر- الجري على الضفة المتوحشة – رقصة الملك – صيد القنص – هابيل – (سطوح أورسول، إغفاءة حواء- ثلوج الرخام) = ثلاثية الشمال، من أعماله الروائية الأخيرة نجد (الأميرة المورسيكية – الليلة المتوحشة). أما أعماله الشعرية فنجد منها- الظل الحارس – صياغات – النار الجميلة. النار- وفجر اساعيل.
وله أعمال أخرى تأملية منها- شجرة الحكم – وتلمسان أو أماكن الكتابة. وهو يقيم حاليا في باريس بفرنسا، وقد حصل على عدة جوائز لعل أهمها جائزة الفرنكفونية.
الاحالات
1- عبدالكريم الخطيبي- النقد المزدوج – دار العودة – بيروت / لبنان بدون تاريخ طباعة – ص 140.
2- Sagnes Dereida – L Ecriture Lt La differnce – Serial – Loveis – 1081. P104.
3- – Bachelers G. Lair et Ls senges. E/Corti, 1943. P259
4- – Mohommed Dib, L’Aub Isama’el – E/ Tassili. P306
5- – Deveida. Op. iet P105
6- – Mohommed Dib. L’Aube P43
7- – Mourice Banchet, Espace litteroire, Gollimand, 1973, P52
8- – Mohommed Dib. L’Aube P46
9- – Mohommed Dib. L’Aube P33
10- – Mohommed Dib. L’Aube P41
11- – Mohommed Dib. L’Aube P39
12- des syubolas. E/seghers 1974, P431. – Jesu chevalier. Dictionnoivce
13- – Mohommed Dib. L’Aube P48
14- – Deveida. Op. lek. P444
15- هنا يعمل الشاعر على توظيف القرابة اللغوية والسرية بين chont تعني النشيد أو الاغنية champ وتعني الحقل. (المترجم)
16- بيترل: Petrel: طائر من كفيات القدم يعيش في البحار الباردة، ويعشش في الاراضي الترابية. (المترجم)
محمد ديب (كاتب من الجزائر)
حكيم ميلود (شاعر ومترجم من الجزائر)