لـ،هاروكي موراكامي
ترجمة: علي الضويلع *
أهلاً، كيف حالكِ؟
هذا الصباح ذهبت إلى حديقة حيوان في الحي لأشاهد الكناغر. ليست حديقة حيوان كبيرة جداً، لكنها تحوي كل الحيوانات المعتادة، كل شيء من قرود الغوريلا إلى الأفيال. وعلى هذا فإذا كنتِ تسعين لمشاهدة اللاّما أو آكل النمل، حينئذ يجدر بك ألا تذهبي إلى هناك. فلا يوجد أي منها. ولا غزلان إمبالا أو ضباع أيضا. ولا حتى فهد.
عوضاً عن ذلك، هنالك أربعة كناغر.
أحدها كان جرواً، ولد للتو قبل شهرين مضيا. وكان هناك ذكر وأنثيان. لا أملك أدنى فكرة بشأن أي نوع من التنظيم العائلي كانوا عليه.
في كل مرة تصادف فيها عيناي كنغراً، أجد أنه من الغريب التفكير بأن أكون واحداً منها. من أجل ماذا يقفزون في أرجاء مكان خاوٍ كأستراليا؟ فقط لتُصطاد بآلة صيد صعبة الاستخدام كالخذُوْف (المترجم: آلة الـ (Boomerang) استخدمت في استراليا كأداة للصيد في عصور ما قبل التاريخ).
أنا في الحقيقة لا أعلم.
لكن، حسناً، هذا في الحقيقة لا يهم، ليس أمراً ذا بال.
على أي حال، رؤية الكناغر جعلتني راغباً في أن أبعث إليكِ برسالة.
قد تظنين أن ذلك غريب قليلاً. “لم رغبت في أن تبعث لي برسالة بعد أن شاهدت الكناغر؟ ماذا يعني الكناغر بشأني؟” ستسألين عن ذلك. لكن رجاءً لا تقلقي بشأن هذا. ليس أمراً مهماً. الكناغر كناغر وأنتِ أنتِ.
ما أعنيه هو ما يلي.
هنالك ست وثلاثون خطوة إجرائية بين الكناغر وبينك، وعندما أتبعها واحدة تلو واحدة بالترتيب الصحيح، أجدها توصلني من الكناغر إلى حيث المكان الذي أنتِ فيه. هذا كل ما في الأمر. حتى لو حاولت أن أشرح لك كل هذه الخطوات كل على حده، لا أظنك قادرة على أن تفهمي وعلاوة على هذا فما عدت أتذكرها حتى.
لأن هناك ستة وثلاثون منها!
لو حدث خطأ في أي واحدة منها، لم أكن لأتمكن من إرسال هذه الرسالة إليك، عوضاً عن ذلك؛ سأكون بالخطأ على ظهر حوت عنبر في المحيط المتجمد. أو قد أشعل النار في كشك بيع السجائر محلي.
مسترشداً بحزمة الست وثلاثين مصادفة، هكذا، هأنذا أبعث لك بالرسالة.
الأمر بأكمله غريب جداً.
حسناً، دعيني أبدأ بالتعريف بنفسي.
أنا في السادسة والعشرين، وأعمل في قسم مراقبة البضائع في المتجر الكبير. هذه –كما أعتقد أن بوسعك أن تتصوري بسهولة- وظيفة فظيعة مملة. بداية، نتحقق من البضائع المشتراة بواسطة إدارة المخزون لنرى ما إذا كان هنالك أي بضاعة معيبة. نقوم بذلك لضمان ألا تنشأ علاقات ودية بين إدارة المشتريات وبين تجار الجملة، لكن هذا كله ينجز على مضض. نجلس هناك ونتجاذب أطراف الحديث بينما نعدل من إبزيمات أحذيتنا، أو نتناول قضمات من الحلوى، مجرد أشياء من هذا القبيل. هذا ما يعنون بمراقبة البضائع.
ووظيفة أخرى، في الحقيقة وظيفتنا الرئيسية، وهي الاستجابة للشكاوى التي تردنا من الزبائن عن بضائعنا. مثلا، زوج جوارب نسائية طويلة فيهما تمزقات، أو لعبة دب بنابض سقطت من على الطاولة ولم تعد تعمل بعد ذلك، أو معطف استحمام انكمش ربعه بعد غسله في غسالة الملابس، هذه الأشكال من الشكاوى.
حسنا، قد لا تكونين على دراية بذلك، لكن عدد هذه الشكاوى كبير على نحو محزن. إنها كثيرة حتى من حيث أن أربعة موظفين، يسعون خلفها طوال الوقت، وليس بوسعهم متابعتها. بعض الشكاوى تبدو مبررة، بعضها مبالغ فيه. وبعضها من الصعب تصنيفه لأي من المجموعتين.
من أجل التسهيل نصنفهم إلى ثلاث فئات، أ، و ب، و ج. وفي وسط الغرفة هنالك ثلاثة صناديق معلمة بـ أ، و ب، و ج، نرمي الرسائل فيها. نسميها بـ”الخطوات الثلاثية للنقد المنطقي.” بطبيعة الحال فإن هذه نكتة داخلية في المكتب. رجاءً لا تنزعجي منها.
عل كل حال، التصنيفات الثلاثة هي كما يلي:
أ. شكاوى منطقية. وهي شكاوى يجب على شركتنا تحمل مسؤوليتها. فنأخذ علبة حلوى إلى منزل الزبون، ونستبدل البضاعة بشيء مناسب.
ب. حالات ليس بالوسع لوم الشركة عليها، سواءً معنوياً، أو قانونياً، ولا بحسب الممارسات التجارية المتعارف عليها. ومن أجل تجنب الإضرار بسمعة المتجر، وتجنب أي مشاكل غير لازمة، على كل حال، نتخذ معها الإجراء المناسب.
ج. حالات يكون ظاهراً فيها أن الزبون جانب الصواب، فنشرح الوضع ونطلب منهم سحب الشكوى.
الآن، بشأن شكواكِ التي وصلتنا في ذلك اليوم، وبعد تفحص دقيق، نصل إلى النتيجة التي تشير إلى أنها من التصنيف الذي يجدر أن يقيم ضمن الفئة ج ، والسبب –أنصتي جيداً رجاءً، تمام؟-
1. التسجيلات التي تشترى 2. بعد فوات أسبوع 3. وبلا إيصال، لا يمكن استبدالها. أينما ذهبتي في هذا العالم ليس بوسعك استبدالها. هل تفهمين ما أقول؟
هذا ينهي توضيحي الرسمي.
إن شكواك قد رُفضت.
على كل حال، لو نأى المرء بنفسه عن الموقف الرسمي –وهو أمر أفعله دائما- فإن رد فعلي لشكواك –والذي كان ابتياعك تسجيلات برامز بدلاً عن ماهلر- هو أحد بواعث الشفقة الخالصة. هذه ليست كذبة. وهذا على التحديد جواب لماذا عوضاً عن إرسال مذكرة مكتبية روتينية، أرسل هذا النوع من، بمعنى معين، رسالة حميمية.
حتى أصدق معك، حاولت مراراً طوال الأسبوع أن أكتب لك رسالة. أنا جد آسف، لكن وفقاً للممارسات القياسية التجارية، ليس بوسعنا استبدال تسجيلاتك. لكن شيئاً في رسالتك أثر بي، وشخصياً، كيت وكيت…. هذا النوع من الرسائل. لكنني لم أستطع أبداً كتابتها جيداً. ليس لأنني ضعيف في الكتابة، إن الأمر فقد هو أنني عندما قررت أن أكتب، لم يسع الكلمات أن تخرج. إنها الكلمات التي لم يكن بوسعها أن تخرج على نحو واضح، إنه أمر غريب.
لذا فقد قررت ألا أرد. لو كنت سأقوم ببعث رسالة غير مكتملة، سيكون من الأجدر ألا أرسل أي شيء. ألا تعتقدين ذلك أيضا؟ أنا أعتقد ذلك. إن رسالة ناقصة مثل جدول قطارات غير منتظم.
لكن في هذا الصباح، وأمام سياج الكنغر، خضت تراكم الست وثلاثين مصادفة ونزل علي الوحي. ماذا حصل، بتعبير آخر، كان نقصاً نبيلاً.
ماذا، قد تتساءلين، ما هو النقص النبيل؟ -وحسناً سألتِ. نقصاً نبيلاً، حسناً، لتبسيط الموضوع، قد يكون شيئاً كمثل أن أحداً متأثراً بفعل ما جرى عليه ينتهي به الأمر متسامحاً مع شخص ما تسبب بحدوث ذلك له. أنا أسامح الكناغر، الكناغر تعفو عنك، وأنت تسامحينني- هذا النوع من الأشياء، على سبيل المثال.
هممم.
هذا النوع من الدورات، على أي حال، ليس ثابتاً؛ في يوم ما قد لا ترغب الكناغر في مسامحتك. لكن لا تغضبي على الكنغر فقط بسبب ذلك. إنه ليس ذنب الكنغر أو ذنبك. وهو ليس ذنبي أنا. الكنغر، أيضا، لديه أسبابه المعقدة جداً بهذا الشأن. من بوسعه أن ينتقد كنغراً؟
إن كل ما بوسعنا فعله هو القبض على اللحظة. مستمسكين باللحظة والتقاط صورة تذكارية. في الصف الأول من اليسار، أنتِ، ثم الكنغر،ثم أنا.
استسلمت بشأن كتابة الرسالة. مهما فعلت لم تكن لتأتي صحيحة. مثلا، لو كتبت كلمة “مصادفة،” ما يمكنك أن تشعري به حيال شكل هذه الكلمة قد يكون مختلفاً تماماً – أو حتى العكس- مما سأشعر به من ذات الشكل. أظن أن هذا مجحف جداً. لقد خلعت سروالي الداخلي، لكنك فتحت ثلاثة أزرار فقط من كنزتك.
لذا فقد ابتعت شريط كاسيت، وقررت تسجيل الرسالة لكِ مباشرة.
(مصفّراً، ثماني نوتات من “موسيقى مسيرة الجنرال بوجي العسكرية.”)
تجربة، هل تسمعينني؟
لا أدري كيف ستشعرين عند استلامك لهذه الرسالة، أقصد الشريط. لا أستطيع حتى التصور. ربما ستشعرين بضيق شديد حياله. لماذا؟ –لأن رداً على رسالة شكوى من زبون يسجلها موظف قسم مراقبة البضائع على كاسيت – وهي رسالة شخصية – ويرسلها، أمر غير قانوني البتة، واعتماداً على تصورك في ظني، فهو حقيقة شيء غبي ليرتكب. لو لم يشعرك الأمر بالضيق، وأعدتِ إرسال الشريط إلى رئيسي، فإن هذا سيضعني في وضع حرج جداً بالمكتب.
لو رغبتِ في فعل هذا، رجاءً قومي بذلك.
لو حدث ذلك، ربما سأغضب أو أكرهك.
أترين، نحن 100% على قدم المساواة. هكذا، فإنني أحمل حق إرسال رسالة إليك، ولديك الحق في جعل مقاصدي للعيش في خطر.
هذا صحيح، أليس كذلك.
نحن متساويان، رجاءً تذكري ذلك فحسب.
أوه، حسناً، نسيت أن أخبرك بشيء، لقد أسميت هذه الرسالة “بيان الكنغر.”
كل شيء يحتاج لاسم.
دعينا نقول أنك تحتفظين بمذكرة يومية، عوضاً عن كتابة شيء طويل مثل “اليوم جاء جواب شكواي من رئيس مراقبة البضائع في المتجر الكبير،” بوسعك كتابة “اليوم جاءني بيان الكنغر” وحسب. وإنه لاسم رائع، ألا تظنين ذلك؟ من على بعد في الأفق العريض، جاءك كنغر وهو يثب ببريد في جرابه وأنت في طريقك.
راب راب راب (صوت طاولة تنقر.)
هذه طرقة.
طرقة طرقة طرقة … أترين؟
لو كنتِ لا تريدين فتح الباب، ليس عليك ذلك. في كلا الحالين هو من حقك. لو لم ترغبي بالاستماع بعد الآن، رجاءً أوقفي الشريط وارميه في سلة المهملات. أنا أريد أن أقعد بالخارج لدى بابك وأتحدث لنفسي لبعض الوقت فحسب، هذا كل ما في الأمر. لا أملك أدنى فكرة فيما لو كنتِ تستمعين لي أم لا. ولأنني لا أعرف، إذا فالأمر لا يعني شيئاً في الحقيقة سواءً استمعت أم لا، أليس كذلك؟ ها ها ها.
حسناً، دعينا نجرب.
مع ذلك، قضية النقص إياه، مزعجة فعلاً. لم أكن أظن بأن الحديث أمام لاقط الصوت هكذا بدون أي نص أو خطة سيبدو صعباً جداً. شعرت بالضبط كأنني واقف في وسط صحراء أرش الماء حولي من كأس صغير. ليس هنالك ما تراه وليس هناك ما يمكنك أن تعتصم به.
إذا فقد بدأت الحديث مواجهاً الإبرة التي تشير إلى مقياس وحدة الصوت. تعلمين ماهو مقياس وحدة الصوت (VU)، أليس كذلك؟ إنه ذاك الشيء بإبرة تهتز وتعلو تبعاً لمقدار الصوت. لا أدري إلى ماذا يرمز حرف (V) و حرف (U)، لكن مع ذلك، إنهما هنا ليظهرا الإشارة إلى حديثي.
حسنا …
بالمناسبة، هنالك مجموعة قيم بسيطة.
بمعنى آخر، (V) و (U).
هذه الـ (V) و الـ (U) متشابهان، حسناً، فريق كوميدي. لو لم تكن (V)، لكانت (U) لو لم تكن (U)، لكانت (V). ياله من عالم جميل. ما تحدثت عنه لا يشكل فارقاً بالنسبة لكليهما. كل ما يهمها هو أن يُظهراً القدر الذي يجعل الهواء يرتعش بفعل صوتي. هذا كل ما هنالك. بالنسبة لهما، فلأن الهواء يرتعش، فأنا موجود.
أليس عظيماً؟
عندما أنظر إليهما، أشعر بأني أريد أن أقول أي شيء، فقط للاستمرار في الحديث.
تنهيده…
هذا يذكرني بأمر. في ذلك اليوم رأيت فيلماً حزينا حقاً. كان عن ممثل هزلي لا يضحك أحد عليه، مهما روى من نكت.
أتفهمين؟ ولا شخص واحد ضحك.
التحدث أمام هذا اللاقط هكذا، جعلني فجأة أتذكر الفيلم.
إنه أمر غريب حقاً.
نفس السطور التي يذكرها أحد ما تضج بالفكاهة، لكن عندما يرويها شخص آخر لا تكون مضحكة البتة. عجيب، أليس كذلك؟ فكرتُ بهذا الشأن، وشعرت بأن الفارق ربما يمكن بطريقة ما، طبيعياً. أعني، كما تعلمين، تكون أطراف قنواتهم الصوتية شبه الدائرية محنية أكثر قليلاً من بقية الأشخاص، شيء من هذا القبيل.
يخطر ببالي أحياناً كم سأكون سعيداً أن تكون لدي هذه القابلية. أشياء أجدها دوماً طريفة تجعلني أستلقي على الأرض، وبمجرد أن أنقلها للآخرين لا تثير أدنى اهتمام لديهم وتعتبر مملة بشكل مفاجئ. أشعر كما لو أنني أصبحت رجل الرمل المصري. وقبل كل شيء…
أتعرفين عن رجل الرمل المصري؟
سأخبرك، رجل الرمل المصري ولد أميراً في مصر. منذ عهد بعيد مضى، عهد لم يكن فيه أهرامات ولا أبو الهول على الإطلاق. ولأنه كان ذا وجه قبيح –وجه قبيح جداَ- فلقد نفاه الملك وتركه في أعماق الغابة. وما حدث لاحقاً هو أنه تربى في حجر الذئاب أو القرود ربما. هكذا قصة كما تعرفين. وبعد ذلك ولسبب ما أصبح رجل الرمل. وأي شيء يلمسه بيده يتحول إلى رمل. النسيم يتحول إلى عواصف رملية، الجداول تصبح تيارات رملية، الرياض إلى صحاري. هذه قصة رجل الرمل. أسمعتِ بها؟ لم تسمعي بها، صحيح؟ هذا لأني اخترعتها. ها ها ها.
على كل حال، الحديث معك بهذه الطريقة يجعلني أشعر أنني أصبحت مثل رجل الرمل. كل ما ألمسه يتحول إلى تراب، تراب، تراب، تراب، تراب، تراب ….
…بطريقة ما تحدثت كثيراً عن نفسي. لكن إذا فكرت بذلك، ليس بالوسع حلحلة الموضوع. ذلك لأنني لا أعرف أي شيء عنك. كل ما أعرفه عنك هو اسمك وعنوانك، فقط. لا أملك أدنى فكرة عن عمرك، كم تكسبين في العام، كيف هو شكل أنفك، أأنتِ سمينة أو نحيفة، متزوجة أم لا. لكن هذه الأشياء ليست مهمة. ربما كان من الأحسن ألا أعرف. أريد أن أتعامل مع كل شيء ببساطة، أبسط ما يكون، بطريقة واحدة، ميتافيزيقياً.
ما أعنيه هو، لدي هنا رسالتك.
وهذا كافٍ بالنسبة لي.
تماماً مثل عالم حيوان يستطيع تقدير مقدار الغذاء لفيل من خلال جمعه لفضلاته في الغابة، سيعرف أنماط السلوك، والوزن، والحياة الحميمية، وهكذا فبناءً على رسالة واحدة من شخص ما أستطيع الشعور بوجود هذا الشخص-أنتِ. بطبيعة الحال شكل الوجه، نوع العطر، إلخ.، هذا النوع من الأشياء غير النافعة والمتروكة جانباً، ما يعني حقا هو الوجود-بحد ذاته.
رسالتك كانت آسرة بحق. الأسلوب، خط اليد، الترقيم، الفقرات، الخطاب – كل شيء كان خالياً من العيوب. ليس خارقاً. كان خالياً من العيوب فحسب.
في كل شهر أقرأ أكثر من 500 رسالة، لكن بأمانة هذه المرة الأولى التي أقرأ فيها رسالة مهيِّضة. سرقتُ الرسالة معي إلى البيت، وقرأتها مراراً وتكراراً. ثم حللتها.
بما أنها كانت رسالة قصيرة، لم يكن في الأمر مشكلة.
وجدت الكثير عبر تحليلها. بداية، عدد الفواصل المرهق. في كل فقرة كان هنالك 6.36 فاصلة. الكثير، ألا تظنين ذلك؟ هذا ليس كل ما في الأمر. الطريقة التي استخدمت بها الفواصل كانت حقاً أبعد عن تطبيق كل القواعد.
رجاءً لا تظنين أنني أسخر من كتابتك،. لأنني ببساطة متهيض.
متهيض.
ليس فقط بسبب الترقيم. كل عناصر رسالتك –حتى لطخة الحبر الوحيدة- أثارتني وهزتني.
لماذا؟
لأنني، في التحليل النهائي، في هذه الأسطر في رسالتك، لم تكوني هناك. هنالك قصة. فتاة –امرأة – ابتاعت التسجيلات الخطأ. مع ذلك كان لديها الشعور بأن النغمات في التسجيلات كانت خطأ، واستغرقها الأمر أسبوعاً قبل أن تدرك أنها ابتاعت التسجيلات الخطأ. وإن موظف المبيعات لن يستبدلها لها، لهذا أرسلتْ هذه الشكوى.. هذه هي القصة.
كان علي أن أقرأ رسالتك ثلاث مرات قبل أن أفهم تلك القصة، لأن رسالتك كانت مختلفة بالكامل عن الرسائل الأخرى المرسلة إلينا. لشرح الأمر ببساطة، لا يوجد أي شكوى في رسالتك. ولا عواطف حتى. الشيء الوحيد الموجود هو- القصة.
أخبريني بالحقيقة، كنت قلقاً قليلاً. لم أتمكن من معرفة ما إذا كان قصد رسالتك الشكوى، الاعتراف، الإعلان، أو تأسيس نوع من النظريات. جعلتني رسالتك أتذكر صورة في الأخبار عن جريمة قتل. ليس بالخبر عنوان رئيسي، ولا مقالة، فقط صورة. صورة التقطت لجثث ملقاة على جانب طريق بمكان ريفي ما.
لم أتمكن من معرفة ما تريدين. رسالتك مثل متاهة مجمع نمل على تلة، لا توحي بأي دليل بشأن البداية. شيء بديع.
بانغ بانغ بانغ … جريمة قتل.
هذا صحيح، دعينا نبسط الأمور أكثر. لنجعلها بسيطة جداً جداً.
ما أعنيه هو، أن رسالتك تثير رغبتي.
هذا ما أعنيه.
أريد أن أتحدث عن العلاقات الحميمة.
طق طق طق.
طرقة.
إذا لم تكوني مهتمة، رجاءً أوقفي الشريط. سأتحدث إلى مقياس وحدة الصوت لوحدي. بلا بلا بلا.
حسناً؟
الأقدام الأمامية قصيرة وفيها خمس أصابع، في حين أن الأرجل الخلفية الضخمة على نحو كبير وفيها أربع. الأصبع الرابعة فقط مكتملة. الأصبعان الثاني والثالث صغيران جداً وملتصقان.
… هذا وصف أقدام الكنغر. ها ها ها.
حسناً إذاً، عن العلاقة الحميمية.
منذ أن أخذت رسالتك معي إلى البيت، كل ما أفكر فيه هو أن أكون بقربك. في السرير معك وأنت بجانبي، عندما أستيقظ صباحاً أجدك لا تزالين هناك. عندما أستيقظ أجدك مستيقظة وأستطيع سماع صوت سحاب الرداء وهو يغلق. لكني …، هل تعلمين أن لا شيء لطيفا يشبه سحاباً في رداء … أُبقي عيني مغلقتين وأتظاهر بالنوم. لا أستطيع أن أراك. وأنت تمشين عبر الغرفة وتختفين إلى داخل الحمام. حينها أخيراً أفتح عيني. آكل وأذهب إلى العمل.
الليل سواد حالك- سأضع ستائر خاصة على النوافذ لجعل الغرفة تبدو مظلمة أكثر- وبالطبع لن أستطيع رؤية وجهك. لا أعرف عمرك ولا وزنك، ولا أي شيء. لذا لا أستطيع لمس جسدك بيدي.
لكن، حسناً…لا بأس.
حتى أقول الحقيقة، إنه سيّان عاشرتك أم لا.
…لا، ليس الأمر سيان.
دعيني أفكر للحظة.
حسنا- هذا ما أعنيه. أريد أن أكون بقربك، لكن لا بأس إن لم نكن. ما أعنيه هو أنني أريد أن أكون في وضعية صحيحة بقدر الإمكان. لا أريد أن أجبر الناس على القيام بأي شيء أو أتركهم يجبرونني. يكفي أن أستشعر وجودك بجانبي، بجعل علامات ترقيمك تجري وتجري من حولي.
هل تفهمينني؟
ما أعنيه هو ما يلي.
في بعض الأحيان يصعب علي جداً ان أفكر في شأن الفردانية. بمجرد أن أقوم بذلك أشعر كما لو أن جسمي سينفصل إلى جزئين.
لنأخذ، على سبيل المثال، عندما أقرأ وأنا على متن القطار. هنالك عشرات من الناس على متن القطار. أساساً هؤلاء تقريباً هم “الركاب”. “الركاب” يُنقلون من “أيواما إيتشوم” إلى “آساكا ميتسوكا”. لكن في بعض الأحيان أشعر بصعوبة تقبل وجود كل راكب. ماذا يمكن أن يكونه هذا الشخص، ماذا يمكن أن يكونه هذا الشخص، لماذا يركب من على خط “كينزا”؟ وهكذا يكون الأمر كثيراً عليَّ. بمجرد أن أشعر بعدم الارتياح هذا فليس لهذا الشعور نهاية. موظف المكتب ذاك بدأ يغدو أصلعاً على جانبي جبهته، أليس هو كذلك…الشعر الذي على ساق الفتاة بات خشناً أكثر، أتساءل فيما لو كانت تحلق كل أسبوع…لماذا يجلس ذلك الشاب على غير استقرار مرتديا ربطة العنق بألوانها المتضاربة؟…هكذا. وفي النهاية يبدأ جسدي بالتململ من جديد وأود لو أقفز من القطار. في ذلك اليوم-غالباً ستضحكين من ذلك- كنت على شفا الضغط على مكابح الطوارئ بجانب الباب.
لكن لأنني فقط أخبرتك بهذا، لا تعتقدي أنني حساس أو قلق على نحو ما. أنا لست حساساً أو قلقاً على الإجمال. أنا جد عادي، موظف مكتب عادي، من النوع الذي ترينه كل يوم، والذي يعمل في قسم مراقبة البضائع في المتجر متعدد الأقسام. وأنا أحب قطار الأنفاق.
ليس ذلك لأن لدي مشاكل في العلاقات الحميمية حتى. لدي صديقة، ومنذ حوالي سنة مضت نحن ننام سوية مرتين في الأسبوع، ترتيب كلانا راضٍ به تماماً. لكني أحاول جاهدا ألا أفكر أعمق من اللازم بها. ولا أفكر بالزواج، أيضا. لو تزوجنا، أنا متأكد من أنني سأبدأ بالتفكير بها بعمق، ولا أملك أدنى ثقة أننا سنتمكن من الاستمرار بعد أن نبدأ. هكذا هي المسألة، أليس كذلك؟ لو بتَّ تقلق بشأن تموضع أسنان فتاتك ، أو الشكل الذي تبدو عليه أظافرها، فلن ينجح الأمر.
رجاءً دعيني أتحدث قليلاً عن نفسي أكثر.
هذه المرة بلا أية طرقات.
لو استمعتِ كل هذا الوقت، رجاءً استمري بالاستماع حتى النهاية. لحظة، سأتناول سيجارة.
(خشخشة خشخشة).
… حتى هذه اللحظة يصعب أن أكون قد تحدثت بشأن شيء عن نفسي إلى أي أحد مثلما فعلت. لأن ليس هنالك شيء ذو بال أتحدث عنه. حتى لو فعلت، غالباً فإن لا أحد سيكون مهتماً.
إذن لم أتحدث معك بهذه الطريقة؟
ذلك لأنه، مثلما قلت من قبل، حالياً أنا أصوب كلماتي باتجاه نقص نبيل.
ترى ما الذي أشعل هذا النقص النبيل!
رسالتك والكناغر الأربعة.
الكناغر.
الكناغر حيوانات مدهشة، ولا أمل من مشاهدتها، مهما كان الساعات التي أمضيها في المشاهدة. بماذا تفكر؟ تقفز بلا معنى حول مرابضها طول اليوم، وأحياناً تحفر حفراً في الأرض. وماذا تفعل بهذه الحفر التي تحفرها؟ لا شيء. تحفر حفراً وحسب. ها ها ها.
تلد أنثى الكنغر جروا واحداً في المرة الواحدة. لذا فأنثى الكنغر تحمل مجدداً بمجرد ولادتها. لو لم يكن الأمرهكذا لما تمكنت من الحفاظ على أعدادها. أنثى الكنغر، إذن، تنفق تقريبا كل حياتها في الحمل وفي تربية الصغار. إذا لم تكن حُبلى، فهي تُربيهم، إذا لم تكن تًربِّي، فهي حُبلى. لذا يمكنك القول بأن الكناغر خلقت لاستمرار وجود الكناغر. بدون وجود الكناغر بهذه الكيفية، فلن يكون لها القدرة على الاستمرار بالوجود، وبدون المحافظة على هدف استمرار الوجود للكناغر، فالكناغر ذاتها لن تكون موجودة.
إنه أمر غريب، أليس كذلك.
أنا آسف لأن انتظام ما قلته قد تعرض للفوضى.
سأتحدث عن نفسي.
في الواقع، أنا منزعج جداً لكوني أنا نفسي. ليس مظهري أو قدراتي أو وضعي. فقط لمجرد كوني نفسي. أشعر بأن هذا غير عادل البتة.
الآن رجاءً لا تأخذي تصوراً من هذا؛ أنني شخص منزعج جداً. لم أشتك قط من وظيفتي أو راتبي. بالتأكيد، فوظيفتي لا هدف لها، لكن هذا شأن كل الوظائف. والمال ليس مشكلة كبيرة.
دعيني أكن أكثر تحديداً.
أنا أريد أن أكون في مكانين في الوقت نفسه. هذه هي رغبتي الأولى والوحيدة. خلاف ذلك فأنا لا أريد أية رغبات أخرى.
لكن هذا الانفصال في الهوية يجعل ذاتي تقف في طريق هذه الرغبة. ألا ترين أن هذه حقيقة غير مسعدة جداً؟ هذه الرغبة التي تخصني هي من النوع الفاضل، أظن. ليس أنني أريد أن أكون قائد العالم أو فناناً عبقرياً. أو أن أطير في الهواء. أريد فقط أن أكون موجوداً في مكانين في الوقت ذاته. ليس ثلاثة أمكنة أو أربعة، أتفهمين، فقط مكانين. أثناء استماعي إلى أوركيسترا في قاعة احتفال، أريد أن أتزحلق بحذاء التزحلق. وبينما أكون موظفاً في قسم مراقبة البضائع بالمتجر متعدد الأقسام، أريد أن أكون شطيرة برجر ماكدونالد بحجم ربع رطل. وأثناء النوم بجانب صديقتي، أريد أن أنام بجانبك. أثناء كوني فرداً، أود أيضا أن أكون كونياً.
دعيني أتناول سيجارة أخرى.
تنهد…
أنا متعب قليلاً.
لست معتاداً على هذا، أعني الحديث بصدق عن نفسي.
أمر واحد أريد أن أؤكده: لا أملك أية رغبات حميمة تجاهك، كامرأة. كما قلت من قبل، أنا غاضب جداً من حقيقة أنني يجب أن أكون نفسي. أن أكون فرداً واحداً يجعلني غير سعيد بشكل رهيب. لا أتحمل الأرقام الفردية. لذا فأنا لا أريد أن أنام بجانبك كما أنتِ أعني كفرد.
كم هو مدهش أن يكون لك القدرة على أن تنفصلي إلى اثنين، وأن أنفصل إلى اثنين، وبوسع هؤلاء الأربعة أشخاص أن يتشاركوا سريراً واحداً. ألا تتفقين؟
رجاءً لا ترسلي رداً. لو أردت أن تبعثي لي برسالة، ابعثي برسالة أو شكوى لاختصاص الشركة. لو لم يكن لديك أي شكوى لتقومي بها، فكري بشيء تختلقينه.
حسناً، هذا كل شيء.
حسناً، هذا كل ما في الأمر.
حتى الآن والذي لم أقرر فيه بعد أن أرسلها، لازلت قلقاً.
لقد شغلت الشريط من البداية حتى هذه النقطة. وحتى أقول لك الحقيقة، لست راضياً بما قلت على الإطلاق. أشعر بأني كذاك الرجل المسؤول عن إطعام الحيوانات في معرض أحواض الحيوانات البحرية والذي ترك حيوان أسد البحر يموت بالخطأ.
وبأي مقياس، كنت طافحاً بالنقص، وبالتالي أعتقد أنه يجدر بي أن أستمر بشأن وجوده بلا أي قلق. ما يدعم ذلك كله هو وجودك أنت والكناغر الأربعة.
حسناً، هذا كل ما في الأمر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قصة للكاتب الياباني هاروكي موراكامي،
** هذه هي الترجمة العربية بواسطة علي الضويلع للترجمة الانجليزية بواسطة جاي. فيليب غابرييل- منشورة في مجلة النيويوركر في تاريخ 8 أبريل 2011م- منشورة في موقع مجلة زيزيفا في تاريخ 8 أبريل 2011م (النشر الأصلي كان في 1،أبريل،1988)
(http://www.zyzzyva.org/2011/04/08/the-kangaroo-communique/)