ما اروع ان تنام على نسمات هواء طبيعي، في بيت من الطين، مفتوحة نوافذه على شجرة برتقال، تتنفس رئتاك هواء طبيعيا نقيا طيبا كقلوب من يسكنون بيوت الطين، تنام وأنت تسمع همسات و تهجدات أدعية من رحلوا، وهي تخرج من شقوق جدران الطين من حولك، فيرتاح جسدك، وتهدأ روحك الهائمة الباحثة عن اللاشيء واللامكان .
تصحو على زقزقة العصافير وهي تبتهج بنهارها، وكأنها خرجت بعد الزوال، تصحو صحو ميت وتتثاءب كالموتى، تحدق عيناه في الأمس، وتبعث روحه في اليوم، ويعبث بالغد، تأخذك قدميك إلى أسفل المنحدر، حيث مياه الفلج الشفافة تسري كالملائكة بياضا ونقاء، تشرب منها بلا ارتواء، شراب من عاش قرونا سحيقة بانتظار قطرة ماء، فهلك الزرع وجف الضرع وتلاشى الورع ولم يكن بدعائه شقيا، تسجي جسدك الواهن كمحارب خاض حروبا عبثية ضد الامكنة والازمنة وطواحين الهواء طويلا، تضع جسدك في عمق ساقية فلج محروس بالأشباح والملائكة، نسجت حوله الاساطير والخرافات الذهبية التي تجعلك تهيم في قرى السحر ومنابعه الأولى بعد الغروب الكئيب كيومك، فتزداد روحك توهجا وعمقا، تكسوك اوراق اشجار البرتقال والموز والنخيل الباسقات بظلالها كأقراص من الشموس تجمعها في راحة يديك وانت عائد الى بيت الطين، تحرسك أرواح من رحلوا بكل قدسية وهيبة.
في بيت الطين ستجد روحك الهائمة المتعبة من حصاد الازمنة التعيسة والوجوه الأتعس التي تتراكم في ذاكرتك ويتزاحم وجودها كلما آويت الى فراشك، صخب ووجع ومجازر تدور احداثها في ذاكرتك المعتقة بروائح قادة جيوش مهزومين، تنام لتصحو على صوت قطار او عاصفة هوجاء او انذار اعصار قادم وكثيرا ما تصحو على اصوات هؤلاء جميعا .
تهرب من أمامك الأرواح وتتهدل القداسة، لا حل، لا طريق، لا امل، لا مرتجى، لا ضوء، انفاق حزن متناسلة، جثث محاربين قدامى، نورس مشنوق، ياسمين في حقل وحل، ماض متجعد، يوم أخضر يابس، غد محطم، وحيد كشجرة تجاور نهرا، وردة على هاوية سحيقة، وقت متثائب، نبض يابس، صمت جنون، ارتطام الحلم بالظل .
لست حزينا، غير انك متجعد في الحزن، لست وحيدا، لكن لا احد عندك، لست محاصرا، لكن لا سيوف لديك ولا حصن، تقف على ناصية حتفك، تحدق في رفاق الامس تبحث في اعينهم عن لمعة فجر ولا تجد، يفقد الابيض لونه، والشتاء مسجون في معطف الرحيل، والاشرعة ذابلة، اصابعك مكسوة بالثلج، وحنجرتك تمتلئ بأغان عرافي الخريف، تغطي ما بقى لك من الجسد المنهك، كأعصار تصادم مع مقبرة، وتحاول النوم عبثا، وعيناك تراقب السقف المتهدل كروحك، تنصت لجدال النورمع العتمة، يسيل البرق على خديك طويلا، تعصف بك رياح الذكرى، كان يوما هنا، في بيت الطين، يزرع الغد في الحقول، ويربي حمامات الأمل، يسقي وردة كل الفصول، ويعيد صياغة الزمن، يجدد همس المساء، يبعد عن الوقت اضطرابه، يأخذك لغابة البنفسج في كل صباح باكر، يقطف النجوم ويدسها في شلالات الشعر، والان عدت وحيدا، كعاصفة تفاجأت بقرية مهجورة، تحمل عظامك الميته، وياسمين ذابل كقلبك، لا عزف ناي، لا احد يصغي لأحزانك، مذهول كعلامة تعجب، تتوسد ذكرياتك، تعتذر للغياب، تشطب يوم ولادتك من التقويم، وتنام .
عزيزة راشد
كاتبة من عُمان