إعداد وترجمة: مها لطفي*
مترجمة وكاتبة من لبنان
عندما يتناول عملاقان من عمالقة الفكر والفن موضوعاً مشتركاً يتضمن في ثناياه الصدق في الفن، والجمال الخالص، والوله الكامن المعذب في مرحلة الشيخوخة، والمثلية من منظور كل منهما، يصعب علينا القيام بهذا التقييم منفردين. فالبحث في المقاربة بين العملين يدعونا إلى مراجعة ما خطه كبار النقاد الذين تناولوا هذا الموضوع وقارنوا بين العملين والتقطوا ما بهما من جمال نادر سواء في لغة توماس مان العميقة والتي تخفي في ثناياها أبعاداً فلسفية وفرادتها في التعبير العميق عن كل ما يجول في النفس البشرية، أو من جواهر فيسكونتي المتناثرة عند دخوله إلى العمل الروائي وقدرته على تزيينه بما أوتي من قدرة على نقل جمال مدينة البندقية الأخاذ وطبيعتها الفاتنة، وكذلك قدرته، وهو ابن الطبقة الأرستقراطية، أن ينقل عالمها الواسع المزين بديكورات القاعات بكل تفاصيلها الأخاذة إلى الملابس الجميلة التصميم وغرف الطعام المزينة موائدها بما هو شهي من الطعام والأضواء الجانبية المنبعثة من أجمل المصابيح والزهور المنتشرة هنا وهناك.
كل هذا، بالإضافة إلى مختلف الآراء المتداخلة مع أو ضد في سلسلة من المقالات النقدية التي بدأت في مقال عام 1971 كتبه الناقد الكبير روجر إيبرت، واستمرت بعده تتوالى المقالات حتى عام 2019. واعتقد جازمة أن فيلم «الموت في البندقية»، رغم كونه ليس أفضل أفلام فيسكونتي، إلا أنه سيبقى هدفاً للحوار والجدل لتناوله أحد أهم أعمال القرن العشرين الروائية: رواية توماس مان التي تحمل نفس الاسم. وسنبدأ المقاربة بنبذة عن الفيلم، ومن ثم نعرض لبعض المقالات التي تسلط الضوء على عمل الإثنين وتقوم بمناقشة ما لهما وما عليهما.
الموت في البندقية (القصة والفيلم)
«الموت في البندقية» إنتاج 1971 دراما إيطالية – فرنسية اخرجها لوتشينو فيسكونتي بطريقة البنافيجين والألوان الطبيعية، بطولة ديرك بوجارد وبجورن اندريسين. وهي مبنية على رواية «الموت في البندقية» التي نشرت لأول مرة عام 1912 لكاتبها الألماني توماس مان.
الحبكة الروائية
يسافر بطل الرواية، جوستاف فون اشينباخ إلى فنيسيا لأسباب صحية. هناك سيطر عليه الجمال الأخاذ لشاب بولندي مراهق يدعى تادزيو الذي يقيم مع عائلته في نفس الفندق الكبير للحمامات في الليدو والذي يقيم به اشينباخ. في الرواية شخصية اشينباخ هي لروائي ولكن فيسكونتي غير مهنته من كاتب إلى مؤلف موسيقي.
وهذا يسمح للموسيقى بأن تلعب دوراً، وبالذات الأدجياتو في السيمفونية الخامسة لجوستاف ماهلر، والتي تفتتح وتنهي الفيلم، وأجزاء من السيمفونية الثالثة لماهلر، لتقدم كتابات اشينباخ. ما عدا هذا التغيير، فالفيلم أمين نسبياً للكتاب، ولكن هناك مشاهد مضافة حيث يناقش اشينباخ وصديق آخر له موسيقي أيضاً، تدهور جماليات موسيقاه.
بينما يحاول اشينباخ أن يجد السلام والهدوء، فإن باقي المدينة يلتقطه وباء الكوليرا. فعاليات المدينة لا تبلغ صانعي العطلة بالمشكلة خوفاً من أن يغادروها. وبينما يقوم اشينباخ وباقي الضيوف برحلات حول مركز المدينة، يبدؤون في الإدراك أن هناك شيئاً خطيراً.
يقرر اشينباخ المغادرة، ولكن بلحظة دفع يقرر البقاء. ومع ذلك، فهو نفسه سيموت من مرض القلب.
حضور تادزيو أعاد له شبابه بالرغم من أنهما لم يتخاطبا – يزور الحلاق الذي، بكلامه، «أعيد لك فقط ما فقد منك»، صبغ شعره الرمادي وبيض وجهه وحمر شفتاه ليحاول أن يجعله يبدو أصغر سناً. وبينما يغادر دكان الحلاق صرخ هذا الآخر: «والآن سيدي جاهز ليقع في الحب بأسرع ما يطيب له من وقت».
يتابع اشينباخ الحملقة في تادزيو من بعيد، ويصبح الأخير أكثر إدراكاً أن هناك من يحملق به. وفي مشهد الذروه، يرى اشينباخ تادزيو يُضرب على الشاطئ من صبي أكبر منه. وعندما يطلق سراحه، يسير تادزيو بعيداً عنه لوحده باتجاه الأفق.
فجأة يستدير لينظر إلى اشينباخ، ثم يستدير بعيداً مواجهاً الشمس، ويمد ذراعه الممدودة باتجاهها. اشينباخ أيضاً يمد يده وكأنه يريد أن يصل إلى تادزيو، وفي نفس هذه الدقيقة – يرتفع التأثير بشكل تصاعدي بأداجييتو ماهلر ليموت إثر نوبة قلبية. لا يلحظه سوى عدد قليل من الناس وهو يتلاشى على كرسيه، فينادون موظفي الفندق الذين يحملون جثة اشينباخ بعيداً.
الممثلون:
ديرك بوجارد (جوستاف فون اشينباخ).
مارك بورنز (ألفرد).
ماريزا بيرينسون (زوجة اشينباخ).
بجورن اندريسين (تادزيو).
سلفانا مانجانو (أم تادزيو).
فنيو الإنتاج
المخرج: لوتشينو فيسكونتي.
مصور سينمائي: باسكالينو دوسالنتيس.
سيناريو: لوتشينو فيسكونتي، نيكولا بدالوكو.
مدير فني: فرديناندو سكارفيوتي.
مصمم ازياء: بيرو توسي.
مصمم إنتاج: فرديناندو سكارفيوتي.
مهندس صوت: فيتوريو ترانثيو – جيسيب موراتوري.
منتج: روبرت جودون ادواردز.
منتج مساعد: ماريو جاللو.
منتج مساعد: لوتشينو فيسكونتي.
الموسيقى:
الموسيقى بشكل أساسي كانت تعزف من قبل اوركسترا سانتا سيسيليا، بالإضافة إلى موسيقى جوستاف ماهلر السيفونيات الثالثة والخامسة والتي جسدت شخصية وعذاب اشينباخ. واستخدم فيسكونتي مقاطع من مؤلفين آخرين ولكن موسيقى ماهلر طغت عليهم.
ما هو خلف المشاهد:
في الكتاب الثاني لمذكراته يذكر بوجارد كيف قام جماعة الفيلم بتبييض بشرته بياضاً قاتلاً للمشهد الأخير وهو يموت. حاول قسم التجميل صبغات متنوعة لم يكن أي منها مرضياً. وعندما وجدو مرهماً مناسباً صورت المشاهد، يقول بوجارد أن وجهه بدأ يحترق ألماً ووجد أنبوب المرهم مكتوب عليها «ابعده عن العيون والجلد» المخرج تجاهل هذه الملاحظة وحاول تجريبها كبقع صغيرة على أعضاء من العاملين في الفيلم قبل أن يضعها كلياً على وجه بوجارد.
وفي جزء آخر من مذكراته، «رجل منظم»، يقول ديرك بوجارد أنه بعد انتهاء الفيلم وعرضه من قبل فيسكونتي في لوس انجلوس، مسؤولو شركة وارنر أرادوا إيقاف العرض، خوفاً من أن يمنع في الولايات المتحدة بسبب موضوعه. ولكن فيما بعد رجعوا عن قرارهم عندما نظم عرض أول للموت في البندقية في لندن بحضور الملكة اليزابيث الثانية والأميرة آن ليجمعوا تبرعات للمدينة الإيطالية الغارقة.
وفي عام 2003 بجورن اندريسين أجرى مقابلة مع الجارديان يعبر فيها عن استيائه من الشهرة التي جلبها له «الموت في البندقية» وكيف حاول أن يبتعد عن الصورة التي اكتسبها من دوره كـ «تادزيو». وقال إنه لا يوافق على موضوع الفيلم «حب الكبار للصغار وهو شيء أنا ضده بالأساس. فأنا اضطرب منه عاطفياً وربما فكرياً، لأنني أدرك على ماذا هذا النوع من الحب يدور».
وكذلك تذكر حضوره افتتاح الفيلم في مهرجان كان: «كنت في السادسة عشرة وأخذني فيسكونتي والفريق إلى ناد ليلي للمثليين. كان العاملين بمجملهم تقريباً من المثليين.
جعلني الخدم في النادي أشعر بعدم ارتياح. نظروا إليّ نظرات لا لبس فيها وكأنني طبق شهي… وكان هذا اللقاء هو الأول بين العديد من هذه اللقاءات.
استقبال النقاد
قال مؤرخ الأفلام التاريخية لورنيس ج. كويرك في دراسة له بعنوان (الأفلام الرومانسية العظيمة – 1974) «بعض اللقطات لبيجورن اندريسين، تادزيو في الفيلم، يمكن إخراجها من إطارها وتعليقها على جدران متحف اللوفر أو الفاتيكان في روما»، واستطرد قائلاً، «اندريسين لم يمثل فقط شاب جميل الصورة كهدف لشهوة منحرفة، ولكن ذلك الروائي مان والمخرج – السيناريست فيسكونتي استهدفا من خلاله أن يكون رمزاً للجمال في مايكل أنجيلو (مملكة داوود) أو (موناليزا) دافينشي، الجمال الذي حرك دانتي ليبحث عن التطهير الجمالي في الشكل البعيد لبياتريس».
– مقالة روجر إيبرت (1971):
«الموت في البندقية»
أعتقد أن أكثر ما يخيب أملي حول فيلم «الموت في البندقية» للوشينو فيسكونتي هو نقض الغموض. لقد اختار فيسكونتي أن يتجاهل الخفايا الرقيقة لرواية توماس مان ويقدم لنا قصة مباشرة لحب مثلي. ومع كون هذا من امتيازاته، فأنا اعتقد أنه فقد عظمة عمل مان في مكان ما على الطريق. في القصة، يذهب الكونت اشينباخ إلى فينيسيا في أحد فصول حياته، يقوده إلزام لا يدركه تماماً ويواجه بحضور غريب، يبدو أنه يسخر منه أو يغريه. فبمجرد أن يستقر في الجراند اوتيل على الليدو، يدرك وجود صبي جميل يزور هو بدوره مع عائلته من بولنده. مشاعره تجاه هذا الصبي معقدة جداً ولو فسرها كمشاعر مثليه فقط لا غير تبدو حقيرة وتبسيطية. فالصبي يمثل، قبل كل شيء، مثل أعلى للجمال الجسدي الكامل بعيداً عن الجنس. وما يدعو للسخرية أن هذا الجمال يحرك مشاعر عند رجل الذي هو (في الرواية) قد أصر على احتلال عالم الفكر. فشباب الصبي وطبيعيته يصبحان تعنيفاً لغرور الرجل العجوز وعملية خلقه العقيمة.
يقوّض فيسكونتي هذا التناقض بين الجمال والفكر بتغييره شخصية اشينباخ من كاتب إلى مؤلف موسيقي. قام بهذا التغيير، كما يقال لأنه قرر إن مان كان حقاً قد أسس شخصيته على شخصية جوستاف ماهلر، ولكن وماذا؟ هنالك مشاهد عودة إلى الوراء حيث يناقش اشينباخ أن الجمال يكمن في الفكر، واحد اصدقاءه يصرح بأن الجمال صفة تملكها بالطبيعة الاشياء الجميلة. وضع اشينباخ ممكن أن يكون لفيلسوف أو عالم، ولكن ليس (كما تخيل) لمؤلف موسيقي كسيمفونيات ماهلر الرومانتيكية والتي هي حاضرة على شريط الصوت.
كذلك يفوت فيسكونتي أو يتجنب، قوة تطور العلاقة بين الشخصيتين في الرواية. ففي رواية مان، لا يستطيع الرجل حقاً معرفة ما الذي يفكره الصبي به، فهما لا يتكلمان، وإذا ما كان الصبي يغدق عليه أحياناً بنظرة أو ابتسامة، فهو يعطي آخرين كثر أيضاً، لأن هذه هي طبيعته. فمن الممكن كلياً، بالطريقة التي يتلو مان بها القصة، إن الولد لا يدرك بتاتاً أي إيحاء مثلي – والرجل حتماً، قد يكون واقعاً في حب ما هو مثالي أكثر منه إنسان – لا تجد مثل هذا الاحتمال في سرد فيسكونتي الثقيل الوطأة. دور الصبي في الفيلم والذي يجسده على الاقل أكثر مما يزيد عن دزينتين من المرات، هو أن يقف عن بعد أمام الرجل ويستدير ببطء، ويبتسم ابتسامة حلوه ويستدير بشكل واه ليذهب بعيداً. وهذه حرفياً الصفة الجسدية التي يملكها الصبي في الفيلم. ويركز فنيسكونتي على الاستدارة والنظرات والابتسامات بثقل شديد لدرجة أننا يمكننا اتهام الصبي بمحاولة الإغراء.
وكون فيسكونتي اختار أن يحدد قصته بهذه الحدود، فهو يخسر المضمون الفلسفي لعمل توماس مان، ولا يمكن لأي كمية من الأحداث السابقة أن تستعيده. نرى اشينباخ في مناقشات مع رفاقه، ومع زوجته وابنته، ومن ثم في جنازة الطفلة. وتراه يبدو عديم القدرة في ماخور، وبلا مبرر نجده في حالة سيئة أثناء حفلة موسيقية ومن ثم تهدئه زوجته. نشاهد حيث يحاول تأكيد عبقريته التي سيعترف بها يوماً ما.
يفشل فيسكونتي إذا، بتطوير الشخصيات والعلاقات التي تهم، وهذا الفشل قاتل بالنسبة لنجاح الفيلم، لكن الجمال الأخاذ للفيلم نفسه يسيطر على الكل. عالم الليدو منذ 60 سنة خلت أعيد خلقه بتفاصيل تأخذ الأنفاس. الأزياء، الملاهي، تجهيز الموائد يظهر تماماً قدرة فيسكونتي على الدقة.
التصوير الفوتوغرافي السينمائي هو تقريباً الأول الذي رأيته والذي هو جدير بجمال البندقية، المدينة الزهرية والرمادية تظهر في المياه التي تحاكي الزجاج في نعومتها المصقولة. بحيث أن المياه ونوعية الضوء نفسها توحي بحضور الريح الهوجاء التي تحمل الوباء. فالهواء يجلب الاثنين معاً: الوباء والجمال. وهذا هو دوره في رواية مان وسيادة فيسكونتي التامة على الأسلوب البصري يكاد أن ينجح في خلق الأفكار ذاتها والأحاسيس التي غابت عن روائيته الثقيلة الوطأة.
تعليقات نقدية على مقالة إيبرت
– أبونودنيك / Abu Nudnik
لا أعتقد أن فيسكونتي يفوته الحنين إلى الصبا، والجمال والصبي يمثل ما هو أكثر من جاذبية لرجل مثلي. هو يمثل فوق كل هذا الحياة، الصبا، ماضيه، الندم، الفقدان. حقاً أن العودة إلى الوراء ثقيلة الوطأة وصديقه لا يحتمل. ولكني لم أتضايق من التفكير بالصبي وكأنه آخر حبة فيما تبقى في ساعة الحياة. المحاولة اليائسة لاستعادة الشباب المضمحل كانت عميقة التأثير. الصبي ليس من النوع المخل كما يدعي «ايبرت». أنه فضولي، حقيقي ولكن بمعنى ما مثل الفتاة في محطة القطار والتي تنزعها والدتها بعيداً ولكن ليس قبل أن تقودها طبيعتها البريئة أن تحاول مساعدة الرجل الذي ينازع.
– بريان بروس / Brian Brusse
أنا أوافق على تعليقات أبو، هذا المقال والآخر في نيويوك تايمز. فالاثنان يبدو أنهما يشعران بضرورة إبعاد القضية كما قدمها مان في كتابه عن أي عامل جنسي. ولذلك فهما ينتقدان فيسكونتي بسبب وقاحته في تقديم القصة الحقيقية بلا مقابل بين اشينباخ وتادزيو. في هذا الحدث، من الأجدر أن يتهم تادزيو بالدلال أكثر منه بدفع العلاقة كما يوجه ايبرت في مقاله.
في مذكرات انطوني هيلتوت، توماس مان: ايروس (إله الحب) والأدب يضعنا أمام قصة مقنعة إلى حد ما بأن توماس مان نفسه خاض تجربة إغراء مماثلة. ملاحقة شاب بشكل سري عندما كان يزور فينيسيا مع زوجته. وعلى أي حال، فإن معظم من استهدفهم مان برغبة جنسية مثلية كانوا في الحقيقة أيضاً بعيدي المنال لأن معظمهم كانوا مستقيمين ومتزوجين. وقد عاش مان كل عمره تعذبه مسلسلات رومانسية مع رجال كهؤلاء وعاش حياة كاملة بحب من جانب واحد. وهذا محزن لأولاده، فقد بدا مان غير قادر أن يصل إلى الحب الأبوي. وفي الواقع، فقد تصرف في حياتهم كرجل حاد الطبع، كريه، وناقد لحياتهم ككتاب وفنانين.
– مقالة شادويك جينكينز (مقتطفات):
التبادل المخيف في النظرة الجمالية في فيلم فيسكونتي «الموت في البندقية»
شخصية جوستاف فون اشينباخ (ديرك بوجارد)، كاتب مشهور في رواية توماس مان القصيرة «الموت في البندقية» (1912)، ولكنه مؤلف موسيقي شهير في فيلم لوشينو فيسكونتي المنقول عن (الموت في البندقية، 1971) – يجلس بين المدعوين في فندق الحمامات في الليدو في فينيسيا. الضيوف جميعهم ينتظرون الغذاء ليقدم لهم ويتصرفون على هذا الأساس، حيث إن المجموعات من الناس الذين لا يعرفون بعضهم يراقبون أنفسهم بحركات صغيرة متنوعة لتمضية الوقت (صحف، ألعاب متنوعة، أو ببساطة ينظرون حولهم). أكثر ما يهم أن يتجنبوا النظرات المباشرة مع الغرباء ويتجنبوا أن يراهم أحد وهم يراقبون جيرانهم. يتأكد اشينباخ من أن المقعد الذي اختاره ليس مأخوذاً من قبل أحد آخر (وذلك بأن يسأل سيدة هناك، وبسرعة يستدير مبتعداً عنها بمجرد أن يتأكد من خلو المكان) ويجلس ليقرأ أحد الصحف.
ينظر إلى أعلى صحيفته، فيلاحظ وجود عائلة مؤلفه (في تلك اللحظة) من ثلاثة فتيات يرتدين ملابس صارمة، ومعهم مربيتهم، وصبي ذو شعر طويل في الرابعة عشر يلبس ثوب بحار.
يكتب مان:
يلاحظ اشينباخ مندهشاً جمال الصبي الكامل. وجهه يذكر بأكثر اللحظات نبلاً في تمثال اغريقي – شاحب اللون بتحفظ حلو، وحلقات شعر مبعثره بلون العسل، الحاجب والأنف يهبطان في خط واحد، والفم الخلاب، تعبير عن الطهر والصفاء الإلهي. ومع ذلك رغم كل هذا الكمال الآخذ في الشكل كان ذا سحر لا مثيل له لدرجة أن المشاهد يظن أنه لم يرَ سابقاً، لا في الطبيعة ولا في الفن شيئا سعيدا كلياً ومتحققا. (الموت في البندقية وسبع قصص أخرى).
منذ البداية يبدي اشينباخ اهتمامه بالصبي وحتماً اهتمام العديد من النقاد (نقاد آدب وأفلام) الذين كانوا سعداء وهم يتابعون سير الشخصية مدعين أن القصة هي بشكل رئيسي حول مقابلة مع جمال خارق في لحظات أفول الحياة. وبينما يدفع اشينباخ ظرف قبول الأفكار المتعلقة بالاهتمام الحسي في الصبي، إلا أنه لم يتجاوز الفكرة. اهتمامه عقلي أكثر منه جسدي.
مان نفسه كان أقل حذراً حول الموضوع. كتب لصديق في عام 1911 معلناً أنه يعمل على «رواية قصيرة، جدية اللهجة، تتعلق بقضية الشذوذ الجنسي عند فنان كبير في السن».
يبدو أن فيلم فيسكونتي أثار حساسية نقدية مفرطة بتهور. عبر العديد من نقاد الأفلام عن عواطفهم التي اخذت مدى يتراوح ما بين استياء إلى ازدراء حسب التفاعلات (رغم أنها بعيدة وفي غالبيتها وحيدة الجهة – كما في الكتاب) بين اشينباخ والصبي الذي هو مصدر استحواذه، تادزيو (بيجورن اندريسون).
روجر ايبرت – في قطعة من الكتابة الجميلة بالرغم مما اعتبره خطأ نقدياً – ينتقد بشدة الفيلم لافتقاره إلى الغموض والدقة التي تتميز بها الرواية، ويدعي أن فيسكونتي قد قلل من السياق الروائي إلى «قصة مباشرة حول الحب المثلي» مما حول الفيلم إلى فيلم سوقي وتبسيطي.
الصفة في «الموت في البندقية» التي تثير شغف ايبرت هي حقيقة أن تادزيو غالباً يقابل نظرة اشينباخ بمثلها، وها هو «فيسكونتي» يركز على الاستدارات والنظرات والابتسامات بيد ثقيلة لدرجة أننا يمكن اتهام الصبي بالابتزاز.
طبعاً مان في روايته يضم هذه الأصوات إلى خريطة الرواية – ولكن الفيلم يجسد هذه اللحظات لدرجة تثير الارتباك النقدي. طالما أن الرواية تُروى من خلال وجهة نظر اشينباخ، فيستطيع الإنسان اعتبار هذه اللحظات في خياله أكثر منها في الواقع. وبينما يتجه الإنسان للقبول بالسينما وكأنها تسجيلية في مشاهدها. ويتوقع أن يرى كيف تبدو الأشياء «على حقيقتها»، إلا إذا كانت اللحظة موضوعية في إطار بطريقة تناقض هذه الفرضية. أنا لست مقتنعاً أن هذه هي أفضل طريقة لفهم «الموت في البندقية» كما يراها فيسكونتي. «حقيقة» احداث كثيرة مصفاة عبر إدراك اشينباخ لهذه الحقيقة. نتبعه طوال الفيلم، نرى ما يراه ونحن نثني (أو نعطي الاستخدام الرمزي للطاعون المعدي الذي أصاب فينيسيا في القصة فلوثها) بطريقة روائية.
إذا ما قلنا أن الفيلم اختزالي، فأنا أدعي أنه اختزالي حتماً، باتجاه الاهتمام المركزي لقصة مان: مقابلة الجمال عبر الرؤيا والاضطراب الغريب في حياة الإنسان والذي يظهر بعد المقابلة. وجزء من سبب اضطراب اشينباخ في هذه المقابلة مع الجمال له علاقة بشكل خاص بالعنصر المتحيز للافتتان.
استحواذه غير الملائم يظهر مظهراً للجمال عادة ما نتجاهله أو ننكره بشكل صارخ: حيث أن هناك نوعا من الرعب يرافق الجمال وهذا الرعب مصدره، جزئياً، من حقيقة أن الشيء الجميل دائماً ينظر إلى الإنسان الذي لاحظ وجوده. الجمال يتضمن التبادل المخيف الخارق للطبيعة للنظرة الجمالية.
ديرك بوجارد في دور جوستاف فون اشينباخ بشكل حتمي، فهذه العلاقة التخطيطية بين اشينباخ وتادزيو تعكس مثلاً في ندوة أفلاطون. المحب ينقصه شيء (كل الرغبة تبدو مستنده على نقص) ويبحث عنه في المحبوب. المحبوب لديه شيء ولكنه لا يعرف ما هو. ذلك الذي ينقص المحب ليس مثيلاً لما يملكه المحبوب – وهذا هو المصدر الرئيسي للتوتر في علاقة الحب – ومع ذلك فإن كلا الطرفين لا يستطيعان سوى أن يعاملا العلاقة كنوع من التبادل، تبادل يستند إلى عدم تفاهم اساسي.
يتناول الفيلم ما ينقص اشينباخ بطريقة مجحفة تعتمد على العودة إلى الوراء إلى المحادثات الطنانة بين اشينباخ وبين صديقه السخيف الثرثار ألفرد. والمحادثات ترسو على شرح تافه لجدلية نيتشه حول ابولينيان / ديونيسيان. وتجعل الكتابة هذا التبادل رديئاً جداً ولكن في اعماقهم هنالك مكنونات مهمة لاهتمامات فلسفية/جمالية. ترتكز مناقشاتهم على دور الجمال وعلاقة المؤلف الموسيقي بالجمال وهو يقوم بحركة الخلق الموسيقي. يصر اشينباخ أن جمالية الجمال تأتي من التنظيم العقلي والروحي، وأنها برمتها مفيدة للعالم. وأن على المؤلف تجنب أن يناضل، فوق كل شيء، لوضوح التعبير. ومن ناحية اخرى فإن ألفرد يدعي أن الجمال حسي كلياً وخارجي على عملية التأليف، وأنه دائماً يحتوي على عنصر من الشر، وأن الفنان (خاصة المؤلف) يجب أن يلاحظ ويستغل الغموض المتأصل بالجمال.
والآن لنكن واضحين، هذه المشاهد سيئة بشكل مضحك. انها محاولة لإعادة عمل اللحظات الفلسفية الأشد نجاحاً بمراحل عند مان (والتي تتعمق في تشدد نيتشه ولكن من وجهة نظر كاتب لا مؤلف موسيقي) ولكنها تفشل فشلاً ذريعاً.
وحتى ملخص مناقشتهم هي تجميل لحوارهم الحقيقي، والذي هو غامض لا أمل منه، صبياني وغير مقنع. ومع ذلك، ففي فيلم يقلص رواية مان المتجهة إلى خط فلسفي ويحولها إلى مسلسل من النظرات المتبادلة (وهي، سوف اناقش، قوة الفيلم، مصدر قوته، وما تقدمه ولا يستطيع الفيلم تقديمه). وهذه المبادلات بين اشينباخ الابولوني وألفرد الديونيسي مهمة في توضيح ما هو على حافة الخطر في هذه النظرات.
كون فيسكونتي جعل من اشينباخ مؤلف ماهليري، فهذا يعمل لصالحه في تزيين الجدلية ابولونية / ديونيسيه. وعلى أي حال فمقدمة نيتشه لهذه الجماليات (وقاتلها من شدة المعرفية، الوجودية، والأخلاقية) كان ولادة المأساة خارج روح الموسيقى (1872) ولكن، أكثر من ذلك في هذه النقطة، فالموسيقى تجسد شداً مذهلاً بين الغموض والوضوح، المفسر والمعطى، الخيالي والواضح. هذا الشد يتضمن العلاقة في الموسيقى بين العمل الهارموني ومقياس قوة السمع كما هي.
مقياس قوة السمع واضح، مباشر، حسي ومعطيه. عندما اسمع اي مجموعة نوتات اسمعها في الحس المباشر. قد أجد ذلك مبهجاً أو لا طعم له، ولكنه مادة حسية وليست فكرية.
– مقالة دنيس لين:
«الموت في البندقية»: الوله المدمّر
بين العديد من الأعمال الأدبية التي اخرجها لوتشينو فيسكونتي والتي بنيت على أعمال من جايمس م. كاين، فيودور ديستويوفسكي، ألبرت كامو، جيسيت توماس دي لانيبدوسا – ربما تكون نسخته التي قدمها عام 1971 لقصة توماس مان «الموت في البندقية» هي الوحيدة التي تظهر بشكل كامل التحديات والامكانيات معاً لنقل الصفحة الواحدة إلى الشاشة. قسم الفيلم النقاد عند عرضه، واستدعى العديد من منتقديه ما يعتبر خطيئة اساسية في النقل – وهي، أن فيلم فيسكونتي جعل بشكل صريح، ما حافظت عليه رواية مان كواحدة من أهم أعمال أدب القرن العشرين وأكثرها شهرة وتحليلاً ومناقشة، بشكل ضمني. الاهتمام بموضوع الصراحة، طبعاً، كان له أن يفعل كل شيء تجاه الموضوع – فهو يتضمن موضوعاً ملتهباً في زمنه ومربكاً حتى هذا اليوم.
في عام 1911 كتب مان لأحد اصدقاءه يصف قصة «الموت في البندقية» التي مازال يكتبها «رواية قصيرة، جدية وطاهرة في لمحتها، تتعلق بقضية الشذوذ الجنسي عند فنان كبير في السن. واضاف «تقول: «هم هم»، ولكنها محترمة جداً».
يبقي فيلم فيسكونتي مخلصاً للأحداث الرئيسية لكتاب مان القليل الصفحات: جوستاف فون اشينباخ، فنان بافاري مهم له سمعة واسعة وطبيعة دائمة الشكوى. يسافر جنوباً ليقيم في فندق فينيسيا الليدو. ويتمتع في جماليات عصر الرخاء في الفندق الكبير في الحمامات، يرى خلسة، في أحد الأماسي، الااالالسية شاب بولندي جميل يدعى تادزيو ويصبح مهووساً به مباشرة.
يراقب اشينباخ تادزيو عبر الغرف المزينة وعلى الشاطئ الملئ بالكبائن، ويبدأ في ملاحقة الصبي وعائلته عبر المدينة المتاهة. كان يرغب في المغادرة إلا أن خطأ في شحنته يؤخره عن ذلك. بالرغم من اندلاع وباء الكوليرا الذي يخرب المدينة، يبقى اشينباخ وقد اصابته الحمى في جسده وعقله. أخيراً في اليوم الذي كان مقرراً ليغادر الصبي وعائلته البندقية، يموت اشينباخ في كرسي على الشاطئ، وهو ينظر إلى البحر، وإلى حبيبه تادزيو الذي يبدو وكأنه قد ظهر له في حافة الماء.
اشينباخ في قصة مان هو مؤلف معروف جداً بروايته التي تسرد حياة فريدريك العظيم وافتتانه المدمر، تشكل أكثر مثل مجابه كصاعقة مدمرة لكمال جسدي، منعش في أحد جوانبه، مشوش بمعظمه. تسبيحاته المملوءة رهبة لتادزيو متعلقة بالمثال الافلاطوني للجمال، وتعود لتتصل بالتقليد اليوناني للتقارب بين الرجل والصبي. حيث أن مان كان قريباً جداً من كتابة فردريك نيتشه، فهو يدعونا لنعتبر وله اشينباخ القدري كزهر ابولوني يخضع للروح الديونيسيه.
أجيال متعددة من نقاد الأدب انتزعت من الكتاب الأبعاد الفلسفية الملمح لها لإخفاء غرائبيته، آخذين كلام اشينباخ عندما يصف حبه للصبي كقضية شكل وجماليات.
ونثر مان المجود بحرفية نادراً ما تكون واضحةً، يبدو وكأنه يأخذ بجدية بتعريف شغف بطله الروائي وما يصحبه من تأمل، ولكنه أيضاً يتعامل معها أحياناً وكأنها تقويم عقلي خادع للذات، ينظر إليه من مسافة ساخرة وربما حامية له.
«بين كل الصور التي اخذت لهذه المدينة التي صورت بسخاء، هذه بلا منازع الوحيدة الأفضل التي تعطي إحساساً غامراً بالكآبة والعظمة المتحللة».
لنفس الكاتب «دنيس لين» تحت عنوان أفلام ملحقه:
الموت في البندقية / لوتشينو فيسكونتي
محاولة تكييف هذا النص الغني والذي يعكس وجهتي نظر متوازيتين بين حرفيته ورمزيته، تضع فيسكونتي أمام صعوبة بالغة. تنتج السينما غموضاً عبر وسائل مختلفة عن الكلمة المكتوبة، وهنالك العديد من الاشياء التي باستطاعتها إلغاءها من مملكة المرئي. وبالرغم من أن اشينباخ لا يتصرف بتاتاً تبعاً لرغبته الممنوعة، إلا أن فيلم «الموت في البندقية» يعود مرة تلو الأخرى إلى المشهد القلق لرجل في منتصف العمر يرسل نظرات اشتياق وتوق في اتجاه الصبي الذي بالكاد تجاوز سن البلوغ، مما خلق نوعاً من الصدمة لدى المشاهدين.
ففي أحد المقالات النقدية في مجلة «تايم» قال الكاتب أن كتاب مان «الموت في البندقية…. لم يعد عن المثلية تماماً» كما كان كتاب «المتحول» عن علم الحشرات. وأن قيام فيسكونتي بجعل الرغبة المثلية واضحة للنظر كان «مخرباً وعديم الرؤيا»، إلى درجة أنه مثلي غير خالص أو مغفور له.
بينما كان اشينباخ يعمل بضمير حي في نقل صفحات الكتاب، فإن ثبات السينما يتطلب تجسيداً، وفيسكونتي استطاع أن يقنع ديريك بوجارد، الذي أبدع في الدور الرئيسي، أن يقوم بتمثيل دور صادق بإيمائيه قوية وصادقة، جديرة بنجم سينما صامته. أما دور تادزيو الذي قام به صبي في الخامسة عشر من العمر والذي اُكتشف عبر بحث واسع في القارة كلها، فهو في الفيلم صامت تماماً كما رواية مان والذي شبهه أكثر من مرة بتمثال كلاسيكي. ولكن مثل العديد من الاشياء السينمائية المعبرة عن الرغبة والتي توجد فقط لننظر إليها، فهو يعرف قوة النظرة التبادلية. أولاً ينظر اشينباخ إلى تادزيو في مشهد مطول في باحة الفندق – فقرتين في الكتاب تتحول إلى ثمانية دقائق فاتنة تقريباً. يستقر اشينباخ قبل العشاء بين ضوضاء الصالة المتباهية: زهريات ومصابيح إضاءة ضخمة وقبعات ضخمة مزينة بالريش واللؤلؤ. تنتقل الكاميرا بينها في لقطة طويلة وبين الفينة والأخرى تقترب فيها بلقطة زووم بينما نكتشف نحن واشينباخ الغرفة وتادزيو بخصله الذهبية وطقم البحار الذي يرتديه وهو يدخل في مرمى النظر. يحملق اشينباخ وقد اذهله المشهد، يحول نظراته، يرفع ويخفض الصحيفة عن قصد. (ويذهله أيضاً دخول والدة تادزيو التي تذهله هي أيضاً وقد قامت بدورها سيلفانا مانغانو). كل المشاهد التي تلي هذا تدور حول ما تأسس من ديناميكية هذا المشهد: اشينباخ يحاول أن يخفي نفسه وهو يراقب… تادزيو يتابع الموضوع، وكل فترة، يحاول تحفيز تأكيد رؤيته للنظرة. قد لا تستطيع السينما أن تعيد إنتاج التعليقات الساخرة المتعددة الوجوه في لغة مان، ولكنها – كما عرف فيسكونتي جيداً – وسيط للنظر.
وفي الفيلم كان أهم تحوير لنص مان، أن اشينباخ ليس كاتباً ولكن مؤلف موسيقي. ويمتد هذا التحوير إلى جوستاف ماهلر والذي كان هو أيضاً في عقل مان عندما سمى بطله، وبنظارة ومزيد من شعر الرأس، أعيد تشكيل بوجارت ليشبه ماهلر، وقدر ترك فيسكونتي مساحات شائعة من سيمفونياته الثالثة والخامسة.
وقد كرّس فيسكونتي ونيقولا بدالوكو (مساعده في كتابة السيناريو) الفصول الأولى الافتتاحية في كتاب مان – بما في ذلك الهلوسة حول مقابلة الغريب في مقبرة ميونيخ والتي اضاءت تحول اشينباخ – وبدلاً عن ذلك كونت قصة خلفته عبر بضع استرجاعات متقطعة. البعض يصف ارتباطه بزوجته وابنته وآخرون يصورونه في حوار مع زميل موسيقي يخالفه الرأي، يتنافسون بتساؤلات حول السمعة الفنية والنزاهة – وكأنه يدعم خلاف مان بأن كتابه كان أساساً حول «نزاهة الفنان».
ولكن تشجيعاً للدخول إلى حالة عقله الكلية، فهذه المشاهد التوضيحية أقل تأثيراً من مشاهد فيسكونتي السينمائية البحتة. فمنذ اللقطة الأولى لسفينة تجارية تدخل مختارة الادريانيكي في الفجر، تصحبها الادجياتو البطيئة المؤثرة إلى حد الإغماء لسيمفونية ماهلر رقم 5. فـ»الموت في البندقية» دعوة إلى غطس ضعيف، فيلم يعطي إحساساً كثيفاً يكاد يلمس.
وبين كل اللوحات التي صورت للمدينة باتساع شديد، فهذه بشكل مؤكد هي التي تظهر بأحقية تامة الكآبة المسيطرة والعظمة المتحللة، الفيلم الذي توسط ثلاثيته الألمانية – بعد فيلم الملعونون – ويمكن اعتبار «الموت في البندقية» كفيلم فيسكونتي الشخصي.
فقد ولد في عائلة نبيلة في ميلانو عام 1906، وطالما اعتبر فيسكونتي روائي لعالم الارستقراطيه الغابر – في افلامه الأخرى نزل إلى الفترات السابقة من التاريخ الايطالي: الـ Risorgimento (من أجل 1954 سينسو Senso) ومخرجكم صقلية من قبل عائلة البوريون (1963 فيلم النمر).
الموت في البندقية واحد آخر من أواخر أعماله، ولكن في هذه الحالة هو عن فترة زمنية وطبقة اجتماعية عرفها معرفة وثيقة – اوروبا على عتبة الذوبان عبر الحرب والثورة، العالم الميت الذي ولد فيه.
علاقة فيسكونتي للعشق المادي بطرق مذهلة مقارنة بتذبذب مان بين التعرض والتهرب. الاسس المنقولة في مذكرات مان معروفة جيداً. «لا شيء مخترع في «الموت في البندقية»، كما كتب في عام 1930 في مقالة.
العديد من تفاصيل القصة، من العجوز المتأنق الغريب الذي يحيي اشينباخ عند وصوله نحو قائد الجندول الفظ والذي تحاور معه، نقلاً من رحلة قام بها مان مع عائلته إلى الليدو، حيث تسمر عند رؤية صبي بولوني – وصفه جيلبرت ادير عام 2001 في كتابه، تادزيو الحقيقي عمره احدى عشر عاماً في ذلك الوقت. وقد اظهرت مذكرات مان فيما بعد انجذاب دائم لصغار الرجال والصبيان (والذي هو مثل اشينباخ، قد لا يكون أقام علاقة معهم).
أما بالنسبة لفيسكونتي – الذي قابل مان في عام 1950 وحاول دون أن ينجح أن يأخذ منه قصة «الجبل السحري، أولاً كأوبرا في مسرح لاسكالا، ثم كفيلم – مثليته كانت سراً مفتوحاً خجل من مناقشته. (كان حين ذاك مهتما بنجمه الدائم هيلموت بيرجر عندما أخذ رواية مان إلى الشاشة) فبينما هو ليس فيلماً سيخرج – وبالكاد يمكن اعتباره لحظة تقديم شذوذ إيجابي، فإن نقله لأبله ملعون على خلاف ذلك مناسب للحقبة التي قدمت ابطال تراجيديا نمطيين – «الموت في البندقية» كان علامة فارقة من الأنواع هذه في ذلك الزمن، عندما كانت قصص الاستحواذ الجنسي بشكل كبير، منطقة العلاقات الجنسية المختلفة.
هنالك تناسق، من المؤكد، بين الجو الفيسكونتي – حتماً موجود في هذا الفيلم، وأقل من ذلك في الفترة المتزنة التي اعيد خلقها في «سينسو» و»النمر» – ونثر توماس مان في «الموت في البندقية»: فخامة تجاوز ما هو أرجواني، واهتمام بالأسطح بذهنية محللة باردة تشق طريقها اسفلها. هنالك ايضاً اختلافات مهمة في المزاج. بالنسبة لمان، اشينباخ المسكين العجوز هو، إذا لم يكن صورة للسخرية، فهو حتماً صورة للهجاء. فيسكونتي لا يوفر اشينباخ ذل ما سببه له اقتراح تجميله. فهو يموت متراجعاً في كرسيه، وصبغة شعره الأسود تسيح على وجهه المقنع بالتجميل. في ايدي مان، قدر اشينباخ يسجل كعقاب تهكمي. فيسكونتي، باعتباره ذواقة وإنسانيا، يجعل من المأساة واحدة رائعة. تادزيو الذي يقدمه ملاك الموت ولكن ربما أيضاً واحدا للخلاص، وهنالك أيضاً في التعليق الثابت لرغبة اشينباخ الناقصة لمحة من القبول أو ربما بعض من السمو والتعافي.