ترجمة: حسونة المصباحي*
في ألمانيا يُخصص اسم «الفيلسوف» لمن أثبت باعه وجدارته في هذا المجال، والأفضل لمن هم رحلوا عن الدنيا(أفلاطون، كانط، هيغل، الخ…) لكن كيف لنا أن نحرم منه يورغن هابرماس الذي يلغ سن التسعين، وتمكن وحده من أن يبلور موروثا فلسفيا ألمانيا هو بقطع النظر عن التاريخ، يحافظ بجرأة وحزم على قوة بالتأكيد لا تخلو من عيوب، لكن لها قدرة الأنوار والعقل لكي تقود حياتنا، وتضيئها.
إن القاعات الفسيحة التي تستقبل حضوره العام، والصدى العالمي لأطروحاته التي قد تكون أحيانا ساخرة وتهكّميّة، لكنها موثّقَة بطريقة عجيبة، والتي يستخرجها ويستقيها من الصحافة منذ الخمسينيات من القرن الماضي من دون أن يقدم نفسه كمعلم للتفكير، أو يتباهى بأنه يلعب دور ّالمُربّي الألماني» والذي يُنْسبه له البعض، ومدائحه الخفيّة لرجال السياسة الذين يزعمون أنه يُمَثّلُ مرجعا أساسيّا بالنسبة لهم شرط أن يكونوا من المتحمسين للوحدة الأوروبية، وقسوة معارضيه وخصومه المستعدين دوما لكي يَنْكُرُوا عنه أية خصوصية لفكره، ولكي يبرزوا أن كتابته الحرشاء والخشنة، مُنَفّرَة، وموصوفه بأنها من صنف «الغنائية الباردة» من قبل الفرنسي مارسيل غوشيه، أو هم يميلون إلى اعتبار فلسفته التي تنتمي إلى «العقل التواصلي» مجرد أوهام وهواجس، وحياته حياة مُحَارب نظريّ يُنازع أفكارا يتهمها بأنه هي التي ولّدت النازية، وأيضا يسارا راديكاليا لم يتردد في وصف انحرافاته في الستينيات من القرن الماضي ب» الفاشية»…كل هذا لكي تختلط مسيرته الشخصية والفكرية بتاريخ ألمانيا بعد الحرب الكونية الأولى.
إن المجلدين اللذين يحتويان على مقالات البعض منها مجهولة في فرنسا، واللذين حملا عنوان:،»مَسَار»، وأيضا السيرة التي كتبها ستيفان موللر-دوم، والكتب الثلاثة صدرت عن دار «غاليمار»، تظهر تعدد وثراء المواضيع والقضايا التي تناولها هابرماس بالبحث والتقصي، وأيضا تماسك وترابط محطات مسيرته المديدة. وكل هذا هو الفيْض المُفَارق الذي هو بالنسبة لمن يُشَبّهُ أحيانا بهيغل، يحاول بالفعل أن يقْطَعَ مع التوجه الميتافيزيقي لهذا الأخير، وأن يعانق شموليّة هذا العالم. إن هذه الفلسفة» المتواضعة» التي لا تتراجع أبدا أمام ما يمكن أن نسميه ب»المهنية»، ولا تنكر تأثير العلوم الاجتماعية، تُحيل إلى الحضن التاريخي الذي فيه تبلورت وتشكلت.
وفعلا يطالب هابرماس بأن يُصَنّفَ كـ «لقيط» لما سُمّي بـ»إعادة التأهيل»، تلك العبارة التي تنتقصُ من القيمة، والتي كان ألمان الجمهورية الفيدرالية التي تأسست عام 1949 على أطلال النازية، يُحقّرون بها جهود إزالة آثار النازية المفروضة من قبل الحلفاء. وتلك القطيعة الحضارية كانت بالنسبة له «فرصة» منها استفاد عمله، ومنها تغذّى. وضد عبادة التراجيدي، ومَغيب فلسفة ألمانية اتهمت بأنها مسؤولة في أفضل حالاتها عن التأقلم والانسجام مع القومية –الاشتراكية، وعن الاستيراد الملح لرطانتها( وكان هو قد انتقدها بشدة في مقال شهير له في جريدة «فرانكفورت-الجماينه»، والذي حقق له شهرة واسعة)، دافع هابرماس عن «عقل ضعيف، مُعَرّض للخطأ، لكنه ليس انهزاميا»، وعن «عقل تواصلي»، أو بالأحرى مؤسس على أنموذج الموضوع السامي المحبوس في أحاديّته، وفي النقاش المثالي والحر مع الأنا الآخر.
ويقيم هابرماس في بيته في مدينة «شتانبارغ» الصغيرة والجميلة الواقعة في ضواحي ميونيخ على ضفة بحيرة، ومنها يمكن مشاهدة جبال «الألب»، والتي أصبحت مع مر السنين، محطة سياحية. وفي عام 1972، قام ببناء بيته «الشخصي الطويل والأبيض» كما هو يصفه لكي يقيم فيه برفقة زوجته أوته هابرماس، وهي أستاذة في مادة التاريخ، ومثقفة بارزة تساعده في عمله، ومع أبنائهما الثلاثة. وكان المهندسون المعماريون لهذا البيت الذي على شكل سكين، والذي كان قديما في قلب الريف ليصبح الآن محاطا ببيوت عديدة أخرى، قد بُني على شاكلة فكر صاحبه، وأفكاره التحديثية، ومستوحى من شكل بيت الفيلسوف النمساوي الشهير فيتكانشتاين في فيينا. إن مفاجأة هذا الرجل اليساري مُقيما في بافاريا المحافظة والكاثوليكية، لا يخلو من دعابة، والزوجان القادمان من فرانكفورت، و»المنفيان» فيها، يحيلان كلاهما فورا إلى شبح المدينة الكبيرة والقريبة التي هي ميونيخ، والتي كان هيتلر قد بدأ فيها مسيرته السياسية، وفيها أيضا اقترف الزعماء الأوروبيون الديمقراطيون خطأ امضاء اتفاقية معه. وصدف المسار الأكاديمي المكلل بالعديد من الجوائز المرموقة، لكنه مسار مُترحل، يفسر هذا الاختيار الجغرافي. وكان هابرماس قد اختار مكان اقامته لكي يدير على مدى سنوات معهد «ماكس بلانك» للعلوم الاجتماعية.
ويبدو ساكن «شتانبارغ» مترددا تجاه الحوارات الشفوية إذ أنه يكون أكثر راحة واطمئنانا إذا ما تعلق الأمر بما هو مكتوب، لكنه مع ذلك يفاجئ زواره بحرارته، وبحيويته التي تكاد تكون رياضية، وبسهولة التواصل معه البعيدة مسافات مديدة عن التصلب للأكاديمي والمفكر المتمتع بنفوذ كبير. وباستفاضة يجيب على الأسئلة المطروحة، ويمعن في ذلك إلى أن يتحقق من أنه بلّغ ما يحرص على إبلاغه. ولا يزال تحمسه للأحداث السياسية اليومية، وخصوصا ثقته في مصادر الفكر العقلاني قائمين وثابتين. وما يشغله راهنا هو صعود اليمين المتطرف، والأزمة التي يوجهها الاتحاد الأوروبي. لكنه يرفض مع ذلك أن يستسلم للخيبة التي يمكن أن ننسبها إليه. وكعالم اجتماع هو يُحيل كل هذا إلى الخوف الذي يعصف بالطبقات المتوسطة التي تعيش تدهورا في حياتها المعيشية، وتخشى السقوط الطبقي. وبالنسبة للديمقراطية، هو يرى أن ما يُهددها من مخاطر في الوقت الراهن يعود إلى الثغرات والأخطاء التي وَسَمَتْ بناء الوحدة الألمانية التي لم تمنح لأهالي ما كان يسمى بألمانيا الشرقية الفرصة لكي يواجهوا ماضيهم، لكنه يعتقد أن هذا الانقباض عابر، ولن يلبث أن يزول.
وبالنسبة لصديقه المفكر الفرنسي-الألماني هاينز فيزمان، يعتبر هابرماس «متفائلا»، ابتعد عن النظرة التشاؤمية،، والتي تكاد تكون حتمية لمفكري «مدرسة فرانكفورت»، تيودور أدورنو(1903-1969)، وماكس هوركايمر(1895-1973) التي اكتشفها خلال فترة الدراسة الجامعية من خلال مؤلفهما المشترك الذي حمل عنوان «جدلية العقل». لكن تفاؤله خال تماما من أيّ ذرّة اطمئنان أو سذاجة. وثقته في تأثيرات وتفاعلات «الوطنية الدستورية» (الدستور وإجراءاته القضائية هو الذي يصنع الأمة وليس العكس)، وتعلقه بالمثال الكانطي (نسبة إلى كانط) لإنسانية كونية، ولفرنسي له توجه وصف «سياسة داخلية كونية» قائمة على السلام وعلى تجاوز الحدود القومية، والتي تكون أوروبا راسمة لصورتها، ونموذجا لها، وكل هذا يندرج ضمن متطلبات وضروريات معياريّة يمكن تحقيقها وانجازها، وآفاق انتظار معقولة. وهذا البعد يكون أحيانا مفهوما بشكل شيء، خصوصا من قبل مورورث وضعي فرنسي ينزعُ إلى وصف كل ما يبتعد عن التجربة وعن الأفعال الصرفة والخالصة بالطوباوي.
إن الجمهور الفرنسي يعرف بالخصوص الجانب السياسي في أعمال هابرماس، المتمثلة في مقالاته ودراساته وتحاليله المتصلة بأوروبا، وب «الكلوناج»، والدين، و» النسالة الليبيرالية»، وليس له ألفة مع أعماله الأخرى مثلما هو الحال بالنسبة لمترجميه، وللمتابعين له بانتظام. وقد يعود ذلك إلى أن أسلوب تدخلات هابرماس السياسية تقترب كثيرا من النموذج الفرنسي للمثقف، وتتماثل معه. وفي كتبه «تَكْمُلَةُ موضوع « الصادر عام 2004، يرى الفرنسي فانسان ديكومب أن هناك «تغيرا» في موقف هابرماس إذ أنه «يدافع بحماس عن فلاسفة الأنوار، ويبدي استغرابا من اعجاب الفرنسيين بكل من نيتشه وهايدغر». وأما لفيلسوف الآخر جان-مارك فاري فيعتبر أن كتاب هابرماس الأساسي» نظرية التأثير الاتصالي» الصادر في ترجمة فرنسية عن دار «فايار» عام 1987، لم يكن له سوى صدى باهت في فرنسا. وقد حاول هابرماس أن يكمل كتابه المذكور بمؤلفين آخرين هما :»الحقيقة والتبرير» الأمثلات والاتصال»، إلا» أنه كان قد قطع مع النظرية الماركسية منذ مطلع الخمسينات، ليفتح حوارا مع الفلاسفة الأمريكيين الذين كان قد التقى بهم خلال زياراته المتعددة إلى بلادهم ليبلور نظرية واسعة حول الواقع والمعرفة. ومُستجيبا للنموذج الجديد « المنعرج الألسني» الذي برز في أول الستينات من القرن الماضي، والذي يقوم على أن اللغة وليس الوعي أو الموضوع المعزول، هي التي تحدد الشكل الأقصى لتفسير الواقع، طوّرَ هابرماس فلسفته الأكثر عمقا من خلال كتبه العسيرة لكنها أساسية.
بالنسبة له، على الفلسفة الغربية، خصوصا في جانبها النقدي، وفي الحدود التي ترسمها لنفسها، أن تتواصل وأن تتبلور بحسب «ما بعد الميتافزيقا» كما كان كانط قد أعاد بلورتها مجددا، وكما فعل ذلك خلفاء هيغل من أمثال فيورباخ، وكيركوغرد، وماركس. لكن ليس هناك بالنسبة لصاحب كتاب»الفضاء العمومي»، أمرا أكثر غرابة من فكرة التفوق أو الاستثناء الأوروبي. وعندما يبحث عن مصادر ألمانية بحتة، فإنه لا يفعل ذلك استجابة لنزعة قومية، وإنما لكي ينتقدها، مُدافعا عن موروث جرماني يثمّنُ الحرية. وهذا ما كان قد أكد عليه في العديد من المرات، خصوصا في الخطاب الذي ألقاه عام 2012 بمناسبة حصوله على جائزة هاينريش هاينه الذي عاش منفيا في باريس، والذي لا تزال أعماله تنبض بـ»تمجيد الحقيقة». ويُذكّرُ هابرماس برجل القانون يوليوس فرويبل (1805-1893) الذي كان يرى أن هناك ولادة لـ»جمهورية عالمية مبنية فيديراليا» ، مجسدا بذلك فكرته التي تقوم على ضرورة تجاوز حدود وحواجر «الدولة القومية». كما يُذكر بالفيلسوف رالف فالدو امرسون (1803-1882)الذي كان من أكثر المتأثرين بغوته في الولايات المتحدة الأمريكيةـ وفي الآن نفسه، يشير إلى أن البراجماتية الأمريكية التي تفضل دراسة الفعل عوضا عن المعرفة، والتي غذّت أعماله، كانت قد تأثرت في بداياتها بفلسفة هيغل.
غير أن هذا التحول في النظرة لم يتوفر لهابرماس في البداية، أي في سنوات الشباب. فقد كان والده، ارنست هابرماس رجل اقتصاد بروتستانتي ليبيرالي، لكنه انتسب إلى الحزب النازي ليكون على قائمة المناصرين لهذا الحزب المحررة من قبل القضاء الألماني بعد الحرب الكونية الثانية. أما يورغن فقد انتسب إلى «الشبيبة الهيتليرية» في «غومارباخ»، قرب كولونيا، حيث كانت العائلة تقيم آنذاك. ورغم أنه التحق بالجيش في السنة الأخيرة من الحرب مثل كل أبناء جيله، فإنه لم يذهب إلى أي جبهة من جبهات القتال. وقد رد ستيفان موللر-دوم على الاتهامات التي وجهت إلى هابرماس من قبل خصومه الفكريين والسياسين مُنزها إياه من كل ما يمكن أن يورطه مع النظام النازي إذ أنه بيّن أن عقدة الذنب التي وٍَسمَتْه ووسَمَتْ جيله كانت قد لعبت دورا مهما وأساسيا في اكتشاف جرائم النازية، وفي تطور ونضج الفيلسوف فيما بعد. ثم إن العيب الذي شوّه خلقته منذ الولادة، والمتمثل في الشقوق التي في شفته العليا منحه فرصة ألاّ يرى نفسه في العالم النازي المحيط به، والذي كان يؤكد على جمال وسموّ العرق الجرماني. وكان أساتذته في ألمانيا الناهضة للتو من خرائب الحرب، وفواجعها، سواء كان ذلك في بون، أم في جوتنجن، أم في زيوريخ في سويسرا، جيدين وأكفاء مثل اريش روتاكير (1888-1965) الذي أشرف على أطروحته المخصصة للفيلسوف شيلينغ، أو أوسكار بيكر (1889-1964).كما أن البعض من أساتذته كانوا من قدماء النازيين، متخفين لكنهم لم يعبروا عن توبتهم مثل هايدغر. ويقول هابرماس:» إن سيكولوجية ذلك الزمن عسيرة التفسير. كان علينا أن نقبل بتلك الحقيقة، أي أن نجد أنفسنا في جامعة يُدَرّسُ فيها نازيون قدماء. هكذا كان الأمر، وكان علينا أن نقبل به. ويمكن أن يعيب علينا البعض ذلك، لكنه لم يكن باستطاعتنا أن نقاومه. ولكي نتفهم هذا الوضع، يتوجب علينا أن نضع أنفسنا في زمن اديناور الذي يمتد من أول الخسينيات من القرن الماضي إلى نهاية الستينيات. وبالنسبة للكثير من الألمان، كانت النازية بالتأكيد شيئا بشعا، لكنها كانت قد أصبحت من الماضي. وكل هذا كان قد مضى وانتهى. ذاك كان النمط الفكري الذي عشنا في داخله».
وكان هابرماس من أوائل الذين قاوموا نزعة الحرب، داعيا إلى عدم تسليح الجيش الألماني. حدث ذلك في أواسط الخمسينيات. وفي تلك الفترة، ركز قراءاته على الأدب وعلى كل ما مُحَرّما وممنوعا في العهد النازي. وكان يناقش مع زملائه أطروحات الفلسفة الوجودية، وروايات السويسري ماكس فريش، والفرنسيين الكاثوليكيين جورج بارنانوس، وفرانسوا مورياك، ومسرحيات سارتر وكلوديل. وكان يتابع النهضة السينمائية، ويحرص على مشاهدة الأفلام القادمة من ما كان يسمى بألمانيا الشرقية، خصوصا تلك التي تحاول أن تكشف الواقع المُغَيّب والمسكوت عنه. وأما الفيلم الذي ترسخ في ذاكرته أكثر من كل الأفلام الأخرى فهو فيلم :» القتلة بيننا» للمخرج فولفغانغ شتاودت. وكان أول فيلم ألماني يتم إنجازه بعد الحرب الكونية الثانية.
لكن التأثير الأكبر حدث لما التقى هابرماس مع العائدين من المنفى مثل أدورنو، وكارل لوفيت، وماكس هوركايمر، واكتشف حيوية التفكير الفلسفي التي شهدتها جمهورية فايمار قبل انهيارها امام الزحف النازي عام 1933. وكان ذلك كافيا لكي يقطع مع فلسفة هايدغر التي كان قد انجذب إليها في البداية. لكن علاقته مع هوركايمر الذي كان مهووسا بالديمقراطية، وبمخاطر الحرب الباردة سرعان من اعترتها عواصف هوجاء. فقد كان هوركايمر يرى أن هابرماس يميل إلى الأفكار اليسارية. لذلك ظل هذا الأخير مُقْصيا من «مدرسة فرانكفورت» طوال الفترة التي كانت فيها تحت اشراف هوركايمر، وأدورنو. وكان هذا الأخير قد شرع بعد عودته من المنفى في توجيه الرأي العام من خلال برامج تفلزية واذاعية، حاول أن يلعب فيها دور المربي الجديد، مستعينا بأدوات الفلسفة الماركسية وبعلم النفس. وعندما التقى به هابرماس في عام 1956، لم تكن له هيئة المثقف، بل «كان يتكلم مثل عازف البيانو». وبالنسبة للجمهور العريض، كانت أفكاره غامضة وعصية عن الفهم. كما أنه كان يظهر اهتماما كبيرا بالفنون التشكيلية وبالموسيقى. وفي تلك الفترة كان الاحتكاك بالمنفيين في ألمانيا يعني الانفتاح على من هم «نظيفون سياسيا». وكان على هابرماس أن يناهض بشدة تلك الفترة التي تقول بإن النازية انتهت. لذلك شرع في الحفر في الذاكرة، وفي الواقع لكي يثبت عكس ذلك(…) لهذا السبب، يجدر بنا أن نعود إلى فترة تكوينه الفلسفي لكي نفهم لماذا يظهر عالم الاجتماع هذا وكأنه «المفكر المضاد» إذ أنه يكون بلا شفقة وبلا رحمة تجاه أي اثر من آثار نيتشه التي تَقَصّاها في كتابه «الخطاب الفلسفي للحداثة»، وباحثا عنها في قلب الفلسفة الفرنسية متمثلة في ميشال فوكو، وفي جاك دريدا رغم أنه كان قريبا منهما سياسيا(…)
إن أعمال هابرماس المركزة على الحوار، وعلى الدليل والحجة، ظلت إلى حد الآن هدفا للانتقادات وللخلافات حتى ولو اعترف أصحابها بأنها مهمة وأساسية. وهو يركز الآن اهتماماته على تأثير الدين على المجتمعات في جميع أنحاء العالم. وهو يقول :» لا…أنا لم أصبح متدينا مع تقدمي في السن فأنا سأظل علمانيا حتى النهاية… لكنني لا أرغب في أن أكون حياديا وغير نزيه تجاه التقاليد الدينية». إن عقيدته الوحيدة هي عقيدة اليقظة، وعقيدة اللحظة التي ننفتح فيها على مستقبل محتمل فيه تتواصل الحياة حتى بعد حدوث كارثة…وهذا الصفاء الصباحي يمكن أن نسميه «اللحظة الهابرماسية».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** نشر هذا المقال في الملحق الأدبي لجريدة»لوموند» الفرنسية بتاريخ 23فبراير شباط 2018