يبدو أن الشاعر المرموق أدونيس اعتاد وعودنا مع كل نتاج ابداعي جديد له على العودة الى الاجتهاد في فك التباس أطروحاته التحديثية إذ لا يهن ولا يتهاون في تطوير وتجديد أفق هذه الاشكالية, فها هو في ديوانه الجديد.
(الكتاب- الأمس الآن المكان, الآن- مخطوطة تنسب إلى المتنبي, يحققها وينشرها ادونيس)(1) يدفع الكتابة الشعرية الى أقصى اختراق حدودها وتجنيسها الابداعي إذ نشعر في هذا الكتاب اننا (أمام مسرح تاريخي- انطولوجي- يقف عليه راو, ساردا وقائع وأحداثا بلغته الخاصة, ثم يأتي شخص ثان يعلق على تلك الأحداث والوقائع من منظور استدلالي مستقل. أخيرا سيكون هناك شخص ثالث, سيقبع خلف هاتين الشخصيتين وراء الكواليس, قاطعا سير المسرحية/ الرواية بتدخله المتواصل في أحداثها المتسلسلة, وذلك كي يفسر ويشرح ويفك ما عجم وغلق واستتر من أقوال الشخصيتين السابقتين بكيفيته الخاصة) (2), هذا يعني أن ادونيس يؤسس لمعالم شعرية تتخذ من البنية الدرامية مجالا حيويا لتشكيل مداها وتحويل المنظومة المعرفية التي يزجها في متن المادة الشعرية الى بنية فنية جديدة يدفعها إلى مخيلة السرد الدرامي للذات والموضوع والتاريخ الذي يحول أحداثه الى مرآة يحاكم فيها سيرورة وجوده.
(هوذا أمامك باب التاريخ
اخلع نعليك
يمينا يسارا استقم
من شيء يشبه القبر تبدأ الحكاية ليس صعبا أن نتخيل قبرا يتكلم وحيدا قبرا, آخر ينخرط في حوار آخر ينتمي الى جوقة- متن-
هل التاريخ تجاعيد في وجه الفجر?
– هل التاريخ
– مسرح دمي
– وفقاعات?- حاشية)(3)
هكذا يقيم ادونيس تفاعل عناصر البنية الدرامية في خطابه الشعري من خلال (التفاعل بين خطاب الرواية وخطاب الذات بين مشاهد القتل عبر تاريخ عريض وحالات المنفى الداخلي, يصعب ان نقرأه في ضوء مفهوم القصيدة)(4).
ما لم تتحول الى مسرحية تطل بوعي نافذ على شرفات الزمن فتسير أبعاده بأدائها الدرامي المتملك لجهات ابداعية مفتوحة لا يفتر سعيها في ايقاظ الروح المفتونة بكيمياء ميتافيزيق الوجدان الشرقي وحالات توتره باشراقاته الجياشة التي تنجز نبوءتها في اللغة المعرفية العابرة الى تخوم الفن الشعري الجديد, الذي يريد من خلاله ادونيس أن (يسير الخطاب في الكتاب وفق منطق نقل الكتابة من الحنين الى المأساوي, الذي يحكم العمل, يظهر في كل من خطاب الرواية وخطاب الذات معا).(5)
حيث تجد الروح الجديدة منشؤها في جملة علائق لغوية وصورية وخروقات فلسفية هي البعد الرئيسي لشعرية الديوان/ الكتاب, فالفلسفة فيه (تتدفق من مقاطع شعرية عديدة في صورة تحريض للقارئ على طرح الأسئلة الفلسفية الصعبة أو صورة استنفار لحسه الفلسفي النقدي في صورة أفكار فلسفية) (6) ينقلها الحوار الدرامي الى أفق للمخيلة الشعرية المسائلة:
(أتنور: هذا المدى كتل من شرر
تتفتت بين صدور البشر أتراها الحياة ضياء- بنو آدم يطفئون
شراراته?
كي أظل بعيدا, غريبا
اخذتني إلى بيتها كلمات
وسقتني إكسير أعشابها
زمن- جالس
مثل طفل على ركبتي , ليقرأ ما يكتب الفضاء
في دفاتر مسروقة
من جيوب السماء) (7)
هكذا تتوارى الفلسفة في بنية الشعرية محركا لتوليد مطيتها بأجنحة الروح التي تصير لغة عابرة لأسرار الجمال الكوني الذي لا تطال ذرا وضاءته إلا بالأسئلة المتناغمة بتخيلاتها الفريدة في طوفانها في جهات الزمن بحضوره المكاني الذي يمنحه جمالية إثارته للتاريخ الذي يكون الذات شعريا من خلال حراكها الدرامي بين الداخل والخارج بين الزمان والمكان بين الروح والمادة بين التاريخ وتخيله:
(تاريخي بدء كل غريب بدء
حولي, هذه اللحظة, موج
لا تعرف كيف تسافر فيه
سفن المعنى
نحو الأشياء, والأسماء
كن, يا جسدي, نورا
وتبدد
في هذي الأرجاء) (8)
إنها مدارات صيرورة الذات في التحول من التاريخ نحو اكتناه الآخر والتجلي به عبر توقيعه درامية مقتصدة البناء رشيقة الانسياب الذي يتحرك ايقاعيا على صهوة سؤال فلسفة سابر لمعدن سر المحلوم الصوفي الدائب التحول عن استقرار يمركز ماهيته الملموسة لأنه ماهية ضوئية تتعرف على جباله المخيلة فقط ولكنها لا تطال شموخها إلا باستعادتها على هيئة أخرى تلك هي دراما الامتاع الذي لا يجسد إلا في مرايا الغوايات الأصيلة في الانسان منذ تفاحته الأولى التي أظمأته رائحتها فلم يشرب إلا السراب ان هذا السمو المؤسطر لهيئة الروح التي يستخرجها الخطاب الشعري الادونيسي من مادتها التاريخية يجسد بلاغة إثم التحليق عاليا عاليا في فضاء الأسئلة الوجودية الكونية التي يؤول الشاعر معنى وجوده فيه:
(دوار الشمس نقائض علم
ونقائض قول:
كم أشبهه
لكن حياتي مثل كلامي تأويل.
كيف هل قلت إني أهذي?
ربما ربما
ألهذا
فاتني أن أقول الحجر
جالس- يتقيأ وجهي, ألهذا
فاتني أن أحيي هذا الصباح الذي يتلبس حزني
وأحيي الشجر) (9)
يسعى الحوار الدرامي الذي تبنى عليه شعرية الأسئلة المعرفية والفلسفية في كتاب ادونيس إلى اجتراح بلاغة فنية جديدة للقصيدة إذ لم تتخل القصيدة المعاصرة في بنائها الحديث للشعرية عن البلاغة بمعناها الجمالي إنما راحت تستحدث أساليب جديدة مستمدة من فنون أخرى كما رأينا في كتاب أدونيس الذي أقام بلاغة يقظة السرد حينا والدراما أحيانا أغلب فالبلاغة عنده انفتاح للمعنى العميق للبلاغة- الامتلاء الجمالي/ التأثيري/ التعبيري أي بلوغ الشيء ذروته مما يهيئ له قدرة التبليغ البالغ أي تحقيق امتلاء تعبيري جمالي للمتلقي وإدهاشه فالدراما في قصيدة أدونيس حالة ايقاظ متوتر للشعرية عبر يقظة التخييل وجمالياته إنها إيقاظ الحواس والحساسيات للامتلاء ببلاغة الجمال الشعري الذي يؤدي دوره بهذا التبليغ المدهش للابداع الشعري:
(قل لماذا تخاف من القرمطي?
أهو السيف? لكن سيف الخليفة أمضى
أهو البطش? لكن بطش الخليفة أدهى
أم تخاف من الموت? انظر حولك- في الماء, في
الخبز- خير وأولى
أن تخاف من الفقر, وافرح
لأبابيل حمدان قرمط في
عصفها البهي) (10)
تنشأ بلاغة الدراما هنا من خصوبة المخيلة التي توجه التاريخ الى حديقة للانزياح الادهاشي لتأويل الأحداث الذي يفجر فيها حياة تنشر أنوار مخيلتها التي توقظ تخيلنا وحواسنا الجمالية هكذا تتمايز بلاغة الحوار الدرامي في بناء قصيدة أدونيس بأنوارها المشرقة على آفاق ابداعية تخصب النص عبر تحريره لإشراق التفاعل الشعري الداخلي والخارجي فيعمل على تبيئة النص وفق مستويات ذاكرة المتلقي ثقافيا وفنيا فجعل الدراما البنائية في القصيدة بديلا للبلاغة القديمة وفضاء جديدا لاعادة انتاجها الجمالي عصريا مما يجعلها تنسجم مع الكون الجمالي المسجل لزمنه الراهن وهكذا يحقق أدونيس في توجهه الشعري الجديد المعنى الفني والجمالي والابداعي في نصه لعنوان ديوانه (الكتاب- الأمس الآن المكان, الآن- مخطوطة تنسب إلى المتنبي, يحققها وينشرها أدونيس).
الهوامش
1 – أدونيس: الكتاب- الأمس الآن المكان, الآن- مخطوطة تنسب الى المتنبي, يحققها وينشرها أدونيس, ط1, دار الساقي, بيروت لبنان, 1995.
2 – رياض العبيد: السيرة الشعرية للحاكمية العربية في كتاب أدونيس, مجلة فصول, المجلد السادس عشر, العدد الثاني, خريف 1997, ص277.
3 – أدونيس, الكتاب, ص167.
4 – محمد بنيس: أدونيس ومغامرة الكتاب, مجلة فصول, المجلد السادس عشر, العدد الثاني, خريف 1997, ص268.
5 – محمد بنيس: أدونيس ومغامرة, الكتاب, مجلة فصول, المجلد السادس عشر, العدد الثاني, خريف 1997, ص269.
6 – عادل ضاهر: قراءة فلسفية للكتاب, مجلة فصول, المجلد السادس عشر, العدد الثاني, خريف 1997, ص287.
7 – أدونيس: الكتاب, ص23.
8 – أدونيس: الكتاب, ص193.
9 – أدونيس: الكتاب, ص316- 317.
10 – أدونيس: الكتاب, ص69
خالد زغريت شاعر من سوريا