هكتور مونرو «ساكي»**
ترجمة: حسام حسني بدار*
«ستنزل عمتي حالاً، يا سيد نتل.” قالت الشابة الهادئة ذات الخمسة عشر ربيعاً، موجّهة كلامها إلى فرامتون نتل. وفي هذه الأثناء، عليك أن تتحملني قليلاً.” تابعت كلامها.
حاول السيد نتل أن يتفوّه ببضع كلمات يجامل بها الفتاة. وفي ذات الوقت بدأت الشكوك تساوره حول إنْ كانت الزيارات التي بدأ يقوم بها إلى أناسٍ غرباءٍ عنه بالمرة ستجدي نفعاً بالتخفيف عما يعانيه من توتّر. كما أنه تذكّر كلام أخته له قبل مجيئه إلى هذا المكان: “أنا يا فرامتون أعلم تماماً ما سيكون عليه حالك عندما تصل إلى هذا المنتجع الريفي. ستدفن نفسك في غرفتك ولن تتبادل الكلام مع أيٍّ كان، وستزداد أعصابك توتّراً.. ومع ذلك، سأزوّدك ببعض خطابات التعريف إلى جميع من أعرفهم هناك. إنني لا أزال أذكر أنّ بعض من عرفتهم كانوا أناساً طيّبين للغاية.»
تساءل فرامتون بينه وبين نفسه، وهو يتحسّس في جيبه خطاب التعريف الذي سيقدمه إلى السيدة سابلتون (عمة الفتاة)، فيما إنْ كانت تلك السيدة من بين “الأناس الطيبين”!!
لم يضع حدّاً لأفكار فرامتون هذه سوى سؤالٍ وجّهته إليه الفتاة لتقطع حبْل الصمت: “هل تعرف الكثير من الأشخاص في الجوار؟”
– «في الواقع أنني لا أعرف أحداً. لكنّ أختي أقامتْ هنا ردحاً من الزمن، ثم غادرتْ قبل أربع سنوات على وجه التقريب. وقد زوّدتني ببعض الخطابات لأقدمها إلى من سأزورهم.”
– “إذن فأنت لا تعرف شيئاً عن عمتي؟ “ سألته الفتاة بكلّ رباطة جأش.
– «لا أعرف أكثر من اسمها وعنوانها.» أجابها السيد نتل.
– «لقد حدثتْ مأساة عمتي الفظيعة قبل ثلاث سنوات، وفي مثل هذا اليوم بالذات. أي بعد ان غادرتنا أختك.»
– «يصْعب على المرء أنْ يتصوّر حدوث مأساة في هذه المنطقة الريفية الوادعة.»
لم تعلّق الفتاة على ملاحظة فرامتون الأخيرة، بل قالت وهي تشير إلى نافذة على الطراز الفرنسي تطلّ على الممر الموصل إلى البيت: “لعلك تعجب من إبقائنا على تلك النافذة مشرعة على مصراعيها في مثل هذا الشهر البارد؟”
– “هل لتلك النافذة صلة ما بمأساة عمتك؟!»
– “قبل ثلاثة أعوام بالتمام والكمال خرج زوج عمتي وأخواها الشابان ومعهم كلبهم الصغير إلى رحلة صيد، ولم يرجعوا من تلك الرحلة أبداً. لقد غاصوا في بقعة من الرمال المتحركة ولم يُعثر
على جثثهم حتى يومنا هذا.»
عندما وصلَتْ الفتاة إلى هذه المرحلة من المأساة التي ترويها، بدأتْ رباطة جأشها تتهاوى. وتابعتْ بانفعال: «إنّ عمتي المسكينة لا تزال تظنّ بأنهم سيعودون يوماً من رحلتهم، ويعْبرون تلك النافذة
1
كما كانوا يفعلون دائماً. ولهذا، كما ترى، نترك تلك النافذة مفتوحة.”
في هذه اللحظة نزلتْ العمة إلى حيث كان فرامتون واقفاً. كان هذا مبعث سلوى له، إذْ أنّ نزولها قد انتشله من مشاعر الحزن التي غمرته بعد حديث الفتاة.
-»أرجو أنْ تكون قد استمتعتَ بالحديث مع ابنة أخي فيرا أثناء انتظارك لي.” قالت العمة.
-»لقد سعدتُ بالفعل بتبادل الأحاديث معها.»
سألته العمة بعفوية تامة: “لعلك يا سيد نتل لا تمانع في فتح هذه النافذة؟ إنني في انتظار عودة زوجي وشقيقاي من رحلة الصيد التي قاموا بها. إنهم يأتون في العادة من خلالها حتى لا ينشرون الوحل في كلّ مكان داخل المنزل. وأنت أدرى بطباع الرجال، أليس كذلك؟»
كانت العمة تتحدث عن ترقّبها لعودة أحبائها الثلاثة من رحلة الصيد بمرح وحبور، كما أشارت في تعليقاتها إلى ندرة الطيور في مثل ذلك الوقت من السنة.
أثار حديث العمة إشفاق فرامتون، وحاول جاهداً أنْ يغيّر موضوع الحديث.. لكن دون طائل. وفجأة لاحظ أنّ نظرات العمة لم تعدْ متجهة إليه، بل أنها تجاوزته إلى النافذة المفتوحة وإلى الممر الذي يؤدي إليها.
اعتقد فرامتون انّ حظه العاثر قاده إلى المجيء إلى هذا المكان، وفي هذا اليوم بالذات الذي يصادف ذكرى المأساة المشؤومة. وأراد أنْ يوقف العمة عن الاستمرار في حديثها هذا الذي يثير شجونه ويزيد من توتّر أعصابه، فأخذ يقول: “لقد نصحني أطبائي بالراحة التامة، وبتجنب كلّ ما يمكن أنْ يثير أعصابي.”
كان لدى فرامتون وهْم خاطئ مفاده أنّ الغرباء كثيراً ما يهتمون بمعرفة أدقّ التفاصيل عما يعانيه مَنْ يتعرّفون إليه من أمراض أو متاعب صحية، وعن أسبابها وطرق شفائها. لهذا، أثار دهشته ما أبدته العمة من عدم اكتراث بحديثه. وفجأة -وبدون سابق إنذار- اتّقدت ملامح العمة بالاهتمام وتوهجتْ وجنتاها، وقالتْ بلهفة: “حمداً لله! لقد وصلوا أخيراً، وفي موعد تناول الشاي. يا للسعادة!!”
سرتْ القشعريرة في جسد فرامتون، ووجّه إلى ابنة أخ العمة نظرة ملؤها الرثاء والشفقة. أما الفتاة فأخذتْ تنظر إلى النفذة المشرعة بعينين فزعتين مما دفع فرامتون إلى أنْ ينظر بدوره إلى تلك النافذة. ارتاع فرامتون مما رأى.. لقد تبيّن من خلال الضوء الخافت الذي سمح به مغيب الشمس المتزايد ثلاثة أشكالٍ لأشخاص يحملون بنادق صيد، وبين أرجلهم كلب صغير. قفز فرامتون من كرسيّه فزعاً، وانطلق كالمجنون إلى باب الحديقة ومنه إلى الشارع.. لا يلوي على شيء.
«يا له من شخص غريب الأطوار!!» قالتْ العمة. «لقد كان حديثه معي يدور حول أمراضه وتوتّر اعصابه. إنه لشخصية مملة حقاً.» وتابعتْ قائلة: “من تصرّفه هذا، يخاله المرء قد رأى شبحاً.”
ردّتْ ابنة أخيها فيرا بقولها: “أعتقد أنّ ما أثار فزعه هو رؤيته لهذا الكلب الصغير، فقد أخبرني بأنه يموت رعباً من الكلاب.” وصمتت هُنيهة لتعاود الكلام: “وروى لي كيف ضلّ طريقه مرّة في مقبرة بعيدة، وأنه وجد نفسه محاصراً من قطيعٍ من الكلاب الشرسة، مما اضطره إلى قضاء تلك الليلة في قبر حفر حديثاً لاستقبال زبونٍ جديد.»
نعم، كان اختلاق الحكايات و”فبركة” الوقائع في لحظاتٍ قصيرة متعة لا تفوقها متعة أخرى بالنسبة لتلك الفتاة المدعوّة فيرا!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** هكتور مونرو «ساكي»: (1870 – 1916)، كاتب انجليزي غزير الإنتاج.