هانيبال عزوز *
وحيداً في الشارعِ..
الركامُ على جانبيهِ.. أعمدةُ الإنارةِ المحطَّمة..
مداخنُ الأبنيةِ.. مداخلُها المهجورة..
الجدرانُ المتَّسخةُ بالبولِ والسُّباب..
عُلبُ المساعداتِ الفارغة.. الحاوياتُ المقلوبة..
حُفرُ الإسفلت، أتفادى واحدةً، أتعثَّرُ بأُخرى..
أسمعُ صوتي بعيداً، صداهُ ربَّما، ألتفتُ، ثمَّ…
طِوالَ اليومين الماضيين كنتُ أفكِّرُ بما سأفعلُهُ،
إنْ التقينا في المكان نفسهِ مرَّةً أُخرى..
أتخيَّلُ الطريقةَ الأسرعَ التي سوف أثأر بها،
أنتزعُ حقي كاملاً..
هناك طرقٌ بديلةٌ، لا أُحبِّذ الدَّهاءَ، أُفضِّل التَّرويعَ..
(لا تستبقْ الأحداثَ، سوف يسيرُ كلُّ شيءٍ كما تُريد)
طمأنني المسدسُ البراوننغ الملَّقم الذي كنتُ أُخفيهِ تحت سترتي..
لم أعتدْ حملهُ مِن قبل، أحضرتُهُ لدعمِ حججي فقط..
مخزنٌ احتياطيٌّ، وخمسٌ وعشرونَ رصاصة إضافية،
كفيلةٌ بارتكاب مجزرة..
لم يكونوا أكثرَ من نصف هذا العدد
على كلِّ حال..
الظلمُ خانقٌ، قلتُ لهُ، حين طُلبَ مني تمثيلَ جريمتي..
(هو من دفعني لفعلِ هذا يا سيدي..)
كنتُ أريد أن أتبادلَ الأدوارَ معهم،
أن أضعهم مكاني لمرَّةٍ واحدة،
أن أشعرَ بذلك الشعورِ المُبهج ـ شعورِهم تجاهي،
أن أبتسمَ مثلهم بعد كلِّ حفلةِ جلدٍ وشتمٍ وسحل ..
وأن أرى عيونهم وأنا أرديهم قتلى
واحداً واحداً..
يتناوبون، يُريح بعضُهم البعضَ..
الأمر شاقٌ عليهم أيضا، ربَّما أكثر مني ـ بمثلِ حالتي..
لمحتُ أحدَ أخوتي بينهم، اختفى فجأةً، ثمَّ ظهرَ في مكانٍ آخر،
كان ظهورَه متقطِّعاً خلالَ الإحدى والأربعين سنة..
….
أسوأ ما يمكن أن تفعلَه، أن تُعيدَ تمثيلَ جريمتكَ،
إنه يُفسد تلك النشوةَ بالانتقام،
ويمسخُ اعتزازكَ العظيمَ بفعلتِكَ،
انتصارَكَ الوحيدَ والأخيرَ عليهم،
ولذَّةَ التبوُّلِ فوقَ أرضِ الحادثةِ ـ كما يفعلُ الأوغاد..
هناكَ أشياءٌ لا يمكن تكرارها، قلتُ لنفسي،
لا تحاولْ هذا، أنتَ تُسيءُ إلى أحاسيسكَ، تخدعُها،
لكنْ عليكَ فعلَ هذا، لإثباتها، ليس إلا..
….
ـ صدِّقيني، لا أملكُ رغبةً بالنجاة ـ على الأقل الآن فقط.
إذ كلَّما نبشتُ ذاكرتي،
عثرتُ على المزيدِ من الفرصِ الجديدةِ
والمُقنعةِ لموتِهم..
ـ ابدأ من جديد، لا تفكِّر بشيءٍ، انظرْ، أنتَ معي..
قالتْ لي، وأنا أضعُ كتاباً قديماً في الموقدِ
تحتَ الأعوادِ الرطبةِ لإشعالها..
ـ عشراتُ الكتب أحرقتُها هذا الشتاء،
ليسَ لغرضِ الدفء كما تظنين، بل للتشفِّـي..
رميتُ نسخةً من كتابي الشعريّ، الذي طُبع قبل الحرب..
لم أنتبهْ إليه إلا والنارُ تبتلعهُ،
لقد غمرتني راحةٌ وسعادةٌ لا توصفان..
ـ سرَّني موتُهم على الأرضيةِ الإسمنتيةِ الخشنةِ نفسها ـ
تلك التي أكلت من لحمي..
ـ أنتَ تكذبُ،
ـ في القصائدِ وحدَها أقولُ الحقيقةَ، أقولها لكِ..
قدماكِ باردتان! قرّبيهما، رئتاي تلتهبان..
أرى ابتسامتَكِ الآن، الدفءُ أم الحبُّ.. أيُّهما؟
ـ لا تسألني أسئلةً غبيَّةً، لا تعدْ
إلى أفكاركَ الغريبة هذه..
وأخرجْ هذا المسدسَ اللعينَ من تحتِ ثيابكَ،
أريدُ أن أضمَّكَ أكثر، إنه يؤلمني..
أحاولُ مجدَّداً تمثيلَ الجريمةَ ـ كما أسموها..
ما هذا العذابُ المضاعَفُ لهم؟
أنتم تضيِّعون وقتي ونشوتي..
رائحةُ شفتيكِ، آخرُ ما يمكنني بلوغُهُ
بأنفٍ ممتلئٍ بالدمِّ المتخثِّرِ..
وسادتُكِ المطرَّزة،
وحلمان يذوبان في وقتٍ متأخِّرٍ
من نعاسِ عينيكِ..
ـ الشتائمُ قطعٌ معدنيةٌ مسنونةٌ تحفُّ الروح..
ولاشيءَ، لاشيءَ سوى الرغبةِ بالانتقام…
….
ثمةَ عاصفةٌ ثلجيَّةٌ
ستضربُ البلادَ ابتداءً
من مساءِ الثلاثاءِ القادم..
ـ لماذا؟!..
صيَّادونُ مبتهجون يرفعونُ جثَّةً بشريَّةٍ
من قدميها،
يتصوَّرونَ مبتسمينَ بلباسِ الحربِ حولها..
أطفالٌ للتشرَّدِ، أحلامٌ للاغتصابِ،
نساءٌ للبيع، لإهانةِ وطنٍ بأكمله..
قلوبٌ خائفةٌ للذبحِ الطائفيِّ، أو للموتِ
بين أنيابِ إيجه..
حريّةُ الاختيارِ في الموتِ، هناكَ طرق
بديلة لهذا أيضاً..
ـ ما الفرق..؟!
النار تزداد اضطراماً..
اضغطي بقدميكِ الباردتين أكثرَ،
رئتايَ تلتهبانِ،
كلماتي تحترقُ في الموقد..
هناكَ أشياءٌ لا يمكن تكرارها. أقلتُ هذا
من قبل..؟
الزمن حدّادٌ يليُّنُ الأفكارَ،
يُشكِّلها من جديد، يصقلها، ثم يلمِّعها،
وهكذا، إلخ..
والشكُّ، الشكُّ وحده يقينٌ في كلِّ شيء..
مشفى المدينةِ مكتظٌّ، نعوشٌ
من الخشبِ المضغوطِ الرخيص،
أكياسٌ كبيرةٌ من البلاستك الأسود،
وأعلامُ نصرٍ تغلِّفُ العيونَ،
وتُحيط الشاشةَ العملاقة
التي تنقل الاحتفالات في المدن القريبة..
الأخبارُ لا تأتي بغير الأكاذيبِ،
لكنْ هناك عاصفةٌ ثلجيَّةٌ قادمة
ـ أُصدِّق هذا..
مشاهدُ مؤلمةٌ جديدة: صيَّادون،
جثثٌ، أطفالٌ، نساءٌ، بحارٌ،
موتٌ، موتٌ، موتْ…
وأنا وحدي في الشارعِ..
ومسدَّسي البراوننغ، الملقَّم،
لم تخرج منه أيُّ رصاصةٍ بعد.