تتغيّر المدن بتغيّر أهلها، يعطونها السمة والقوام، فإن رُحّلوا عنها غدت ثكلى تواسيها الذكريات. وقد يظنون بسبب الآلفة والعادات، أن مدينتهم تغاير ما عداها، تدفع عن أهلها الأذى، وتظل سليمة.
لم يكن المقدسيون يدركون، قبل احتلال مدينتهم، أن القدس قابلة للاحتلال، فآمنوأ بأنّ الله يحمي مدينته، وأنّ مآل أعدائها سائر إلى الخيبة. اعتقد جبرا إبراهيم جبرا، الفلسطيني المقدسي، أنّ في مدينته سراً يذود عنها الشر، ويسبغ على أبنائها جمالاً منتصراً. عاش تفاصيلها في ذكرياته، وأكمل ذكرياته بأحلام لها “بداهة الحقيقة”، تمتد من أبواب المدينة إلى أعالي السماء.
لم تقاسم ليلى الأطرش، في روايتها “ترانيم الغواية”، جبرا تصوراته، بل مزجت بين المدينة والبشر، وتركت لها عبق الحارات القديمة. قرأت زمن القدس، الممتد من سلطة عثمانية إلى احتلال إسرائيلي، في مرايا متعددة، تتضمن عائلة مهزومة وبشراً لا يساوون مدينتهم، وحباً محرماً، شهدت عليه المدينة ودفن فيها، وامرأة جميلة الداخل والخارج لها ملامح الأسطورة، تسندها ذاكرة خصيبة لا تنطفئ.
واجهت الروائية، إبداعياً، قضايا ثلاث: تعاملت مع وقائع تاريخية ولم تنتهِ إلى رواية تاريخية، وقرأت مسار مدينة مقدسة بتصور دنيوي، وتأملت قضية وطنية ولم تنزلق إلى تبشير تحريضي، يطرد الوقائع بالرغبات الذاتية.
1ــ المدينة في مرآة عائلة:
في القدس أكثر من مدينة، طبائعها من طبائع البشر، ولها هوياتها المتغيّرة التي لا تحجب هوية مكانية متوارثة، تخبر عنها أسماء أبوابها: “باب الخليل” الذي هو باب يافا وأحياناً باب محراب داوود، باب العمود، باب المغاربة، باب الأسباط، وباب الزاهرة..”. طبقات من الأسماء استولدها التاريخ السائر من حقبة إلى أخرى، وتراكم الحكايات، إذ “لكل باب حكاية ولكل حجر قصة”، وفي أنحائها مكان مضيء لساحة عمر بن الخطاب.
ابتعدت الرواية عن هوية البداهة، التي ترى المدينة في مقدساتها، وقاربتها بموضوع لا ثبات فيه ولا قدسية له، مرآته أقدار عائلة مسيحية أرثوذكسية بعيدة الجذور، عاشت قبل زمن “الغزاة” ولحقها التداعي لاحقاً. تقول إحدى شخصيات الرواية: “لم نكن أقلية، وعددنا اليوم في القدس يتجاوز سبعة وعشرين ألفاً،….. ، وأنّ العرب الأرثوذكس هم نسل الجبابرة، كنعانيون، وغساسنة وفلسطينيون مذكورون في التوراة.”. تمتزج المدينة والطائفة، وتردّان إلى تاريخ قديم، فتكون الطائفة مقدسية، ويكون للقدس ملامح أرثوذكسية عربية، مرّ التاريخ عليها قاسياً أكثر من مرة.
تتعيّن العائلة، في طور منها، مدخلاً لقراءة الثابت والمتحوّل في هوية “مدينة الله”، مع فرق بين الطرفين: تسير العائلة الروائية إلى أقدارها، فلا رواية إلا بما يتحوّل ويعتريه التداعي، وتبقى القدس مع أسماء أبوابها، التي لا تمحوها سطوة الذين مرّوا عليها. ولذلك تضيء العائلة طوراً من أطوار المدينة المدفوعة إلى هزيمتها، وتستنطق الحكايات تحوّلات عبرتها أصوات متعددة اللغات، صفق أهلها، ذات مرة، للحاج أمين الحسيني، ودخلها منتصراً الجنرال “إدموند اللنبي”، معلناً نهاية “الحروب الصليبية”.
يشير “حوش أبو نجمة”، عنوان الفصل الثاني من الرواية، إلى عائلة ودار من طابقين، رحل عنها أهلها واستبقت عجوزاً معمّرة، ذكرتها من المدينة والعائلة والدار، وحياتها طبقات من الخبرة والتجربة والأطياف الراحلة. تتعيّن العجوز مدخلاً لقراءة مصائر أهلها، الذين سبقوها إلى الرحيل، ويبدو “الأهل” “وثيقة روائية”، ترد من زمن إلى آخر، وتومئ إلى سبل أفضت إلى المنفى وحكايات انفتحت على الموت. لكأن العجوز حارسة الوثيقة والناطق بلسانها، لاذت بدار قديمة دعاها الأهل: الصومعة، وحوّلت عجوزها الصامتة إلى صومعة أخرى.
إذا كانت المدن من أهلها، فإن المدن التي يرحل عنها أهلها تصبح مدناً أخرى، ويغدو الأهل امتداداً للمدن التي رحلوا إليها. جاءت عائلة “أبو نجمة” من القدس وتناثرت في الطريق، وتركت وراءها “قدساً” فيها شظايا أرثوذكسية، بعد أن طردت الأقدار “الأب” إلى سنتياغوـ تشيلي، مروراً بكوبا قاسية، ومات في مكان لم يشأه، إنما أُلجئ إليه.
توقفت الرواية، بسبب الخطاب الذي تقصده، أمام الأسباب التي صاغت مأساة إنسان قبل أن ترسم سماته. جاءت مأساة الأب، الذي لا يكاد القارئ يتعرّف على ملامحه، من خارجه، وقذفته إلى قوارب لم يخترها، كما لو كانت غربته لم تأتِ من المكان الذي وصل إليه، بل من ابتعاده عن القدس، التي وقع عليها ظلم عثماني فانتداب بريطاني، فتسلل يهودي له شكل الكارثة.
ترك الأب فلسطين ولم يبلغ الأربعين، هاجر عنها، مؤقتاً عام 1887، هرباً من الفقر والإهانة، وعاد إلى أهله ليسافر من جديد، مبتعداً عن استبداد عثماني يميّز بين “الذميين” وغيرهم، ولا يتيح للأب “استعادة أرض العائلة” التي فقدها، على غير مشيئة منه، في انتظار رجعة وخروج أخير، دفعته إليه “أحوال القدس” بعد وعد بلفور. دورة من سفر وعودة وضياع، ووقائع تضع الإنسان خارج قراره: “ولأني أحب القدس رجعت،….، لكن الحظ والأتراك سوّدا عيشتي، هربت من السفّاح، ولولا عشيقته اليهودية لقتلني”. السفّاح هو جمال باشا، الذي أخذ صفته من أفعاله، واليهودية هي الفاتنة الذكية الجاسوسة “سارة آرنسون”، التي أهداها “لورنس العرب” كتابه البديع الأسلوب: “أعمدة الحكمة السبعة”. أحب الأب القدس والتمس “النجاة” وهرب من موت كان قريباً منه، وظل في مساره ما يربك النظر ويوقظ أكثر من سؤال.
لم تأخذ الروائية موقع “الروائي العليم”، الذي يقبض على خارج الشخصية وباطنها، اكتفت بالسؤال الذي يحايث روايتها: كيف تخسر المدن أهلها، ولماذا هجر الأب مدينة مقدسة؟ ليس في الرجل، ظاهرياً، ما يومئ إلى نقص، فهو ينتمي إلى عائلة معروفة، يحب مدينته ويتعلّق بأولاده وزوجه، يعرف أكثر من لغة وينتزع إعجاب الآخرين في أكثر من مجال. مع ذلك، فإن حياته منذورة للإخفاق، ما شرع في عمل إلا وأخفق فيه، كما لو كان في كيانه “إعاقة” تعطل مسيرته: تصرف بأرض العائلة وخسرها، نكث بوعد أعطاه لزوجته وماتت وهي تنتظره، لم يهتم بمصائر أولاده ومات بعيداً عنهم. لم يكن وطنياً حين رهن أرضه، على غير مشيئة منه، ولا زوجاً صالحاً كما يجب أن يكون. كان أباً بلا أبوة ورجلاً رخو القوام: “الحظ والأتراك سودا عيشتي”، ويقول ثانية: “حظي يلاعبني… كلما رجعت إلى البلاد غافلني وظل ورائي: ص: 59”. في إشارته الأولى إلى الحظ يضع الأب خيبته خارجه، ألزمه الفقر والاستبداد بالهرب، لكن تكرار الإشارة يكشف عن خيبة داخلية، فالحظ لا يغافل إنساناً غافلاً، يلتمس الخير في غير موضعه، كأن يسعى إلى عون “جاسوسة يهودية” عن طريق الرشوة، وأن يستعيض عن أولاده في القدس بأولاد من سنتياغو. والمحصلة مقدسي قابل للانقسام، يعود إلى القدس ناظراً إلى سنتياغو، ويؤسس عائلة في الوطن، في انتظار أن يؤسس عائلة في المنفى. يكون في الحالين أصغر من شرطه التاريخي، وأصغر من التهديد الذي يقع على مدينته. ينسحب الرجل من “قدسه قبل أن يسحب التهديد المدينة من تاريخها. تتراءى في الانسحاب مأساة مزدوجة: إنسان يخذل مدينته دون أن يدري، ومدينة محاصرة أوسع من المنتمين إليها. يمكن القول: خسر المقدسيون مدينتهم وهم يتمسكون بها. بحث الأب عن خلاصه الذاتي لا عن خلاص المدينة، وأنجب أولاداً على صورته، يتوزعون على الوطن والمنفى، ويعرفون المكان ولا يحسنون الارتباط به.
تناسلت حياة الأب المنذورة للإخفاق في حياة ولديه المقدسيين: “فالابن الأكبر، الذي لم يتنازل عن أرضه”، عمل مترجماً لدى سلطات الانتداب البريطاني، وانهمك في ترجمة وثائق خطيرة لم ينتبه إلى مضمونها، وتزوج من امرأة تقترب من سن اليأس، يمكن تقديمها إلى “حفلات المندوب السامي”، وهو مثقف اشتهر بمكتبة واسعة، أنجب ولداً وحيداً، عاف أهله وهو في السادسة عشرة من عمره وذهب إلى لندن ولم يرجع،….
ورث الإبن عن أبيه “الندبة السوداء”، غافلته “الوثائق السرية”، وأبقى التآمر على فلسطين طي الكتمان، وتمكنت منه غفلته فلم يخبر عن فضائح “شخصيات محلية شهيرة”، وانقطع نسله في فلسطين بعد سفر ابنه الوحيد، وامتلك ثقافة واسعة لم تفده ولم يفد منها غيره، تاركاً حياته المبتورة تطفو فوق ذاكرة معطلة، وظواهر عارضة محشوة بالكسل والفراغ.
تقاسم الابن الأكبر مع والده خللاً فادحاً: تعامل الأب مع جاسوسة يهودية، دون أن يدري، وسعى إلى خلاص فردي وهو يتزوج من امرأة، في “وطنه الجديد” في سنتياغو، وبعثر نسله في مكانين لا يلتقيان، واختصر معارفه اللغوية في فوائد صغيرة وخسائر كبيرة. أما الابن فترجم أوراقاً عن هلاك فلسطين، دون أن يدري، وهجس بخلاص فردي بدوره، وهو يتزوج بامرأة يمكن تقديمها في حفلات المندوب السامي، وأنجب ولداً انتمى إلى حيث ذهب ونسي القدس مبكراً، وتفاخر بمكتبة لم تعلّمه إلاّ العزلة والحسابات الخاطئة.
توازع الأب والابن الغفلة وذاكرة معطلة وعقماً ملتبس الملامح. والسؤال المؤرق الموصد الأبواب، الذي تطلقه الرواية في فضاء القراءة: ما معنى أن يكون الإنسان منذوراً للخيبة؟ أو: هل كان المقدسي “المتعلّم”، في لغاته المتعددة، أضيق من التحدي الذي سقط عليه، أم أنّ اتساع التحدي أضله عن الطريق؟ والسؤال المأساوي مشروع، ذلك أنّ “الأرثوذكسي” عميق الجذور متعلق بأرضه وبمدينته المقدسة. ربما كان في السؤال المعقد الإجابة ما يضيء ارتباك الرواية الخصيب، الذي يسائل التاريخ ويهمل إجاباته، باحثاً عن الإجابة المحتملة في “فضاء الاغتراب” الذي لا يجسّر المسافة بين الإنسان اليومي و”مدينة مقدسة”، ولا بين فلسطيني بسيط و”حداثة يهودية” مسلحة”.
لا يختلف مسار الأخ الأصغر عن أخيه: تقاسم معه يتم الأم وغياب الأب، وبحثاً بريئاً عن الخلاص، وشغفاً بالقراءة والتصوير والموسيقى، وله علاقة متهدمة مع الأخت الصغيرة الوحيدة، وتزوج بامرأة فاتها سن الإنجاب، وتبنى معها طفلة يهودية، أغدق عليها وغادرته سريعاً إلى بيروت. انتهى الأب إلى “استمرارية بيولوجية” معوّقة، حين وزّع أولاده على مكانين، ورحل نسل الولد الأكبر إلى الولايات المتحدة، وعاش الأصفر عقماً صريحاً باهظ التكاليف… وإذا كانت حكايات الإنسان الأب موسومة بالتمزّق والانشطار، فإن حكايات ولديه تحتشد باحتمالات لا تبشّر بخير، ذاب الحفيد الوحيد في الحياة الأمريكية، وحملت “البنت اليهودية” هجنتها واستقرت في بيروت.
هل يمكن اشتقاق مآل القدس من مآل العائلة؟ وبأية حدود تتوزّع المأساة على الطرفين؟ عاش الطرف الأول ما لا يرغب به، ووقع الاحتلال على مدينة يتصف أهلها بالبراءة. والسؤالان مشروعان، تسوّغها مأساة ذاتية وموضوعية معاً. جاء في الرواية: “ضيق ذات اليد وخسارة المرج …..، دفعا بـ أبو نجمة إلى البحر. “. غير أنّ الرجل عاد من السفر بعد غياب أسبابه. ويقول الأخ الأكبر: “لم نرث حب الهجرة من الوالد، أو ربما لم نخلق لها”، رافضاً ما أجبر الوالد عليه، دون أن يقترب من وضوح ضروري. فقد صدّق ما سمعه من الإنجليز إلى أن نهبوا “كنيسته” واستقرت أشياء منها في المتاحف البريطانية، وآمن أنّ الله يحمي مدينته المقدسة واصطدم بما آمن به: “فكرت أن الله سيحمي بيوته أكثر من دورنا…..”.
ورّث الأب ولديه المرارة والانتظار الخائب، وأورث الولدان مدينتهما المقدسة “صوراً تذكارية” ستعلوها الصفرة بعد حين، ومكتبة سيعلوها الغبار والنسيان، ووزّعا نسلهما القليل على ما وراء البحار. حين تمر العجوز وهي السارد المهيمن في الرواية على ابن أخيها الأكبر تتحدث عن زوجة أمريكية” ويافعين لم يرثا من ملامح أبو نجمة شيئاً”. انقطعت الاستمرارية البيولوجية عند الذي لم ينجب، وانقطعت ملامح العائلة في نسل الذي أنجب. تغدو حكايات الأخوين جزءاً من الماضي: “راح الاثنان وتركا الكتب والصور”، تقول أختها العجوز “مرات كثيرة فكرت أن أحرقهما لأستريح، منظرهما يزيد حسرتي عليهما”. ماضٍ يتجدّد بحسراته وباحتمالات حريق منتظر، معلناً أنّ أفول العجوز القريب إعلان عن نهاية عائلة مقدسية.
ما أطفأ العائلة المقدسية جاء من وهنها الداخلي، ربما، صدر عن ظروف تتجاوز العائلة. ترحّل الروائية الجواب الذي “لا تريده” واضحاً، إلى مدار السرّ مؤكدة، أكثر من مرة أنّ العائلة تلتبس بأسرار تخصّ “تاريخاً” متعدد الطبقات، قبل أن تتهم عائلة يمنعها التاريخ عن الوقوف الصحيح. فمأساة آل أبو نجمة، تمتد إلى السفّاح والجنرال البريطاني، قبل أن يترجمها سفر حفيد وحيد إلى الولايات المتحدة.
2 ــ تداعي العائلة في مدينة مريضة:
أنقذ الأب ذاته ولم ينقذ عائلته مخبراً، دون أن يدري، أنه لم ينقذ ذاته أيضاً، فلا سعادة لأب بعيد عن أولاده. اصطدم الأولاد بأبوة مرفوضة، زوّدتهم بذاكرة جريحة ومنعت عنهم الحماية. عرفوا الأب ولم يعرفوا معنى الأبوّة، وكانا بدوريهما أبوين مخفقين. تقول الأخت الصغرى، السارد المهيمن في الرواية: “حتى يوم وصلت أخبار موت سالم أبو نجمة في التشيلي، كتمت ما عرفت عن الناس جميعاً” معتبرة، ضمناً، أنّ الخبر لا ضرورة له، ذلك أن الأب مات قبل موته الفعلي. وحين وصلت زوجة الأب من تشيلي وتنازلت عن حقها في الميراث قالت: “آمل أن نبقى على تواصل، ولا ذنب للولدين ليكونا بلا أهل أو عائلة”. ينطوي القول على “كرم”، ويشير إلى حقيقة غائبة حاضرة. فقد ارتكن الولدان على “الصدف” وعاشا حياتهما بلا عائلة، فقدا الأم ثم الأب، وفارقهما سريعاً ولداهما المفترضان، وما كانت لهما مع أختهما الوحيدة صلة صحيحة.
يشي التكتّم على وفاة الأب بعدم الاعتراف بوجوده، ويومئ كلام الزوجة التشيلية إلى أيتام، كما لو كان الأب، وهو الأصل، قد اقتلع القدس من ذاته، بعد أكثر من خيبة، وأقنع أولاده، بحزن أكيد، أن يقتلعوه من حياتهم، بعد أن أورثهم خللاً لم يستطيعوا معالجته.
قصدت ليلى الأطرش إلى مجاز روائي، و”خلقت” عائلة وثيقة وسردت مسارها واحتمالاتها متوسلة، بحسبان رهيف، متواليات حكائية ومنتهية إلى بنية حكائية عميقة، توحي بالأسئلة ولا تجيب عنها. أنجزت في التحديد الأخير، نصاً روائياً إشكالياً بامتياز، يقطع مع ميلودراما مألوفة، تقتات بالأخلاقي الديني، ويبتعد مسافة حاسمة عن خطاب تحريضي تعويضي يجتهد في الإجابات قبل أن يعرف الأسئلة.
لماذا لا يحسن البشر الدفاع عن مدن مهددة، تلازم وجودهم، وما الفرق بين حكايات المكان وقيمة الانتماء الوطني؟ انطوت حكايات العائلة على عطب له إشاراته المتعددة: حسم “الهواء الأصفر” الأم الشابة، وأقعد العجز الأب عن المبادرة، وترمّلت الابنة الوحيدة مرتين، وسار الاخوان في طريقين فقيرين: اكتمل المرض بالموت، والقهر بالعقم، وكراهية الأب بالغفلة، وأكملت الصدف غير السعيدة “الميراث” الذي لا عدالة فيه. عاشت العائلة حياة يحايثها النقص والانتظار، تحلم بما لا تحققه وتحقق ما لا تريده، سائرة إلى ما يشبه الانقراض.
يشبه العطب الذي لازم العائلة خللا أدمنه أهل المدينة المقدسة. تشكو العجوز قبح “القدس العربية” بعد الاحتلال، وتستعيد ذاكرتها رذائل المقدسيين، قبل الاحتلال: تدافُع المسيحيين والمسلمين، الذي يهمد في ساعات الوفاق الوطني، وتشعله مناسبات صغيرة. كان المفتي قد لاذ ببيت امرأة مسيحية، حين كان مطارداً من الإنجليز، لكنه غفل عن الوطني وتلبّسه الطائفي حين أراد أن يواجه الأغلبية المسيحية في القدس، بأعداد من مسلمي الخليل. جاور الحسبان الطائفي تواطؤ بعض الأعيان مع الانتداب والصهاينة، إضافة إلى “زعامة سياسية” فقيرة، تلغي الحدود بين الأقوال والأفعال، مكتفية ببلاغة هامدة لا مبادرة فيها.
لم يكن حال أهل القدس أفضل من العائلة، تبادل الطرفان الغفلة والحسابات الخاطئة، غاص البعض في الرذيلة بمدينة عنوانها الفضيلة، وانصرف آخر إلى مظاهر فارغة مطمئناً إلى سمعة عائلات حسيبة. والمتواترة في الرواية، بكثير أو قليل، وصال الأعيان والجميلات اليهوديات، كما لو كان “للعين” قسطه في التزعم والخطابة، وقسط أكبر في ممارسة الرذيلة الخيانة. تقول الرواية في فصل عنوانه “باب الهوى”: “في لحظة نشوة سكر، أو ضعف، وقّع أبناء عائلات معروفة عقود بيع دورهم لليهود، احتيالاً أو تراضياً. حال وجيه مقدسي لم يقاوم الرغبة مع صبية يهودية فأجبره والدها على التنازل عن داره ثمناً لسكوته”. بعد طيش لا يليق بمتزعم لا تنقصه الغطرسة، تأتي خيانة غير قابلة للتبرير، يحجبها المتزعّم بصفة هجينة عنوانها: المعارضة السياسية، كما لو كانت الأخيرة فعلاً لا يفصل بين الاختلاف والدعارة.
ارتكنت الرواية إلى تقنية متعددة الأصوات، ترى المدينة في حكاياتها المتنوعة، الممتدة من زعيم يضع كل شيء داخله، إلى عاشقة يهودية أغنية لحقت برجلها الفلسطيني إلى المنفى، ومن تنويري أعدمه “الجلاد” إلى رجل دين يوناني، ينتصر للعرب حيناً ويؤثر هويته اليونانية حيناً آخر. تتعدد الأصوات بتعدد حكاياتها، جامعة بين ما قاله “العارفون”، الذين يعرفون التاريخ ولا يكتبونه، وما اطمأن إليه أكثر من مؤرخ محترف، ينصاع إلى وثيقته ولا يلتفت إلى حكايات البشر.
مايزت الروائية، بوعي يدرك مقاصده، بين قول الرواية ومهنة المؤرخين، قائلة إنّ التعددية جوهر الحياة، مس ذلك بشراً متعددي المهن والطبائع، أم مدينة يختلط فيها النور بالظلام. ولذلك تشير ببساطة عارفة إلى “السياسي المحترف” والخياطة الأنيقة والقروي الشهم والمغنية الشهيرة، وإلى المقاهي والمخازن واللباس المتأنق في القدس التي كانت “جنة” ذات زمن، وهبط عليها التداعي في زمن تلاه. تكشّفت تعددية الأصوات في تعددية مراجعها، التي انطوت على الرسائل والوثائق والصور وقصص مفردة الصوت وأخرى تحيل على مجموع، وعلى أزمنة تمتد من الحاكم بأمر الله، إلى زمن إسرائيلي ترك لبقايا المقدسيين مساحة ضيقة ملوثة بالمياه الآسنة.
في الحكايات، كما في الإشارات التاريخية المتنوعة، ما يدلل على معارف واسعة ساكنت النص الروائي، وما يفصح عن بنية الخطاب وتصوّر للعالم يحايثه، يساوي بين التعدد وسبل الحقيقة المنيرة المعتمة، ذلك أنّ في التعدد ما يوقظ المساءلة وينهى عن اليقين. ابتعدت الرواية عن النماذج الإنسانية المعطاة دفعة واحدة، وهو أمر أثير لدى جبرا إبراهيم جبرا، وحاولت بطموح كبير القبض على “الكل الاجتماعي”، في فترة محددة من تاريخه. قصدت إلى الفصل بين قدسية المدينة “ودنيوية المقدسيين”، وإلى نقاء الأحجار القديمة وتلوّث البشر، مخبرة أنّ طبيعة القدس من طبيعة أهلها، التي تحتمل الحب والصداقة والبطولة، وتحتقب “عبث الوجهاء” القريب من السَفَه، الذي كان ينفر منهم المربي خليل السكاكيني نفوراً لا مزيد عليه.
يعبر الديني الخواطر ويبقى الدنيوي سيد الأحكام. لم ينتصر، في مآل القدس، الديني على الدنيوي، ولم يهزم الدنيوي الديني، فهماً روائياً حقلان متساويان، يتعينان بطبائع بشرية تعي الدين والدنيا بأشكال مختلفة. ذهبت القدس إلى حيث ذهبت، وسار المقدسيون في دروبهم الضائعة، وبقي الطرفان مع ماضٍ اختلف إليه الغزاة، وحاضر يتكئ على ماضيه وينظر إلى السماء، حال العجوز الصومعة، ومستقبل مفتوح تصوغه الاحتمالات، كأن تجدد العجوز ذاكرتها بقريبة أصغر منها عمراً، تسعى إلى “متحف من الأصوات” يحاور ما سيأتي بكلام قليل.
تأملت الرواية، المتعددة الأزمنة، الحاضر والماضي، واشتقت من احتمالات الأزمنة زمناً مفتوحاً، لا يستأنف ما سبق ولا يعد بجديد أصلي. كان عليها، مدفوعة بقوة الأطياف، أن تلتبس بالحنين، الذي يعانق جميلاً لا يعود. حين يأتي ذكر “بركة السلطان”، الأكبر بين برك المدينة، تقول العجوز: “ولطالما أصغت البركة لحمحمة الخيول العطشى، وروت لهاث خيالة وعسكر متعبين،…، لكنها اليوم مجمّع لمياه الأمطار الآسنة، وتوالد الناموس”. يرسم “الفعل الماضي” زمناً مضى، كان ملحمي الملامح، ويرثي الماضي مرتين: فالذي كان يصغي في زمن مضى تناثر في أكثر من مكان، وما كان “يروي” استحال إلى مياه آسنة.
سكنت عائلة “أبو نجمة” في القدس، ذات مرة، واقتربت الانطفاء وتبقى منها “حوش” تسكنه عجوز مفردة، وكان للقدس بركة تروي ظمأ العطاش، اقتحمها الزمن إلى تخوم الاضمحلال. سيرتان عن التداعي وسطوة الزمن وانتظار ما يجب انتظاره.
سردت الروائية زمن المدينة وأهلها وتوقفت، طويلاً، أمام “زمن استذكاري” يوحّد، ومضياً، بين أطياف عمر بن الخطاب و”زَفَرات” عبد القادر الحسيني، محاذرة السرد المستقيم الذي يبشّر، حكائياً، بانتصار لن يأتي.
3 ــ رحيل المدينة والعشق المخفق:
نزفت العائلة أفرادها واستبقت قطرة ماء في هيئة امرأة، وساقت الظروف المدينة إلى احتلال مرعب الحضور. تعايش الطرفان مع هزيمة مجتهدة، لها أكثر من حكاية. وسعت الروائية، التي اجتمع في عملها الروائي والمؤرخ والفيلسوف، نصّها بحكاية لافتة، عنوانها “العشق المحرّم” الذي تتصارع فيه عاطفة إنسانية نبيلة فلولا الحب ما خلق الله الدنيا وتقاطع ذلك مع وازع ديني، يفصل بين الحلال والحرام. ربطت الرواية بين البعدين المتناقضين وأطلقتهما في “فضاء مقدسي”، وتركت القارئ يتقرّى الحلال والحرام في مدينة مقدسة تشرف على الغرق.
يثير عنوان الرواية “ترانيم الغواية” فضولاً رحباً، إذْ تلامس مفردته الأولى الروح، ففي الترنيم نغم يتلوه نغم، وتبعث الثانية شعوراً مختلطاً، فيه أشياء من الفتنة والضلال، وصولاً إلى زلل فادح ينتظره العقاب. فما هي الغواية التي تتوسد عنوان رواية عن “مدينة مقدسة”؟
الغواية هي “العشق المحرّم”، عنوان أحد الفصول، الذي جذب “خورياً”، نذر حياته لله وللكنيسة، إلى أرملة شابة ساطعة الجمال والنباهة. ورجل الدين متزوّج بامرأة مريضة، له سمعته الوطنية والأخلاقية المضيئة، وصورته الدينية تحتشد فيها إشارات تدفع إلى “الحُرْم”، وهو الطرد من الكنيسة، لولا صدف لا تحرم العاشق نعمة الهوى.
تدور حكاية العشق في فضاء مشبع بالإشارات، قوامه الغنائي والمأساوي، إذ في اندفاع العاشقين ما يحرّرهما من سطوة المكان والزمان، وما يطلقهما في تجربة روحية أقرب إلى التصوّف، وإذ في سعيهما خيبة قادمة، حال الكنيسة الأرثوذكسية التي التهمها حريق لم تتوقعه. والعشق من بدايته مشدود إلى المفارقة، فالجميل فيه مصادر “بالحرام”، إعلاناً عن سخرية سوداء، تقود العاشقين إلى فراق أخير.
يحمل العشق إشارات نهايته، فالأنثى قروية بريئة، حرمت من حنان الأم والأب، وأصابها أكثر من ظلم قبل أن تتزوج إنساناً بريئاً، غادرها بعد سنوت قليلة من دون مقدمات، طواه الموت، وهي عاقر أدمنت التردد على الأطباء (و”الأولياء”)، وعندها رغبة في أشياء كثيرة، أولها الحنان. أما رجل الدين الخوري متري الحداد، الذي يكبرها بعشرين عاماً، فمديني مثقف، تنويري وقومي واسع التجربة، لم يسعَ إلى الحب بل سقط عليه. لم تفلح الشابة في معالجة عقمها. ولم يفلح الخوري في التحرّر من هواه. وإذا كان في الأنثى العاشقة، التي استسلمت إلى حب أقرب إلى القدر، أطياف زوج رحل وأب دائم السفر وأصداء أخوين صدّت عنهما وصدّا عنها، فإن للرجل تعاليم الكنيسة، وصورة زوجته والعقاب الذي أنزله به ابنه الوحيد، الذي انتقم لأمه بجفاء للأب أقرب إلى القطيعة. تزوج العاشقان ومنعتهما الكنيسة عن إشهار الزواج. لم يرزقا بولد ومات الخوري، بلا مقدمات، لاحقاً بابنه الوحيد، الذي مات بلا مقدمات أيضاً.
ترتسم في ملامح الأرملة العاشقة وجوه الموت الواسعة: موت الأم والأب، وموت الزوج الأول والثاني وابنه، وموت حقبة من حياة الأرملة الشابة. لم يكن عمرها حين رحل الخوري يتجاوز الثلاثين عاماً. ولم يكن عمرها حين مات زوجها الأول يتاخم العشرين بقليل.
عاشت العائلة حياتها محوّطة بالخيبة، وعاشت ابنتها حياتها محاطة بالموت. ترجم الطرفان، كل على طريقته، مآل مدينة القدس، سقط عليها الظلم بعد أن خاب سعي المدافعين عنها. تقول العجوز، التي هي ذاكرة من المدينة وعنها، في لحظة استذكار أسيان: “كل من أحببتهم رحلوا دون أن يفكّروا بشيء. لحق أبي أحلامه في التشيلي وتركني صغيرة. وأخواي تركانا في البلاد وحيدة، ثم عشنا غرباء في مدينة واحدة. ثم جاء زوج أول ورحل سريعاً…”. تتجلّى في صاحبة القول صورة “بطل مأساوي” تأتيه المأساة بإيقاع منتظم، كما لو كان لها قدر ظالم لا هرب منه، حال مدينتها الأثيرة، التي كان فيها شيء من “الجنة” في زمن مضى. حين تأتي صورة “العجوز” على لسان “الخوري”، يقول: “كنت أراك حائرة بين الأطباء والنذور وزيارة الكنائس والمساجد، تحاولين فيتقطّع قلبي. أتعرفين؟ قلت لو كتب الله أن تحملي فسآخذك إلى بلاد بعيدة، وأخلع ثوب الكهنوت، ولن أحرمك من الأمومة. “.
لا كرم المرأة دفع عنها العقم، ولا إرادة الله شاءت لها الأمومة، حتى لو تزوجت مرتين، كما لو كانت قدساً ثانية، تستمطر سماء لا تمطر غيومها. أعاد عثارها صوغ جملة أخيها الأكبر عن الكنيسة المحترقة “فكرت أن الله سيحمي بيوته أكثر من دورنا”. لا القدس وجدت ظهيراً في السماء ولا العاقر حظيت بنعمة إلهية.
في “العشق المحرّم” ما يضيء، ربما، عقاباً إلهياً عادلاً، فليس من شيمة “رجل الله” أن يفتن امرأة، وليس في المرأة المسكينة ما يجعلها “حواء أخرى”، تغوي رجل الدين بالتفاحة المحرمة. ما ينفي “حكاية الخطيئة الأولى” ماثل في عمومية الموت، الذي يحسم الجميع والشباب منهم بخاصة. فالأم الراحلة شابة، والزوج الأول البريء شاب بدوره، وابن الخوري لم يبلغ “عشريناته”، ورجل الدين المفجوع بابنه ولد عام 1892 ورحل قبل النكبة. كل ما في المدينة “المخطوفة من تاريخها” يستعجله الموت، إيذاناً بلحظة أخيرة تدع المدينة وحيدة.
صاغت ليلى الأطرش “المأساوي الفلسطيني” وأعطته أبعاداً كونية فاجعة، ناشرة الموت على الكهل والشاب، بسبب وبلا سبب، وعلى “عاشقين عادلين” عبّرا عن روح المدينة والحياة، وامتثلا إلى دفء السماء التي تبارك “العشّاق الصادقين”، الذين يحاذرون الزلل. فلم يتزوج “الخوري” إلا بعد موت زوجته، مباركاً بمرجع ديني أعلى، وافق على زواجه ونهاه عن إشهاره ولم يكن في غرامه حالة مفردة، فأكثر من رجل وضعت القدس في طريقه أنثى جميلة، أشبه بالقدر، أقنعته بخلع رداء الكهنوت واختيار الأنثى الحياة، فلولا المرأة ما خلق الله الدنيا، كما قال أحمد فارس الشدياق.
يتكشّف الحب العادل في أوراق الخوري متري الحداد الموزعة على فصول متعددة من الرواية. جاء فيها: “الحب كالموت، لا قدسية أمامه غير إرادته، مس من شيطان الهوى خطف قلبي تنفلت قيود الغفل بإغواء الحب، إحساس غريب تسلّط عليّ حد اليقين، أدركت أن شيطاناً يسحبني، إلى تجربة عظيمة، وأعنف الصبابة عشق محروم، والإغريق عشقهم نار، لا سلطة لغير الخالق على قلوب تنبض بهوى جارف، ما حدث أشبه بمعجزة، غرائبية ولا تفسير، شيء لا أدريه امتد من وجه الصبية وصعقني، رغبة حارقة، التحمت بجسدي حتى لم أعد أميّز ما بقي منه لي وما صار لها..”.
واجه العاشق المقدس المرئي، المتمثل بالكنيسة، بالمقدس القلبي، المتمثل بحب يطلق فيضاناً من لهب، يجرف ويحرق، يصعق ويخطف ويبدّد، يسحب ويتسلّط طليقاً، لا سلطة عليه لغير الخالق، كما لو كان العشق أعلى قدسية من الأماكن المقدسة المتوارثة. بذلت الروائية جهداً لغوياً تأملياً نموذجياً في وصف تجربة صوفية غامضة، إذ العاشق يندفع إلى معشوق لم يلتقِ به، وإذ العاشق والمعشوق يتبادلان الأرواح والأجساد، وسر سكن قلب العاشقة وأجهدها في حياة المعشوق وموته، واختبره العاشق ولم يعثر على جواب أخير.
قاربت الرواية، غرائبية القلب الإنساني الذي يخطف العشق بصره ويأمره بالمسير، وتأملت مسافة قاسية بين العقل والقلب، وبين جلال المقدس وتفلّت الأحاسيس الإنسانية. انتهت إلى مأساوي فريد، يجمع بين التستر والتمرّد الظاهر للعيان والنعمة التي تساوي المدينة بالجنة والزمان بالشباب والعشق بالإيمان، وتلك النقمة التي تضع العاشق خارج إرادته وعائلته وعاداته. ولعل تحالف النعمة والنقمة، الذي نسجته الأقدار، هو الذي أطلق يد الموت والعذاب في علاقات “الحكاية المحرّمة”: ماتت الزوجة كمداً، ولحقها أبنها تأسياً، وتبعهما الأب حرقة، واستسلمت العاشقة إلى أطياف وضعتها داخل الزمن وخارجه: خارج الزمن وهي تستعيد أطياف حب لا يموت، وداخله وهي تفتقد العاشق وتعانق ظلاله كل النهار.
والمحصلة مأساة وحيرة: مأساة إنسان عادل يقول: “حائر يا بني، حديث والد مجروح إلى ولد معذّب. وحديث مدينة مقدسة لم تسعفها قدسيتها في حماية أهلها. ولعل الحوار المستتر بين المقدس والمؤمنين به، هو الذي ألزم الروائية بالبعد عن الواضح والأحادي واليقيني وتوزيع “وجهة النظر” على العلاقات الروائية جميعاً، مستأنسة بالمتواليات الحكائية، وتاركة الحكايات تتحدث عن نفسها، كما لو كانت تقول “يشرح المأساوي ذاته بذاته ولا ينصاع إلى أحد.
انغلقت قصة الحب والقدس تغلق نوافذ ماضيها القريب.
لم تشأ ليلى الأطرش، في عملها المحكم التوثيق، أن تكتب رواية تاريخية، ولا أن تلجأ إلى الميلودراما أو التحريض، فخلقت قصة حب ذات أبعاد كونية، تأتلف مع السياق وتجد لها مكاناً في القدس وفي جميع الأمكنة، مقرّرة أنّ التاريخ يذهب إلى حيث شاء، على مبعدة عن صور الجمال والعدالة. حاورت المؤلفة هالة القدس الموروثة مرتين: مرة أولى أعطت القلب الإنساني موقع الأولوية في علاقته بالتاريخ والمكان، معلنةً أنّ الحب سيد القيم، ومرة ثانية أعطت فيها الدنيوي موقع الأولوية في علاقته بالديني. أخلصت، في الحالين، إلى المنظور الروائي للعالم، الذي يبدأ بالإنسان ويسرد هشاشته وينفذ إلى قلب العاشق يستدعيه وينتصر له، ويؤمن بأنّ الحب فعل ساحر ينتظره البدَدْ.
4 ــ امرأة فاتنة لها عمر مدينة:
تسكن المفارقة “العشق المحرّم”، غنائي في علاقته بالحياة، ومأساوي في الصدف التي قادت إليه. وهو متناقض في أقداره، غاب منه طرف، وتبقى وجه شاهد عليه، تمثـّل في اسمه الذي يقابل الموت: ميلادة، التي إذا أضيفت إليها صفة العائلة غدت: ميلاده أبو نجمة الاسم الذي تجتمع فيه الحياة والنور.
ميلادة أبو نجمة، الأرثوذكسية المقدسية الفلسطينية، طبقات من الأزمنة والتجارب: تعود في حكاياتها إلى الحاكم بأمر الله، حاكم مصر وبيت المقدس في بداية الألفية الثانية، وتسرد، وهي التي ولدت عام 1915 تقريباً، أشتاتاً من سقوط القدس عام 1948، وتنسحب ليعود صوتها مع نهاية القرن العشرين، ناظرة إلى جنود الاحتلال، يصدون المصلين عن المسجد الأقصى. في مسارها ما يستدعي مفهوم: الأصل، القديم، المجاور للقداسة، الذي يحتجب ولا يرحل، ويعود وفي لحظة منتظرة.
وهي في تجاربها المتعددة منذورة للمعاناة فقدت الأم والأب والزوجين وفقدت، رمزياً، أخوين يختلفان عنها طبعاً وسلوكاً، سردت حكاياتهما، بعد أن رحلا واستمرت في الحياة. ولعل الاستثنائي فيها، وهي الطيبة الجميلة النبيهة، هو الذي أعطاها زوجاً من العامة وآخر من النخبة، “ثائر صلب ومناضل خاطر بحياته مرات، يجاهر بمبادئه القومية والحداثية، وجعل الحديث عن عشقها يحتل المجالس في القدس وعين كارم. والمرأة، في بساطتها، طبقات من الأمكنة، استهلت “بعين كارم”، البلدة المقدسة التي “شربت ستنا مريم من نبلها وفيها بشّر الملاك زكريا بولادة ابنة يوحنا المعمدان بعد أن شاخ مع زوجته”، وعبرت منها إلى القدس “مدينة القسوة” التي لا تؤنس غريباً، فحاله فيها مثل “النبي إيليا” في بطن الحوت، الذي خرج سالماً لكنه لم يخرج كما كان، وإن كان زمن الشباب العاشق سوّاها بالجنة. انتقلت المرأة التي مرّت على حيفا من مدينة مقدسة إلى أخرى، وخرجت سليمة وغير سليمة في آن، تؤنسها عزلتها، وتسرد حكايات عمرها يقترب من مئة عام.
تمثّل العجوز، التي ساكنها عشقها، بداية الحكاية ونهاياتها، فلها حكايتها وحكايات “العارفين”، كما لو كانت حارساً من لهب. وهي آية على تبادلية الموت والحياة، يستمر الراحلون في حكاياتها، وتستمر معها حكايات المدينة، وجسد لم يعد كما كان، وروح واسعة تراوغ الأزمنة. وميلادة أبو نجمة، الصوت المهيمن في الرواية، هي السارد والمسرود، والراوي والمروي عنه، بها تبدأ الحكايات وتنتهي، لكأنها قدس أخرى لها حاضر مطلق تشهد عليه أبواب المدينة، التي يجتاحها الغزاة ولا تتغيّر أسماؤها. شحصية تعبر من زمن إلى آخر، وتحتفظ بذاكرة “ثابتة” عابرة للأزمنة، كما لو كانت تستعصي على الزمن، وتعطي للزمن “المقدسي” هوية حافلة بالاشارات.
يتكشّف تميّز العجوز في بعدين، يحيلان على النسل والحكايات من ناحية، وعلى غرابة الأقدار والإخصاب الذاتي من ناحية ثانية. فإذا كانت حكايات الإنسان من نسله، فالذي لا نسل له تنتهي حكاياته بموته، بيد أنّ في مسار العجوز ما يكسر القاعدة، ذلك أنها مبتدأ حكاية لا تنتهي. تستهل الرؤية بجملة محددة: “قالوا وجود العمة وسيلتك الوحيدة لدخول المدينة”، وتنتهي صفحاتها الأخيرة بجملة موازية للأولى: “رافقتني إلى ساحة عمر بن الخطاب، حاملة معها عبقاً قديماً، رائحة البخور في ثيابها”. الذين أنجبوا رحلوا، والعاشقة القديمة تصدر حكاياتها عنها، كما لو كانت في خبرتها الطويلة أخصبت ذاتها بذاتها، تحملها ذاكرتها ولا تحتاج إلى غيرها إلا قليلاً.
اشتق نجيب محفوظ شخصية أحمد عبد الجواد، في ثلاثيته الشهيرة، من تميّزه الفردي، فلا ذكر لأب أو عائلة، وخلق جبرا شخصية “وليد مسعود” من “وديان سرية” وأطلقه “مطلقاً” يحتجب ولا يموت. أما ليلى الأطرش فاشتقت “ميلادة أبو نجمة” من ذاكرة مدينة تختلف عن غيرها، مقتربة من “المقدّس الملتبس”، لا بسبب انتمائها إلى مكانين يذكّران بالأنبياء، بل بسبب أوجاع طويلة كثيرة تحمّلتها وتابعت المسير، كما لو كان في “درب آلامها” ما يذكّر بالسيد المسيح، الذي مات ولم يمت. انتهت إلى “حوش” ومدينة إذ الأول حاضره من ماضيه، وإذ المدينة تؤنس الحوش وتشرف عليه. إنها “العابرة” من زمن إلى غيره، ومن مكان يتغيّر إلى مكان أصلي لا يتغيّر ولا يهاجر.
تجاوزت “ميلادة” ضربات الموت واحتفظت بذاكرة مشتعلة، مجسّدة روحاً مغايرة. ففي “الموت الكثير”، رمزياً، إشارة إلى اعتلال أو مرض، لا يأتلفان مع “روح معافاة”، تظل مشبعة بالاحتمالات “الصالحة” حتى في الأزمنة المريضة. لذلك تنتهي الرواية بمدينة محتلة “تشي صباحاتها بالحذر، وبمواجهة، ربما، بين طرفين”، كما لو كان “الحوش” يهيمن على المدينة، لا موقعاً في شارع من شوارعها القديمة.
حاذرت ليلى الأطرش التفاؤل المنفتح على الخيبة، وأبعدها تصورها الروائي عن “أسطورة البطل الإيجابي”، المنتصر قبل الذهاب إلى المعركة. حاورت التاريخ واستعاضت عن “الإيجابي الجاهز” بالاحتمال، الذي يتكوّن داخل البشر ولا يسقط عليهم. ولعل هذا المنظور، الذي يستعين بالتاريخ لا بنوايا البشر، هو الذي أملى على الروائية أن تضيف إلى “ذاكرة الأصل” ذاكرة من خارجه، لا تلتمس “شفاعة”، من القدس بل تأتي من خارج فلسطين، في إشارة إلى معنى الذاكرة وضرورة استمرارها. تطلب الذاكرة من أجل وظيفتها الأخلاقية الوطنية لا احتفالاً بماضٍ ذهب، أو إرضاء لحنين يخاطب الدموع. ولعل الفرق بين استذكار دامع العينين، وآخر وطني الوظيفة، هو الذي يفصل بين “المقدس الملتبس” و”حكايات المجالس”، فالأول يبدأ من العدل ويستهل به، ويعطف الأموات الذين فاتهم العدل على أحياء ينشدونه، بينما يبدّد الثاني الذاكرة ووظيفة الكلام.
شخصنت الروائية في “ميلادة أبو نجمة” التاريخ الفلسطيني الحديث منجزة، من قريب وبعيد، صورة عن الماضي الذي ذهب، وعن مستقبل طي الاحتمال. أشارت المؤلفة، في اقتصاد لغوي لافت، إلى الماضي القريب مجسّداً في “شخصية الأب وأبنائه، وأدرجت في قصة “الحب المحرم” الماضي والحاضر معاً، فأحد طرفيّ العلاقة لا يزال يستمر في الحياة، ورسمت الحاضر والمستقبل المحتمل في شخصية العجوز، التي تبدو كياناً لا يقبل بالانطفاء.
إذا كان التتابع الزمني “المتقطّع” هو الذي يمنح الحكاية هويتها، فإن في هوية العجوز، المتعددة الأبعاد، ما يرمّم الزمن المتقطّع ويجعله موحداً.
5 ــ الذاكرة وبطولة الاحتمال
أذابت “ترانيم الغواية” تاريخ فلسطين الحديث في متواليات حكائية، واستولدت منها “تاريخاً حكائياً”، ينوس بين الحقيقة والمتخيّل، يخترقه أكثر من “ارتباك خصيب”، يقيني في دفاعه عن “الحق” و”احتمالي” في انتظاره. ذلك أن يقين “المغلوبين” بعودة حقهم يزيده بعداً. “خلق الأمل لهؤلاء الذين يحتاجون إلى الأمل”، شريطة أن يعرفوا تاريخهم، ويتمسكون به أكثر من تمسّكهم بالأمل المنشود. هذا ما يقول به الخطاب الروائي.
صاغت الرواية خطاب الذاكرة والأمل، مستعينة بمعطيات تاريخية دقيقة. قرأت في الفضاء الذي أنتجته “ذاكرة الإنسان المغلوب” التي تجابه النسيان، فما مضى يستمر في ذاكرة يقظة، تساوي بين بطولة الاحتمال و”بطولة البقاء”، التي تنتزع من المنتصر غبطة الاطمئنان.
ترجمت الرواية “جمالية الذاكرة العادلة”، متوسلة أرشيفاً يمتد في آخر، وخالقةً ذاكرة مستمرة، أخلصت للراحلين العادلين وللأحياء، الذين يميّزون الخطأ من الصواب، والماضي من التاريخ، فلا تاريخ إلا ببشر يحاكمون الماضي ولا يكررون أخطاءه.
اقتربت ليلى الأطرش في “ترانيم الغواية”، وهي أفضل ما كتب روائياً عن القدس، من جبرا وابتعدت عنه: اقتربت منه وهي تنسج شخصية روحها من جمال وغواية، وابتعدت عنه وهي تقصر المسافة بين الإنسان الفاتن والخطأ، وتضيف إليه وضوحاً فكرياً يثير الارتباك، هو من علامات الروايات النجيبة.
في الرواية ما يقول: لا متخيّل بلا معرفة، ولا ذاكرة إلا بوظيفتها، ولا متخيّل ومعرفة إلا بلغة تحاور الفكر والإحساس معاً. صدرت القدس، في “ترانيم الغواية”، عن معرفة بالمكان وإحساس به، وعن ترجمة المكان والإحساس بنثر قوامه المقاربة المتنوعة.
طرحت الرواية أسئلة كثيرة ولم تبشّر بشيء، عارفة أنها تتعامل، روائياً، مع مكان يحتله الغزاة.
فيصل درّاج